أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ١

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ١

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٤

(وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) : أي ندخله النار ونحرقه فيها.

معنى الآيتين :

ما زال السياق في بني أبيرق ففي الآية الأولى (١١٤) يخبر تعالى أنه لا خير في كثير من أولئك المتناجين ولا في نجواهم لنفاقهم وسوء طواياهم اللهم إلا في نجوى أمر أصحابها بصدقة تعطى لمحتاج إليها من المسلمين ، أو معروف (١) استحبه الشارع أو أوجبه من البر والإحسان أو إصلاح بين الناس للإبقاء على الألفة والمودة بين المسلمين. ثم أخبر تعالى أن من يفعل ذلك المذكور من الصدقة والمعروف والإصلاح (٢) بين الناس طلبا لمرضاة الله تعالى فسوف يثيبه بأحسن الثواب ألا وهو الجنة دار السّلام إذ لا أجر أعظم من أجر يكون الجنة.

هذا ما دلت عليه الآية الأولى أما الثانية (١١٥) فإن الله تعالى يتوعد أمثال طعمة بن أبيرق فيقول جل ذكره : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) أي يخالفه ويعاديه (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى) أي من بعد ما عرف أنه رسول الله حقا جاء بالهدى ودين الحق ، ثم هو مع معاداته للرسول يخرج من جماعة المسلمين ويتبع غير سبيلهم (٣) هذا الشقي الخاسر (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى) أي نتركه لكفره وضلاله خذلانا له في الدنيا ثم نصله نار جهنم يحترق فيها ، وبئس المصير جهنم يصير إليها المرء ويخلد فيها.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ حرمة تناجي إثنين دون الثالث لثبوت ذلك في السنة.

٢ ـ الاجتماعات السرية لا خير فيها إلا اجتماعا كان لجمع صدقة ، أو لأمر بمعروف أو إصلاح بين متنازعين من المسلمين مختلفين.

٣ ـ حرمة الخروج عن أهل السنة والجماعة ، واتباع الفرق الضالة التي لا تمثل الإسلام إلا في دوائر ضيقة كالروافض ونحوهم ..

__________________

(١) قيل لحكيم ما أعظم المصائب؟ قال : أن تقدر على المعروف فلا تصنعه حتى يفوت ، وقال في هذا المعنى الشاعر :

إذا هبّت رياحك فاغتنمها

فإن لكل خافقة سكون

ولا تغفل عن الإحسان فيها

فما تدري السكون متى يكون

(٢) ورد في إصلاح ذات البين الكثير من الأحاديث منها قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا بلى يا رسول الله قال : إصلاح ذات البين» رواه الترمذي وصححه وقال : «ليس الكذّاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا».

(٣) هذه الآية هي دليل حرمة الخروج على جماعة المسلمين ، روي أنّ الشافعي طلب دليلا على صحة الإجماع فقرأ القرآن مرّات حتى عثر على هذه الآية وقرّر أنها دليل الإجماع. وهو كذلك.

٥٤١

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١١٦) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (١١٧) لَعَنَهُ اللهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (١١٩) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢٠) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (١٢١))

شرح الكلمات :

(أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) : أن يعبد معه غيره من مخلوقاته بأي عبادة كانت.

(إِنْ يَدْعُونَ) : أي ما يدعون.

(إِلَّا إِناثاً) : جمع أنثى لأن الآلهة مؤنثة ، أو أمواتا لأن الميت يطلق عليه لفظ أنثى بجامع عدم النفع.

(مَرِيداً) : بمعنى مارد على الشر والإغواء للفساد.

(نَصِيباً مَفْرُوضاً) : حظا معينا. أو حصة معلومة.

(فَلَيُبَتِّكُنَ) (١) : فليقطعن.

(خَلْقَ اللهِ) : مخلوق الله أي ما خلقه الله تعالى.

(الشَّيْطانَ) : الخبيث الماكر الداعي إلى الشر سواء كان جنيا أو إنسيا.

__________________

(١) البتك : القطع ، يقال : سيف باتك.

٥٤٢

(يُمَنِّيهِمْ) : يجعلهم يتمنون كذا وكذا ليلهيهم عن العمل الصالح.

معنى الآيات :

قوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ (١) بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) إخبار منه تعالى عن طعمة بن أبيرق بأنه لا يغفر له وذلك لموته على الشرك ، أما إخوته الذين لم يموتوا مشركين فإن أمرهم إلى الله تعالى إن شاء غفر لهم وإن شاء آخذهم كسائر مرتكبي الذنوب غير الشرك والكفر. وقوله تعالى (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) أي ضل عن طريق النجاة والسعادة ببعده عن الحق بعدا كبيرا وذلك بإشراكه بربه تعالى غيره من مخلوقاته.

وقوله تعالى (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً). هذا بيان لقبح الشرك وسوء حال أهله فأخبر تعالى أن المشركين ما يعبدون إلا أمواتا لا يسمعون ولا يبصرون ولا ينطقون ولا يعقلون. إذ أوثانهم ميتة وكل ميت فهو مؤنث زيادة على أن أسماءها مؤنثة كاللات والعزى ومناة ونائلة ، كما هم في واقع الأمر يدعون شيطانا مريدا إذ هو الذي دعاهم إلى عبادة الأصنام فعبدوها فهم إذا عابدون للشيطان في باطن الأمر لا الأوثان ، ولذا قال تعالى : (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) (٢) لعنه الله وأبلسه عند إبائه السجود لآدم ، (وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) (٣) أي عددا كبيرا منهم يعبدونني ولا يعبدونك وهم معلومون معروفون بمعصيتهم إياك ، وطاعتهم لي. وواصل العدو تبجحه قائلا : (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) يريد عن طريق الهدى (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) يريد أعوقهم عن طاعتك بالأماني الكاذبة بأنهم لا يلقون عذابا أو أنه سيغفر لهم. (وَلَآمُرَنَّهُمْ) فيطيعوني (فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ) (٤) أي ليجعلون لآلهتهم نصيبا مما رزقتهم ويعلمونها بقطع آذانها لتعرف أنها للآلهة كالبحائر والسوائب التي يجعلونها للآلهة ، (وَلَآمُرَنَّهُمْ) أيضا فيطيعونني فيغيرون خلق الله بالبدع

__________________

(١) في هذه الآية ردّ على الخوارج الذين يكفرون بالذنب دون الشرك ويوجبون الخلود في النار لمن مات على كبيرة قال علي رضي الله عنه : ما في القرآن آية أحبّ إليّ من هذه : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) رواه الترمذي.

