أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ١

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ١

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٤

وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣))

شرح الكلمات :

(آمَنُوا) : صدقوا بالله ورسوله ووعد الله ووعيده.

(أَوْلِياءَ) : لكم توالونهم بالنصرة والمحبة.

(بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) : أي اليهودي ولي أخيه اليهودي ، والنصراني ولي أخيه النصراني.

(الظَّالِمِينَ) : الذين يوالون أعداء الله ورسوله ويتركون موالاة الله ورسوله والمؤمنين.

(مَرَضٌ) : نفاق وشك وشرك.

(يُسارِعُونَ فِيهِمْ) : أي في البقاء على موالاتهم أي موالاة اليهود والنصارى.

(دائِرَةٌ) (١) : تدور علينا من جدب ، أو انتهاء أمر الإسلام.

(بِالْفَتْحِ) : نصر المؤمنين على الكافرين والقضاء لهم بذلك كفتح مكة.

(٢) (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) : أقصاها وأبلغها.

(حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) : بطلت وفسدت فلم ينتفعوا منها بشيء لأنها ما كانت لله تعالى.

معنى الآيات :

ورد في سبب نزول هذه الآية أن عبادة بن الصامت الأنصاري ، وعبد الله بن أبي كان لكل منهما حلفاء من يهود المدينة ، ولما انتصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون في بدر اغتاظ اليهود وأعلنوا سوء نياتهم فتبرأ عبادة بن الصامت من حلفائه ورضي بموالاة الله ورسوله والمؤمنين وأبى ابن أبي ذلك وقال بعض ما جاء في هذه الآيات فأنزل الله تعالى قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) أي لكم من دون المؤمنين وقوله تعالى (بَعْضُهُمْ

__________________

(١) الدائرة : اسم فاعل من دار يدور فهو دائر إذا عكس سيره فالدائرة : تغيّر الحال ، وغلبت في الخير والشرّ أي : من خير إلى شر ، ودوائر الدهر : نوبه ودوله.

(٢) حقيقة الجهد : التعب والمشقة ، ومنتهى الطاقة ، والمراد به في الآية آكد الأيمان وأغلظها ، وفعل الجهد : جهد كمنع يجهد كيمنع جهدا كمنعا.

٦٤١

أَوْلِياءُ بَعْضٍ) تعليل لتحريم موالاتهم (١) ، لأن اليهودي ولي لليهودي والنصراني ولي للنصراني على المسلمين فكيف تجوز إذا موالاتهم ، وكيف يصدقون أيضا فيها فهل من المعقول أن يحبك النصراني ويكره أخاه ، وهل ينصرك على أخيه؟ وقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ) أي أيها المؤمنون (فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) (٢) ، لأنه بحكم موالاتهم سيكون حربا على الله ورسوله والمؤمنين وبذلك يصبح منهم قطعا وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) جملة تعليلية تفيد أن من والى اليهود والنصارى من المؤمنين أصبح مثلهم فيحرم هداية الله تعالى لأن الله لا يهدي القوم الظالمين ، والظلم وضع الشيء في غير محله وهذا الموالي لليهود والنصارى قد ظلم بوضع الموالاة في غير محلها حيث عادى الله ورسوله والمؤمنين ووالى اليهود والنصارى أعداء الله ورسوله والمؤمنين. هذا ما دلت عليه الآية الأولى أما الآية الثانية (٥٢) فقد تضمنت بعض ما قال ابن أبي مبررا به موقفه المخزي وهو الإبقاء على موالاته لليهود إذ قال تعالى لرسوله وهو يخبره بحالهم : (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) كابن أبي والمرض مرض النفاق (يُسارِعُونَ فِيهِمْ) أي في موالاتهم ولم يقل يسارعون إليهم لأنهم ما خرجوا من دائرة موالاتهم حتى يعودوا إليها بل هم في داخلها يسارعون ، يقولون كالمعتذرين (نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) من تقلب الأحوال فنجد أنفسنا مع أحلافنا ننتفع بهم. وقوله تعالى : (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) وعسى من الله تفيد تحقيق الوقوع فهي بشرى لرسول الله والمؤمنين يقرب النصر و (٣) الفتح (أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ (٤) فَيُصْبِحُوا) أي أولئك الموالون لليهود (عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ) من النفاق وبغض المؤمنين وحب الكافرين (نادِمِينَ) حيث لا ينفعهم ندم. هذا ما تضمنته الآية الثانية أما الآية الثالثة (٥٣) وهي قوله تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) عندما يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده فيه نصرة المؤمنين وهزيمة الكافرين ، ويصبح المنافقون نادمين يقول المؤمنون مشيرين إلى المنافقين : (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ) أغلظ الأيمان (إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) لأنها لم تكن لله (فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ).

__________________

(١) الموالاة حقيقتها : المودة والنصرة ، فمن والى اليهود والنصارى فأحبّهم ونصرهم على المسلمين لازمه أنّه أبغض المؤمنين وخذلهم وبهذا يصبح كافرا.

(٢) هذا الحكم باق إلى يوم القيامة وهو : حرمة موالاة الكافرين ومن والاهم تحرم موالاته كما تحرم موالاتهم ووجبت له النار كما وجبت لهم.

(٣) قال ابن عباس رضي الله عنهما : أتى الله بالفتح فقتلت مقاتلة بني قريظة وسبيت ذراريهم وأجلى بنو النضير.

(٤) فسّر الحسن قوله تعالى : (أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) بأنه إظهار أمر المنافقين والإخبار بأسمائهم والأمر بقتلهم ، وهو تفسير عظيم عليه نور.

٦٤٢

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ حرمة موالاة اليهود والنصارى (١) وسائر الكافرين.

٢ ـ موالاة الكافر على المؤمن تعتبر ردة عن الإسلام.

٣ ـ موالاة الكافرين ناجمة عن ضعف الإيمان فلذا تؤدي إلى الكفر.

