أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٥٧

(وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤))

شرح الكلمات :

(وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى) : أي من جبل الطور بعد مرور أكثر من أربعين يوما.

(أَسِفاً) : أي حزينا شديد الحزن والغضب.

(أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) : أي استعجلتم.

(بِرَأْسِ أَخِيهِ) : أي هارون شقيقه.

(قالَ ابْنَ أُمَ) : أصلها يا ابن أمي فقلبت الياء ألفا نحو يا غلاما ، ثم حذفت وهارون شقيق موسى وإنما ناداه بأمه لأنه أكثر عطفا وحنانا.

٢٤١

(فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ) : أي لا تجعل الأعداء يفرحون يإهانتك أو ضربك لي.

(اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) : أي إلها عبدوه.

(الْمُفْتَرِينَ) : الكاذبين على الله تعالى بالشرك به أي يجعل شريك له.

(وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) : زال غضبه وسكنت نفسه من القلق والاضطراب.

(أَخَذَ الْأَلْواحَ) : أي من الأرض بعد أن طرحها فتكسرت.

(وَفِي نُسْخَتِها) : أي وفي ما نسخه منها بعد تكسرها نسخة فيها هدى ورحمة.

(يَرْهَبُونَ) : يخافون ربهم ويخشون عقابه فلا يعصونه.

معنى الآيات :

ما زال السياق في أحداث قصص موسى مع بني إسرائيل ففي هذا السياق الكريم يخبر تعالى أن موسى عليه‌السلام لما رجع إلى قومه من مناجاته وقد أخبره ربه تعالى أنه قد فتن قومه من بعده وأن السامري قد أضلهم فلذا رجع (غَضْبانَ أَسِفاً) (١) أي شديد الغضب (٢) والحزن ، وما إن واجههم حتى قال (بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي ، أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ؟) أي استعجلتم فلم تتموا ميعاد ربكم أربعين يوما فقلتم مات موسى وبدلتم دينه فعبدتم العجل (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) أي طرحها فتكسرت وأخذ بلحية هارون ورأسه يؤنبه على تفريطه في مهام الخلافة فاعتذر هارون فقال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي ، إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي هذا وارد في سورة طه وأما السياق هنا فقد قال يا (ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي (٣) فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) وهم الذين ظلموا بعبادة العجل ، ومعنى (فَلا تُشْمِتْ بِيَ

__________________

(١) غضبان شديد الغضب ومؤنثه غضبى غير مصروف لزيادة الألف والنون ، وأسفا : معناه شديد الغضب قال أبو الدرداء ، الأسف منزلة وراء الغضب أشدّ منه والأسيف : الحزين.

(٢) الغضب من طباع البشر وقد أرشد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غضب وهو قائم أن يجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلّا اضطجع فقد روى أبو داود أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (إنّ الغضب من الشيطان ، وإنّ الشيطان خلق من نار وإنّما تطفأ النار بالماء ، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ).

(٣) في الآية دليل على أن من خاف على نفسه القتل أن يسكت عن المنكر ولا يغيره بيده ولا بلسانه ولكن بقلبه.

٢٤٢

الْأَعْداءَ) لا تؤذني بضرب ولا بغيره إذ ذاك يفرح أعداءنا من هؤلاء الجهلة الظالمين ، وهنا رق له موسى وعطف عليه فقال (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) توسل إلى الله تعالى في قبول دعائه بقوله (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) هذا ما تضمنته الآيتان الأولى (١٥٠) والثانية (١٥١) أما الآية الثالثة فقد أخبر تعالى بأن الذين اتخذوا العجل أي إلها (سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) وكما جزاهم بالغضب المستوجب للعذاب والذلة المستلزمة للإهانة يجزي تعالى المفترين عليه الكاذبين باتخاذ الشريك له وهو برىء من الشركاء والمشركين ، هذا ما دلت عليه الآية الثالثة (١٥٢) أما الآية الرابعة فقد تضمنت فتح باب الله تعالى لمن أراد أن يتوب إليه إذ قال تعالى (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ) جمع سيئة وهي هنا سيئة الشرك (ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها) أي تركوا عبادة غير الله تعالى وآمنوا ايمانا صادقا فإن الله تعالى يقبل توبتهم ويغفر لهم ذنوبهم ويرحمهم فيدخلهم جنته مع الصالحين من عباده ، هذا ما دلت عليه الآية الرابعة (١٥٣) أما الآية الخامسة (١٥٤) فقد تضمنت الإخبار عن موسى عليه‌السلام وانه لما سكت عنه الغضب أي ذهب أخذ الألواح التي ألقاها من شدة الغضب وأخبر تعالى أن في نسخة (١) تلك الألواح (هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) وهم المؤمنون المتقون وخصوا بالذكر لأنهم الذين يجدون الهدى والرحمة في نسخة الألواح ، لأنهم يقرأون ويفهمون ويعلمون وذلك لإيمانهم وتقواهم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ الغضب من طباع البشر فلا يلام عليه المرء ومهما بلغ من الكمال كالأنبياء ، ولكن أهل الكمال لا يخرج بهم الغضب إلى حد أن يقولوا أو يعملوا ما ليس بخير وصلاح.

٢ ـ مشروعية الاعتذار وقبول العذر من أهل المروءات.