(٢) أطلق الدعاء وأريد به العبادة ، وهو إطلاق شائع في القرآن الكريم لأن الدعاء هو العبادة إذ طاعتهم للشيطان عبادة في حدّ ذاتها إذ المطاع في معصية الله معبود قال تعالى : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) أي آلهة وذلك لمّا أطاعوهم في معصية الله تعالى.

(٣) قيل كان نصيبه من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين لحديث مسلم : «أبعث بعث النار فيقول وما بعث النار؟ فيقول : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين» المخاطب آدم عليه‌السلام.

(٤) أجاز الجمهور خصاء الغنم لفائدة اللحم ، وحرّموا خصاء غيرها ، وخاصة الآدمي ، وأجازوا الوسم في غير الوجه للحيوان ليعرف به وهو كذلك ، أمّا الوشم فحرام للأحاديث الصحاح فيه.

٥٤٣

والشرك ، والمعاصي كالوشم والخصي. هذا ما قاله الشيطان ذكره تعالى لنا فله الحمد. ثم قال تعالى (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً) لأن من والى الشيطان عادى الرحمن ومن عادى الرحمن تم له والله أعظم الخسران يدل على ذلك قوله تعالى (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ) فيعوقهم عن طلب النجاة والسعادة (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) إذ هو لا يملك من الأمر شيئا فكيف يحقق لهم نجاة أو سعادة إذا؟

وهذا حكم الله تعالى يعلن في صراحة ووضوح فليسمعوه : (أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً) أي معدلا أو مهربا.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ سائر الذنوب كبائرها وصغائرها قد يغفرها الله تعالى لمن شاء إلا الشرك فلا يغفر لصاحبه.

٢ ـ عبدة الأصنام والأوهام والشهوات والأهواءهم في الباطن عبدة الشيطان إذ هو الذي أمرهم فأطاعوه.

٣ ـ من مظاهر طاعة الشيطان المعاصي كبيرها وصغيرها إذ هو الذي أمر بها وأطيع فيها.

٤ ـ حرمة الوشم والوسم والخصاء إلا ما أذن فيه الشارع. (١)

٥ ـ سلاح الشيطان العدة الكاذبة والأمنية الباطلة ، والزينة الخادعة.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً (١٢٢))

شرح الكلمات :

(آمَنُوا) : صدقوا بالله (٢) ورسوله.

(وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) : الطاعات إذ كل طاعة لله ورسوله هي عمل صالح.

__________________

(١) أذن الشارع في وسم الماشية ولكن في غير الوجه كما أذن وخصي الغنم ضأنا أو ما عزا لمصلحة إصلاح لحومها

(٢) وصدّقوا بكل ما أخبر الله به ورسوله في شأن الغيب كالملائكة والبعث والجزاء في الدار الآخرة.

٥٤٤

(قِيلاً) (١) : أي قولا.

معنى الآية الكريمة :

لما بين تعالى جزاء الشرك والمشركين عبدة الشيطان بين في (٢) هذه الآية جزاء التوحيد والموحدين عبيد الرحمن عزوجل ، وأنه تعالى سيدخلهم بعد موتهم جنات تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار وأن خلودهم مقدر فيها بإذن الله ربهم فلا يخرجون منها أبدا وعدهم ربهم بهذا وعد الصدق ، وليس هناك من هو أصدق وعدا ولا قولا من الله تعالى.

هداية الآية

من هداية الآية

١ ـ الإيمان الصادق والعمل الصحيح الصالح هما مفتاح الجنة وسبب (٣) دخولها.

٢ ـ صدق وعد الله تعالى ، وصدق قوله عزوجل.

٣ ـ وجوب صدق الوعد من العبد لأن خلف الوعد من النفاق لحديث (٤) «وإذا واعد أخلف».

٤ ـ وجوب صدق القول والحديث لأن الكذب من النفاق لحديث وإذا حدث كذب.

(لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٢٣) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (١٢٤) وَمَنْ

__________________

(١) القيل ، والقول ، والقال : بمعنى واحد.

(٢) هذا من منهج القرآن الخاصّ به وهو الجمع بين الترهيب والترغيب لأنّه كتاب هداية وتربية فلذا يجمع بين الوعد والوعيد وذكر الشيء وضدّه.

(٣) لأنّه بالإيمان والعمل الصالح تزكو النفس البشرية وتطهر ، وإذا زكت وطهرت تأهلت لدخول الجنة ، إذ هي دار الأبرار ودار المتقين.

(٤) رواه البخاري وغيره «آية المنافق ثلاث ، إذا حدّث كذب ، وإذا واعد أخلف ، وإذا ائتمن خان».

٥٤٥

أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (١٢٥) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (١٢٦))

شرح الكلمات :

(بِأَمانِيِّكُمْ) : جمع أمنية : وهي ما يقدره المرء في نفسه ويشتهيه مما يتعذر غالبا تحقيقه.

(أَهْلِ الْكِتابِ) : اليهود والنصارى.

(سُوءاً) : كل ما يسىء من الذنوب والخطايا.

(وَلِيًّا) : يتولى أمره فيدفع عنه المكروه.

(نَقِيراً) : النقير : نقرة في ظهر النواة.

(مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) : عبادة الله وحده لا شريك له بما شرعه الله تعالى.

