أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٥٧

ذا قُرْبى ، وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ففي هذه الآية جاء تحريم أربعة أمور هي : أكل مال اليتيم ، والتطفيف في الوزن ، والجور في الأقوال والأحكام ، ونكث العهد. فقوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) أي بما ينقصه أو يفسده إلا بالحالة التي هي أحسن له نماء وحفظا وقوله (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) بيان لزمن اليتم وهو من ولادته وموت والده إلى أن يبلغ زمن الأشد وهو البلوغ ، والبلوغ يعرف بالاحتلام أو نبات شعر العانة ، وفي الجارية بالحيض أو الحمل ، وببلوغ الثامنة عشرة من العمر وعلى شرط أن يبلغ اليتيم (١) عاقلا فإن كان غير عاقل يبقى في كفالة كافله ، وقوله تعالى : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ (٢) وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أمر بتوفية الكيل والوزن ، والأمر بالشيء نهي عن ضده ، وبذا حرم بخس الكيل والوزن والتطفيف فيهما وقوله (بِالْقِسْطِ) أي بالعدل بحيث لا يزيد ولا ينقص ، وقوله (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي طاقتها رفعا للحرج عن المسلم في الكيل والوزن إذا هو نقص أو زاد بغير عمد ولا تساهل.

وقوله تعالى (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا (٣) وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) هذا المحرم الثالث وهو قول الزور وشهادة الزور ، إذ الأمر بالعدل في القول ولو كان المقول له أو فيه قريبا نهى عن ضده وهو الجور في القول.

وقوله تعالى (وَبِعَهْدِ (٤) اللهِ أَوْفُوا) متضمن للمحرم الرابع وهو نكث العهد وخلف الوعد ، إذ الأمر بالوفاء بالعهود نهي عن نكثها وعدم الوفاء بها ، وقوله تعالى (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) إشارة إلى ما تضمنته هذه الآية الثانية مما حرم تعالى على عباده ، وقوله (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي ليعدكم بذلك لأن تذكروا فتتعظوا فتجتنبوا ما حرم عليكم. وقوله تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) هذه هي الآية الثالثة من آيات الوصايا العشر (٥) وقد تضمنت

__________________

(١) لأن الرشد لا يكون إلا مع العقل والله يقول فإن آنستم منهم رشدا والرشد مقابل السفه وهو إساءة التصرف فيما اسند إليه من مال وغيره.

(٢) ورد في التطفيف وعيد شديد قال تعالى ويل للمطففين ، وقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا قطع عنهم الرزق».

(٣) الأمر بالعدل في القول يتناول الأحكام والشهادات.

(٤) هذا الوفاء عام في كل ما عهد الله تعالى به إلى عباده من سائر الفرائض والواجبات وسائر التكاليف كما يتضمن العهود التي تكون بين الإنسان وأخيه الإنسان.

(٥) هذه الوصايا العشر موجودة في أول التوراة ومع الأسف أضاعها اليهود لشقائهم.

١٤١

الأمر بالتزام الإسلام عقائدا وعبادات وأحكاما وأخلاقا وآدابا ، كما تضمنت النهي عن اتباع غيره من سائر الملل والنحل المعبر عنها بالسبل ، وما دام الأمر بالتزام الاسلام يتضمن النهي عن ترك الاسلام فقد تضمنت الآية تحريما ألا وهو ترك الإسلام واتباع غيره هذا الذي حرم الله تعالى على عباده لا ما حرمه المشركون بأهوائهم وتزيين شركائهم وقوله تعالى : (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) إشارة إلى التزام الإسلام وترك ما عداه ليعدكم بذلك للتقوى وهي إتقاء غضب الرب تعالى وعذابه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ هذه الوصايا العشر عليها مدار الاسلام وسعادة الإنسان في الدارين كان عبد الله بن مسعود يقول فيها «من سره أن ينظر إلى وصية رسول الله التي عليها خاتمه فليقرأ الآيات الثلاث من آخر سورة الأنعام : (قُلْ تَعالَوْا .... تَتَّقُونَ).

٢ ـ حرمة الشرك وحقوق الوالدين وقتل الأولاد والزنى واللواط وكل قبيح من قول أو عمل أو اعتقاد وقتل النفس إلا بالحق ، وأكل مال اليتيم ، وبخس الكيل والوزن ، وقول الزور وشهادة الزور ، ونكث العهد وخلف الوعد. والردة عن الإسلام ، واتباع المذاهب الباطلة والطرق الضالة.

٣ ـ كمال العقل باجتناب المحرمات الخمس الأولى.

٤ ـ الحصول على ملكة المراقبة باجتناب المحرمات الأربع الثانية.

٥ ـ النجاة من النار والخزي والعار في الدارين بالتزام الاسلام حتى الموت والبراءة من غيره من سائر المذاهب (١) والملل والطرق.

(ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ

__________________

(١) روى الدارمي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال خط لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما خطا ثم قال هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمينه وخطوطا عن يساره ثم قال هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها. ثم قرأ هذه الآية قل هذه سبيلي. وهذه صورة تقريبية.

١٤٢

رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧))

شرح الكلمات :

(الْكِتابَ) : التوارة.

(وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) : تحتاج إليه أمة بني إسرائيل في عقائدها وعباداتها وفضائلها وأحكامها.

(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ) : القرآن الكريم.

(مُبارَكٌ) : خيريته ونفعه وبركته دائمة.

(عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا) : اليهود والنصارى.