٤ ـ عاقبة النفاق سيئة ونهاية الكفر مريرة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦))

شرح الكلمات :

(مَنْ يَرْتَدَّ) (٢) : أي يرجع إلى الكفر بعد إيمانه.

(أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) : أرقاء عليهم رحماء بهم.

(أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) (٣) : أشداء غلاظ عليهم.

(لَوْمَةَ لائِمٍ) : عذل عاذل.

(حِزْبَ اللهِ) : أنصار الله تعالى.

__________________

(١) لا يعدّ موالاة استعمال اليهودي أو النصراني في عمل تجاري أو عمراني أو مهني إذا دعت الحاجة إليه ، ولا يصح استبطانهم ولا الاستعانة بهم في الجهاد.

(٢) قرىء : يرتدد بالفكّ وهي قراءة أهل المدينة والشام.

(٣) قال ابن عباس : هم للمؤمنين كالوالد للولد والسيّد للعبد وهم في الغلظة على الكفار كالسبع على فريسته.

٦٤٣

معنى الآيات :

هذه الآية الكريمة (٥٤) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) تضمنت خبرا من أخبار الغيب التي يخبر بها القرآن فتتم طبق ما أخبر به فتكون آية أنه كلام الله حقا وأن المنزل على رسوله صدقا فقد أخبر تعالى أن من يرتد من المؤمنين سوف يأتي الله عزوجل بخير منه ممن يحبون الله ويحبهم الله تعالى رحماء بالمؤمنين أشداء على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لوم من يلوم ، ولا عتاب من يعتب عليهم. وما إن مات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى ارتد فئات (١) من أجلاف الأعراب ومنعوا الزكاة وقاتلهم أبو بكر الصديق مع الصحابة رضوان الله عليهم حتى أخضعوهم للإسلام وحسن إسلامهم فكان أبو بكر وأصحابه ممن وصف الله تعالى يحبون الله ويحبهم الله يجاهدون في سبيله ولا يخافون لومة لائم ، وقد روي بل وصح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزلت هذه الآية وتلاها صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو موسى الأشعري أمامه فأشار إليه وقال قوم هذا ، وفعلا بعد وفاة الرسول جاء الأشعريون وظهرت الآية وتمت المعجزة وصدق الله العظيم. وقوله تعالى : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ) الإشارة إلى ما أولى (٢) أولئك المؤمنين من أبي بكر الصديق والصحابة والأشعريين من تلك الصفات الجليلة من حب الله والرقة على المؤمنين والشدة على الكافرين ، والجهاد في سبيل الله ، وقوله تعالى : (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) أي واسع الفضل عليم بمن يستحقه. هذا ما دلت عليه الآية الأولى أما (٣) الثانية (٥٥) فقد تضمنت طمأنة الرب تعالى لعبادة بن الصامت وعبد الله بن سلام ومن تبرأ من حلف اليهود ووالى الله ورسوله فأخبرهم تعالى أنه هو وليهم ورسوله والذين آمنوا (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (٤) أي خاشعون متطامنون وأما ولاية اليهود والنصارى فلا خير لهم فيها وهم منها براء فقصرهم تعالى على ولايته وولاية رسوله والمؤمنين الصادقين وفي الآية الثالثة أخبرهم تعالى أن من يتول الله ورسوله والذين آمنوا ينصره الله ويكفه ما يهمه ، لأنه أصبح من حزب الله ، وحزب الله أي أولياؤه وأنصاره هم الغالبون هذا ما دلت عليه الآية الكريمة وهي قوله

__________________

(١) قال ابن اسحاق لما قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ارتدت العرب إلّا ثلاثة مساجد مسجد المدينة ومسجد مكة ومسجد جؤاثي ، جؤاثي : اسم حصن بالبحرين وكان المرتدون على قسمين : قسم منعوا الزكاة واعترفوا بباقي الشريعة وقسم نبذوا الشريعة.

(٢) أي : ما وهبهم وأعطاهم من الصفات الحميدة الجليلة.

(٣) هي قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ..) الخ.

(٤) يروى أنّ عليا رضي الله عنه كان يصلي نافلة في المسجد فسأله أحد فرمى إليه بالخاتم وهو يصلي فاستدل الفقهاء بهذا أنّ العمل اليسير لا يبطل الصلاة.

٦٤٤

تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ (١) اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ).

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ إخبار القرآن الكريم بالغيب وصدقه في ذلك فكان آية أنه كلام الله.

٢ ـ فضيلة أبي بكر والصحابة والأشعريين قوم أبي موسى الأشعري وهم من أهل اليمن.

٣ ـ فضل حب الله والتواضع للمؤمنين وإظهار العزة على الكافرين ، وفضل الجهاد في سبيل الله وقول الحق والثبات عليه وعدم المبالاة بمن يلوم ويعذل في ذلك.

٤ ـ فضيلة إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والخشوع والتواضع.

٥ ـ ولاية الله ورسوله والمؤمنين الصادقين توجب لصاحبها النصر والغلبة على أعدائه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (٥٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠)) (٢)

__________________

(١) الحزب : الصنف من الناس وأصله من النائبة مأخوذ من قولهم : حزبه كذا أي : نابه كأنّ المتحزّبين مجتمعون اجتماع أهل النائبة عليها.

(٢) روي أنه لما نزلت آية : (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ ..) الخ قال المسلمون لهم يا إخوة القردة والخنازير نكسوا رؤوسهم افتضاحا وفيهم يقول الشاعر :

فلعنة الله على اليهود

إنّ اليهود إخوة القرود

٦٤٥

شرح الكلمات :

(هُزُواً وَلَعِباً) : الهزء : ما يهزأ به ويسخر منه. واللعب : ما يلعب به.

(أُوتُوا الْكِتابَ) : هم اليهود في هذا السياق.

(الْكُفَّارَ) : المشركون.

(إِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) : أذنتم لها.

(هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا) : أي ما تنقمون منا ، ومعنى تنقمون هنا تنكرون منا وتعيبون علينا.

(مَثُوبَةً) : جزاء.

(فاسِقُونَ) : خارجون عن طاعة الله تعالى بالكفر والمعاصي.

(الْقِرَدَةَ) : جمع قرد حيوان معروف مجبول على التقليد والمحاكاة.

(وَالْخَنازِيرَ) : جمع خنزير حيوان خبيث معروف محرم الأكل.

(شَرٌّ مَكاناً) : أي منزلة يوم القيامة في نار جهنم.

معنى الآيات :

ما زال السياق في تحذير المؤمنين من موالاة اليهود وأعداء الله ورسوله فقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالله ربا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا (لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ) الإسلامي (هُزُواً) شيئا يهزءون به ، ولعبا أي شيئا يلعبون به (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) يعني اليهود ، والكفار (١) وهم المنافقون والمشركون (أولياء) أنصارا وأحباء وأحلافا (٢) واتقوا الله في ذلك أي في اتخاذهم أولياء إن كنتم مؤمنين صادقين في إيمانكم فإن حب الله ورسوله والمؤمنين يتنافى معه حب أعداء الله ورسوله والمؤمنين. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٥٧) أما الآية الثانية (٥٨) فقد تضمنت إخبار الله تعالى بما يؤكد وجوب معاداة من يتخذ دين المؤمنين هزوا ولعبا وهم أولئك الذين إذا سمعوا الأذان ينادي (٣) للصلاة اتخذوه هزوا ولعبا فهذا يقول ما هذا الصوت وآخر يقول

__________________

(١) قرىء والكفار بالجرّ ، وقرىء بالنصب قال مكي : لو لا اتفاق الجماعة على قراءة النصب لاخترت قراءة الجرّ لقوته في الإعراب ، وفي التفسير ، والقرب من المعطوف عليه.

(٢) هذه الآية فيها دليل على عدم جواز التأييد والاستنصار بالمشركين ، وقد روي عن جابر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا أراد الخروج إلى أحد جاء قوم من اليهود فقالوا : نسير معك فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنا لا نستعين على أمرنا بالمشركين».

(٣) لم يكن بمكة الأذان ، وإنّما كان ينادى للصلاة بلفظ «الصلاة جامعة» ولمّا هاجر صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصرفت القبلة إلى الكعبة أمر بالأذان وبقيت «الصلاة جامعة» للأمر بعرض ولمّا همهّم أمر الأذان رأى عبد الله بن زيد الأنصاري الأذان في المنام وكذا رآه عمر.

٦٤٦

هذا نهيق حمار قبح الله قولهم وأقمأهم. فقال تعالى عنهم : (وَإِذا نادَيْتُمْ (١) إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ). حقا انهم لا يعقلون فلو كانوا يعقلون الكلام لكان النداء إلى الصلاة من أطيب ما يسمع العقلاء لأنه نداء إلى الطهر والصفاء وإلى الخير والمحبة والألفة نداء إلى ذكر الله وعبادته ، ولكن القوم كما أخبر تعالى عنهم : (لا يَعْقِلُونَ) شأنهم شأن البهائم والبهائم أفضل منهم. هذا ما دلت عليه الآية الثانية أما الآية الثالثة (٥٩) فقد تضمنت تعليم الله تعالى لرسوله أن يقول لأولئك اليهود والكفرة الفجرة يا أهل الكتاب إنكم بمعاداتكم لنا وحربكم علينا ما تنقمون منا أي ما تكرهون منا ولا تعيبون علينا إلا إيماننا بالله وما أنزل علينا من هذا القرآن الكريم وما أنزل من قبل من التوراة والإنجيل ، وكون أكثركم فاسقين فهل مثل هذا ينكر من صاحبه ويعاب عليه؟ اللهم لا ، ولكنكم قوم لا تعقلون هذا معنى قوله تعالى في هذه الآية : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ) أما الآية الرابعة في هذا السياق (٦٠) فقد تضمنت تعليم الله لرسوله كيف يرد على أولئك اليهود إخوان القردة والخنازير قولهم : لا نعلم دينا شرا من دينكم ، وذلك أنهم سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بمن تؤمن؟ فقال أؤمن بالله وبما أنزل إلينا وما أنزل على موسى وما أنزل على عيسى فلما قال هذا ، قالوا : لا نعلم دينا شرا من دينكم بغضا لعيسى عليه‌السلام وكرها له ، فأنزل الله تعالى : (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً) أي ثوابا وجزاء (عِنْدَ اللهِ؟) أنه (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ) إذ مسخ طائفة منهم قردة ، وأخرى خنازير على عهد داود عليه‌السلام ، وقوله (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) (٢) أي وجعل منهم من عبد الطاغوت وهو الشيطان وذلك بطاعته والانقياد لما يجلبه عليه ويزينه له من الشر والفساد ، إنه أنتم يا معشر يهود ، إنكم لشر مكانا يوم القيامة وأضل سبيلا اليوم في هذه الحياة الدنيا.

__________________

(١) الأذان فرض في المدن والقرى وسنة لجماعة تطلب غيرها ، ومستحب لمن لا يطلب غيره ، والسفر ، والحضر سواء إلّا أنه في السفر أعظم أجرا لحديث الموطأ : «لا يسمع مدى صوت المؤذن جنّ ولا إنس ، ولا شيء إلّا شهد له يوم القيامة» وهذا الثواب عام لمن أذّن في السفر والحضر ، والإقامة سنّة مؤكدة لكل صلاة ومن أذن أقام ولو أقام غير المؤذن جازت.

(٢) قرىء هذا اللفظ (عَبَدَ الطَّاغُوتَ) بعدة قراءات منها عبد اسما كفضل ، وعبدوا الطاغوت ، وعبد الطاغوت أي جمع عبد ، وعبّد الطاغوت جمع عابد كشاهد وشهّد.

