أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ١

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ١

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٤

معنى الآية

يأمر تعالى رسوله أن يذكر قوله للملائكة انى جاعل في الأرض خليفة يخلفه في إجراء أحكامه في الأرض ، وان الملائكة تساءلت (١) متخوفة من أن يكون هذا الخليفة ممن يسفك الدماء ويفسد في الأرض بالكفر والمعاصى قياسا على خلق من الجن حصل منهم ما تخوفوه. فأعلمهم ربهم أنه يعلم من الحكم والمصالح مالا يعلمون.

والمراد من هذا التذكير : المزيد من ذكر الأدلة الدالة على وجود الله تعالى وقدرته وعلمه وحكمته الموجبة للايمان به تعالى ولعبادته دون غيره.

هداية الآية

من هداية الآية :

١ ـ سؤال من لا يعلم غيره ممن يعلم.

٢ ـ عدم انتهار السائل وإجابته أو صرفه بلطف.

٣ ـ معرفة بدء الخلق.

٤ ـ شرف آدم وفضله.

(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣))

__________________

(١) إذ هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك وليس هو من باب الاعتراض على الله ابدا.

٤١

شرح الكلمات :

(آدَمَ) (١) : نبىّ الله أبو البشر عليه‌السلام.

(الْأَسْماءَ) : أسماء الأجناس كلها كالماء والنبات والحيوان والانسان.

(عَرَضَهُمْ) : عرض المسميات أمامهم ، ولما كان بينهم العقلاء غلب جانبهم ، وإلا لقال عرضها

(أَنْبِئُونِي) : أخبرونى.

(هؤُلاءِ) : المعروضين عليهم من سائر المخلوقات.

(سُبْحانَكَ) (٢) : تنزيها لك وتقديسا.

(غَيْبَ السَّماواتِ) : ما غاب عن الأنظار في السموات والأرض.

(تُبْدُونَ) : تظهرون من قولهم (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) الآية.

(تَكْتُمُونَ) : تبطنون وتخفون يريد ما أضمره إبليس من مخالفة أمر الله تعالى وعدم طاعته.

(الْحَكِيمُ) (٣) : الحكيم الذى يضع كل شىء في موضعه ، ولا يفعل ولا يترك الا لحكمة.

معنى الآيات :

يخبر تعالى في معرض مظاهر قدرته وعلمه وحكمته الموجبة لعبادته دون سواه أنه علم آدم اسماء الموجودات (٤) كلها ، ثم عرض الموجودات على الملائكة وقال أنبؤني بأسماء هؤلاء إن

__________________

(١) هل آدم مشتق من الأدمة التي هي حمرة تضرب إلى بياض ، أو هو اسم جامد أعجمي كازر ، وعابر ذهب إلى كل وجه قوم.

(٢) سبحان : اسم مصدر فعله سبّح مضعفا. واختص بتنزيه الله تعالى فكان بذلك اسم تسبيح كالعلم عليه.

(٣) الحكيم : ذو الحكمة ، وهو الذي لا يصدر عنه قول ولا فعل خال من حكمة اقتضته. والحكيم مشتق من أحكم الشيء إذا أتقنه وخلّصه من الخلل والفساد ، ومنه حكمة الدّابة وهي حديدة تجعل في فمها تمنعها من اختلاف سيرها ويقال : أحكم فلانا أي أمنعه من فعل كذا ومنه قول الشاعر :

أبني حنيفة احكموا سفهاءكم

إني أخاف عليكم أن أغضبا

(٤) ليس في المسألة ما يدعو الى الاستغراب أو الإنكار إذ كتاب المقادير فيه أسماء الموجودات كلها ، وكذا سائر صفاتها وأحوالها ، والعرض التلفازى اليوم يسهل على المرء إدراك كيفية عرض الله تعالى الموجودات امام الملائكة. وذكر آدم لاسمائها كما علمها بتعليم الله تعالى له.

٤٢

كنتم صادقين في دعوى أنكم أكرم المخلوقات وأعلمهم فعجزوا وأعلنوا اعترافهم بذلك وقالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا ثم قال تعالى لآدم أنبئهم بأسماء تلك المخلوقات المعروضة فأنبأهم بأسمائهم واحدا واحدا حتى القصعة والقصيعة .. وهنا ظهر شرف آدم عليهم ، وعتب عليهم ربهم بقوله : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ).

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان قدرة الله تعالى حيث علم آدم أسماء المخلوقات كلها فعلمها.

٢ ـ شرف العلم وفضل العالم (١) على الجاهل.

٣ ـ فضيلة الاعتراف (٢) بالعجز والقصور.

٤ ـ جواز العتاب على من ادعى دعوى هو غير متأهل لها.

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤)) (٣)

شرح الكلمات :

(اسْجُدُوا) : السجود (٤) هو وضع الجبهة والأنف على الأرض ، وقد يكون بانحناء الرأس دون وضعه على الأرض لكن مع تذلل وخضوع.

(إِبْلِيسَ) : قيل كان اسمه الحارث ولما تكبر عن طاعة الله أبلسه الله أى أيأسه من كل خير ومسخه شيطانا

(أَبى) : امتنع ورفض السجود لآدم.

__________________

(١) يشهد لهذا حديث أبي داود إذ فيه : وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم.

(٢) دل على هذا قولهم : لا علم لنا إلّا ما علّمتنا ولذا قال العلماء : الواجب على من سئل على ما لا يعلم أن يقول : الله أعلم ، وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : ما أبردها على الكبد!! فقيل له : وما ذاك؟ فقال : أن يسأل الرجل عمّا لا يعلم فيقول : الله أعلم.

(٣) ذكر القرطبي في تفسيره : أن السجود الذي أمرت به الملائكة هو أن يسجدوا لله تعالى مستقبلين وجه آدم وعليه فهو كصلاتنا خلف المقام ، الصلاة لله والاستقبال للمقام.

(٤) أجمع أهل الإسلام قاطبة أن السجود لا يكون إلّا لله تعالى. وفي الحديث : لا ينبغي أن يسجد لأحد إلّا لله ربّ العالمين.

٤٣

(اسْتَكْبَرَ) : تعاظم في نفسه فمنعه الاستكبار (١) والحسد من الطاعة بالسجود لآدم.

(الْكافِرِينَ) : جمع كافر. من كذب بالله تعالى أو كذب بشىء من آياته أو بواحد من رسله أو أنكر طاعته.