(عَنْ دِراسَتِهِمْ) : أي قراءتهم لكتبهم لأنها بلسانهم ونحن لانفهم ذلك.

(وَصَدَفَ عَنْها) : أعرض عنها ولم يلتفت إليها.

(سُوءَ الْعَذابِ) : أي شيء العذاب وهو أشده.

معنى الآيات :

هذا الكلام متصل بما قبله ، فثم (١) حرف عطف والمعطوف عليه هو قل تعالوا أتل الآيات أي ثم قل يا رسولنا آتى ربي موسي الكتاب تماما لنعمه (عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) طاعة ربه وهو

__________________

(١) قال الزجاج : ثم ها هنا للعطف على معنى التلاوة ، فالمعنى اتل ما حرم ربكم عليكم. ثم أتل عليكم ما آتى الله موسى الخ. فهي إذا لعطف الجمل وما كان لعطف الجمل فلا يراعى فيه تراخي الزمان.

١٤٣

موسى عليه‌السلام ، (وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) مما تحتاج إليه أمة بني إسرائيل في عقائدها ، وعباداتها وأحكامها العامة والخاصة (وَهُدىً) يتبينون به الحق والصواب ، (وَرَحْمَةً) لهم في دنياهم لما يحمله من الدعوة إلى العدل والخير رجاء أن يوقنوا بلقاء ربهم.

هذا ما دلت عليه الآية الأولى وهي قوله تعالى : (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ) (١) أي بني إسرائيل (يُؤْمِنُونَ) فيعملون الصالحات ويتخلون عن المفاسد والشرور لما تجلبه لهم من غضب الله تعالى وعذابه.

أما الآية الثانية (١٥٥) فقد أشاد الله تعالى بالقرآن الكريم ممتنا بإنزاله وما أودع فيه من البركة التي ينالها كل من يؤمن به ويعمل به ويتلوه تعبدا وتقربا وتعلما.

هذا معنى قوله تعالى : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) وقوله (فَاتَّبِعُوهُ ....) (٢) أمر للعباد باتباع ما جاء في القرآن الكريم من عقائد وعبادات وشرائع وأحكام فإن من اتبعه قاده إلى السعادة والكمال في الحياتين ، وقوله (وَاتَّقُوا (٣) لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي اتقوا ترك العمل به ليعدكم ذلك الذي هو متابعة القرآن والتقوى للرحمة فترحمون في الدنيا والآخرة.

وأما الآية الثالثة وهي قوله تعالى : (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ) فمعناها : إن الله تعالى أنزل الكتاب على رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمره بتلاوته وإبلاغه الناس لئلا يقول الكافرون من العرب إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا اليهود والنصارى والمراد بالكتاب التوراة والإنجيل ، (وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ) إذ لم نعرف لغتهم ، ولم نعرف ما يقرأونه في كتابهم ، فتقوم الحجة لكم علينا فقطعا لهذه الحجة أنزلنا الكتاب.

وقوله تعالى في الآية الرابعة : (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) كما قطع تعالى عذرهم بإنزال كتابه الكريم لو قالوا يوم القيامة إنما أنزل الكتاب على اليهود والنصارى ونحن لم ينزل إلينا شىء فلذا ما عرفنا ربنا ولا عرفنا محابه ومكارهه فنطيعه بفعل محابه وترك مكارهه ، قطع كذلك عذرهم لو قالوا

__________________

(١) أي رجاء أن يؤمنوا بلقاء ربهم.

(٢) أي اعملوا بما فيه متتبعين ما فيه من أوامر ونواه تفعلون الأمر وتتركون النهي.

(٣) أي اتقوا تحريفه وتبديله كما فعلت اليهود.

١٤٤

لو أنا أنزل علينا الكتاب الهادي إلى الحق المعرف بالهدى لكنا أهدى من اليهود والنصارى الذين أوتوا الكتاب قبلنا ، فقال تعالى (فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) وهو القرآن الكريم ورسوله المبلغ له (وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) أي وجاءكم الهدى والرحمة يحملهما القرآن الكريم ، فأي حجة بقيت لكم تحتجون بها عند الله يوم القيامة إنكم إن لم تقبلوا هذه البينة وما تحمله من هدى ورحمة فقد كذبتم بآيات الله وصدفتم عنها ولا أحد أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها ، وسيجزيكم بما يجزي به المكذبين بآيات الله الصادفين عنها.

هذا ما دلت عليه الآية الرابعة (١٥٧) (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) أي كراهية أن تقولوا. (فَقَدْ جاءَكُمْ (١) بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً (٢) وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ).

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان منة الله تعالى على موسى عليه‌السلام والثناء عليه لإحسانه.

٢ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء يوم القيامة.

٣ ـ الإشادة بالقرآن الكريم ، وما أودع الله فيه من البركة والهدى والرحمة والخير

٤ ـ قطع حجة المشركين بإنزال الله تعالى كتابه وإرسال رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٥ ـ التنديد (٣) بالظلم ، وبيان جزاء الظالمين المكذبين بآيات الله المعرضين عنها.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا

__________________

(١) أي بطل عذركم بمجيء النبي الأمي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكم وهو البيّنة وسمي بينة لكماله الخلقي والخلقي ولما معه من العلوم والمعارف الإلهية وهو أميّ لا يقرأ ولا يكتب.

(٢) الهدى والرحمة المراد بهما ما في القرآن الكريم من هدى ورحمة للمؤمنين بقرينة. فمن أظلم ممن كذب بآيات الله.