٦٤٧

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ حرمة اتخاذ اليهود والنصارى والمشركين أولياء لا سيما أهل الظلم منهم.

٢ ـ سوء أخلاق اليهود وفساد عقولهم.

٣ ـ شعور اليهود بفسقهم وبعد ضلالهم جعلهم يعملون على إضلال المسلمين.

٤ ـ تقرير وجود مسخ في اليهود قردة وخنازير.

٥ ـ اليهود شر الناس مكانا يوم القيامة ، وأضل الناس في هذه الدنيا.

(وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢) لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣))

شرح الكلمات :

(يَكْتُمُونَ) : أي يضمرون في نفوسهم ويخفونه فيها.

(فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) : الإثم كل ضار وفاسد وهو ما حرمه الله تعالى من اعتقاد أو قول أو عمل ، والعدوان : الظلم.

(السُّحْتَ) : المال الحرام كالرشوة والربا ، وما يأخذونه من مال مقابل تحريف الكلم وتأويله.

(الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ) : الربانيون هنا العباد المربون كمشايخ (١) التصوف عندنا.

والأحبار : العلماء.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في فضح اليهود وبيان خبثهم زيادة في التنفير من موالاتهم فأخبر

__________________

(١) مشايخ الطرق ـ والحق يقال ـ لقد ربّوا كثيرا من الجهال على الإيمان والتقوى ولكن لعدم علمهم بالكتاب والسنّة ضلوا وأضلّوا في مجالات كثيرة وخاصة في العقيدة لذا لا يجوز إقرارهم ، ولا التربيّ على أيديهم.

٦٤٨

تعالى في الآية الأولى عن منافقيهم فقال : (وَإِذا جاؤُكُمْ) (١) يريد : غشوكم في مجالسكم ، (قالُوا آمَنَّا) وما آمنوا ولكنهم ينافقون لا يغر فقد دخلوا بالكفر (٢) في قلوبهم وخرجوا به ، (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ) من الكفر والكيد لكم. هذا معنى قوله تعالى في الآية الأولى (٦١) (وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ) وأما الآية الثانية (٦٢) فقد أخبر تعالى رسوله أنهم لكثرة ما يرتكبون من الذنوب ويغشون من المعاصي ترى كثيرا منهم (٣) يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت علنا لا يستترون به ولا يخفونه ثم ذمهم الله تعالى على ذلك وقبح فعلهم فقال (لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

وفي الآية الأخيرة : أنكر على عبادهم وعلمائهم سكوتهم عن جرائم عوامهم ورضاهم بها مصانعة لهم ومداهنة فقال تعالى : (لَوْ لا يَنْهاهُمُ (٤) الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ) أي لم لا ينهونهم عن قولهم الإثم أي الكذب وأكلهم السحت الرشوة والربا ، ثم ذم تعالى سكوت العلماء عنهم بقوله (لَبِئْسَ (٥) ما كانُوا يَصْنَعُونَ) أي وعزتي وجلالي لبئس صنيع هؤلاء من صنيع حيث أصبح السكوت المتعمد لمنافع خاصة يحصلون عليها صنعة لهم أتقنوها وحذقوها. والعياذ بالله.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجود منافقين من اليهود على عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة.

٢ ـ بيان استهتار اليهود وعدم مبالاتهم بارتكابهم الجرائم علانية.

٣ ـ قبح سكوت العلماء على المنكر وإغضائهم على فاعليه ، ولذا قال كثير من السلف في هذه الآية أشد آية وأخطرها على العلماء.

__________________

(١) هذه الآيات معطوفة على قوله تعالى : (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) السابقة وخصّ بهذه الصفات منافقوا اليهود وهم من جملة من اتخذوا الدين هزوا ولعبا.

(٢) أي أنهم ما آمنوا قط ولم يخالط الإيمان قلوبهم طرفة عين فهم دخلوا كافرين وخرجوا كافرين.

(٣) الرؤية هنا بصرية والخطاب عام لكلّ من يسمع ويرى والمعنى : أنّ حالهم لا تخفى على أحد ذي بصر.

(٤) قال ابن عباس رضي الله عنه : ما في القرآن آية أشد توبيخا من هذه الآية : (لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) والآية وإن نزلت في يهود المدينة فقد ذكرت النصارى لأنّ حالهم سواء. والآية تنطبق اليوم على علماء المسلمين حيث تركوا الأمر والنهي والعياذ بالله تعالى من عاقبة ذلك فقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده» الترمذي وصححه. ولو لا هنا أداة تحظيظ ، والمراد توبيخ علمائهم ، وعابديهم على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(٥) قال الزّجاج : اللام في قوله تعالى : (لَبِئْسَ) للقسم ، والتأكيد.

٦٤٩

(وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (٦٦))

شرح الكلمات :

(يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) (١) : يريدون أنه تعالى ضيق عليهم الرزق ولم يوسع عليهم.

(غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) : دعاء عليهم بأن يحرموا الإنفاق في الخير وفيما ينفعهم.

(لُعِنُوا بِما قالُوا) : طردوا من رحمة الله بسبب وصفهم الرب تعالى بالبخل.

(بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) : لا كما قالوا لعنهم الله : يد الله مغلولة أي ممسكة عن الإنفاق.

(طُغْياناً) : تجاوزا لحد الاعتدال في قولهم الكاذب وعملهم الفاسد.

(وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ) : أي بين اليهود والنصارى.

(أَوْقَدُوا ناراً) : أي نار الفتنة والتحريش والإغراء والعداوات للحرب.

__________________

(١) القائل : فنحاص اليهودي عليه لعائن الله وهو يعني بمغلولة بخيلة لا تنفق وهو كاذب بل يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحّاء الليل والنهار «أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه» حديث الشيخين.

٦٥٠

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ) : اليهود والنصارى.

(مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) : كناية عن بسط الرزق عليهم.

(أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ) : معتدلة لا غالية مفرطة ، ولا جافية مفرطة.

معنى الآيات :

يخبر تعالى عن كفر اليهود وجرأتهم على الله تعالى بباطل القول وسيء العمل فيقول :

(وَقالَتِ (١) الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) يريدون أنه تعالى أمسك عنهم الرزق وضيقه عليهم ، فرد الله تعالى عليهم بقوله : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) وهو دعاء عليهم بأن لا يوفقوا للإنفاق فيما ينفعهم (وَلُعِنُوا بِما قالُوا) ولعنهم تعالى ولعنهم كل صالح في الأرض والسماء بسبب قولهم الخبيث الفاسد. وأكذبهم تعالى في قولهم (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) فقال : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) كما قال عنه رسوله في الصحيح «يمين الله سحّاء (٢) تنفق الليل والنهار» ثم أخبر تعالى نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليسليه ويخفف عنه ما يجد في نفسه من جراء كفر اليهود وخبثهم فقال : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ) أي من اليهود (ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من الآيات التي تبين خبثهم وتكشف النقاب عن سوء أفعالهم المخزية لهم. (طُغْياناً وَكُفْراً) أي إبعادا في الظلم والشر وكفرا بتكذيبك وتكذيب ما أنزل إليك وذلك دفعا للحق ليبرروا باطلهم وما هم عليه من الاعتقاد الفاسد والعمل السيء ، ثم أخبر تعالى رسوله بتدبيره فيهم انتقاما منهم فقال عز من قائل : (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ (٣) وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي أن العداوة بين اليهود والنصارى لا تنتهي إلى يوم القيامة ، ثم أخبر عن اليهود أنهم (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ) وذلك بالتحريش بين الأفراد والجماعات وحتى الشعوب والأمم ، وبالإغراء ، وقالة السوء ، (أَطْفَأَهَا اللهُ) تعالى فلم يفلحوا فيما أرادوه وقد أذلهم الله على يد رسوله والمؤمنين وأخزاهم وعن دار الإيمان أجلاهم وأخبر تعالى أنهم يسعون دائما وأبدا في الأرض بالفساد فلذا أبغضهم الله وغضب عليهم ، لأنه تعالى لا يحب المفسدين ، هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٦٤) أما الآية الثانية (٦٥) وهي قوله تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ) من يهود ونصارى (آمَنُوا) بالله ورسوله وبما

__________________

(١) إنّه وإن كان القائل فنحاص بن عاز وراء فإن رضى اليهود بمقالته سلكهم في سلكه واعتبروا كلهم قائلون ، إذ الرضا بالكفر كفر.

(٢) هذا اللفظ معنى للحديث لا لفظه ، وقد تقدّم قريبا لفظه كما في الصحيحين.

(٣) الكلام صالح لأن يكون (بينهم) المراد بهم اليهود أنفسهم كقوله تعالى : (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) وأن يكون المراد بين اليهود والنصارى لتقدم ذكرهم معا في قوله تعالى : (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) والواقع شاهد.

٦٥١

جاء من الدين الحق وعملوا به ، (وَاتَّقَوْا) الكفر والشرك وكبائر الذنوب الفواحش ، لكفر الله عنهم سيئآتهم فلم يؤاخذهم ولم يفضحهم بها ولأدخلهم جنات النعيم. وهذا وعد الله تعالى لليهود والنصارى فلو أنهم آمنوا واتقوا لأنجزه لهم قطعا. وهو لا يخلف الميعاد.

أما الآية الأخيرة (٦٦) في هذا السياق فهي تتضمن وعدا إلهيا آخر وهو أن اليهود والنصارى لو أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم ومن ذلك القرآن الكريم ، ومعنى أقاموا ذلك آمنوا بالعقائد الصحيحة الواردة في تلك الكتب وعملوا بالشرائع السليمة والآداب الرفيعة والأخلاق الفاضلة التي تضمنتها تلك الكتب لو فعلوا ذلك لبسط الله تعالى عليهم الرزق وأسبغ عليهم النعم ولأصبحوا في خيرات وبركات تحوطهم من كل جانب هذا ما وعدهم الله به. ثم أخبر تعالى عن واقعهم المرير فقال : (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ) لم تغل ولم تحف فلم تقل في عيسى أنه ابن الله ولا هو ابن زنى ، ولكن قالت عبد الله ورسوله ولذا لما جاء النبي الأمي بشارة عيسى (١) عليه‌السلام آمنوا به وصدقوا بما جاء به من الهدى والدين الحق وهم عبد الله بن سلام وبعض اليهود ، والنجاشى من النصارى وخلق كثير لا يحصون عدا. وكثير من أهل الكتاب ساء (٢) أي قبح ما يعملون من أعمال الكفر والشرك والشر والفساد.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ قبح وصف الله تعالى بما لا يليق بجلاله وكماله.

٢ ـ ثبوت صفة اليدين لله تعالى ووجوب الإيمان بها على مراد الله تعالى ، وعلى ما يليق بجلاله وكماله.

٣ ـ تقرير ما هو موجود بين اليهود والنصارى من عداوة وبغضاء (٣) وهو من تدبير الله تعالى.

٤ ـ سعي اليهود الدائم في الفساد في الأرض فقد ضربوا البشرية بالمذهب المادي الإلحادي الشيوعي ، وضربوها أيضا بالإباحية ومكائد الماسونية.

__________________

(١) بشارة عيسى بدل من النبي الأمي وقلنا بشارة عيسى لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنا دعوة أبي ابراهيم وبشارة عيسى عليهم‌السلام».

(٢) أي : بئس شيء عملوه إذ كذّبوا الرسل وحرّفوا الكتب وأكلوا السحت.

(٣) وإن قيل إنّ التعاون القائم اليوم بين اليهود والنصارى يرد ما في الآية قلنا إنّ اليهود احتالوا على النصارى فضربوهم بالالحاد فلمّا قضي على العقيدة الدينية فيهم أصبحوا سخرة لهم يتحكمون فيهم وبذلك فرضوا عليهم حبّهم وعدم عداوتهم.