معنى الآية :

يذكّر تعالى عباده بعلمه وحكمته وإفضاله عليهم بقوله : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ...) سجود تحية وإكرام فسجدوا إلا إبليس تعاظم في نفسه وامتنع عن السجود الذى هو طاعة الله ، وتحية آدم. تكبرا وحسدا لآدم في شرفه فكان بامتناعه عن طاعة الله من الكافرين الفاسقين عن أمر الله ، الأمر الذى استوجب ابلاسه (٢) وطرده.

هداية الآية :

من هداية الآية :

١ ـ التذكير بإفضال الله الأمر الذى يوجب الشكر ويرغب فيه.

٢ ـ التحذير من الكبر والحسد حيث كانا سبب ابلاس الشيطان ، وامتناع اليهود من قبول الاسلام.

٣ ـ تقرير عداوة ابليس ، والتنبيه الى انه عدوّ تجب عداوته أبدا.

٤ ـ التنبيه الى أن من المعاصى ما يكون (٣) كفرا أو يقود الى الكفر.

(وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ (٤) أَنْتَ وَزَوْجُكَ (٥) الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً

__________________

(١) الاستكبار : طلب الكبر في النفس وتصوره فيها وفي صحيح مسلم : (إنّ الله لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر).

(٢) الإبلاس : الإيئاس من كل خير ، وإبلاس إبليس كان عقوبة له على كفره وكبره وحسده ، وكان قبل إبلاسه يقال له : عزازيل وبالعربية الحارث.

(٣) كترك الصلاة وقتل المؤمن لقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من ترك الصلاة فقد كفر» وقوله «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» وقوله «لا ترتدوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض». والكفر كفران : كفر مخرج من الملة وكفر نعمة لا يخرج منها ولكن صاحبه إن لم يتب منه وتقبل توبته يدخل النار به.

(٤) قال : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) بعد طرد إبليس منها والمراد من السكن الإسكان وهو الإقامة الطويلة لا السكون النفسي ، وهدوء البال وإن كان لازما للإقامة الطيبة ولفظ السكن مشعر بعدم الإقامة الدائمة ، لأن من سكن دارا لابد وأن يرحل منها يوما من الأيام.

(٥) لفظ الزوج يطلق على كل من الرجل وامرأته ، لأن كل واحد منهما صيّر الثاني زوجا له ، ويقال للمرأة زوجة بالتاء كما في قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا فلان هذه زوجتي فلانة» وذلك أمنا من اللّبس ، وغلط الفرزدق في قوله :

وإنّ الذي يسعى ليفسد زوجتي

كساع إلى أسد الشرى يستبيلها

ولا معنى لتغليطه وقد صح الحديث بلفظ زوجة.

٤٤

حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها (١) فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ (٢) عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧))

شرح الكلمات :

(رَغَداً) : العيش الهنّي الواسع يقال له الرّغد.

(الشَّجَرَةَ) : شجرة من أشجار الجنة وجائز أن تكون كرما أو تينا أو غيرهما ومادام الله تعالى لم يعين نوعها فلا ينبغى السؤال عنها.

(الظَّالِمِينَ) : لأنفسهما بارتكاب ما نهى الله تعالى عنه.

(فَأَزَلَّهُمَا) : أوقعهما في الزلل ، وهو مخالفتهما لنهى الله تعالى لهما عن الأكل من الشجرة

(مُسْتَقَرٌّ) : المستقر : مكان الاستقرار والاقامة.

(إِلى حِينٍ) : الحين : الوقت مطلقا قد يقصر أو يطول والمراد به نهاية الحياة.

(فَتَلَقَّى (٣) آدَمُ) : أخذ آدم ما ألقى الله تعالى إليه من كلمات التوبة.

(كَلِماتٍ) : هى قوله تعالى : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ).

(فَتابَ عَلَيْهِ) : وفقه للتوبة فتاب (٤) وقبل توبته ، لأنه تعالى تواب رحيم.

__________________

(١) عن هنا هي كما في قوله تعالى : (إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ) بمعنى بسببها أي أوقعهما في الزلل بسبب الأكل من الشجرة التي زينها لهما فضمير عنها عائد إلى الشجرة.

(٢) جملة : (بعضكم لبعض عدو) تصح أن تكون حالا من ضمير (اهبطوا) ويصح أن تكون مستأنفة استئنافا ابتدائيا.

(٣) لفظ (فتلقى) مشعر بالإكرام ، والمسرة كقوله تعالى (تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ).

(٤) يتساءل البعض : هل آدم ارتكب بأكله من الشجرة كبيرة ، وهل يجوز في حق الأنبياء ارتكاب الكبائر؟؟

والجواب : أن آدم ما نبىء إلا بعد أن هبط إلى الأرض ، إذ هي دار التكليف أما وهو في السماء فما كان قد نبىء بعد وأكله من الشجرة لم يترتب عليه عقاب أكثر من الخروج من الجنة لأنها ليست دار إقامة لمن يخالف فيها أمر الله تعالى ، أما الأنبياء فلا يجوز في حقهم ارتكاب الكبائر ولا الصغائر لعصمة الله تعالى لهم لأنهم محل أسوة لغيرهم.

٤٥

معنى الآيات :

فى الآية الأولى (٣٥) يخبر تعالى عن إكرامه لآدم وزوجه حواء حيث أباح لهما جنته يسكنانها ويأكلان من نعيمها ما شاءا إلا شجرة واحدة فقد نهاهما عن قربها (١) والأكل من ثمرها حتى لا يكونا من الظالمين.

وفي الآية الثانية (٣٦) اخبر تعالى أن الشيطان أوقع آدم وزوجه في الخطيئة حيث زين لهما الأكل من الشجرة فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما فلم يصبحا أهلا للبقاء في الجنة فأهبطا الى الأرض مع عدوهما إبليس ليعيشوا بها بعضهم لبعض عدو إلى نهاية الحياة.

وفي الآية الثالثة (٣٧) يخبر تعالى أن آدم تلقى كلمات التوبة من ربه تعالى وهى : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) فقالاها توبة فتاب الله عليهما وهو التواب الرحيم.

هداية الآية :

من هداية الآية :

١ ـ كرامة آدم وذريته على ربهم تعالى.

٢ ـ شؤم المعصية وآثارها في تحويل النعمة إلى نقمة.