٣ ـ مشروعية التوسل بأسماء الله وصفاته.

__________________

(١) النسخة : بمعنى المنوسخ ، والنسخ : النقل للمكتوب في لوح أو غيره ، ويسمى المنوسخ نسخة.

٢٤٣

٤ ـ كل وعيد لله تعالى توعد به عبدا من عباده مقيد بعدم توبة المتوعد.

٥ ـ كل رحمة وهدى ونور في كتاب الله لا ينتفع به إلا أهل الإيمان والتقوى.

(وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (١٥٥) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (١٥٦) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧))

شرح الكلمات :

(وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً) : أي أخذ خيار قومه وهم سبعون رجلا.

٢٤٤

(لِمِيقاتِنا) : أي للوقت الذي حددناه له ليأتينا مع سبعين رجلا.

(أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) : الصاعقة التي رجفت لها القلوب.

(السُّفَهاءُ) : جمع سفيه : وهو الذي لا رشد له في سائر تصرفاته.

(إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) : أي ما هي إلا فتنتك أي اختبارك لأهل الطاعة من عبادك.

(أَنْتَ وَلِيُّنا) : أي المتولي أمرنا وليس لنا من ولي سواك.

(هُدْنا إِلَيْكَ) : أي رجعنا إليك وتبنا.

(الْأُمِّيَ) : الذي لا يقرأ ولا يكتب.

المعروف ، والمنكر : ما عرفه الشرع والمنكر : ما أنكره الشرع.

(وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) : أي بإذن الله والخبائث جمع خبيثة : كالميتة مثلا.

(وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ) : الإصر : العهد والأغلال : الشدائد في الدين.

(عَزَّرُوهُ) : أي وقروه وعظموه

(وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) : القرآن الكريم.

(هُمُ الْمُفْلِحُونَ) : الفائزون أي الناجون من النار الداخلون الجنة.

معنى الآيات :

ما زال السياق في أحداث موسى مع بني إسرائيل فإنه بعد الحدث الجلل الذي حصل في غيبة موسى وذلك هو عبادة جل بني إسرائيل العجل واتخاذهم له إلها فإن الله تعالى وقت لموسى وقتا يأتيه فيه مع خيار بني إسرائيل يطلب لهم التوبة من الله سبحانه وتعالى. قال تعالى (وَاخْتارَ (١) مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً) ولما انتهى بهم إلى جبل الطور وغشيت الجبل غمامة وأخذ موسى يناجي ربه تعالى وهم يسمعون قالوا لموسى لن نؤمن لك بأن

__________________

(١) اختار مزيد من خار : إذا طلب ما هو خير من غيره ، وقومه منصوب على نزع الخافض إذ الأصل من قومه ، ومنه قول الشاعر :

اخترتك الناس إذ رثت خلائقهم

واختل من كان يرجى عنده السّول

السّول بمعنى السؤل أي الطلب

٢٤٥

الذي كان يكلمك الرب تعالى حتى نرى الله جهرة أي عيانا وهنا غضب الله تعالى عليهم فأخذتهم صيحة رجفت لها قلوبهم والأرض من تحتهم فماتوا كلهم ، وهو معنى قوله تعالى (أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) وهنا أسف موسى عليه‌السلام لموت السبعين رجلا وقد اختارهم الخير فالخير فإذا بهم يموتون أجمعون فخاطب ربه قائلا (رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ) أي من قبل مجيئنا إليك (وَإِيَّايَ) وذلك في منزل بني إسرائيل حيث عبدوا العجل (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) (١) أي بسبب فعل السفهاء الذين لا رشد لهم ، وهم من عبدوا العجل كمن سألوا رؤية الله تعالى ، وقوله عليه‌السلام (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) أي إلا اختبارك وبليتك (تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ ، أَنْتَ وَلِيُّنا) فليس لنا سواك (فَاغْفِرْ لَنا) أي ذنوبنا (وَارْحَمْنا) برفع العذاب عنا (وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) (وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً) بأن توفقنا لعمل الصالحات وتتقبلها منا ، (وَفِي الْآخِرَةِ) تغفر ذنوبنا وتدخلنا جنتك مع سائر عبادك الصالحين ، وقوله (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) أي إنا قد تبنا إليك فأجابه الرب تعالى بقوله (عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) أي من عبادي وهم الذين يفسقون عن أمري ويخرجون عن طاعتي (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ (٢) كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) وبهذا القيد الوصفي ، وبما بعده خرج إبليس واليهود وسائر أهل الملل ودخلت أمة الإسلام وحدها إلا من آمن من أهل الكتاب واستقام على دين الله وهو الإسلام. وقوله (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَ) هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الَّذِي يَجِدُونَهُ (٣) مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) وذلك بذكر صفاته والثناء عليه وعلى أمته ، وقوله (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ) أي التي كانت قد حرمت عليهم بظلمهم (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) الخمر ولحم الخنزير والربا وسائر المحرمات في الإسلام ، وقوله (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ) أي ويحط عنهم تبعة العهد الذي أخذ عليهم بالعمل فيما في التوراة والإنجيل بأن يعملوا بكل ما جاء في

__________________

(١) الاستفهام هنا للتحجج والجحد أي إنك لا تفعل ذلك ، وهو كما قال الشعر :

ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح

(٢) أي لم تضق عن مخلوق من المخلوقات التيّ أراد الله رحمتها. يحكى أنّ ابليس عليه لعائن الله لماّ سمع هذه الآية قال : أنا شيء فقال الله تعالى : سأكتبها للذين يتقون فقالت اليهود والنصارى نحن : متقون فقال تعالى : الذين يتّبعون الرسول النبي الأمي فخرجوا وبقيت لهذه الأمّة وحدها.