(خَلِيلاً) : الخليل : المحب الذي تخلل حبه مسالك النفس فهو أكبر من الحبيب.

(مُحِيطاً) : علما وقدرة إذ الكون كله تحت قهره ومدار بقدرته وعلمه.

معنى الآيات :

روي أن هذه الآية نزلت (١) لما تلاحى مسلم ويهودي وتفاخرا فزعم اليهودي أن نبيهم وكتابهم ودينهم وجد قبل كتاب ونبي المسلمين ودينهم فهم أفضل ، ورد عليه المسلم بما هو الحق فحكم الله تعالى بينهما بقوله : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ) أيها المسلمون (وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) من يهود ونصارى أي ليس الأمر والشأن بالأماني العذاب ، وإنما الأمر والشأن في هذه القضية أنه سنة الله تعالى في تأثير الكسب الإرادي على النفس بالتزكية أو التدسية فمن عمل (٢) سوءا من الشرك والمعاصي ، كمن عمل صالحا من التوحيد والطاعات يجز بحسبه

__________________

(١) روي أيضا عن قتادة أنه قال : تفاخر المؤمنون وأهل الكتاب فقال اهل الكتاب : نبيّنا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ، ونحن أحق بالله منكم ، وقال المؤمنون : نبيّنا خاتم النبيين وكتابنا يقضي على سائر الكتب فنزلت .. ولا تعارض بين الرأيين.

(٢) هذه الآية عامة في الكافر والمؤمن ويؤكد عمومها رواية مسلم «أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا نزلت وبلغت من المسلمين مبلغا قال : قاربوا وسدّدوا ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها والشوكة يشاكها» ويفسرها لنا أيضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رواية أحمد لأبي بكر وقد قال لمّا نزلت : كيف الفلاح يا رسول الله بعد هذه الآية؟ فكل سوء عملناه جزينا به : غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض؟ ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء؟ قال بلى قال فهو مما تجزون».

٥٤٦

فالسوء يخبث النفس فيحرمها من مجاورة الأبرار والتوحيد والعمل الصالح يزكيها فيؤهلها لمجاورة الأبرار ، ويبعدها عن مجاورة الفجار. وقوله تعالى : (وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) لأن سنن الله كأحكامه لا يقدر أحد على تغييرها أو تبديلها بل تمضي كما هي فلا ينفع صاحب السوء أحد ، ولا يضر صاحب الحسنات آخر. وقوله تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) فإنه تقرير لسنته تعالى في تأثير الكسب على النفس والجزاء بحسب حال النفس زكاة وطهرا وتدسية وخبثا ، فإنه من يعمل الصالحات وهو مؤمن تطهر نفسه ذكرا كان أو أنثى ويتأهل بذلك لدخول الجنة ، ولا يظلم مقدار نقير فضلا عما هو أكثر وأكبر وقوله تعالى : (وَمَنْ (١) أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) إشادة منه تعالى وتفضيل للدين الإسلامي على سائر الأديان إذ هو قائم على أساس إسلام الوجه (٢) لله وكل الجوارح تابعة له تدور في فلك طاعة الله تعالى مع الإحسان الكامل وهو إتقان العبادة وأداؤها على نحو ما شرعها الله تعالى واتباع ملة إبراهيم بعبادة الله تعالى وحده والكفر بما سواه من سائر الآلهة. وقوله (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) فيه زيادة تقرير فضل الإسلام الذي هو دين إبراهيم الذي اتخذه ربه خليلا وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) زيادة على أنه إخبار بسعة ملك الله تعالى وسعة علمه وقدرته وفضله فإنه رفع لما قد يتوهم من خلة إبراهيم أن الله تعالى مفتقر إلى إبراهيم أو له حاجة إليه ، فأخبر تعالى أن له ما في السموات والأرض خلقا وملكا وإبراهيم في جملة ذلك فكيف يفتقر إليه أو يحتاج إلى مثله وهو رب كل شىء وملكه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ ما عند الله لا ينال بالتمنى ولكن بالإيمان والعمل الصالح أو التقوى والصبر والإحسان.

٢ ـ الجزاء أثر طبيعي للعمل وهو معنى (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) ، ومن يعمل من

__________________

(١) الاستفهام انكاري أي : ينكر أن يوجد من هو أحسن دينا منه.

(٢) أفادت هذه الآية حكما عظيما ، وهو أنه لا يصح عمل بدونه أبدا ، وهو الإخلاص والمتابعة ، وهو أن يكون العمل خالصا لله ، وأن يكون صوابا ، أي وفق ما شرع الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٥٤٧

الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ)

٣ ـ فضل الإسلام على سائر الأديان.

٤ ـ شرف إبراهيم عليه‌السلام باتخاذه ربه (١) خليلا.

٥ ـ غنى الله تعالى عن سائر مخلوقاته ، وافتقار سائر مخلوقاته إليه عزوجل.

(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (١٢٧) وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٢٨) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً (١٣٠))

__________________

(١) وقد شرف بالخلّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ففي الصحيحين أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطبهم آخر خطبة فقال : «أما بعد أيها الناس فلو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر ابن أبي قحافة خليلا ولكن صاحبكم خليل الله».

٥٤٨

شرح الكلمات :

(يَسْتَفْتُونَكَ) (١) : يطلبون منك الفتيا في شأن النساء وميراثهن.

(وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ) : يقرأ عليكم في القرآن.

(ما كُتِبَ لَهُنَ) : ما فرض لهن من المهور والميراث.

(بِالْقِسْطِ) : بالعدل

(نُشُوزاً) : ترفعا وعدم طاعة.

(وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) : جبلت النفوس على الشح فلا يفارقها أبدا.

(فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) : فتتركوها كالمعلقة ما هي بالمزوجة ولا المطلقة.

(مِنْ سَعَتِهِ) : من رزقه الواسع.

(وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً) : واسع الفضل حكيما يعطي فضله حسب علمه وحكمته.

معنى الآيات :

هذه الآيات الأربع كل آية منها تحمل حكما شرعيا خاصا فالأولى (١٢٧) نزلت إجابة لتساؤلات من بعض الأصحاب حول حقوق النساء ما لهن وما عليهن لأن العرف الذي كان سائدا في الجاهلية كان يمنع النساء والأطفال من الميراث بالمرة وكان اليتامى لا يراعى لهم جانب ولا يحفظ لهم حق كامل فلذا نزلت الآيات الأولى من هذه السورة وقررت حق المرأة والطفل في الإرث وحضت على المحافظة على مال اليتامى وكثرت التساؤلات لعل قرآنا ينزل إجابة لهم حيث اضطربت نفوسهم لما نزل فنزلت هذه الآية الكريمة تردهم إلى ما في أول السورة وأنه الحكم النهائي في القضية فلا مراجعة بعد هذه ، فقال تعالى وهو يخاطب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) أي وما زالوا يستفتونك في النساء ، أي في شأن ما لهن وما عليهن من حقوق كالإرث والمهر وما إلى ذلك. قل لهم أيها الرسول (اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ) وقد أفتاكم فيهن وبين لكم ما لهن وما عليهن. وقوله تعالى : (وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) أي وما يتلى عليكم في يتامى النساء في أول السورة كاف لكم لا تحتاجون معه إلى من يفتيكم أيضا إذ بين لكم أن من كانت تحته يتيمة دميمة لا يرغب في نكاحها فليعطها مالها وليزوجها غيره وليتزوج هو من

__________________

(١) روى أشهب عن مالك أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كان يسأل فلا يجيب حتى ينزل عليه الوحي.

٥٤٩

شاء ، ولا يحل له أن يحبسها في بيته لأجل مالها ، وإن كانت جميلة وأراد أن يتزوجها فليعطها مهر مثيلاتها ولا يبخسها من مهرها شيئا. وقوله (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ) أي وقد أفتاكم بما يتلى عليكم من الآيات في أول السورة في المستضعفين من الولدان حيث قد أعطاهم حقهم وافيا في آية (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) الآية.

فلم هذه المراجعات والاستفتاءات؟؟ وقوله تعالى (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) أي وما تلى عليكم في أول السورة كان آمرا إياكم بالقسط لليتامى والعدل في أموالهم فارجعوا إليه في قوله : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) وقوله تعالى في ختام الآية (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) حث لهم على فعل الخير بالإحسان إلى الضعيفين المرأة واليتيم زيادة على توفيتهما حقوقهما وعدم المساس بها. هذا ما دلت عليه الآية الكريمة (وَيَسْتَفْتُونَكَ .....) إلخ.

أما الآية الثانية (١٢٨) (وَإِنِ امْرَأَةٌ (١) خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ (٢) إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً) فقد تضمنت حكما عادلا رحيما وإرشادا ربانيا سديدا وهو أن الزوجة إذا توقعت من زوجها نشوزا أي ترفعا عليها أو إعراضا عنها ، وذلك لكبر سنها أو لقلة جمالها وقد تزوج عليها غيرها في هذا الحال في الإمكان أن تجري مع زوجها صلحا يحفظ لها بقاءها في بيتها عزيزة محترمة فتتنازل له عن بعض حقها في الفراش وعن بعض ما كان واجبا لها وهذا خير لها من الفراق. ولذا قال تعالى (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) وقوله تعالى (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) (٣) يريد أن الشح ملازم للنفس البشرية لا يفارقها والمرأة كالرجل في هذا إلا أن المرأة أضن وأشح بنصيبها في الفراش وبباقي حقوقها من زوجها. إذا فليراع الزوج هذا ولذا قال تعالى (وَإِنْ تُحْسِنُوا) أيها الأزواج إلى نسائكم (وَتَتَّقُوا) الله تعالى

__________________

(١) خافت : أي توقعت وليس بمعنى تيقنت.

(٢) روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً) قالت : الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها فتقول له أجعلك من شأني في حل فنزلت هذه الآية.

كما روي أنّ الآية نزلت في سودة أم المؤمنين لما أسنت أراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يطلقها فآثرت الكون معه فقالت له : امسكني واجعل يومي لعائشة ففعل صلى‌الله‌عليه‌وسلم وماتت وهي من أزواجه» رواه الترمذي. قالوا في الفرق بين النشوز والإعراض : أنّ النشوز هو التباعد عنها ، وأن الإعراض ألّا يكلمها ولا يأنس بها.

(٣) الشح : هو البخل ومنه الحديث : «أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى» غير أنّ الشح يطلق على حرص النفس على الحقوق وقلة التسامح فيها.

٥٥٠

فيهن فلا تحرموهن ما لهن من حق في الفراش وغيره فإن الله تعالى يجزيكم بالإحسان إحسانا وبالخير خيرا فإنه تعالى (بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً).

هذا ما دلت عليه الآية (١٢٨) وأما الآية الثالثة (١٢٩) وهي قوله تعالى : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) (١) (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) فقد تضمنت حقيقة كبرى وهي عجز الزوج عن العدل بين زوجاته اللائي في عصمته فمهما حرص على العدل وتوخاه فإنه لن يصل إلى منتهاه أبدا والمراد بالعدل هنا في الحب والجماع. أما في القسمة والكساء والغذاء والعشرة بالمعروف فهذا مستطاع له ، ولما علم تعالى هذا من عبده رخص له في ذلك ولم يؤاخذه بميلة النفس كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اللهم هذا قسمي (٢) فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» والمحرم على الزوج هو الميل (٣) الكامل إلى إحدى زوجاته عن باقيهن ، لأن ذلك يؤدي أن تبقى المؤمنة في وضع لا هي متزوجة تتمتع بالحقوق الزوجية ولا هي مطلقة يمكنها أن تتزوج من رجل آخر تسعد بحقوقها معه وهذا معنى قوله تعالى (فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) وقوله تعالى (وَإِنْ تُصْلِحُوا) أي أيها الأزواج في أعمالكم وفي القسم بين زوجاتكم وتتقوا الله تعالى في ذلك فلا تميلوا كل الميل ، ولا تجوروا فيما تطيقون العدل فيه فإنه تعالى يغفر لكم ما عجزتم عن القيام به لضعفكم ويرحمكم في دنياكم وأخراكم لأن الله تعالى كان وما زال غفورا للتائبين رحيما بالمؤمنين.