٣ ـ عداوة الشيطان للإنسان ووجوب معرفة ذلك لاتقاء وسوسته.

٤ ـ وجوب التوبة (٢) من الذنب وهى الاستغفار بعد الاعتراف بالذنب وتركه والندم على فعله.

(قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩))

__________________

(١) إذا كان الفعل قرب يقرب بالفتح فمعناه التلبّس بالفعل ، وإذا كان قرب بضمّ الرّاء فمعناه الدنوّ من الشيء. هكذا يرى بعضهم.

(٢) التوبة : هي الرجوع من المخالفة إلى المتابعة أي من المعصية إلى الطاعة هذا حدّها لغة. أمّا شرعا : فهي كما نصّ في الفائدة الرابعة من هذا التفسير.

٤٦

شرح الكلمات :

(اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً) : إنزلوا من الجنة (١) الى الأرض لتعيشوا فيها متعادين. (٢)

(فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ (٣) مِنِّي هُدىً) : إن يجئكم من ربكم هدى : شرع ضمنه كتاب وبينه رسول.

(فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) : أخذ (٤) بشرعي فلم يخالفه ولم يحد عنه.

(فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) : جواب شرط فمن اتبع هداى ، ومعناه إتباع الهدى يفضي بالعبد الى ان لا يخاف ولا يحزن لا في الدنيا ولا في الآخرة.

(كَفَرُوا وَكَذَّبُوا) : كفروا : جحدوا شرع الله ، وكذبوا رسوله

(أَصْحابُ النَّارِ) : أهلها الذين لا يفارقونها بحيث لا يخرجون منها

معنى الآيتين :

يخبر تعالى أنه أمر آدم وحواء (٥) وإبليس بالهبوط إلى الأرض بعد أن وسوس الشيطان لهما فأكلا من الشجرة ، وأعلمهم أنه إن أتاهم منه هدى فاتبعوه ولم يحيدوا عنه يأمنوا ويسعدوا فلن يخافوا ولن يحزنوا ، وتوعد من كفر به وكذب رسوله فلم يؤمن ولم يعمل صالحا بالخلود (٦) فى النار.

هداية الآيتين :

من هداية الآيتين :

١ ـ المعصية تسبب الشقاء والحرمان.

__________________

(١) ذهب المعتزلة ـ أذهب الله ريحهم ـ إلى أن الجنة التي هبط منها آدم وحواء كانت بستانا في الأرض في مرتفع منها ، وهو قول باطل لا يسمع له ولا يلتفت إليه ، إذ كل سياق القرآن دال على أنها الجنة دار النعيم لأولياء الله في الآخرة.

(٢) أي : أبليس وذريته ، وآدم وذريته ، وكان هذا قبل أن يوجد لكل منهما ذرية ثم أوجدت كما أخبر تعالى وكانت العداوة على أشدها.

(٣) فإمّا : أصلها فإن ما ، فإن شرطية وأدخلت عليها ما الزائدة لتقوية الكلام وأدغمت فيها نون إن فصارت إمّا.

(٤) هذا عام في كل أجيال بني آدم فمن جاءه هدى الله بواسطة نبي وكتاب الله فأخذ به واتبعه نجا مما يصيب غيره من الخوف والحزن في الدنيا والآخرة معا.

(٥) حواء : لم تذكر باسمها في القرآن وإنما ذكرت بعنوان الزوج ، ولكن ذكرت في السنة الصحيحة ، أنها خلقت من ضلع آدم عليه‌السلام ، والسرّ في عدم ذكرها باسمها : أنّ المروءة تأبى على صاحبها ذكر المرأة باسمها فلذا تذكر النساء تابعات لخطاب الرجال.

(٦) روى مسلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون ، ولكن أقوام أصابتهم النار بخطاياهم فأصابتهم إماتة حتى إذا صاروا فحما أذن في الشفاعة» ومعناه يخرجون من النار بالشفاعة لهم.

٤٧

٢ ـ العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسبب الأمن والإسعاد ، والإعراض عنهما يسبب الخوف والحزن والشقاء والحرمان.

٣ ـ الكفر والتكذيب جزاء صاحبهما الخلود في النار.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣))

شرح الكلمات :

بنو (١) إسرائيل : اسرائيل هو يعقوب بن اسحق بن ابراهيم عليهم‌السلام وبنوه هم اليهود ، لأنهم يعودون في أصولهم الى أولاد يعقوب الأثنى عشر. (٢)

النعمة : النعمة هنا اسم جنس بمعنى النعم ، ونعم الله تعالى على بنى اسرائيل كثيرة (٣) ستمر أفرادها في الآيات القرآنية الآتية.

(أَوْفُوا بِعَهْدِي) : الوفاء بالعهد اتمامه وعهد الله عليهم أن يبينّوا أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويؤمنوا به.

(أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) : أتم لكم عهدكم بإدخالكم الجنة بعد إكرامكم في الدنيا وعزكم فيها.

(وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) : اخشونى ولا تخشوا غيرى.

(آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ) : القرآن الكريم

(وَلا تَشْتَرُوا (٤) بِآياتِي) : لا تعتاضوا عن بيان الحق في أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) بنو جمع ابن وقيل عن الولد ابن من البناء ، لأنه مسند إليه موضوع عليه. واسرا : عبدوئيل : الله وقرىء اسرائين بالنون وهي لغة مشهورة.

(٢) هم يوسف عليه‌السلام واخوته يهوذا ، وبن يامين وغيرهما.

(٣) منها انجاؤهم من فرعون ، وتحررهم من سلطانه ، ومنها إهلاك عدوهم ، وانزال المنّ والسلوى عليهم.

(٤) الاشتراء هنا : بمعنى الاستبدال ، ولذا جاز دخول الباء على غير المشترى به وهو الثمن ، إذ الأصل أن تدخل الباء على المشترى به. فتقول ، اشتريت الثوب بدرهم.

٤٨

(ثَمَناً قَلِيلاً) : متاع الحياة الدنيا.

(وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) : واتقونى وحدى في كتمانكم الحق وجحدكم نبوة نبيي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أنزل بكم نقمتي.

(وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ) : أى لا تخلطوا الحق بالباطل حتى يعلم فيعمل به ، وذلك قولهم : محمد نبىّ ولكن مبعوث إلى العرب لا إلى بنى إسرائيل.

(وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) : الركوع الشرعى : انحناء الظهر في امتداد واعتدال مع وضع الكفين على الركبتين والمراد به هنا : الخضوع (١) لله والإسلام له عزوجل.

مناسبة الآيات ومعناها :

لما كان السياق في الآيات السابقة في شأن آدم وتكريمه ، وسجود الملائكة له وامتناع إبليس لكبره. وحسده وكان هذا معلوما لليهود لأنهم أهل كتاب ناسب أن يخاطب الله تعالى بني إسرائيل مذكرا إياهم بما يجب عليهم من الإيمان والاستقامة. فناداهم بعنوان بنوتهم لإسرائيل عليه‌السلام فأمرهم ونهاهم ، أمرهم بذكر نعمته عليهم ليشكروه تعالى بطاعته فيؤمنوا برسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما جاء به من الهدى وأمرهم بالوفاء بما أخذ عليهم من عهد لينجز لهم ما وعدهم ، وأمرهم أن يرهبوه (٢) ولا يرهبوا غيره من خلقه وأمرهم أن يؤمنوا بالقرآن الكريم ، وان لا يكونوا أول من يكفر (٣) به. ونهاهم عن الاعتياض عن بيان الحق في أمر الإيمان برسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثمنا قليلا من متاع الحياة الدنيا وأمرهم بتقواه في ذلك وحذرهم ان هم كتموا الحق ان ينزل بهم عذابه. ونهاهم عن خلط الحق بالباطل دفعا للحق وبعدا عنه حتى لا يؤمنوا برسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمرهم بإقام (٤) الصلاة وايتاء الزكاة والاذعان لله تعالى بقبول الاسلام والدخول فيه كسائر المسلمين.

__________________

(١) وجائز أن يراد به الصلاة مع المصلين وهم الرسول وأصحابه إذ الخطاب ليهود المدينة بصورة خاصة ، ولا منافاة بين ما شرحت به الآية ، وبين ما ذكر هنا تعليقا ، إذ الإسلام لله يستلزم الصلاة وفي الآية دليل تأكيد صلاة الجماعة.

(٢) الرهب ، والرهبة الخوف ، ويجوز في الرهب اسكان الهاء وفتحها.

(٣) هذه الجملة تأكيد لجملة وآمنوا بما أنزلت .. أي : آمنوا بما أنزلت أي ، من القرآن بمعنى لا تكونوا أول من يكفر به منكم يا بني اسرائيل ، إذ العرب سبق أن كفروا بالقرآن قبلهم فأوّل كافر به أي منهم وهو اليهود.

(٤) أمرهم بإقام الصلاة وايتاء الزكاة بعد الإيمان كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلّا الله ، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ..» الحديث. ومعنى الخطاب أنه أمرهم بالدخول في الإسلام والخروج من اليهودية الباطلة.

٤٩

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب ذكر النعم لشكر الله تعالى عليها.

٢ ـ وجوب الوفاء بالعهد لا سيما ما عاهد عليه العبد ربه تعالى

٣ ـ وجوب بيان الحق وحرمة كتمانه.

٤ ـ حرمة خلط (١) الحق بالباطل تضليلا للناس وصرفهم عنه كقول اليهود : محمد نبىّ ولكن للعرب خاصة حتى لا يؤمن به يهود.

(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦))

شرح الكلمات :

(بِالْبِرِّ) : البر لفظ جامع لكل خير. والمراد هنا : الايمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والدخول في الاسلام

النسيان : مقابل الذكر ، وهو هنا الترك.

تلاوة الكتاب : قراءته ، والكتاب هنا التوراه التى بأيدى اليهود

العقل : قوة باطنية يميز بها المرء بين النافع والضار ، والصالح والفاسد

الاستعانة : طلب العون للقدرة على القول والعمل

(بِالصَّبْرِ) (٢) : حبس النفس على ما تكره

الخشوع : حضور القلب وسكون الجوارح ، والمراد هنا الخضوع لله والطاعة لأمره ونهيه.

__________________

(١) مأخوذ من قوله (ولا تلبسوا الحق بالباطل) ؛ إذ اللبس الخلط بين المتشابهات في الصفات يقال في الأمر لبسة : أي اشتباه ، فلبس الحق بالباطل ترويج الباطل في صورة الحق ليقبل ويضل به الناس.

(٢) مواطن الصبر ثلاثة : صبر على الطاعة فلا تفارق ، وصبر عن المعصية فلا ترتكب ، وصبر على المصائب فلا يجزع منها ولا يتسخّط ، ولكن يصبر ، ويسترجع أي : يقول : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ).

٥٠

(يَظُنُّونَ) : يوقنون (١)

(مُلاقُوا رَبِّهِمْ) : بالموت ، راجعون إليه يوم القيامة.

معنى الآيتين :

ينعى الحق تبارك وتعالى في الآية الأولى (٤٤) على علماء بنى اسرائيل أمرهم بعض العرب بالإيمان بالإسلام ونبيه ، ويتركون أنفسهم فلا يأمرونها بذلك والحال أنهم يقرأون التوراة ، وفيها بعث النبى محمد والأمر بالإيمان به واتباعه ويقرعهم موبخا لهم بقوله : أفلا تعقلون ، إذ العاقل يسبق الى الخير ثم يدعو إليه.

وفي الآيتين الثانية والثالثة (٤٥ ـ ٤٦) يرشد الله تعالى بنى اسرائيل الى الاستعانة بالصبر والصلاة حتى يقدروا على مواجهة الحقيقة والتصريح بها وهى الإيمان بمحمد والدخول في دينه ، ثم يعلمهم أن هذه المواجهة صعبة شاقة (٢) على النفس لا يقدر عليها الا المخبتون لربهم الموقنون بلقاء الله ، والرجوع إليه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ قبح (٣) سلوك من يأمر غيره بالخير ولا يفعله.

٢ ـ السيئة قبيحة وكونها من (٤) عالم أشد قبحا.

٣ ـ مشروعية الاستعانة على صعاب الأمور وشاقها بالصبر والصلاة ، إذ كان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا حزبه أمر فزع (٥) الى الصلاة.

__________________

(١) يطلق الظن ويراد به اليقين ، لا الظن المقابل للشكّ ، أفاده ابن جرير في تفسيره وأورد أنّ الظن من أسماء الأضداد فيطلق على الشك واليقين كإطلاق السدفة على الضياء والظلمة معا.