(٣) وفي الحديث الصحيح : «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة». وفي آخر الظلم يذر الديار بلاقع أي قفرا خالية.

١٤٥

إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠))

شرح الكلمات :

(بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) : أي علامات الساعة منها طلوع الشمس من مغربها.

(كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) : من الطاعات والقربات.

(فَرَّقُوا دِينَهُمْ) : جعلوه طرائق ومذاهب تتعادى.

(وَكانُوا شِيَعاً) : طوائف وأحزابا.

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) : أي أتى يوم القيامة بالحسنة التي هي الإيمان بالله والإقرار بوحدانيته والعمل بطاعته وطاعة رسوله.

(وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) : أي بالشرك بالله ومعاصيه.

معنى الآيات :

بعد ذكر الحجج وإنزال الآيات التي هي أكبر بينة على صحة التوحيد وبطلان الشرك ، والعادلون بربهم الأصنام ما زالوا في موقفهم المعادي للحق ودعوته ورسوله فأنزل الله تعالى قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ ....) أي ما ينتظرون (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) لقبض أرواحهم ، (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) يوم القيامة لفضل القضاء ، (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) الدالة على قرب الساعة كطلوع الشمس من مغربها ، إن موقف الإصرار على التكذيب هو موقف المنتظر لما ذكر تعالى من الملائكة ومجىء الرب تعالى أو مجىء علامات الساعة للفناء. وقوله تعالى (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ (١) رَبِّكَ) الدالة على قرب الساعة وهي طلوع الشمس من

__________________

(١) الآيات بمعنى العلامات الدالة على قرب الساعة الكبرى منها عشر جاءت في حديث مسلم إذ روى عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال أشرف علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غرفة ونحن نتذاكر الساعة فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات. طلوع الشمس من مغربها ، والدخان ، والدابة ، وخروج يأجوج ومأجوج وخروج عيسى بن مريم ، وخروج الدجال وثلاثة خسوف : خسف بالمشرق وخسف بالمغرب. وخسف بجزيرة العرب ، ونار تخرج من قعر عدن تسوق أو تحشر الناس تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا.

١٤٦

مغربها إيذانا بقرب ساعة الفناء في هذه الحال يخبر تعالى أن نفسا لم تكن آمنت قبل ظهور هذه الآية لو آمنت بعد ظهورها لا يقبل منها إيمانها ولا تنتفع به لأنه أصبح إيمانا اضطراريا لا اختياريا ، كما أن نفسا آمنت به قبل الآية ، ولكن لم تكسب في إيمانها خيرا وأرادت أن تكسب الخير فإن ذلك لا ينفعها فلا تثاب عليه ، لأن باب التوبة مفتوح إلى هذا اليوم وهو يوم (١) طلوع الشمس من مغربها فإنه يغلق

وقوله تعالى (قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) يأمر الله رسوله أن يقول لأولئك العادلين بربهم المصرين على الشرك والتكذيب : ما دمتم منتظرين انتظروا إنا منتظرون ساعة هلاككم فإنها آتية لا محالة.

هذا ما تضمنته الآية الأولى (١٥٨) أما الآيتان بعدها فإن الله تعالى أخبر رسوله بأن الذين فرقوا دينهم (٢) وكانوا شيعا أي طوائف وأحزابا وفرقا مختلفة كاليهود والنصارى ، ومن يبتدع من هذ الأمة بدعا فيتابع عليها فيصبحون فرقا وجماعات ومذاهب مختلفة متطاحنة متحاربة هؤلاء (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) أي أنت برىء منهم ، وهم منك بريئون ، وإنما أمرهم إلى الله تعالى هو الذي يتولى جزاءهم فإنه سيجمعهم يوم القيامة ثم ينبئهم بما كانوا يعملون من الشر والخير (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ، وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها ، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) من قبلنا فلا ننقص المحسن منهم حسنة من حسناته ، ولا نضيف إلى سيئآته سيئة ما عملها ، هذا حكم الله فيهم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ إثبات صفة الإتيان في عرصات القيامة للرب تبارك وتعالى لفصل القضاء.

٢ ـ تقرير أشراط الساعة وإن طلوع الشمس منها وأنها متى ظهرت أغلق باب التوبة.

٣ ـ حرمة الفرقة في الدين وأن اليهود والنصارى فرقوا دينهم وأن أمة الإسلام أصابتها الفرقة كذلك بل وهي أكثر لحديث وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة.

__________________

(١) روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا رآها الناس آمن من عليها» فذلك حين (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ).

(٢) قرىء فارقوا دينهم أي تركوه وتخلوا عنه وقراءة الجمهور فرّقوا بالتضعيف حيث أصبح لكل فرقة اعتقاد وعمل خاص بها ومن فرّق فقد فارق أحب أم كره.

١٤٧

٤ ـ براءة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ممن فرقوا دينهم وترك الأمر لله يحكم بينهم بحكمه العادل.

٥ ـ مضاعفة الحسنات ، وعدم مضاعفة السيئات عدل من الله ورحمة.

(قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥))

شرح الكلمات :

(قِيَماً) (١) : أي مستقيما.

(مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) : أي دين إبراهيم وهو الإسلام.

(حَنِيفاً) : مائلا عن الضلالة إلى الهدى.

(وَنُسُكِي) : ذبحي تقربا إلى الله تعالى.

(وَمَحْيايَ) : حياتي.

(أَبْغِي رَبًّا) : أطلب ربا : إلها معبودا أعبده.

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ) أي لا تحمل نفس وازرة أي آثمة.