هذا ما دلت عليه الآية الثالثة أما الآية الرابعة (١٣٠) وهي قوله تعالى : (وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ (٤) وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً) فإن الله تعالى يعد الزوجين الذين لم يوفقا للإصلاح بينهما لشح كل منهما بماله وعدم التنازل عن شيء من ذلك يعدهما ربهما إن هم تفرقا بالمعروف أن يغني كلا منهما من سعته وهو الواسع الحكيم فالمرأة يرزقها زوجا خيرا من زوجها الذي فارقته ، والرجل يرزقه كذلك امرأة خيرا ممن فارقها لتعذر الصلح بينهما.

__________________

(١) هذا دال على أنّ المحبة أمر قهرى يعجز الإنسان عن جلبها كما يعجز عن دفعها وإن كانت لها أسباب لا يملك الإنسان توفيرها فلذا عفي عن هذا الحب القهري وجودا وعدما.

(٢) رواه أبو داود بإسناد صحيح ، ورواه غيره ، والمراد بقوله : «فيما تملك ولا أملك» القلب لأنّ القلوب بيد الله يقلبها كيف شاء.

(٣) ورد في ذنب الميل إلى إحدى الزوجات وعيد شديد وذلك فيما رواه أحمد وأصحاب السنن عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كانت له امرأتان فمال إلى احداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيّه ساقط».

(٤) هناك إشارة إلى أنّ هذا الوعد الإلهي مشروط بمحاولة الصلح أوّلا فإن لم يتم وتفرقا على طاعة الله تعالى أنجز الله تعالى لهما ما وعد.

٥٥١

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير مبدأ إرث النساء والأطفال ، والمحافظة على مال اليتامى وحرمة أكلها.

٢ ـ استحباب الصلح بين الزوجين عند تعذر البقاء مع بعضهما إلا به.

٣ ـ تعذر العدل بين الزوجين في الحب والوطء استلزم عدم المؤاخذة به واكتفى الشارع بالعدل في الفراش والطعام والشراب والكسوة والمعاشرة بالمعروف.

٤ ـ الترغيب في الإصلاح والتقوى وفعل الخيرات.

٥ ـ الفرقة بين الزوجين إن كانت على مبدأ الإصلاح والتقوى أعقبت خيرا عاجلا أو آجلا.

(وَلِلَّهِ (١) ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٣٢) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (١٣٣) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً (١٣٤))

__________________

(١) إن قيل ما وجه تكرار جملة : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ثلاث مرات فالجواب : أنه تعالى لما ذكر أن الزوجين إذا تفرّقا بعد مصالحة وعلى تقوى ، يغنيهما الله ، برهن على ذلك بأن له ما في السموات وما في الأرض ، ومن كان كذلك فهو قادر على إغنائهما ، ولما وصي عباده بتقواه ، وهي طاعته بفعل الأمر وترك النهي أعلم أنّه قادر على عقوبة من عصاه ، وأنّه لم يوص بالتقوى لحاجة به إنّه يملك ما في السموات وما في الأرض ومن كان كذلك فلا حاجة به إلى أحد ، ولمّا ذكر غناه وحمده دلّل عليهما بأن له ما في السموات وما في الأرض وأنه الحفيظ لعباده المدبر لهم.

٥٥٢

شرح الكلمات :

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) : أي خلقا وملكا وتصرفا وتدبيرا.

(وَصَّيْنَا) : عهدنا إليهم بذلك أي بالتقوى.

(أُوتُوا الْكِتابَ) : اليهود والنصارى.

الوكيل : من يفوض إليه الأمر كله ويقوم بتدبيره على أحسن الوجوه.

(ثَوابَ الدُّنْيا) : جزاء العمل لها.

ثواب الآخرة : جزاء العمل لها وهو الجنة.

(سَمِيعاً بَصِيراً) : سميعا : لأقوال العباد بصيرا : بأعمالهم وسيجزيهم بها خيرا أو شرا.

معنى الآيتين :

لما وعد تبارك وتعالى كلا من الزوجين المتفرقين بالإغناء عن صاحبه ذكر أنه يملك ما في السموات وما في الأرض ولذا فهو قادر على اغنائهما لسعة ملكه وعظيم فضله ، ثم واجه بالخطاب الكريم الأمة جمعاء ومن بينها بني أبيرق فقال (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) يريد من اليهود والنصارى وغيرهم أوصاهم بتقواه عز وجل فلا يقدموا على مشاقته ولا يخرجوا عن طاعته بترك ما أوجب أو بفعل ما حرم ، ثم أعلمهم أنهم وإن كفروا كما كفر طعمة وارتد فإن ذلك غير ضائره شيئا ، لأنه ذو الغنى والحمد ، وكيف وله جميع ما في السموات وما في الأرض من كائنات ومخلوقات وهو ربها ومالكها والمتصرف فيها.