(٢) الجمهور على تفسير الضمير في (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ) بالصلاة وخالفتهم في ذلك لوجود من قال : إنّها ما أمروا به ونهوا عنه وهو أعم من الصلاة

(٣) ورد الوعيد الشديد فيمن يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهى عن المنكر ويرتكبه من ذلك قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم «مررت ليلة أسري بي على أناس تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نار قلت من هؤلاء يا جبريل قال : هؤلاء خطباء أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم» رواه أحمد. ومثله كثير في السنن والصحاح ، إلا أن أهل العلم من السلف قالوا : لا يمنع العالم من أن يأمر بالمعروف ، وإن كان لا يأتيه ومن أن ينهي عن منكر وإن كان يأتيه ، وهو حق إذ لا يسلم من الذنب إلّا المعصوم».

(٤) لأن من يعلم ليس كمن لا يعلم.

(٥) رواه أحمد وأبو داود

٥١

٤ ـ فضلية الخشوع لله والتطامن له ، وذكر الموت ، والرجوع إلى الله تعالى للحساب والجزاء.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨))

شرح الكلمات :

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ) : تقدم شرح هذه الجملة

(فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) (١) : آتاهم من النعم الدينية والدنيوية ما لم يؤت غيرهم من الناس وذلك على عهد موسى عليه‌السلام وفي أزمنة صلاحهم واستقامتهم.

(اتَّقُوا يَوْماً) : المراد باليوم يوم القيامة بدليل ما وصف به. واتقاؤه هو اتقاء ما يقع فيه من الاهوال والعذاب. وذلك بالايمان والعمل (٢) الصالح.

(لا تَجْزِي نَفْسٌ) : لا تغنى نفس عن نفس أخرى أى غنى. ما دامت كافرة. (٣)

(وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) (٤) : هذه النفس الكافرة اذ هى التى لا تنفعها شفاعة الشافعين

(وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) : على فرض أنها تقدّمت بعدل وهو الفداء فإنه لا يؤخذ منها

(وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) : بدفع العذاب عنهم

معنى الآيتين :

ينادى الله سبحانه وتعالى بنى إسرائيل مطالبا إياهم بذكر نعمه عليهم ليشكروها بالإيمان برسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقبول ما جاء به من الدين الحق وهو الإسلام ، محذرا إياهم من عذاب يوم القيامة ، آمرا لهم باتقائه بالايمان وصالح الأعمال. لأنه يوم عظيم لا تقبل فيه شفاعة

__________________

(١) المراد بالعالمين : عالمو زمانهم.

(٢) وترك الشرك ، والمعاصي.

(٣) لأنّ أهل الإيمان والتوحيد وإن دخلوا النار يخرجون منها بشفاعة شافع أو بإيمانهم. بخلاف من مات كافرا أو مشركا.

(٤) الشفاعة : ضم جاه إلى جاه ليحصل النفع للمشفوع له. والشفعة : ضمّ ملك إلى ملك ، والشفع : الزوج مقابل الوتر. ولا تقبل شفاعة أحد يوم القيامة إلّا بشرطين اثنين. الأول : أن يكون الشافع قد أذن الله تعالى له. في الشفاعة. والثاني : أن يكون المشفوع له ممن رضي الله قوله وعمله وهو المؤمن الموحد.

٥٢

لكافر ، ولا يؤخذ منه عدل أي فداء ، ولا ينصره بدفع العذاب عنه أحد.

هداية الآيتين :

من هداية الآيتين :

١ ـ وجوب ذكر النعم لتشكر (١) بحمد الله وطاعته.

٢ ـ وجوب اتقاء عذاب يوم القيامة بالايمان والعمل الصالح بعد ترك الشرك والمعاصى

٣ ـ تقرير أن الشفاعة لا تكون لنفس كافرة. وأنّ الفداء يوم القيامة لا يقبل (٢) أبدا

(وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣)) (٣)

شرح الكلمات :

النجاة : الخلاص من الهلكة ، كالخلاص من الغرق. والخلاص من العذاب.

(آلِ فِرْعَوْنَ) : أتباع (٤) فرعون. وفرعون (٥) ملك مصر على عهد موسى عليه‌السلام

(يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) : يبغونكم سوء العذاب وهو أشده وأفظعه ويذيقونكم إياه

__________________

(١) شكر الله على نعمه يكون بالاعتراف بالنعمة وحمدا لله تعالى عليها ، وصرفها فيما فيه رضاه سبحانه وتعالى.

(٢) لقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ).

(٣) إذ ظرفية ويقدر لها العامل وهو اذكروا إذ نجيناكم. اذكروا إذ فرقنا بكم البحر .. الخ.

(٤) ممن هم على دين الباطل ، من الأقباط المصريين وسواء كانوا أقارب له أم أباعد ويشهد له حديث : «آل محمد كل تقي».

(٥) قيل إن فرعون مصر اسمه الوليد بن مصعب بن الرّيّان.

٥٣

(يَسْتَحْيُونَ (١) نِساءَكُمْ) : يتركون ذبح البنات ليكبرن للخدمة ، ويذبحون الأولاد خوفا منهم إذا كبروا

بلاء (٢) عظيم : ابتلاء وامتحان شديد لا يطاق

(فَرَقْنا (٣) بِكُمُ الْبَحْرَ) (٤) : صيرناه فرقتين ، وما بينهما يبس لا ماء فيه لتسلكوه فتنجوا والبحر هو بحر القلزم (الأحمر)

(اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) : عجل من ذهب صاغه لهم السامرى ودعاهم الى عبادته فعبده أكثرهم ، وذلك في غيبة موسى عنهم

الشكر : اظهار النعمة بالاعتراف بها وحمد الله تعالى عليها وصرفها فى مرضاته

(الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ) (٥) : الكتاب : التوراه ، والفرقان : المعجزات التى فرق الله تعالى بها بين الحق والباطل

(تَهْتَدُونَ) : إلى معرفة الحق في كل شئونكم من أمور الدين والدنيا.

معنى الآيات :

تضمنت هذه الآيات الخمس أربع نعم عظمى انعم الله تعالى بها على بنى اسرائيل وهى التى امرهم بذكرها ليشكروه عليها بالايمان برسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودينه الاسلام.