(٣) قال كعب في ذكر صفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التوراة : مولده مكة وهجرته بطابة وملكه بالشام ، وأمته الحمّادون يحمدون الله على كل حال .. إلى أن قال : يصلّون حيثما أدركتهم الصلاة ، صفهم في الصلاة كصفهم في القتال.

٢٤٦

التوراة والإنجيل ، وقوله (وَالْأَغْلالَ (١) الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) أي الشدائد المفروض عليهم القيام بها وذلك كقتل النفس بالنفس إذ لا عفو ولا دية وكقطع الثوب للنجاسة تصيبه وغير ذلك من التكاليف الشاقة كل هذا يوضع عليهم إذا أسلموا بدخولهم في الإسلام وقوله تعالى (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ) أي بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَعَزَّرُوهُ) (٢) أي وقروه وعظموه (وَنَصَرُوهُ) على أعدائه من المشركين والكافرين والمنافقين (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) وهو القرآن الكريم (أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي وحدهم دون سواهم الفائزون بالنجاة من النار ودخول الجنة.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب التوبة من كل ذنب ، ومشروعية صلاة ركعتين وسؤال الله تعالى عقبها أن يقبل توبة التائب ويغفر ذنبه.

٢ ـ كل سلوك ينافي الشرع فهو من السفه المذموم ، وصاحبه قد يوصف بأنه سفيه.

٣ ـ الهداية والإضلال كلاهما بيد الله تعالى فعلى العبد أن يطلب الهداية من الله تعالى ويسأله أن لا يضله.

٤ ـ رحمة الله تعالى بأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا تنال اليهود ولا النصارى ولا غيرهم.

٥ ـ بيان شرف النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته.

٦ ـ بيان فضل تزكية النفس بعمل الصالحات وإبعادها عن المدسيات من الذنوب.

٧ ـ بيان فضل التقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

٨ ـ وجوب توقير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعظيمه ونصرته واتباع الكتاب الذي جاء به والسنن التي سنها لأمته.

__________________

(١) تقدّم لفظ الإصر وهو دال على جمع لأنّه مصدر يقع على الواحد والجمع ولذا عطف عليه الأغلال ، وجمع الإصر : آصار ، ومعناه الثقل الذي يصعب معه التحرّك والأغلال جمع غلّ ، وهو إطار من حديد يجعل في عنق الأسير ، والمراد من الآصار والأغلال التكاليف الشرعية الشاقة التي اشتملت عليها التوراة منها : ترك العمل يوم السبت قيل : ومن أشدّها عدم مشروعية التوبة من الذنوب ، وعدم استتابة المجرم.

(٢) عزّروه : أيّدوه مع توقيره وتعظيمه.

٢٤٧

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨) وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩) وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (١٦٢))

٢٤٨

شرح الكلمات :

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) : أي لا معبود بحق إلا الله.

(النَّبِيِّ الْأُمِّيِ) : المنبىء عن الله والمنبأ من قبل الله تعالى ، والأمي الذي لم يقرأ ولم يكتب. نسبة إلى الأم كأنه ما زال لم يفارق أمه فلم يتعلم بعد.

(يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ) : الذي يؤمن بالله ربا وإلها ، وبكلماته التشريعية والكونية القدرية.

(تَهْتَدُونَ) : ترشدون إلى طريق كمالكم وسعادتكم في الحياتين.

(أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِ) : أي جماعة يهدون أنفسهم وغيرهم بالدين الحق وبه يعدلون في قضائهم وحكمهم على أنفسهم وعلى غيرهم انصافا وعدلا لا جور ولا ظلم.

(أَسْباطاً) : جمع سبط : وهو بمعنى القبيلة عند العرب.

(اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ) : أي طلبوا منه الماء لعطشهم.

(فَانْبَجَسَتْ) : فانفجرت.

(الْمَنَّ وَالسَّلْوى) : المن : حلوى كالعسل تنزل على أوراق الأشجار ، والسلوى : طائر لذيذ لحمه.

(اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) : هي حاضرة فلسطين.

وقوله (حِطَّةٌ) : أي احطط عنا خطايانا بمعنى الإعلان عن توبتهم.

(رِجْزاً مِنَ السَّماءِ) : أي عذابا من عند الله تعالى.