هذا ما تضمنته الآية الأولى (١٣١) أما الآية الثانية (١٣٢) فقد كرر تعالى فيها الإعلان عن استحقاقه الحمد والغنى وذلك لملكه جميع ما في السموات وما في الأرض ولقيوميته عليهما وكفى به تعالى حافظا ووكيلا. وفي الآية الثالثة (١٣٣) يخبر تعالى أنه قادر على إذهاب كافة الجنس البشري واستبداله بغيره وهو على كل ذلك قدير ، فقال تعالى : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ) (١) (وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) وذلك لعظيم قدرته وكفاية وكالته. وفي الآية الرابعة والأخيرة في هذا السياق (١٣٤) يقول تعالى مرغبا عباده فيما عنده من خير الدنيا والآخرة من كان يريد

__________________

(١) الآية تحمل تخويفا أيّما تخويف لكل من يقصّر في واجبه من أمير ومأمور وعالم ، وجاهل ، وغني ، وفقير ، إذ لكل واجبات يجب أن يقوم بها كل بحسب ما طولب به وفرض عليه فالأمير عليه العدل والعالم أن يعلم والجاهل أن يتعلم وهكذا.

٥٥٣

بعمله ثواب (١) الدنيا (فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) فلم يقصر العبد عمله على ثواب الدنيا ، وهو يعلم أن ثواب الآخرة عند الله أيضا فليطلب الثوابين معا من الله تعالى ، وذلك بالإيمان والتقوى والإحسان ، وسيجزيه تعالى بعمله ولا ينقصه له وذلك لعلمه تعالى وقدرته ، (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً (٢) بَصِيراً) ، ومن كان كذلك فلا يخاف معه ضياع الأعمال.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ الوصية بالتقوى ، وذلك بترك الشرك والمعاصي بعد الإيمان وعمل الصالحات.

٢ ـ غنى الله تعالى عن سائر خلقه.

٣ ـ قدرة الله تعالى على إذهاب الناس كلهم والإتيان بغيرهم.

٤ ـ وجوب الإخلاص في العمل لله تعالى وحرمة طلب الآخرة بطلب الدنيا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١٣٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا

__________________

(١) في هذه الآية إرشاد عظيم للعباد ، لقد علم تعالى أنّ الإنسان بحكم وجوده في هذه الحياة ورغبته في السعادة فيها هو يعمل لها جهده غافلا عن الحياة الآخرة التي هي أعظم لبقائها وكبر شأنها فلفت نظره إليها معلما إياه أنّه لديه تعالى ثواب كل من الحياتين فليطلب ذلك منه بالإيمان به وطاعته كما طلب الدنيا بالأعمال الموصلة إلى تحقيق السعادة فيها ، وفوق ذلك أنّ ثواب العملين بيده تعالى لا بيد غيره.

(٢) هذا التذييل يربي ملكة مراقبة الله تعالى إذ من علم أنّ الله سميع لأقواله عليم بأعماله راقبه واتقاه.

٥٥٤

ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧))

شرح الكلمات :

(قَوَّامِينَ) : جمع قوام : وهو كثير القيام بالعدل.

(بِالْقِسْطِ) : بالعدل وهو الاستقامة والتسوية بين الخصوم.

(شُهَداءَ) : جمع شهيد : بمعنى شاهد.

(الْهَوى) : ميل النفس إلى الشيء ورغبتها فيه.

(تَلْوُوا) : أي ألسنتكم باللفظ تحريفا له حتى لا تتم الشهادة على وجهها.

(تُعْرِضُوا) : تتركوا الشهادة أو بعض كلماتها ليبطل الحكم.

معنى الآيات :

قوله تعالى في هذه الآية (١٣٥) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) أي بالعدل (شُهَداءَ لِلَّهِ) إذ بشهادتكم ينتقل الحق من شخص إلى آخر حيث أقامكم الله ربكم شهداء له في الأرض تؤدى بواسطتكم الحقوق إلى أهلها ، وبناء على هذا فأقيموا الشهادة لله ولو شهادتكم على أنفسكم (١) أو والديكم أو أقرب الناس إليكم وسواء كان المشهود عليه غنيا أو فقيرا فلا يحملنكم غنى الغنى ولا فقر الفقير على تحريف الشهادة أو كتمانها ، فالله تعالى ربهما أولى بهما وهو يعطي ويمنع بشهادتكم فأقيموها وحسبكم ذلك واعلموا أنكم إن تلووا (٢) ألسنتكم بالشهادة تحريفا لها وخروجا بها عن أداء ما يترتب عليها أو تعرضوا عنها فتتركوها أو تتركوا بعض كلماتها فيفسد معناها ويبطل مفعولها فإن الله بعملكم ذلك وبغيره خبير وسوف يجزيكم به فيعاقبكم في الدنيا أو في الآخرة ألا فاحذروا.

هذه الآية الكريمة يدخل فيها دخولا أوليا من شهدوا لأبناء أبيرق بالإسلام والصلاح كما هي

__________________

(١) القاعدة العامة منذ عهد بعيد أنّ القريب لا يشهد لقريبه ولكن يشهد عليه فلا يشهد الأب لابنه ولا الابن لأبيه ، لوجود تهمة المحاباة للقرابة وكذا لا يجوز شهادة عدو على عدوه وهذا مذهب عامة الفقهاء ، وحتى الخادم في البيت لا يجوز شهادته لأهل البيت إذ قد يحابيهم لمنفعته.

(٢) وفسّر ابن عباس (تَلْوُوا) بقوله هو في الخصمين يجلسان بين يدي القاضى فيكون ليّ القاضي وإعراضه لأحدهما على الآخر ، فاللّي على هذا هو مطل الكلام وجره حتى يفوّت فصل القضاء وإنفاذه للذي يميل القاضي عليه. ويشهد لهذا الحديث : «ليّ الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته» ولا تنافي بين تفسير ابن عباس وما ذكرناه في التفسير.

٥٥٥

خطاب للمؤمنين إلى يوم القيامة وهي أعظم آية في هذا الباب فليتق الله المؤمنون في شهاداتهم.