٦٥٢

٥ ـ وعد الله لأهل الكتاب على ما كانوا عليه لو آمنوا واتقوا لأدخلهم الجنة.

٦ ـ وعده تعالى لأهل الكتاب ببسط الرزق وسعته لو أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم أي لو أنهم أخذوا بما في التوراة والإنجيل من دعوتهم إلى الإيمان بالنبي الأمي والدخول في الإسلام لحصل لهم ذلك كما حصل للمسلمين طيلة ثلاثة قرون وزيادة. وما زال العرض كما هو (١) لكل الأمم والشعوب أيضا.

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٦٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩))

شرح الكلمات :

(الرَّسُولُ) : ذكر من بني آدم أوحي إليه شرع وأمر بتبليغه وهو هنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) (٢) : من التوحيد والشرائع والأحكام.

(يَعْصِمُكَ) : يحفظك حفظا لا يصل إليك معه أحد بسوء.

__________________

(١) العرض : هو ما عرضه الله تعالى عليهم وهو في قوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا ..) الآية.

(٢) روى مسلم عن مسروق عن عائشة أنها قالت : من حدّثك أنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتم شيئا من الوحي فقد كذب والله تعالى يقول : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ..) الآية.

٦٥٣

(فَلا تَأْسَ) : لا تأسف ولا تحزن.

(هادُوا) : اليهود.

(الصَّابِئُونَ) : جمع صابىء وهم فرقة من أهل الكتاب.

معنى الآيات :

في الآية الأولى (٦٧) ينادي الرب تبارك وتعالى رسوله معظما له بقوله : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) المبجل ليأمره بإبلاغ ما أوحاه إليه من العقائد والشرائع والأحكام فيقول (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ). ويقول له : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ) أي إن قصرت في شيء لم تبلغه لاي اعتبار من الاعتبارات (فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) أي فكأنك لم تبلغ (١) شيئا ، وقوله تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ (٢) مِنَ النَّاسِ) أي يمنعك من أن يمسوك بشيء من الأذى ، ولذا فلا عذر لك في ترك إبلاغ أي شيء سواء كان مما يتعلق بأهل الكتاب أو بغيرهم ولذا فلم يكتم رسول الله شيئا مما أمر بإبلاغه البتة. وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) تقرير لوعده تعالى بعصمة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ هو تعالى لا يوفق الكافرين لما يريدون ويرغبون فيه من أذية رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولما نزلت هذه الآية قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تحرسوني فإن الله قد عصمني» هذا ما دلت عليه الآية الأولى أما الثانية (٦٨) وهي قوله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ (٣) رَبِّكُمْ) لقد تقدم هذا السياق وأعيد هنا تقريرا له وتأكيدا وهو إعلام من الله تعالى أن اليهود والنصارى ليسوا على شيء من الدين الحق ولا من ولاية الله تعالى حتى يقيموا ما أمروا به وما نهوا عنه وما انتدبوا إليه من الخيرات والصالحات مما جاء في التوراة والإنجيل والقرآن أيضا. وقوله تعالى : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) هذا إخبار من الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن كثيرا من اليهود والنصارى يزيدهم ما يوحي الله تعالى إلى رسوله وما ينزله عليه في كتابه من أخبار

__________________

(١) في الآية ردّ على الرافضة القائلين بأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتم شيئا مما أمر بإبلاغه تقية وكذبوا وربّ الكعبة قالت أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها : لو كان في إمكان الرسول أن يكتم شيئا لكتم : (عَبَسَ وَتَوَلَّى) إذ هي عتاب له صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٢) روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : سهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقدمه المدينة ليلة فقال : (ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة) قالت : فبينما كذلك سمعنا خشخشة سلاح فقال : من هذا؟ قال : سعد بن أبي وقاص. فقال له : ما جاء بك؟ فقال : وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجئت أحرسه ، فدعا له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم انصرف ونزلت هذه الآية.

(٣) قال ابن عباس رضي الله عنهما : جاء جماعة من اليهود إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : ألست تقرّ أنّ التوراة حق من عند الله؟ قال : بلى ، فقالوا : إنّا نؤمن بها ولا نؤمن بما عداها فنزلت الآية (لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) الخ.

٦٥٤

أهل الكتاب مما هو بيان لذنوبهم وضلالهم. ومما هو أمر لهم بالإيمان بالنبي الأمي واتباعه على الدين الحق الذي أرسل به يزيدهم ذلك طغيانا أي علوا وعتوا وكفرا فوق كفرهم. ولذا فلا تأس أي لا تحزن (١) على عدم إيمانهم بك وبما جئت به لأنهم قوم كافرون. أما الآية الثالثة (٦٩) وهي قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ (٢) هادُوا وَالصَّابِئُونَ (٣) وَالنَّصارى) فالذين آمنوا هم المسلمون واليهود والنصارى والصابئون وهم فرقة منهم هم أهل الكتاب فجميع هذه الطوائف من آمن منهم الإيمان الحق بالله وباليوم الآخر وأتى بلازم الإيمان وهو التقوى وهي ترك الشرك والمعاصي أفعالا وتروكا فلا خوف عليه في الدنيا ولا في البرزخ ولا يوم القيامة ولا حزن يلحقه في الحيوات الثلاث وعد الله حقا ومن أصدق من الله حديثا!

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب البلاغ على الرسل ونهوض رسولنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا الواجب على أكمل وجه وأتمه.

٢ ـ عصمة الرسول المطلقة.

٣ ـ كفر أهل الكتاب إلا من آمن منهم بالنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم واتبع ما جاء به من الدين الحق.

٤ ـ أهل العناد والمكابرة لا تزيدهم الأدلة والبراهين إلا عتوا ونفورا وطغيانا وكفرا.