معنى الآيات :

بعد الإشادة بالنبي الأمي وبأمته ، وقصر الفلاح في الدارين على الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه قد يظن ظان أن هذا النبي شأنه شأن سائر الأنبياء قبله هو نبي قومه خاصة وما ذكر من الكمال لا يتعدى قومه فرفع هذا الوهم بهذه الآية (١٥٨) حيث أمر الله تعالى رسوله أن يعلن عن عموم رسالته بما لا مجال للشك فيه فقال

٢٤٩

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) وقوله (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وصف لله تعالى وقوله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) تقرير لألوهية الله تعالى بعد ذكر قدرته وسلطانه وملكه وتدبيره لذا وجب أن لا يكون معبود إلا هو وهو كذلك إذ كل معبود غيره هو معبود عن جهل وعناد وظلم. وقوله (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِ) أمر الإله الحق إلى الناس كافة بالإيمان به تعالى ربا وإلها ، وبرسوله النبي الأمي نبيا ورسولا ، وقوله (الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ) صفة للنبي الأمي إذ من صفات النبي الأمي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه يؤمن بالله حق الإيمان وأوفاه ويؤمن بكلماته أي بكلمات الرب التشريعية (١) وهي آيات القرآن الكريم ، والكونية التي يكوّن الله بها ما شاء من الأكوان إذ بها يقول للشيء كن فيكون كما قال لعيسى بتلك الكلمة كن فكان عيسى عليه‌السلام وقوله (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) هذا أمر الله إلى الناس كافة بعد الأمر بالإيمان به وبرسوله النبي الأمي أمر باتباع نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) رجاء هداية من (٢) يتبعه فيما جاء به فيهتدي إلى سبيل الفوز في الدارين هذا ما تضمنته الآية الأولى (١٥٨) أما الآية الثانية (١٥٩) فقد تضمنت الإخبار الإلهي بأن قوم موسى وإن ضلوا أو أجرموا وفسقوا ليس معنى ذلك أنه لم يكن فيهم أو بينهم من هم على هدى الله فهذه الآية كانت كالاحتراس من مثل هذا الفهم ، إذ أخبر تعالى أن (مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ) أي جماعة تكثر أو تقل (يَهْدُونَ بِالْحَقِ) (٣) أي يعملون بالحق في عقائدهم وعباداتهم ويدعون إلى ذلك وبالحق يعدلون فيما بينهم وبين غيرهم فهم يعيشون على الإنصاف والعدل ، ولم يذكر تعالى أين هم ولا متى كانوا هم؟ فلا يبحث ذلك ، إذ لا فائدة فيه ، ثم عاد السياق إلى قوم موسى يذكر احداثهم للعظة والاعتبار وتقرير الحق في توحيد الله تعالى وإثبات نبوة رسوله وتقرير عقيدة البعث والجزاء أو اليوم الآخر. فقال تعالى في الآية الثالثة (١٦٠) (وَقَطَّعْناهُمُ) (٤) أي بني إسرائيل (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً

__________________

(١) وبكلماته التنزيلية كالتوراة والانجيل والزبور.

(٢) هذا الرجاء بالنسبة إلى المأمورين بالاتباع لا إلى الله تعالى ، لأنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير.

(٣) يهدون إلى الله تعالى عباده بواسطة ما شرع لهم وهداهم به من الوحي الذي أنزل على رسله وأنزل به كتبه.

(٤) التقطيع : الشدة في القطع والمراد به التقسيم إلى اثنتى عشرة فرقة كل فرقة بمنزلة القبيلة العربية حيث تنتسب إلى أبيها الأعلى أي الأوّل.

٢٥٠

أُمَماً) (١) أصل السبط ابن البنت وأريد به هنا أولاد كل سبط من أولاد يعقوب عليه‌السلام. فالأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب كل قبيلة تنتسب إلى أبيها الأول ، وأتت لفظ اثنتي عشرة لأن معنى الأسباط الفرق والفرقة مؤنثة ، وقوله : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ) أعلمناه بطريق الوحي وهو الإعلام الخفي السريع ، ومعنى (اسْتَسْقاهُ) طلبوا منه السقيا لأنهم عطشوا لقلة الماء في صحراء سينا. (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) هذا الموحى به ، فضرب (فَانْبَجَسَتْ) (٢) أي انفجرت (مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) ليشرب كل سبط من عينه الخاصة حتى لا يقع اصطدام أو تدافع فينجم عنه الأذى وقوله تعالى (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) يريد عرف كل جماعة ماءهم الخاص بهم وقوله تعالى (وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) هذا ذكر لإنعامه تعالى على بني إسرائيل وهم في معية موسى وهارون في حادثة التيه ، حيث أرسل تعالى الغمام وهو سحاب ابيض بارد يظلهم من الشمس حتى لا تلفحهم ، وأنزل عليهم المن (٣) وهي حلوى كالعسل سقط ليلا كالطل على الأشجار ، وسخر لهم طائرا لذيذ اللحم يقال له السلوى وهو طائر السمانى المعروف وقلنا لهم (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) وقوله تعالى (وَما ظَلَمُونا) بتمردهم على أنبيائهم وعدم طاعتهم (٤) لربهم حتى نزل بهم ما نزل من البلاء ، (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ). (٥) هذا ما دلت عليه الآية الثانية أما الآية الثالثة (١٦١) فقد تضمنت حادثة بعد أحداث التيه في صحراء سيناء وذلك أن يوشع بن نون بعد أن تولى قيادة بني إسرائيل بعد وفاة موسى وهارون وانقضاء مدة التيه وكانت أربعين سنة غزا يوشع ببني إسرائيل العمالقة في أرض القدس وفتح الله تعالى عليه فقال لبني إسرائيل ادخلوا باب المدينة ساجدين أي منحنين خضوعا لله وشكرا على نعمة الفتح بعد النصر والنجاة من

__________________

(١) (أُمَماً) بدل من (أَسْباطاً) وفائدته : الإخبار بأنهم باركهم الله تعالى فأصبح أهل كل سبط أمة كاملة والسبط أصله شجر يقال له السبط تعلفه الإبل.