أما الآية الثانية (١٣٦) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ) فهي في خطاب أهل الكتاب خاصة وفي سائر المؤمنين عامة فالمؤمنون تدعوهم إلى تقوية إيمانهم ليبلغوا فيه مستوى اليقين ، أما أهل الكتاب فهي دعوة لهم للإيمان الصحيح ، لأن إيمانهم الذي هم عليه غير سليم فلذا دعوا إلى الإيمان الصحيح فقيل لهم (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) محمد (وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ) وهو القرآن الكريم ، (وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) وهو التوراة والإنجيل ، لأن اليهود لا يؤمنون بالإنجيل ، ثم أخبرهم محذرا لهم أن (مَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَ) طريق الهدى والسعادة (ضَلالاً بَعِيداً) لا ترجى هدايته ، وعليه فسوف يهلك ويخسر خسرانا أبديا.

ثم أخبرهم تعالى في الآية بعد هذه (١٣٧) مقررا الحكم بالخسران الذي تضمنته الآية قبلها فقال عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) (١) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكتابه وبما جاء به (لَمْ يَكُنِ اللهُ) أي لم يكن في سنة الله أن يغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا ينجون به ويسعدون فيه ألا فليحذر اليهود والنصارى هذا وليذكروه ، وإلا فالخلود في نار جهنم لازم لهم ولا يهلك على الله إلا هالك.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب العدل في القضاء والشهادة.

٢ ـ حرمة شهادة الزور وحرمة التخلي (٢) عن الشهادة لمن تعينت عليه.

٣ ـ وجوب الاستمرار على الإيمان وتقويته حتى الموت عليه.

٤ ـ بيان أركان الإيمان وهي الإيمان بالله ، وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر (٣).

__________________

(١) في هذه الآية أنّ الكافر إذا آمن غفر له كفره وإذا ارتد يؤاخذ بكفره الأوّل والأخير سواء ، وشاهده حديث مسلم : إذ قال أناس يا رسول الله أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال : «أمّا من أحسن منكم في الإسلام فلا يؤاخذ بها ، ومن أساء ـ كفر ـ أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام». وفي رواية : «ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر».

(٢) شاهده من السنة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح : «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا بلى يا رسول الله قال : الشرك بالله وعقوق الوالدين ، وكان متكئا فجلس وقال : ألا وشهادة الزور ، ألا وقول الزور وما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت» أو كما قال.

(٣) وبقي ركن وهو القضاء والقدر جاء ذكره في قوله تعالى من سورة القمر : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ).

٥٥٦

٥ ـ المرتد يستتاب ثلاثة أيام وإلا قتل كفرا أخذا من قوله : (ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا).

(بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (١٤٠) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١))

شرح الكلمات :

(بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ) : البشارة : الخبر الذي تتأثر به بشرة من يلقى عليه خيرا كان أو شرا.

والمنافق : من يبطن الكفر ويظهر الإيمان تقيّة ليحفظ دمه وماله.

(أَوْلِياءَ) : يوالونهم محبة ونصرة لهم على المؤمنين.

(الْعِزَّةَ) : الغلبة والمنعة.

(يُسْتَهْزَأُ بِها) : يذكونها استخفافا بها وإنكارا وحجودا لها.

(يَخُوضُوا) : يتكلموا في موضوع آخر من موضوعات الكلام.

(مِثْلُهُمْ) : أي في الكفر والإثم.

(يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) : ينتظرون متى يحصل لكم إنهزام أو إنكسار : فيعلنون عن كفرهم.

(نَصِيبٌ) : أي من النصر وعبر عنه بالنصيب القليل لأن انتصارهم على المؤمنين نادر.

٥٥٧

(نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ) : أي نستول عليكم ونمنعكم من المؤمنين إن قاتلوكم

(سَبِيلاً) : أي طريقا إلى إذلالهم واستعبادهم والتسلط عليهم.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) يأمر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخبر المنافقين بلفظ البشارة لأن المخبر به يسوء وجوهم وهو العذاب الأليم وقد يكون في الدنيا بالذل والمهانة والقتل ، وأما في الآخرة فهو أسوأ العذاب وأشده وهو لازم لهم لخبث نفوسهم وظلمة أرواحهم ، ثم وصفهم تعالى بأخس صفاتهم وشرها فقال : (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ (١) مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) فيعطون محبتهم ونصرتهم وولاءهم للكافرين ، ويمنعون ذلك المؤمنين وذلك لأن قلوبهم كافرة آثمة لم يدخلها إيمان ولم ينرها عمل الإسلام ، ثم وبخهم تعالى ناعيا عليهم جهلهم فقال : (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ) أي يطلبون العزة أي المنعة والغلبة من الكافرين أجهلوا أم عملوا فلم يعرفوا (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) فمن أعزه الله عز ومن أذله ذل والعزة تطلب بالإيمان وصالح الأعمال لا بالكفر والشر والفساد. هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى (١٣٨) والثانية (١٣٩).

أما الآية الرابعة (١٤٠) فإن الله تعالى يؤدب المؤمنين فيذكرهم بما أنزل عليهم في سورة الأنعام حيث نهاهم عن مجالسة أهل الباطل إذا خاضوا في الطعن في آيات الله ودينه فقال تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ، وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) هذا الأدب أخذ الله تعالى به رسوله والمؤمنين ، وهم في مكة قبل الهجرة ، لأن سورة الأنعام مكية ولما هاجروا إلى المدينة ، وبدأ النفاق وأصبح للمنافقين مجالس خاصة ينتقدون فيها المؤمنين ويخوضون فيها في آيات الله تعالى استهزاء وسخرية ذكر الله تعالى المؤمنين بما أنزل عليهم في مكة فقال : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ (٢) اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ (٣) حَتَّى

__________________

(١) في الآية دليل على حرمة موالاة الكافرين ، وأنها من صفات المنافقين ، ومن مظاهر الموالاة المحرّمة الاستعانة بهم على أمور الدين ، وعلى أذيّة المسلمين ، وفي الحديث أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحق به مشرك ليقاتل معه فقال له : «ارجع فإنا لا نستعين بمشرك» في الصحيح.