٥ ـ العبرة بالإيمان والعمل الصالح وترك الشرك والمعاصي لا بالانتساب إلى دين من الأديان.

(لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما

__________________

(١) في هذا الإرشاد الإلهي تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس بنهي عن الحزن إذ لا يقدر المرء على دفع الحزن وإنّما يقدر على ترك مثيراته فإنّه متى ترك التعرّض لها لم يوجد في نفسه حزن.

(٢) في ذكر المؤمنين وهم المسلمون مع اليهود والصابئين والنصارى إشارة أبلغ من عبارة وهي أنّ العبرة ليست بالأنساب ولا الانتساب ولا بزمان أو مكان وإنما النجاة من النار ودخول الجنّة متوقفان على الإيمان الصحيح بالله واليوم الآخر ، والعمل الصالح الذي جاء به كتاب الله ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٣) اختلف في إعراب : (وَالصَّابِئُونَ) على أقوال نكتفي بقول منها وهو أن تكون مبتدأ وخبرها محذوف تقديره : والصابئون كذلك على حدّ قول الشاعر :

فمن يك أمسى بالمدينة رحله

فاني وقيار بها لغريب

أي كذلك ، وتقدير الكلام إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والصابئون كذلك.

٦٥٥

لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢))

شرح الكلمات :

الميثاق : العهد المؤكد باليمين.

(بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ) : بما لا يحبونه ولا تميل إليه أنفسهم المريضة.

(فَرِيقاً كَذَّبُوا) : أي كذبوا طائفة من الرسل وقتلوا طائفة أخرى.

أن (١) لا تكون فتنة : أي أن لا يبتلوا بذنوبهم بالشدائد والمحن.

(فَعَمُوا وَصَمُّوا) : عموا عن العبر وصموا عن سماع المواعظ.

(مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ) : أي يشرك بالله غيره تعالى من سائر الكائنات فيعبده مع الله بأي نوع من أنواع العبادات.

(حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) : حكم بمنعه من دخولها أبدا إلا أن يتوب من الشرك.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في الحديث عن أهل الكتاب فقد أقسم تعالى على أنه أخذ ميثاق بني إسرائيل وذلك في التوراة بأن يعبدوا الله وحده بما شرع لهم فيطيعوه في أمره ونهيه وأرسل

__________________

(١) أن هي المخففة من الثقيلة وحسبانهم ذلك هو الذي جعلهم يواصلون جرائمهم ولم يرتدعوا عنها.

٦٥٦

إليهم رسله (١) تترا كما جاءهم (٢) رسول بما لا يوافق أهواءهم (٣) كذبوه فيما جاءهم به ودعاهم إليه. أو قتلوه. وحسبوا أن لا يؤاخذوا بذنوبهم فعموا عن الحق وصموا عن سماع المواعظ فابتلاهم ربهم وسلط عليهم من سامهم سوء العذاب ، ثم تاب الله عليهم فتابوا واستقام أمرهم وصلحت أحوالهم ثم عموا وصموا مرة أخرى إلا قليلا منهم فسلط عليهم من سامهم (٤) سوء العذاب أيضا وها هم أولاء في عمى وصمم والله بصير بما يعملون وسوف ينزل بهم بأساءه إن لم يتوبوا فيؤمنوا بالله ورسوله ويدينوا بالدين الحق الذي هو الإسلام.

هذا ما تضمنته الآيتان الأولى والثانية (٧٠ ـ ٧١) أما الآية الثالثة (٧٢) وهي قوله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ (٥) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ (٦) ابْنُ مَرْيَمَ) فقد أخبر تعالى مقررا حكمه بالكفر على من افترى عليه وعلى رسوله فادعى أن الله جل جلاله وعظم سلطانه هو المسيح بن مريم تعالى الله أن يكون عبدا من عباده ، وحاشا عيسى عبد الله ورسوله أن يرضى أن يقال له أنت الله. وكيف وهو القائل : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) فهل مثل هذا القول يصدر عمن يدعي أنه الله أو ابن الله؟ سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان تاريخ بني إسرائيل ، والكشف عن مختبئات جرائمهم من الكفر والقتل.

٢ ـ إكرام الله تعالى لبني إسرائيل ولطفه بهم مع تمردهم عليه ورفض ميثاقه وقتل أنبيائه وتكذيبهم ، والمكر بهم.

__________________

(١) كموسى وهارون ومن جاء بعدهما وداود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى عليهم‌السلام.

(٢) كلّما : نصبت على الظرفية وهي لاستغراق الزمان الذي أتت فيه الرسل وأشربت معنى الشرطية فكان العامل فيها بمنزلة الجواب.

(٣) «أهواءهم» جمع هوى وهو المحبوب ، وفعله : هوي يهوى كرضي يرضى إذا أحبّ ومالت نفسه إلى ملابسة شيء.

(٤) إشارة إلى تاريخ بني اسرائيل فقد استقام أمرهم وقامت دولتهم في فلسطين على عهد يوشع بن نون فتى موسى ثمّ دالت دولتهم بجرائمهم على عهد البابليين ثمّ اجتمعت كلمتهم وقامت دولتهم على عهد داود وسليمان ثمّ دالت دولتهم بجرائمهم التي نعاها الله تعالى عليهم في هذه الآية على يد الرومان.

(٥) هذا استئناف ابتدائي لإبطال باطل النصارى بعد إبطال باطل اليهود فالمناسبة جدّ قوية لأنهما خصم الإسلام والمسلمين.

(٦) هذا قول اليعقوبية وهم فرقة من النصارى لأنهم قالوا باتحاد الابن والأب فكأن المسيح هو الله في اعتقادهم الباطل الفاسد.

٦٥٧

٣ ـ تقرير كفر النصارى بقولهم المسيح هو الله.

٤ ـ تقرير عبودية عيسى عليه‌السلام لربه تعالى.