(وِزْرَ أُخْرى) : أي إثم نفس أخرى.

__________________

(١) قيما مصدر على وزن شبع وصف به المنصوب وهو دينا ومعناه مستقيما لا عوج فيه وهو الإسلام.

١٤٨

(خَلائِفَ الْأَرْضِ) : أي يخلف بعضكم بعضا جيل يموت وآخر يحيا إلى نهاية الحياة.

(لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) : أي ليختبركم فيما أعطاكم من الصحة والمرض والمال والفقر والعلم والجهل.

معنى الآيات :

في هذه الآيات وهي خاتمة هذه السورة التي بلغت آياتها بضعا وستين ومائة آية وكانت كلها في الحجاج مع العادلين بربهم وبيان طريق الهدى لهم لعلهم يؤمنون فيوحدون ويسلمون. في هذه الآيات أمر الله رسوله أن يعلن عن مفاصلته لأولئك المشركين فقال له (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي) (١) أي ما أذبحه تقربا إلى ربي ، (وَمَحْيايَ) أي ما آتيه في حياتي (وَمَماتِي) أي ما أموت عليه من (٢) الطاعات والصالحات (لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) وحده (لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ) أي أمرني ربي سبحانه وتعالى ، (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) لا يسبقني أحد أبدا. كما أمره أن ينكر على المشركين دعوتهم إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن يعبد معهم آلهتهم ، ليعبدوا معه إلهه وقال : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا) أي أطلب إلها ، (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) أي ما من كائن في هذه الحياة إلا والله ربه أي خالقه ورازقه ، وحافظه ، وأعلمه أنه لا تكسب نفس من خير إلا وهو لها ، ولا تكسب من شر إلا عليها ، وأنه (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي لا تحمل نفس مذنبة ذنب نفس مذنبة أخرى ، وأن مرد الجميع إلى الله تعالى (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) أي ويقضي بينكم فينجو من ينجو ويهلك من يهلك ، كما أخبره أن يقول : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) أي يخلف بعضكم بعضا هذا يموت فيورث ، وهذا الوارث يموت فيورث ، وقوله (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) أي هذا غنى وهذا فقير ، هذا صحيح وهذا ضرير هذا عالم وذاك جاهل ، ثم علل تعالى لتدبيره فينا بقوله (لِيَبْلُوَكُمْ) أي يختبركم فيما آتاكم ليرى الشاكر ويرى الكافر ولازم الابتلاء النجاح أو الخيبة فلذا قال (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) فيعذب الكافر ويغفر ويرحم الشاكر.

هداية الآيات :

__________________

(١) قيل المراد من الصلاة هنا صلاة العيد لمناسبة النسك وهو الذبح تقربا وقيل صلاة نافلة والعموم أولى. وكذا النسك يطلق على الذبح تقربا وهو مراد هنا ويطلق على سائر العبادات من الفرائض والنوافل لأن النسك هو التعبد.

(٢) وقال القرطبي في الآية وما أوصى به بعد وفاتي وهو حسن ويشهد له قوله تعالى ونكتب ما قدموا وآثارهم.

١٤٩

من هداية الآيات :

١ ـ ملة إبراهيم عليه‌السلام هي الإسلام.

٢ ـ مشروعية قول (إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) في القيام للصلاة. (١)

٣ ـ لا يصح طلب رب غير الله تعالى لأنه رب كل شيء.

٤ ـ عدالة الله تعالى تتجلى يوم القيامة.

٥ ـ عدالة الجزاء يوم القيامة.

٦ ـ تفاوت الناس في الغنى والفقر والصحة والمرض ، والبر والفجور وفي كل شىء مظهر من مظاهر تدبير الله تعالى في خلقه. ينتفع به الذاكرون من غير أصحاب الغفلة والنسيان.

سورة الاعراف

مكية (٢)

وآياتها خمس ومائتا آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥))

__________________

(١) لحديث مسلم عن عليّ بن أبي طالب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان اذا أقام الصلاة قال وجهت وجهي لله فاطر السماوات ..

الخ. الآية وفيه دعاء طويل ذكره القرطبي عند تفسير هذه الآية.

(٢) إلّا قوله تعالى : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ) إلى قوله : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ ..) فإنها مدنيات.

١٥٠

شرح الكلمات :

(المص) : هذه أحد الحروف المقطعة ويقرأ هكذا : ألف لآم ميم صاد. والله أعلم بمراده بها.

(كِتابٌ) : أي هذا كتاب.

(حَرَجٌ) : ضيق.

(وَذِكْرى) : تذكرة بها يذكرون الله وما عنده ومالديه فيقبلون على طاعته.

(أَوْلِياءَ) : رؤساؤهم في الشرك.

(ما تَذَكَّرُونَ) : أي تتعظون فترجعون إلى الحق.

(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ) : أي كثيرا من القرى.

(بَأْسُنا بَياتاً) : عذابنا ليلا وهم نائمون.

(أَوْ هُمْ قائِلُونَ) : أي نائمون بالقيلولة وهم مستريحون.

(فَما كانَ دَعْواهُمْ) : أي دعاؤهم إلا قولهم إنا كنا ظالمين.