فالنعمة الأولى : انجاؤهم من فرعون وآله بتخليصهم من حكمهم الظالم وما كانوا يصبونه عليهم من ألوان العذاب ، من ذلك : ذبح الذكور من أولادهم وترك البنات لاستخدامهن في المنازل كرقيقات.

__________________

(١) وقيل يكشفون عن حياء المرأة أي : فرجها لينظروا هل هى حبلى أو لا؟ ليتمكنوا من قتل الذكور وإبقاء الإناث.

(٢) البلاء يكون بالخير والشر قال تعالى (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) الآية. وهو هنا كذلك فقد ابتلى بنو اسرائيل بالشر من قتل واستعباد وبالخير من انجائهم وإهلاك اعدائهم.

(٣) الفرق : الفصل بين الأشياء كالفصل بين الحق والباطل والفصل بين المجتمعين من كل شيء والباء في فرقنا بكم البحر للملابسة.

(٤) البحر : الماء الملح ، والبلدة أيضا ، ومن الخيل الواسع الجري فقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في فرس أبي طلحة (وإن وجدناه لبحرا) يعني واسع الجري.

(٥) الفرقان : لفظ عام يطلق على كل ما يفرق به بين الحق والباطل كالمعجزات والآيات والعلوم الصحيحة.

٥٤

والثانية : فلق البحر لهم وإغراق عدوهم بعد نجاتهم وهم ينظرون. (١)

والثالثة : عفوه تعالى عن أكبر زلة زلوها وجريمة اقترفوها وهى اتخاذهم عجلا (٢) صناعيا الها وعبادتهم له. فعفا تعالى عنهم ولم يؤاخذهم بالعذاب لعلة أن يشكروه تعالى بعبادته وحده دون سواه.

والرابعة : ما أكرم به نبيهم موسى عليه‌السلام من التوراة التى فيها الهدى والنور والمعجزات التى أبطلت باطل فرعون ، وأحقت دعوة الحق التى جاء بها موسى عليه‌السلام.

هذه النعم هى محتوى الآيات الخمس ، ومعرفتها معرفة لمعانى الآيات في الجملة اللهم الا جملة [وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم] فى الآية الأولى فانها : اخبار بأن الذى حصل لبنى اسرائيل من عذاب على أيدى فرعون وملئه انما كان امتحانا من الله واختبارا عظيما لهم. كما أن الآية الثالثة فيها ذكر مواعدة الله تعالى لموسى بعد نجاة (٣) بنى اسرائيل أربعين ليلة وهى القعدة وعشر الحجة ليعطيه التوراه يحكم (٤) بها بنى اسرائيل فحدث في غيابه ان جمع السامرى حلى نساء بني إسرائيل وصنع منه عجلا ودعاهم الى عبادته فعبدوه فاستوجبوا العذاب إلا أن الله منّ عليهم بالعفو ليشكروه.

هداية الآيات :

من هداية هذه الآيات :

١ ـ ذكر النعم يحمل (٥) على شكرها ، والشكر هو الغاية من ذكر النعمة.

٢ ـ أن الله تعالى يبتلى عباده لحكم عالية فلا يجوز الاعتراض على الله تعالى فيما يبتلى به عباده

٣ ـ الشرك ظلم (٦) لأنه وضع العبادة في غير موضعها.

__________________

(١) جملة : (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) في الآيات حالية وإن قيل الذين تمّ لهم هذا الانعام هم من كانوا مع موسى عليه‌السلام فكيف يخاطب به يهود اليوم فالجواب : أنّ النعم على السلف نعم على الخلف.

(٢) القوم الذين مروا بهم فوجدوهم عاكفين على أصنام لهم هم قوم من الكنعانيين وهم الفينيقيون سكان سواحل بلاد الشام إذ كانوا يعبدون عجلا مقدّسا لهم.

(٣) كان يوم نجاة بني اسرائيل يوم عاشوراء المحرم لما في البخاري وغيره من أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قدم المدينة مهاجرا وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم عن ذلك فقالوا : يوم صالح أنجى الله تعالى فيه بني اسرائيل. فصامه. رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمر بصيامه وقال : «نحن أحق بموسى منهم» أو كما قال.

(٤) ومما يؤسف ويحزن أن المسلمين لما ابتلاهم الله باستعمار النصارى لهم كانوا كلما استقل شعب أو إقليم طلب قانون الكافرين فحكم به المسلمين ، وبنوا اسرائيل لما استقلوا على يد موسى ذهب يأتيهم بقانون الربّ ليحكمهم به.

(٥) ولذا كان مبدأ الشكر : الاعتراف بالنعمة أوّلا ، وهو ذكرها بالقلب ، واللسان.

(٦) قال تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

٥٥

٤ ـ إرسال الرسل وإنزال الكتب الحكمة فيهما هداية الناس إلى معرفة ربهم وطريقة التقرب إليه ليعبدوه فيكملوا ويسعدوا في الحياتين.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧)) (١)

شرح الكلمات

ظلم النفس (٢) : تدسيتها بسّيئة الجريمة

(بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ) : بجعلكم العجل الذى صاغه السامرى من حلّى نسائكم إلها عبدتموه

البارى : الخالق عزوجل

(فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) (٣) : أمرهم أن يقتل من لم يعبد العجل من (٤) عبده منهم وجعل ذلك توبتهم ففعلوا فتاب عليهم بقبول توبتهم

(نَرَى اللهَ جَهْرَةً) (٥) : نراه عيانا

__________________

(١) لفظ القوم يراد به الرجال دون النساء كما في قوله تعالى : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ .. وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ) وكقول رهير :

وما أدري وسوف إخال أدري

أقوم آل حصن أم نساء

وقد يطلق على الرجال والنساء نحو قوله تعالى (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) الآية.

(٢) أصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه ، ومرتكب الذنب بدل أن يزكي نفسه بعمل صالح دسّاها بعمل سيىء فكان بذلك واضعا شيئا في غير موضعه ، إذ المطلوب من العبد تزكية نفسه لتتأهل للكمال والإسعاد ، لا تدسيتها لتخيب وتخسر.

(٣) قال بعضهم : قتل النفس هنا تذليلها بالطاعات وكفّها عن الشهوات وليس بصحيح.

(٤) قتل بعضهم بعضا كان عقوبة لمن عبدوا العجل ، ولمن لم يعبدوه ، لأنهم ما غيّروا المنكر وقد رأوه.