(٢) أصل الفعل بجس يقال : بجسته أي : شققته فانبجس مطاوع بجس الشيء إذا شقّة.

(٣) المنّ : مادّة بيضاء تنزل من السماء كالطّل حلوة الطعم تشبه العسل ، وإذ جفّت كانت الصمغ ، والسلوى : طائر معروف يقال له السمّانى بضم السين وفتح النون على وزن حبارى.

(٤) وبعدم شكرهم لهذه النعم أيضا إذا كفران النعم يسبب زوالها بعقوبة تنزل بمن لم يشكر نعم الله تعالى عليه.

(٥) أي ظلموا أنفسهم فعرضوها للبلاء ، أمّا الله تعالى فمحال أن يبلغ العبد ظلمه أو ضرّه. روى مسلم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله : (إنّ الله تعالى قال : يا عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرّما فلا تظالموا .. يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني).

٢٥١

التيه ، وقوله اثناء دخولكم الباب كلمة «حطة» الدالة على توبتكم واستغفاركم ربكم لذنوبكم فإن الله تعالى يغفر لكم خطئياتكم ، وسيزيد الله المحسنين منكم الإنعام والخير الكثير مع رضاه عنكم وادخالكم الجنة ، هذا معنى قوله تعالى (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) أي مدينة فلسطين (١) (وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ) لما فيها من الخيرات (وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ). أما الآية الرابعة (١٦٢) فهي قد تضمنت الإخبار عن الذين ظلموا من بني إسرائيل الذين أمروا بدخول القرية ودخول الباب سجدا. حيث بدلوا (قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) فبدل حطة قالوا حنطة ، وبدل الدخول منحنين ساجدين دخلوا يزحفون على أستاههم ، فلما رأى تعالى ذلك التمرد والعصيان وعدم الشكران أنزل عليهم وباء من السماء كاد يقضي على آخرهم هذا معنى قوله تعالى (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ).

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ عموم رسالة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكافة الناس عربهم وعجمهم أبيضهم وأصفرهم. (٢)

٢ ـ هداية الإنسان فردا أو جماعة أو أمة إلى الكمال والإسعاد متوقفة على اتباع النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣ ـ إنصاف القرآن للأمم والجماعات فقد صرح أن في بني إسرائيل أمة قائمة على الحق ، وذلك بعد فساد بني إسرائيل ، وقبل مبعث النبي الخاتم أما بعد البعثة المحمدية فلم يبق أحد على الحق ، إلا من آمن به واتبعه لنسخ سائر الشرائع بشريعته.

٤ ـ إذا أنعم الله على عبد أو أمة نعمة ثم لم يشكرها تسلب منه أحب أم كره وكائنا من كان.

__________________

(١) اسم القرية : أريحا ، وكلمة فلسطين عامة في القطر كلّه.

(٢) عموم الرسالة المحمدية يستوجب القيام بها ودعوة الناس إليها ، والمسلمون هم المطالبون بذلك وإلّا فهم آثمون بتفريطهم وتقصيرهم.

٢٥٢

(وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (١٦٦))

شرح الكلمات :

(حاضِرَةَ الْبَحْرِ) : أي على شاطئه وهي مدينة من مدن أرض القدس.

(يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) : أي يعتدون وذلك بالصيد المحرم عليهم فيه.

(يَوْمَ سَبْتِهِمْ) : أي يوم راحتهم من أعمال الدنيا وهو يوم السبت.

(شُرَّعاً) : جمع شارع أي ظاهرة بارزة تغريهم بنفسها.

(كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ) : أي نمتحنهم ونختبرهم.

(بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) : أي بسبب ما أعلنوه من الفسق وهو العصيان.

(مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ) : أي ننهاهم فإن انتهوا فذاك وإلا فنهينا يكون عذرا لنا عند ربنا.

(فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) : أي أهملوه وتركوه فلم يمتثلوا ما أمروا به ولا ما نهوا عنه.

(عَنِ السُّوءِ) : السوء هو كل ما يسيء إلى النفس من سائر الذنوب والآثام.

(بِعَذابٍ بَئِيسٍ) : أي ذا بأس شديد.

٢٥٣

(فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ) : أي ترفعوا وطغوا فلم يبالوا بالنهي.

(قِرَدَةً خاسِئِينَ) : القردة جمع قرد معروف وخاسئين ذليلين حقيرين اخساء.