معنى الآيات :

(المص) في هذه الحروف إشارة إلى أن هذا القرآن تألف من مثل هذه الحروف المقطعة وقد عجزتم عن تأليف مثله فظهر بذلك أنه كلام الله ووحيه إلى رسوله فآمنوا به

وقوله (كِتابٌ) أي هذا كتاب (أُنْزِلَ إِلَيْكَ) (١) يا رسولنا (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) أي ضيق منه (لِتُنْذِرَ بِهِ) قومك عواقب شركهم وضلالهم ، وتذكر به المؤمنين منهم ذكرى وقل لهم (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) من الهدى والنور ، (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ) أي من غيره (أَوْلِياءَ) (٢) لا يأمرونكم إلا بالشرك والشر والفساد ، وهم رؤساء الضلال في قريش (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) أي تتعظون فترجعون إلى الحق الذي جانبتموه (وَكَمْ (٣) مِنْ قَرْيَةٍ) أي وكثيرا من القرى أهلكنا أهلها لما جانبوا الحق ولازموا الباطل (فَجاءَها (٤) بَأْسُنا) (٥) أي عذابنا الشديد

__________________

(١) جملة : (أُنْزِلَ إِلَيْكَ) يصح إعرابها في محل نعت لكتاب ويصح إعرابها في محل نصب حالا من هذا كتاب نحو :

(هذا بعلي شيخا) وإن لم يقدر لفظ هذا تعرب جملة حينئذ في محل رفع خبر كتاب ، ويكون التنكير في كتاب للتعظيم وهو كالوصف فيسوغ الابتداء به وإن كان نكرة نحو قولهم : شر أهر ذا ناب.

(٢) قالت العلماء : كلّ من رضي مذهبا فأهل ذلك المذهب أولياؤه ، ومنع أولياء من الصرف لأنّ فيه ألف التأنيث.

(٣) (كَمْ) : للتكثير كما أنّ ربّ للتقليل وهي في موضع رفع على الابتداء ، والخبر جملة أهلكناها ، والتقدير : وكثير من القرى أهلكناها.

(٤) (فَجاءَها) في حرف الفاء هنا إشكال لأنّ الإهلاك قد تمّ فما معنى مجيء البأس حينئذ؟ وعليه فليكن تقدير الكلام : وكم من قرية أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا.

(٥) البأس : العذاب الآتي على النفس.

١٥١

(بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) أي ليلا أو نهارا ،

فما كان دعاءهم (١) يومئذ إلا قولهم : يا ويلنا إنا كنا ظالمين فاعترفوا بذنبهم ، ولكن هيهات أن ينفعهم الاعتراف بعد معاينة العذاب.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ القرآن الكريم هو مصدر نذارة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبشارته بما حواه من الوعد والوعيد ، والذكرى والبشرى.

٢ ـ وجوب اتباع الوحي ، وحرمة اتباع ما يدعو إليه أصحاب الأهواء والمبتدعة.

٣ ـ الاعتبار بما حل بالأمم الظالمة من خراب ودمار.

٤ ـ لا تنفع التوبة عند معاينة الموت أو العذاب.

(فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠))

شرح الكلمات :

(أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) : هم الأمم والأقوام.

(فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ) : فلنخبرنهم بأعمالهم متتبعين لها فلا نترك منها شيئا.

(وَما كُنَّا غائِبِينَ) : أي عنهم أيام كانوا يعملون.

(الْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) : أي العدل.

(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) : أي بالحسنات فأولئك هم المفلحون بدخول الجنة.

(خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) : بدخولهم النار والإصطلاء بها أبدا.

(مَعايِشَ) : جمع معيشة بمعنى العيش الذي يعيشه الإنسان.

__________________

(١) الدعاء والدعوى بمعنى واحد ومنه : وآخر دعواهم أي : دعائهم.

١٥٢

(قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) : أي شكرا قليلا والشكر ذكر النعمة للمنعم (١) وطاعته بفعل محابه وترك مكارهه.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ (٢) إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ، (٣) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ) يخبر تعالى أنه إذا جمع الخلائق لفصل القضاء مؤكدا الخبر بالقسم أنه يسأل كل أمة أو جماعة أو فرد أرسل إليهم رسله يسألهم عن مدى إجابتهم دعوة رسله إليهم ، فهل آمنوا بما جاءتهم به الرسل ، وأطاعوهم فيما بلغوهم من التوحيد والعبادة والطاعة والانقياد ، كما يسأل الرسل أيضا هل بلغوا ما ائتمنهم عليه من رسالته المتضمنة أمر عباده بالإيمان به وتوحيده وطاعته في أمره ونهيه ، ثم يقص تعالى على الجميع بعلمه كل ما كان منهم من ظاهر الأعمال وباطنها ، ولا يستطيعون إخفاء شىء أبدا ، ولم يكن سؤاله لهم أولا ، إلا من باب إقامة الحجة وإظهار عدالته سبحانه وتعالى فيهم ، ولتوبيخ من يستحق التوبيخ منهم ، وهذا معنى قوله تعالى : (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ) عنهم حينما كانوا في الدنيا يعملون فكل أعمالهم كانت مكشوفة ظاهرة له تعالى ولا يخفى عليه منها شىء وهو السميع البصير.

هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٦) والثانية (٧) أما الآيتان الثالثة والرابعة فقد أخبر تعالى أنه بعد سؤالهم وتعريفهم بأعمالهم ينصب الميزان وتوزن (٤) لهم أعمالهم فمن ثقلت موازين حسناته أفلح بالنجاة من النار ودخول الجنة دار السّلام ومن خفّت لقلة حسناته وكثرة سيئاته (٥) خسر نفسه بإلقائه في جهنم ليخلد في عذاب أبدي ، وعلل تعالى لهذا الخسران في جهنم

__________________

(١) وحده والثناء بها عليه.