(٥) أصل الجهر : الظهور ومنه قرأ جهرا أي أظهر القراءة ، وجهرة مصدر جهر ، وقرىء بفتح الهاء واسكانها نحو زهرة ، وزهرة ومعناه علانية أو عيانا.

٥٦

(الصَّاعِقَةُ) : نار محرقة كالتى تكون مع السحب والأمطار والرعود

(بَعَثْناكُمْ) : أحييناكم (١) بعد موتكم

(الْغَمامَ) : سحاب رقيق أبيض

(الْمَنَّ وَالسَّلْوى) : الْمَنَ : مادة لزجة حلوة كالعسل (٢) ، وَالسَّلْوى : طائر يقال له السّمانى

الطيبات : الحلال

المناسبة ومعنى الآيات :

لما ذكّر الله تعالى اليهود بما أنعم على أسلافهم مطالبا إياهم بشكرها فيؤمنوا برسوله. ذكرهم هنا ببعض ذنوب اسلافهم ليتعظوا فيؤمنوا فذكرهم بحادثة اتخاذهم العجل إلها وعبادتهم له. وذلك بعد نجاتهم من آل فرعون وذهاب موسى لمناجاة الله تعالى ، وتركه هارون خليفة له فيهم ، فصنع السامرى لهم عجلا من دهب وقال لهم هذا إلهكم وإله موسى فاعبدوه فأطاعه أكثرهم وعبدوا العجل فكانوا مرتدين بذلك فجعل الله توبتهم من ردتهم ان يقتل من لم يعبد العجل من عبده فقتلوا منهم سبعين الفا فكان ذلك توبتهم فتاب الله عليهم انه هو التواب الرحيم كما ذكرهم بحادثة أخرى وهى انه لما عبدوا العجل وكانت ردة اختار موسى بامر الله تعالى منهم سبعين رجلا من خيارهم ممن لم يتورطوا في جريمة عبادة العجل ، وذهب بهم الى جبل الطور ليعتذروا الى ربهم سبحانه وتعالى من عبادة إخوانهم العجل فلما وصلوا قالوا لموسى اطلب لنا ربك أن يسمعنا كلامه فأسمعهم قوله : إنى أنا الله لا إله إلا أنا أخرجتكم من أرض مصر بيد شديدة فاعبدونى ولا تعبدوا غيرى. ولما أعلمهم موسى بأن الله تعالى جعل توبتهم بقتلهم أنفسهم ، قالوا : لن نؤمن لك أى لن نتابعك على قولك فيما ذكرت من توبتنا بقتل بعضنا بعضا حتى نرى الله جهرة وكان هذا منهم ذنبا عظيما لتكذيبهم رسولهم فغضب الله عليهم فأنزل عليهم صاعقة فأهلكتهم فماتوا واحدا واحدا وهم ينظرون ثم أحياهم تعالى بعد يوم وليلة ، وذلك ليشكروه بعبادته وحده دون سواه كما ذكرهم بنعمة أخرى وهى اكرامه لهم وانعامه عليهم بتظليل الغمام عليهم ، وإنزال المنّ

__________________

(١) إحياؤهم بعد موتهم دليل على البعث الآخر ، إذ كان موتهم بإخراج أرواحهم ولم يكن مجرّد همود كما قيل.

(٢) وفي الحديث الذي رواه مسلم : الكمأة من المنّ الذي أنزل الله على بني اسرائيل وماؤها شفاء للعين.

٥٧

والسلوى (١) أيام حادثة التيه في صحراء سيناء وفي قوله تعالى : (وَما ظَلَمُونا) إشارة الى ان محنة التيه كانت عقوبة لهم على تركهم الجهاد وجرأتهم على نبيّهم اذ قالوا له : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ). وما ظلمهم (٢) فى محنة التيه ، ولكن كانوا هم الظالمين لأنفسهم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ عبادة المؤمن غير الله وهو يعلم أنها عبادة لغير الله تعالى تعتبر ردة منه (٣) وشركا.

٢ ـ مشروعية قتال المرتدين ، وفي الحديث : «من بدّل دينه فاقتلوه» ، ولكن بعد استتابته.

٣ ـ علة الحياة كلها شكر الله تعالى (٤) بعبادته وحده.

٤ ـ الحلال ، من المطاعم والمشارب وغيرها ، ما احله الله والحرام ما حرمه الله عزوجل.

(وَإِذْ (٥) قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً

__________________

(١) السلوى : اسم جنس جمعي واحده : سلواة ، وقيل لا واحد له ، وهو طائر بريّ لذيذ اللّحم سهل الصيد تسوقه لهم ريح الجنوب كلّ مساء ويسمى أيضا : السماني كحبارى

(٢) في قوله تعالى : (وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) تقديم المفعول وهو أنفسهم على الفاعل وهو الضمير في يظلمون لإفادة القصر ، وهو قصر ظلمهم على أنفسهم حيث لم يتجاوز إلى غيرهم لا موسى ولا ربّه تعالى.

(٣) بدليل أمر الله بني اسرائيل بأن يقتل من لم يعبد العجل من عبده لأنه في حكم المرتد ، والمرتد يقتل لحديث الصحيح : «من بدّل دينه فاقتلوه».

(٤) دلّ عليه قوله تعالى : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ) أي أحييناكم بعد موتكم لعلكم تشكرون ، وأصرح منه قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) والعبادة هي الشكر.

(٥) ذهب الشيخ محمد الطاهر بن عاشور صاحب تفسير «التحرير والتنوير» إلى أن القائل لبني اسرائيل : (ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ ..) الآية هو موسى عليه‌السلام وأنّ هذا الأمر كان في بداية أمرهم لمّا خرجوا من مصر ، وأنّ الذين ظلموا منهم هم عشرة رجال من اثنى عشر بعث بهم موسى عليه‌السلام جواسيس يكتشفون أمر العدو ويقدّرون قوته قبل إعلان الحرب عليهم فرجعوا وهم يهوّلون من شأن العدو وقوته وينشرون الفزع والرعب في بني اسرائيل ما عدا اثنين منهم وهما : يوشع بن نون قريب موسى ، وطالب بن بقتّه الذين ذكرا في سورة المائدة : (قالَ رَجُلانِ ..) الآية وخالف في هذا جمهور المفسرين وادعى الغلط لهم ، وما حمله على ذلك سوى أن السياق ما زال مع موسى وقومه مع أن الله تعالى لم يذكر موسى بل قال : (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث البخاري قال : (قيل لبني اسرائيل) ولم يقل : قال موسى لبني اسرائيل ونص الحديث : «قيل لبني اسرائيل ادخلوا الباب سجّدا قولوا حطة يغفر لكم خطاياكم فبدّلوا وقالوا : حطة حبّة في شعرة» والآمر لهم حقيقة. هو الله تعالى على لسان يوشع ، إذ هو الذي قاد الحملة ونصره الله ، ودخل بيت المقدس ، وأحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاهدة.