معنى الآيات :

ما زال السياق في بني إسرائيل إلا أنه هنا مع رسول الله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويهود المدينة فالله تعالى يقول لنبيه محمد عليه الصلاة والسّلام أسألهم (١) أي اليهود (عَنِ الْقَرْيَةِ (٢) الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ) أي قريبة منه على شاطئه وهي مدينة من مدن أرض القدس والشام ، (٣) أي أسألهم عن أهلها كيف كان عاقبة أمرهم ، إنهم مسخوا قردة وخنازير جزاء فسقهم عن أمر ربهم ، وفصل له الحادث تفصيلا للعبرة والاتعاظ فقال (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) (٤) أي يعتدون ما أذن لهم فيه إلى ما حرم عليهم ، اذن لهم أن يصيدوا ما شاءوا إلا يوم السبت فإنه يوم عبادة ليس يوم لهو وصيد وطرب ، (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ) أي أسماكهم (يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً) ظاهرة على سطح الماء تغريهم بنفسها (وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ) أي في باقي أيام الأسبوع (لا تَأْتِيهِمْ) إذا هم مبتلون ، قال تعالى (كَذلِكَ) أي كهذا الابتلاء والاختبار (نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي بسبب فسقهم عن طاعة ربهم ورسله ، إذ ما من معصية إلا بذنب هكذا سنة الله تعالى في الناس. هذا ما تضمنته الآية الأولى (١٦٣) وهي قوله تعالى (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ (٥) حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ ، كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ (٦) بِما كانُوا يَفْسُقُونَ).

وأما الآية الثانية (١٦٤) فالله تعالى يقول لرسوله اذكر لهم أيضا إذ قالت طائفة منهم أي من أهل القرية لطائفة أخرى كانت تعظ المعتدين في السبت أي تنهاهم عنه لأنه

__________________

(١) هذا سؤال توبيخ وتقرير ، إذ كانوا يتبجّحون بأنهم أبناء الله وأحباؤه وأنهم من سبط خليل الرحمن ابراهيم ، ومن سبط اسرائيل ، فالسؤال عن القرية السؤال عن أهلها.

(٢) هذه القرية هي أيلة ، والمسماة اليوم بالعقبة وهي مدينة على ساحل البحر الأحمر

(٣) وهي مبدأ أرض الشام من جهة مصر.

(٤) السبت : اليوم الذي بين الجمعة والأحد ، ويجمع السبت على أسبت وسبوت وأسبات.

(٥) قيل للحسين بن الفضل : هل تجد في كتاب الله تعالى أنّ الحلال لا يأتيك إلّا قوتا وإن الحرام يأتيك جزفا جزفا يعني : بكثرة كاثرة قال : نعم في قصة داود وأيلة (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ ...) الآية.

(٦) (نَبْلُوهُمْ) : أي بالتشديد عليهم فيما يشرع لهم عقوبة لهم.

٢٥٤

معصية وتحذرهم من مغبة الاعتداء على شرع الله تعالى قالت (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً) وهذا القول من هذه الطائفة دال على يأسهم من رجوع إخوانهم عن فسقهم وباطلهم ، فأجابتهم الطائفة الواعظة (مَعْذِرَةً (١) إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي وعظنا لهم هو معذرة لنا عند الله تعالى من جهة ومن جهة أخرى (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) فيتوبوا ويتركوا هذا الاعتداء ، قال تعالى (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) وخوفوا منه وهو تحريم الله تعالى عليهم الصيد يوم السبت ، ومعنى نسوا تركوا ولم يلتفتوا الى وعظ إخوانهم لهم وواصلوا اعتداءهم وفسقهم ، قال تعالى (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) وهم الواعظون لهم ممن ملّوا ويئسوا فتركوا وعظهم ، وممن واصلوا نهيهم ووعظهم (وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا (٢) بِعَذابٍ بَئِيسٍ) أي شديد البأس (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) عن طاعة الله ربهم ، إذ قال تعالى لهم (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (٣) فكانوا قردة خاسئين ذليلين صاغرين حقيرين ، ثم لم يلبثوا (مسخا) (٤) إلا ثلاثة أيام وماتوا.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير الوحي والنبوة لرسول الله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ مثل هذا القصص الذي يذكر لبني إسرائيل لن يتم إلا عن طريق الوحي ، وإلا فكيف علمه وذكر به اليهود أصحابه وأهله ، وقد مضى عليه زمن طويل.

٢ ـ إذا أنعم الله على أمة نعمة ثم اعرضت عن شكرها تعرضت للبلاء أولا ثم العذاب ثانيا.

٣ ـ جدوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد نجى الله تعالى الناهين عن المنكر وأهلك الذين باشروه ولم ينتهوا منه دون غيرهم.

__________________

(١) المعذرة : مصدر ميمي فعله اعتذر على غير قياس ، والعذر : السبب الذي تبطل به المؤاخذة بسبب ذنب أو تقصير.

(٢) اختلف في هل الفرقة القائلة : لم تعظون قوما .. الخ نجت من العذاب أو لا؟ وقد روي أن ابن عباس كان يرى أنها لم تنج حتى أقنعه تلميذه عكرمة فقال بنجاتها مع الفرقة الناهية ، لأنّ ترك النهي من الفرقة التي لم تنه كان ليأسهم من استجابة الظالمين.

(٣) يقال : خسأته فخسا أي ، باعدته وطردته ، وفي هذا دليل على أنّ المعاصي سبب النقم كما أن الطاعات سبب النعم

(٤) أي لم يلبثوا ممسوخين حتى هلكوا والعياذ بالله.

٢٥٥

٤ ـ إطلاق لفظ السوء على المعصية مؤذن بأن المعصية مهما كانت صغيرة تحدث السوء في نفس فاعلها.