(٢) في الآية دليل على أنّ الكفار يحاسبون وإن لم توزن أعمالهم لقوله تعالى (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) فمحاسبتهم لإظهار العدالة الإلهية لا لأن لهم أعمالا صالحة يجزون بها والله أعلم.

(٣) ويشهد لهذه المساءلة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح : (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام يسأل عن رعيته ، والرجل يسأل عن أهله ، والمرأة تسأل عن بيت زوجها ، والعبد يسأل عن مال سيده).

(٤) هنا زلت أقدام المعتزلة فأوّلوا الوزن للأعمال والميزان وقالوا : الأعراض لا توزن ولو اتبعوا لأوّلوا الميزان بالصراط والجنة والنار على ما يرد على الأرواح دون الأجساد ، والشياطين والجنّ على الأخلاق المذمومة ، والملائكة على القوى المحمودة وهكذا حتى لا يبقى للدين حقيقة والعياذ بالله من فساد القلوب والعقول ومن الجري وراء فلسفة الإغريق واليونان.

(٥) ورد في السنة الصحيحة أنّ الأعراض تحوّل إلى أجسام وتوزن كما في حديث : أنّ البقرة وآل عمران يأتيان يوم القيامة وكانهما غمامتان. الحديث ، كما توزن صحائف الأعمال لحديث : (فطاشت السجلات وثقلت البطاقة) وحديث : (يؤتى بالرجل السمين فلا يزن عند الله جناح بعوضة) وبهذا تقرر أنّ الأعمال توزن وتوزن محالها وفاعلوها والله على ذلك قدير.

١٥٣

بقوله (بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) أي يكذبون ويجحدون ، وأطلق الظلم وأريد به التكذيب والجحود لأمرين هما :

أولا : اكتفاء بحرف الجر الباء إذ لا تدخل على ظلم ولكن على كذب أو جحد يقال كذب به وجحد به ولا يقال ظلم به ولكن ظلمه وهذا من باب التضمين وهو سائغ في لغة العرب التي نزل بها القرآن.

وثانيا : أنهم بدل أن يؤمنوا بالآيات وهي واضحات كذبوا بها فكانوا كأنهم ظلموا الآيات ظلما حيث لم يؤمنوا بها وهي بينات.

هذا ما دلت عليه الآيتان أما الآية الخامسة (١٠) فقد تضمنت امتنان الله تعالى على عباده ، وكان المفروض أن يشكروا نعمه عليهم بالإيمان به وتوحيده وطاعته ، ولكن الذي حصل هو عدم الشكر من أكثرهم قال تعالى (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ) حيث جعلهم متمكنين في الحياة عليها يتصرفون فيها ويمشون في مناكبها ، وقوله (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) (١) هذه نعمة أخرى وهي أن جعل لهم فيها معايش وأرزاقا يطلبونها فيها ويحصلون عليها وعليها قامت حياتهم ، وقوله (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أي لا تشكرون إلا شكرا يسيرا لا يكاد يذكر.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والسؤال والحساب ووزن الأعمال يوم القيامة.

٢ ـ صعوبة الموقف حيث تسأل الأمم والرسل عليهم‌السلام كذلك.

٣ ـ الفلاح والخسران مبنيان على الكسب في الدنيا فمن كسب خيرا نجا ، ومن كسب شرا هلك.

٤ ـ وجوب شكر النعم بالإيمان والطاعة لله ورسوله.

(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا

__________________

(١) المعايش : جمع معيشة ، والمعيشة : ما يتوصل به إلى العيش الذي هو الحياة من المطاعم والمشارب. والتمكين في الأرض : معناه جعلها قارة ممهدة لا تضطرب ولا تتحرك فيفسد ما عليها.

١٥٤

لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨))

شرح الكلمات :

(خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) : أي خلقنا أباكم آدم أي قدرناه من الطين ثم صورناه على الصورة البشرية الكريمة التي ورثها بنوه من بعده إلى نهاية الوجود الإنساني.

(فَسَجَدُوا) : أي سجود تحية لآدم عليه‌السلام.

(إِبْلِيسَ) : أبو الشياطين من الجن وكنيته أبو مرة ، وهو الشيطان الرجيم.

(فَاهْبِطْ مِنْها) : أي من الجنة.

(مِنَ الصَّاغِرِينَ) : جمع صاغر الذليل المهان.

(فَبِما أَغْوَيْتَنِي) : أي فبسبب إضلالك لي.

(مَذْؤُماً مَدْحُوراً) : ممقوتا مذموما مطرودا.

معنى الآيات :

ما زال السياق في تعداد أنعم الله تعالى على عباده تلك النعم الموجبة لشكره تعالى بالإيمان