(٢) أوقع السماع على الآيات ، والمراد سماع الكفر ، والاستهزاء بها كما يقال سمعت فلانا يلام أي سمعت اللوم فيه.

(٣) قوله «في حديث غيره» أي في غير الكفر والاستهزاء بالآيات.

٥٥٨

يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ، إِنَّكُمْ إِذاً) أي إذا رضيتم بالجلوس معهم وهم يخوضون في آيات الله (مِثْلُهُمْ) في الإثم والجريمة (١) والجزاء أيضا ، (إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) فهل ترضون أن تكونوا معهم في جهنم ، وإن قلتم لا إذا فلا تجالسوهم. ثم ذكر تعالى وصفا آخر للمنافقين يحمل التنفير منهم والكراهية والبغض لهم فقال : (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) أي ينتظرون بكم الدوائر ويتحينون الفرص (فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ) أي نصر وغنيمة قالو : (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) فأشركونا في الغنيمة ، (وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ) في النصر قالوا لهم (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ (٢) عَلَيْكُمْ) أي نستول عليكم (وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أن يقاتلوكم ، فأعطونا مما غنمتم ، وهكذا المنافقون يمسكون العصا من الوسط فأي جانب غلب كانوا معه. ألا لعنة الله على المنافقين وما على المؤمنين إلا الصبر لأن مشكلة المنافقين عويصة الحل فالله يحكم بينهم يوم القيامة. أما الكافرون الظاهرون فلن يجعل الله تعالى لهم على المؤمنين سبيلا لا لاستئصالهم وإبادتهم ، ولا لا ذلا لهم والتسلط عليهم ماداموا مؤمنين صادقين في إيمانهم (٣). وهذا ما ختم الله تعالى به الآية الكريمة إذ قال : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً).

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ حرمة اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين.

٢ ـ الباعث للناس على اتخاذ الكافرين أولياء هو الرغبة في العزة ورفع المذلة وهذا باطل فالعزة لله ولا تطلب إلا منه تعالى بالإيمان واتباع منهجه.

٣ ـ حرمة مجالسة أهل الباطل إذا كانوا يخضون في آيات الله نقدا واستهزاء وسخرية.

٤ ـ الرضا بالكفر كفر ، والرضا بالإثم إثم.

٥ ـ تكفل الله تعالى بعزة المؤمنين الصادقين ومنعتهم فلا يسلط عليهم أعداءه

__________________

(١) في الآية دليل على حرمة الجلوس في مجالس المعاصي ، وغشيان الذنوب إلّا أن ينكر ذلك على أصحابها ، لأنّ الرضا بالمعصية معصية بل الرضا بالكفر كفر بالإجماع ويدخل في هذا مجالس أرباب الأهواء ، وأصحاب البدع ، والآية محكمة لا نسخ فيها.

(٢) أصل الاستحواذ : الحوط ، يقال حاذه يحوذه حوذا إذ احاطه فمعنى استحوذ أحاط واستولي وغلب.

(٣) يشهد لهذا حديث مسلم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّي سألت ربي ألّا يهلكها ـ أي أمته ـ بسنة عامة وألّا يسلط عليهم عدوّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا» وهو معنى قوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ).

٥٥٩

فيستأصلونهم ، أو يذلونهم ويتحكمون فيهم.

(إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (١٤٣))

شرح الكلمات :

(يُخادِعُونَ اللهَ) : بإظهارهم ما يحب وهو الإيمان والطاعات ، وإخفائهم الكفر والمعاصي.

(وَهُوَ خادِعُهُمْ) : بالسّتر عليهم وعدم فضيحتهم ، وبعدم إنزال العقوبة بهم.

(يُراؤُنَ) : أي يظهرون الطاعات للمؤمنين كأنهم مؤمنون وما هم بمؤمنين.

(مُذَبْذَبِينَ) : أي يترددون بين المؤمنين والكافرين فأى جانب عز كانوا معه.

معنى الآيتين :

يخبر تعالى أن المنافقين في سلوكهم الخاص يخادعون الله تعالى بإظهارهم الإيمان به وبرسوله وهم غير مؤمنين إذ الخداع أن تري من تخادعه ما يحبه منك وتستر عليه ما يكرهه والله تعالى عاملهم بالمثل فهو تعالى أراهم ما يحبونه وستر عليهم ما يكرهونه منه وهو العذاب (١) المعد لهم عاجلا أو آجلا ، كما أخبر عنهم أنهم إذا قاموا إلى أداء الصلاة قاموا كسالى (٢) متباطئين لأنهم لا يؤمنون بالثواب الأخروى فلذا هم يراءون بالأعمال الصالحة المؤمنين حتى لا يتهمونهم بالكفر ، كما أنهم لا يذكرون الله تعالى إلا ذكرا قليلا في الصلاة (٣) وخارج الصلاة ،

__________________

(١) قال الحسن البصري في الآية : يعطي كل انسان من مؤمن ومنافق نورا يوم القيامة فيفرح المنافقون ويظنون أنهم قد نجوا فإذا جاءوا إلى الصراط طفىء نور كل منافق ، فسرّ به قوله تعالى : (وَهُوَ خادِعُهُمْ) وما ذكرناه في التفسير أولى وإن كان هذا حاصل لقوله تعالى : (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ).

(٢) شاهده من السنة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح : «إن أثقل صلاة على المنافقين العتمة ـ العشاء ـ والصبح لأنّ الصلاتين تقعان في الظلام ، ولأنّ العتمة يكون المرأ فيها تعبا مرهقا من أعمال النهار ، وأمّا الصبح فإنّ غلبة النوم أشد على العبد ، ولو لا الخوف من السيف ما شهدوا الصلاتين.»

(٣) روى مالك في الموطأ أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تلك صلاة المنافقين ـ ثلاثا ـ يجلس أحدهم يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان أو على قرني شيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلّا قليلا» وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تجزىء صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود» صححه الترمذي.

٥٦٠