(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٧) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٦٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦٩) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠))

شرح الكلمات :

(تَأَذَّنَ) (١) : أعلم وأعلن.

(لَيَبْعَثَنَ) : أي ليسلطن

(مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ) : أي يذيقهم ويوليهم سوء العذاب كالذلة والمسكنة.

(وَقَطَّعْناهُمْ) : أي فرقناهم جماعات جماعات.

(بَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) : اختبرناهم بالخير والشر أو النعم والنقم.

__________________

(١) آذن وأذن بمعنى واحد ، وهو أعلم ومنه قول الشاعر :

فقلت تعلّم إنّ للصيد غرّة

فإلّا تضيّعها فإنك قاتله

٢٥٦

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) : الخلف بإسكان اللام خلف سوء وبالتحريك خلف خير.

(وَرِثُوا الْكِتابَ) : أي التوراة.

(عَرَضَ هذَا الْأَدْنى) : أي حطام الدنيا الفاني وهو المال.

(يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ) : أي يتمسكون بما في التوراة فيحلون ما أحل الله فيها ويحرمون ما حرم.

معنى الآيات :

ما زال السياق في شأن اليهود فقد أمر تعالى رسوله أن يذكر إعلامه تعالى بأنه سيبعث بكل تأكيد على اليهود إلى يوم القيامة من يذلهم ويضطهدهم عقوبة منه تعالى لهم على خبث طواياهم وسوء أفعالهم ، وهذا الإطلاق في هذا الوعيد الشديد يقيد بأحد أمرين الأول بتوبة من تاب منهم ويدل على هذا القيد قوله تعالى في آخر هذه الآية (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أي لمن تاب والثاني بجوار دولة قوية لهم وحمايتها وهذا مفهوم قوله تعالى من سورة آل عمران (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ) وهو الإسلام (وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) ، وهو ما ذكرناه آنفا. هذا ما دلت عليه الآية الأولى في هذا السياق (١٦٧) وهي قوله تعالى (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ (١) سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) وأما الآية الثانية (١٦٨) فقد تضمنت بيان فضل الله تعالى على اليهود وهو أن الله تعالى قد فرقهم في الأرض جماعات جماعات ، وأن منهم الصالحين ، وأن منهم دون ذلك وأنه اختبرهم بالحسنات وهي النعم ، والسيئات وهي النقم تهيئة لهم وإعدادا للتوبة إن آثروا التوبة على الاستمرار في الإجرام والشر والفساد. هذا ما تضمنته الآية الثانية وهي قوله تعالى (وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ (٢) وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ ، وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ

__________________

(١) يسومهم سوء العذاب : يجعل أسوأ العذاب وأشدّه كالقيمة لهم إذ هو حظهم المفروض عليهم ، أوّل من تسلط عليهم فسامهم سوء العذاب بختنصر البابلي.

(٢) أي شتتناهم في البلاد بعد تسلط البابليين عليهم وتمزيق ملكهم فعاشوا مشتتين فلم ينتظم ملكهم مدّة طويلة وهم إذ ذاك ما بين صالح وفاسد وانتظم أمرهم مرّة أخرى ثمّ فسقوا فسلّط عليهم أطيطوس الروماني فتفرّقوا مرّة أخرى وما زالوا مفرقين إلى هذه الأيام ، باجتماعهم في فلسطين وتكوينهم دولة اسرائيل وعمّا قريب تزول.

٢٥٧

وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) وأما الآية الثالثة (١٦٩) فقد أخبر تعالى أنه قد خلف من بعد تلك الأمة خلف (١) سوء ورثوا الكتاب الذي هو التوراة ورثوه عن أسلافهم ولم يتلزموا بما أخذ عليهم فيه من عهود على الرغم من قراءتهم له فقد آثروا الدنيا على الآخرة فاستباحوا الربا والرشا وسائر المحرمات ، ويدعون أنهم سيغفر لهم ، وكلما أتاهم مال حرام أخذوه ومنوا أنفسهم بالمغفرة (٢) كذبا على الله تعالى قال تعالى موبخا لهم (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) وقد قرأوا هذا في الكتاب وفهموه ومع هذا يجترئون على الله ويكذبون عليه بأنه سيغفر لهم ، ثم يواجههم تعالى بالخطاب مذكرا لهم واعظا فيقول (وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ؟) ويفتح الله تعالى باب الرجاء لهم في الآية الرابعة في هذا السياق فيقول (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ) (٣) أي يعملون بحرص وشدة بما فيه من الأحكام والشرائع ولا يفرطون في شيء من ذلك (وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) ، ومعنى هذا أنهم مصلحون إن تمسكوا بالكتاب وأقاموا الصلاة ، وان الله تعالى سيجزيهم على إصلاحهم لأنفسهم ولغيرهم أعظم الجزاء وأوفره ، لأنه تعالى لا يضيع أجر المصلحين.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان موجز لتاريخ اليهود في هذه الآيات الأربع.

٢ ـ من أهل الكتاب الصالحون ، ومنهم دون ذلك.

٣ ـ التنديد بإيثار الدنيا على الآخرة ، وبتمني المغفرة مع الإصرار على الإجرام.

٤ ـ تفضيل الآخرة على الدنيا بالنسبة للمتقين.