١٥٥

به وطاعته فقال تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) (١) أي خلقنا أباكم آدم من طين ثم صورناه بالصورة البشرية التي ورثها بنوه عنه ، (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) وفي هذا إنعام آخر وهو تكريم أبيكم آدم بأمر الملائكة بالسجود له تحية له وتعظيما (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ (٢) لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) أي أبى وامتنع أن يسجد ، فسأله ربه تعالى قائلا : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ (٣) إِذْ أَمَرْتُكَ) أي أي شىء جعلك لا تسجد فأجاب إبليس قائلا : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ ، وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) فأنا أشرف منه فكيف أسجد له ، ولم يكن إبليس مصيبا في هذه القياس (٤) الفاسد أولا : ليست النار أشرف من الطين بل الطين أكثر نفعا وأقل ضررا ، والنار كلها ضرر ، وما فيها من نفع ليس بشىء إلى جانب الضرر وثانيا : إن الذي أمره بالسجود هو الرب الذي تجب طاعته سواء كان المسجود له فاضلا أو مفضولا ، وهنا أمره الرب تعالى أن يهبط من الجنة فقال (فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) أي الذليلين الحقيرين ، ولما وقع إبليس في ورطته ، وعرف سبب هلكته وهو عدم سجوده لآدم قال للرب تبارك وتعالى (أَنْظِرْنِي) أي أمهلني لا تمتني (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) فأجابه الرب بقوله (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) وهو فناء هذه الدنيا فقط وذلك قبل البعث ، جاء هذا الجواب في سورة الحجر وهنا قال (إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) ومراد إبليس في الإمهال التمكن من إفساد أكبر عدد من بني آدم انتقاما منهم إذ كان آدم هو السبب في طرده من الرحمة ، ولما أجابه الرب إلى طلبه قال : (فَبِما أَغْوَيْتَنِي) أي أضللتني (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) يريد آدم وذريته ، والمراد من الصراط الإسلام إذ هو الطريق المستقيم والموصل بالسالك له إلى رضوان الله تعالى (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ (٥) وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ

__________________

(١) ويصح أن يقال : خلقناكم نطفا ثم صورناكم ، وما في التفسير أولى بالآية وأصح بدليل قوله : (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ).

(٢) استثناء من غير الجنس إذ إبليس من الجنّ ولم يكن من الملائكة.

(٣) (ما مَنَعَكَ) ما : في موضع رفع بالابتداء فهي اسم استفهام والتقدير أي شيء منعك من السجود ، وأن المصدرية مدغمة في لا الزائدة بدليل عدم زيادتها في [ص] إذ قال : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ) أي : من السجود لآدم.

(٤) قال ابن عباس والحسن : أوّل من قاس إبليس فأخطأ القياس ، فمن قاس الدين برأيه قرنه الله تعالى مع إبليس. قال العلماء : من جوهر الطين الرزانة والسكون والوقار والأناة ولهذا تاب آدم ، ومن جوهر النار الخفة والحدة والطيش والارتفاع ولذا لم يتب إبليس.

(٥) معناه : لأصدنّهم عن الحق ، وأرغبهم في الدنيا وأشككهم في الآخرة وهذا غاية الضلال ، وقال بعضهم : المراد من قوله : (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) من دنياهم (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) من آخرتهم ، (وَعَنْ أَيْمانِهِمْ) يعني حسناتهم (وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) يعني سيئاتهم.

١٥٦

أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) يريد يحيط بهم فيمنعهم سلوك الصراط المستقيم حتى لا ينجوا ويهلكوا كما هلك هو زاده الله هلاكا ، وقوله (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) هذا قول إبليس للرب تعالى ، ولا تجد أكثر أولاد آدم الذي أضللتني بسببه شاكرين لك بالإيمان والتوحيد والطاعات.

وهنا أعاد الله أمره بطرد اللعين فقال (اخْرُجْ مِنْها) أي من الجنة (مَذْؤُماً مَدْحُوراً) أي ممقوتا مطرودا (لَمَنْ تَبِعَكَ (١) مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) أي فبعزتي لأملأن جهنم منك وممن اتبعك منهم أجمعين.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ خطر الكبر على الإنسان.

٢ ـ ضرر القياس (٢) الفاسد.

٣ ـ خطر إبليس وذريته على بني آدم ، والنجاة منهم بذكر الله تعالى وشكره.

٤ ـ الشكر هو الإيمان والطاعة لله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا

__________________

(١) اللام في (لَمَنْ) موطئة للقسم ، واللام في (لَأَمْلَأَنَ) في جواب القسم والتقدير : وعزتي من تبعك منهم لأملأن جهنم منك ومنهم أجمعين.

(٢) القياس من الكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة مشروع محمود لأنّه اعتصام بالكتاب والسنة واجماع الأمة ، وإنّما المذموم المحرّم : القياس على غير أصل من هذه الأصول الثلاثة : الكتاب ، السنة ، الإجماع ، وهذا علي ابن أبي طالب لما قال له أبو بكر رضي الله عنهما أقيلوني بيعتي فقال عليّ : والله لا نقيلك ولا نستقيلك رضيك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على دنيانا أفلا نرضاك لديننا فقاس الإمامة على الصلاة لله ، وقاس أبو بكر الزكاة على الصلاة.

١٥٧

يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢))

شرح الكلمات :

(وَزَوْجُكَ) : هي حواء التي خلقها الله تعالى من ضلع آدم الأيسر.

(الْجَنَّةَ) : دار السّلام التي دخلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الإسراء والمعراج.

(مِنَ الظَّالِمِينَ) : أي لأنفسهم.

(فَوَسْوَسَ) : الوسوسة : الصوت الخفي ، وسوسة (١) الشيطان لابن آدم إلقاء معان فاسدة ضارة في صدره مزينة ليعتقدها أو يقول بها أو يعمل.

(لِيُبْدِيَ (٢) لَهُما ما وُورِيَ) : ليظهر لهما ما ستر عنهما من عوراتهما.

(وَقاسَمَهُما) : حلف لكل واحد منهما.

(فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ) : أي أدناهما شيئا فشيئا بخداعه وتغريره حتى أكلا من الشجرة.

(وَطَفِقا يَخْصِفانِ) : وجعلا يشدان عليهما من ورق الجنة ليسترا عوراتهما.