٥ ـ تحريم الجنة على من لقي ربه وهو يشرك به سواه.

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦))

شرح الكلمات :

(ثالِثُ ثَلاثَةٍ) (١) : الثلاثة هي الأب والابن وروح القدس : وكلها إله واحد.

(خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) : مضت قبله رسل كثيرون.

(وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) : أي مريم كانت صديقة كثيرة الصدق في قولها وعملها.

(أَنَّى يُؤْفَكُونَ) : أي كيف يصرفون عن الحق وقد ظهر واضحا.

معنى الآيات :

ما زال السياق في بيان كفر النصارى ففي السياق الأول ورد كفر من قالوا إن الله هو المسيح بن مريم ، وفي هذا السياق كفر من قالوا إن الله ثالث ثلاثة إذ قال تعالى في هذه

__________________

(١) أي : أحد ثلاثة وهو قول الملكانية والنسطورية واليعقوبية ولا يقولون ثلاثة آلهة ويتمنعون من ذلك وهو لازمهم.

٦٥٨

الآية (٧٣) لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة يعنون الآب والابن وروح القدس ، وبعضهم يقول الأب والابن والأم ، والثلاثة إله واحد فأكذبهم تعالى في قيلهم هذا فقال رادا باطلهم ، (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) أي وليس الأمر كما يكذبون ، وإنما الله إله واحد ، وأما جبريل فأحد ملائكته وعيسى عبده ورسوله ومريم أمته فالكل عبد الله وحده الذي لا إله غيره ولا رب سواه. ثم قال تعالى متوعدا هؤلاء الكفرة الكذبة : ولئن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا (١) منهم عذاب أليم. فأقسم تعالى أنهم إن لم ينتهوا عن قولهم الباطل وهو كفر ليمسنهم عذاب أليم موجع غاية الإيجاع. ثم لكمال رحمته عزوجل دعاهم في الآية الثانية (٧٤) إلى التوبة ليتوب عليهم ويغفر لهم وهو الغفور الرحيم فقال عزوجل : (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ) بترك هذا الكفر والباطل ويستغفرون الله منه والله غفور للتائبين رحيم بالمؤمنين ، وفي الآية الثالثة (٧٥) أخبر تعالى معلما رسوله الاحتجاج على باطل النصارى فقال : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ، إِلَّا (٢) رَسُولٌ) ، فلم يكن ربا ولا إلها وإنما هو رسول مفضل قد خلت من قبله رسل مفضلون كثيرون وأمه مريم لم تكن أيضا إلها كما يزعمون ، وإنما هي امرأة من نساء بني إسرائيل صديقة (٣) كثيرة الصدق في حياتها لا تعرف الكذب ولا الباطل وأنها وولدها عيسى عليهما‌السلام بشران كسائر البشر يدل على ذلك أنهما يأكلان الطعام (٤) احتياجا إليه لأن بنيتهما لا تقوم إلا عليه فهل آكل الطعام افتقارا إليه ، ثم يفرز فضلاته يصلح أن يكون إلها. اللهم لا. وهنا قال لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنظر يا رسولنا كيف نبين لهم الآيات الدالة بوضوح على بطلان كفرهم ، ثم انظر كيف يؤفكون عن (٥) الحق أي كيف يصرفون عنه وهو واضح بين. وفي الآية الأخيرة (٧٦) أمر رسوله ان يقول لأولئك المأفوكين عن الحق المصروفين عن دلائله لا ينظرون فيها أمره أن يقول لهم موبخا لهم : (أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ

__________________

(١) الآية نص في أنّ من يقول بقول النصارى كافر مستوجب للعذاب الأليم.

(٢) فيه قصر موصوف على صفة أي ، قصر عيسى على الرسالة لا يتجاوزها إلى الألوهية ولذا فهو قصر قلب لرد اعتقاد النصارى في أنّه الله.

(٣) صدّيقة : كثيرة الصدق في قولها وعملها وفي تصديقها بآيات ربّها ، وفي تصديقها لابنها وقد ناداها ساعة ولادته وفي رضاعه ، وهل هي مع الصديقية نبيّه؟ في نداء الملائكة لها ما يرجح نبوتها. والله أعلم.

(٤) إنّ من يأكل الطعام وولدته امرأة كيف لا يكون مخلوقا مربوبا محدثا كسائر المخلوقين لم يستطع دفع هذا نصراني مهما أوتي من العلم إلّا أنهم يهربون من مواجهة الحق فيقولون تضليلا لعقولهم وخداعا لنفوسهم : إنه يأكل الطعام بناسوته لا بلاهوته ، ومعناه : أنّ الإنسان اختلط بالإله وهذه هي الحلولية الباطلة الفاسدة عقلا وشرعا وواقعا.

(٥) يقال : أفكه يأفكه أفكا إذا صرفه صرفا وهو من باب ضرب.

٦٥٩

اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) وهو عيسى وأمه ، وتتركون عبادة من يملك ذلك ، وهو الله السميع العليم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ إبطال التثليث في عقيدة النصارى وتقرير التوحيد.

٢ ـ إبراء عيسى ووالدته عليهما‌السلام من دعوى الألوهية للناس.

٣ ـ فتح باب التوبة في وجه النصارى لو أنهم يتوبون.

٤ ـ تقرير بشرية عيسى ومريم عليهما‌السلام بدليل احتياجهما إلى الطعام لقوام بنيتهما ، ومن كان مفتقرا لا تصح ألوهيته عقلا وشرعا.

٥ ـ ذم كل من يعبد غير الله إذ كل الخلائق مفتقرة لا تملك لنفسها ولا لعابدها ضرا ولا نفعا ، ولا تسمع دعاء من يدعوها ، ولا تعلم عن حاله شيئا ، والله وحده السميع لأقوال كل عباده العليم بسائر أحوالهم وأعمالهم ، فهو المعبود بحق وما عداه باطل.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠)

٦٦٠