٥ ـ الحث على التمسك بالكتاب قراءة وتعلما وعملا بإحلال حلاله وتحريم حرامه.

__________________

(١) الخلف بسكون اللّام : الأولاد ، الواحد والجمع فيه سواء والخلف : بفتح اللام البدل ولدا كان أو غيره ، وقيل الخلف بالفتح : الصالح وبالجزم : الطالح قال لبيد :

ذهب الذين يعاش في أكنافهم

وبقيت في خلف كجلد الأجرب

(٢) روى الدارمي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه الرواية التالية وهي منطبقة على واقعنا اليوم ومن قبل اليوم قال : سيبلى القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب فيتهافت يقرأونه لا يجدون له شهوة ولا لذة يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب أعمالهم طمع لا يخالطه خوف ، إن قصّروا قالوا سنبلغ وإن أساءوا قالوا : سيغفر لنا إنّا لا نشرك بالله شيئا.

(٣) مسك وتمسّك بمعنى واحد.

٢٥٨

٦ ـ فضل اقام الصلاة.

(وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤))

شرح الكلمات :

(وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ) : أي رفعناه من أصله فوق رؤوسهم.

(واقِعٌ بِهِمْ) : أي ساقط عليهم.

(خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) : أي التزموا بالقيام بما عهد إليكم من أحكام التوراة بقوة.

(وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) : أي لا تنسوا ما التزمتم به من النهوض بأحكام التوراة.

(مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) : أي أخذهم من ظهر آدم عليه‌السلام بأرض نعمان (١) من عرفات.

(أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ) : أي بأنه تعالى ربهم وإلههم ولا رب لهم غيره ولا إله لهم سواه.

(الْمُبْطِلُونَ) : العاملون بالشرك والمعاصي إذ كلها باطل لا حق فيه.

(نُفَصِّلُ الْآياتِ) : نبينها ونوضحها بتنويع الأساليب وتكرار الحجج وضرب الامثال وذكر القصص.

__________________

(١) قال ابن عباس : ببطن نعمان واد إلى جنب عرفة

٢٥٩

معنى الآيات :

الآية الأولى في هذا السياق هي خاتمة الحديث على اليهود إذ قال تعالى لرسوله (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) (١) أي اذكر لهم ايها الرسول إذ نتقنا أي رفعنا فوقهم جبل الطور من أصله وصار فوقهم كأنه ظلة (وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ) أي ساقط عليهم وقلنا لهم (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ (٢) بِقُوَّةٍ) والمراد مما آتاهم أحكام التوراة وما تحمل من الشرائع وأخذها العمل بها والالتزام بكل ما أمرت به ونهت عنه وقوله تعالى (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) أي في الذي آتيناكم من الأوامر والنواهي ، ولا تنسوه فإن ذكره من شأنه أن يعدكم للعمل به فتحصل لكم بذلك تقوى الله عزوجل ، هذا ما دلت عليه الآية الأولى وهي خاتمة سياق الحديث عن اليهود. أما الآية الثانية (١٧٢) وهي قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي (٣) آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) (٤) فإنها حادثة جديرة بالذكر والاهتمام لما فيها من الاعتبار ، إن الله تعالى أخرج من صلب آدم ذريته فأنطقها بقدرته التي لا يعجزها شيء فنطقت وعقلت الخطاب واستشهدها فشهدت ، وخاطبها ففهمت وأمرها فالتزمت وهذا العهد العام الذي أخذ على بني آدم ، وسوف يطالبون به يوم القيامة ، وهو معنى قوله تعالى (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ : أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا بَلى شَهِدْنا) أي أنك ربنا (أَنْ تَقُولُوا) يوم القيامة (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ ، أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ (٥) بَعْدِهِمْ ، أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) والعبرة من هذا أن الإنسان سرعان ما ينسى ، ويعاهد ولا يفي ، وما وجد من بني اسرائيل من عدم الوفاء هو عائد إلى أصل الإنسان ، وهناك عبرة أعظم وهى أن التوحيد أخذ به العهد على كل آدمي ، ومع الأسف أكثر بني آدم ينكرونه ، ويشركون بربهم وقوله تعالى (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) وكهذا التفصيل الوارد في هذه السورة وهذا

__________________

(١) أي : كأنّه لارتفاعه سحابة تظلّ.

(٢) أي : بجدّ وعزم.

(٣) الآثار والأحاديث المثبتة لاستخراج الرب تعالى الذريّة من ظهر آدم كثيرة منها في الموطأ والسنن ونكتفي برواية الشيخين الآتية : قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة : أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفديا؟ فيقول : نعم ، فيقول : قد أردت منك أهون من ذلك ، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلّا أن تشرك).

(٤) وجّه نظم الآية هكذا : وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم ذريّتهم ولم يذكر ظهر آدم عليه‌السلام لأنه من المعلوم أن كل بني آدم منه وأخرجوا يوم الميثاق من ظهره. وقوله : ظهورهم : بدل اشتمال من بين آدم.

(٥) في الآية دليل على أنه لا عذر لأحد في تقليده آباءه وأجداده وأهل بلاده في الشرك والمعاصي كما لا عذر بالجهل أيضا.

٢٦٠