معنى الآيات :

ولما طرد الرحمن إبليس من الجنة نادى آدم قائلا له (يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ) أي حواء (الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما) يعني من ثمارها وخيراتها ، (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) أشار لهما إلى شجرة من أشجار الجنة معينة ، ونهاهما عن الأكل منها ، وعلمهما أنهما إذا أكلا منها كانا من الظالمين المستوجبين للعقاب ، واستغل إبليس هذه الفرصة التي أتيحت له فوسوس (٣) لهما مزينا لهما الأكل من الشجرة قائلا لهما (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ

__________________

(١) الوسواس اسم للشيطان أيضا قال تعالى : (مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ).

(٢) اللام : لام العاقبة والصيرورة.

(٣) ذهب الأولون مذاهب في تحديد كيفية اتصال إبليس بآدم وحوارهما في الجنة وهو خارج منها حتى وسوس لهما فأكلا من الشجرة التي لم يأذن الله تعالى لهما في الأكل منها إلّا أن المخترعات الحديثة بيّنت لنا كيفية ذلك الاتصال وبيانه : ان الإنسان في نفسه قابلية لتلقي الوسواس أشبه ما تكون بجهاز اللاسلكي بواسطتها يتم الاتصال بين الإنسان وعدّوه إبليس وذريته

١٥٨

تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ)

(وَقاسَمَهُما) أي حلف لهما أنه ناصح (١) لهما وليس بغاش لهما ، (فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ) وخداع حتى أكلا (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ ...) أي ظهرت لهما سوءاتهما (٢) حيث انحسر النور (٣) الذي كان يغطيهما ، فجعلا يشدان من ورق الجنة على أنفسهما ليستر عوراتهما ، وهو معنى قوله تعالى (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) وعندئذ ناداهما ربهما سبحانه وتعالى قائلا : ألم أنهكما عن هذه الشجرة وهو استفهام تأديب وتأنيب ، (وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) فكيف قبلتما نصحه وهو عدوكما.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ سلاح إبليس الذي يحارب به ابن آدم هو الوسوسة والتزيين لا غير.

٢ ـ تقرير عداوة الشيطان للإنسان.

٣ ـ النهي يقتضي التحريم إلا أن توجد قرينة تصرف عنه إلى الكراهة.

٤ ـ وجوب ستر العورة من الرجال والنساء سواء.

٥ ـ جواز الاقسام بالله تعالى ، ولكن لا يحلف إلا صادقا.

(قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (٢٥))

شرح الكلمات :

(ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) : أي بأكلهما من الشجرة.

(الْخاسِرِينَ) : الذين خسروا دخول الجنة والعيش فيها.

__________________

(١) قال قتادة : حلف لهما بالله أنه خلق قبلهما وأنه أعلم منهما وحلف أنه ناصح لهما فانغرا به ، على حد قول العلماء : من حدعنا بالله انخدعنا له.

(٢) سمي الفرجان سوأتين وعورة لأن السوءة مشتقة مما يسيء إلى النفس بالألم والعورة هي كل ما استحيي من كشفه.

(٣) روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : تقلّص النور الذي كان لباسهما فصار أظفارا في الأيدي والأرجل. والله أعلم.

١٥٩

(مُسْتَقَرٌّ) : مكان استقرار وإقامة.

(مَتاعٌ إِلى حِينٍ) : تمتع بالحياة إلى حين انقضاء آجالكم.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث عن آدم عليه‌السلام ، أنه لما ذاق آدم وحواء الشجرة وبدت لهما سؤاتهما وعاتبهما ربهما على ذلك قالا معلنين عن توبتهما : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) (١) أي بذوق الشجرة (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا) أي خطيئتنا هذه (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي الهالكين ، وتابا فتاب الله تعالى عليهما وقال لهم اهبطوا إلى الأرض إذ لم تعد الجنة في السماء دارا لهما بعد ارتكاب المعصية ، إن إبليس عصا بامتناعه عن السجود لآدم ، وآدم وحواء بأكلهما من الشجرة وقوله (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) أي اهبطوا إلى الأرض (٢) حال كون بعضكم لبعض عدوا ، إبليس وذريته عدو لآدم وبنيه ، وآدم وبنوه عدو لإبليس وذريته ، (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) أي مقام استقرار ، (وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) أي تمتع بالحياة إلى حين انقضاء الآجال وقوله تعالى (فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ) (٣) يريد من الأرض التي أهبطهم إليها وهي هذه الأرض التي يعيش عليها بنو آدم ، والمراد من الخروج الخروج من القبور إلى البعث والنشور.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ قول آدم وحواء : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا ..) الآية هو الكلمة التي ألقاها تعالى إلى آدم فتلقاها عنه فتاب عليه بها.

٢ ـ شرط التوبة الاعتراف بالذنب وذلك بالاستغفار أي طلب المغفرة.

٣ ـ شؤم الخطيئة كان سبب طرد إبليس من الرحمة ، وإخراج آدم من الجنة.

٤ ـ لا تتم حياة للإنسان على غير الأرض ، ولا يدفن بعد موته في غيرها لدلالة آية (فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ).

__________________

(١) أي : يا ربنا ، حذف حرف النداء لقربه منهما سبحانه وتعالى إذ ينادى بحرف النداء البعيد.

(٢) قال ابن كثير : لو كان في تعيين الأماكن التي هبط فيها آدم وحواء وإبليس فائدة تعود على المكلّفين في دينهم أو دنياهم لذكرها الله تعالى.

(٣) أي : للحساب والجزاء على الكسب في الدنيا من خير وشرّ.

١٦٠