٥٨

غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩))

شرح الكلمات :

(الْقَرْيَةَ) (١) : مدينة القدس.

(رَغَداً) : عيشا واسعا هنيئا

(سُجَّداً) : ركّعا (٢) متطامنين لله خاضعين شكرا لله على نجاتهم من التيه.

(حِطَّةٌ) : حطّة (٣) : فعلة مثل ردة وحدة من رددت وحددت ، أمرهم أن يقولوا حطة بمعنى احطط عنا خطايانا ورفع (حطة) (٤) على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره : دخولنا الباب سجدا حطة لذنوبنا.

(نَغْفِرْ) : نمحو ونستر.

(خَطاياكُمْ) : الخطايا جمع خطيئة (٥) : الذنب يقترفه العبد.

(فَبَدَّلَ) : غيروا (٦) القول الذى قيل لهم قولوه وهو حطة فقالوا : حبّة في شعرة (٧).

(رِجْزاً) (٨) : وباء الطاعون.

(يَفْسُقُونَ) : يخرجون عن طاعة الله ورسوله إليهم ، وهو يوشع عليه‌السلام.

معنى الآيتين :

تضمنت الآية الأولى (٥٨) تذكير اليهود بحادثة عظيمة حدثت لأسلافهم تجلت فيها

__________________

(١) سميت المدينة قرية : من التقري الذي هو التجمع مأخوذ من قريت الماء في الحوض إذا جمعته ومنه قرى الضيف : وهو ما يجمع له من طعام وشراب ، وفراش.

(٢) لأنّ السجود الذي هو وضع الجبهة على الأرض متعذر المشي معه فلذا فسّر السجود بانحناء الركوع في تطامن وخضوع.

(٣) يوجد باب حطّة اليوم في المسجد الأقصى.

(٤) وقرىء حطة بالنصب على تقدير احطط عنا ذنوبنا حطّة.

(٥) المفروض أن تجمع خطيئة على خطائئى نحو حميلة وحمائل ، ولكنهم استثقلوا الجمع بين همزتين فقلبوا الهمزة الأولى ياء والثانية ألفا فصارت خطايا.

(٦) من هذا أخذ حرمة تبديل لفظ تعبّدنا الله به بلفظ آخر ولو أدّى معناه مثل : الله أكبر في افتتاح الصلاة ، والسّلام عليكم في الخروج منها. وما لم يتعبّدنا الله بلفظ يجوز للعالم تبديله وذلك كرواية الحديث بالمعنى للعالم دون الجاهل ، وعليه جمهور الأمّة.

(٧) و (في شعرة) كنّوا بهذا عن كون فتحهم البلاد ، ودخولهم إياها من المحال كالذي يحاول ربط حبّة في شعرة.

(٨) والرّجس : بالسين عذاب فيه نتن وعفونة وقذر.

٥٩

نعمة الله على بنى اسرائيل وهى حال تستوجب الشكر ، وذلك أنهم لما انتهت مدة التيه وكان قد مات كل من موسى وهارون وخلفهما في بنى اسرائيل فتى موسى يوشع بن نون وغزا بهم العمالقة وفتح الله تعالى عليهم بلاد القدس أمرهم الله تعالى أمر إكرام وإنعام فقال ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا. واشكروا لى هذا الإنعام بان تدخلوا باب المدينة راكعين متطامنين قائلين. دخولنا الباب سجدا حطة لذنوبنا التى اقترفناها بنكولنا عن الجهاد على عهد موسى وهارون. نثبكم بمغفرة ذنوبكم ونزيد المحسنين منكم ثوابا كما تضمنت الآية الثانية (٥٩) حادثة أخرى تجلت فيها حقيقة سوء طباع اليهود وكثرة رعوناتهم وذلك بتغييرهم الفعل الذى أمروا به والقول الذى قيل لهم فدخلوا الباب زاحفين على أستاههم قائلين : حبه في شعيرة!! ومن ثم انتقم الله منهم فأنزل على الظالمين منهم طاعونا أفنى منهم خلقا كثيرا جزاء فسقهم عن أمر الله عزوجل. وكان فيما ذكر عظة لليهود لو كانوا يتعظون.

هداية الآيتين :

من هداية الآيتين :

١ ـ تذكير الأبناء بأيام (١) الآباء للعظة والاعتبار.

٢ ـ ترك الجهاد إذا وجب يسبب (٢) للامة الذل والخسران.

٣ ـ التحذير من عاقبة الظلم والفسق والتمرد على أوامر الشارع.

٤ ـ حرمة (٣) تأويل النصوص الشرعية للخروج بها عن مراد الشارع منها.

٥ ـ فضيلة الاحسان (٤) فى القول والعمل.

__________________

(١) المراد بالأيام : ما وقع فيها من خير وغيره ثمرة كسبهم ونتاج أعمالهم بالطاعة لله تعالى ، أو المعصية له عزوجل.

(٢) يشهد له حديث أبي داود وأحمد إذ فيه وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء لا يرفعه حتى يراجعوا دينهم.

(٣) كتأويل الروافض لفظ بقرة بعائشة رضي الله عنها في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) وكتأويل بعض المعاصرين أن ربا البنوك ليس هو ربا الجاهلية الحرام.

(٤) المحسن : من صح عقد توحيده ، وأحسن سياسة نفسه ، وأقبل على أداء فرضه ، وكفى المسلمين شرّه. هكذا عرّفه بعضهم ، وأقرب من هذا ، المحسن : من راقب الله تعالى في نياته ، ومعتقداته ، وأقواله ، وأفعاله فأحسن في ذلك كله ولم يسيء فيه وبذل المعروف للناس ، ولم يسيء إليهم ، وحسب الإحسان فضيلة أنّ الله يحب المحسنين ، ومن أحبه الله أسعده وما أشقاه.

٦٠