أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ١

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ١

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٤

فى سبيلنا (لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) (١) حتما ، وثم يتم لكم جزاؤنا على استشهادكم وموتكم في سبيلنا ، ولنعم ما تجزون به في جوارنا الكريم.

هداية الآيات :

١ ـ حرمة التشبه بالكفار ظاهرا وباطنا.

٢ ـ الندم يولد الحسرات والحسرة غم وكرب عظيمان ، والمؤمن يدفع ذلك بذكره القضاء والقدر فلا يأسى على ما فاته ولا يفرح بما آتاه من حطام الدنيا.

٣ ـ موتة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها.

(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠))

شرح الآيتين :

(لِنْتَ لَهُمْ) : كنت رفيقا بهم تعاملهم بالرفق واللطف.

(فَظًّا) : خشنا في معاملتك شرسا في اخلاقك وحاشاه (٢) صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(لَانْفَضُّوا) : تفرقوا وذهبوا تاركينك وشأنك.

(فَاعْفُ عَنْهُمْ) : يريد إن زلوا أو أساءوا.

(وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) : اطلب مشورتهم في الأمر ذى الأهمية كمسائل الحرب والسلم.

__________________

(١) فيه وعظ وعظهم الله به حيث أعلمهم أنهم سواء ماتوا حتف أنوفهم أو قتلوا فإنّ رجوعهم إلى الله وسيجزيهم على قتالهم وموتهم في سبيل الله.

(٢) ومن صفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التوراة كما في رواية البخاري أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس بفظ ولا غليظ ولاصخاب في الأسواق ، والغليظ القلب :

من قلت شفقته وعزت رحمته كما قال الشاعر :

يبكى علينا ولا نبكي على أحد

لنحن أغلظ أكبادا من الإبل

٤٠١

معنى الآيتين :

ما زال السياق في الآداب والنتائج المترتبة على غزوة أحد ففي هذه الآية (١٥٩) يخبر تعالى عما وهب رسوله من الكمال الخلقى الذى هو قوام الأمر فيقول : (فَبِما (١) رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ) أي فبرحمة (١) من عندنا رحمناهم بها لنت (٢) لهم ، (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا) أي قاسيا جافا جافيا قاسى القلب غليظه (لَانْفَضُّوا مِنْ (٣) حَوْلِكَ) أي تفرقوا عنك ، وحرموا بذلك سعادة الدارين. وبناء على هذا فاعف (٤) عن مسيئهم ، واستغفر لمذنبهم ، وشاور ذوى الرأى منهم ، وإذا بدا لك رأي راجح المصلحة فاعزم على تنفيذه متوكلا على ربك فإنه يحب المتوكلين ، والتوكل الإقدام على فعل ما أمر الله تعالى به أو أذن فيه بعد إحضار الأسباب الضرورية له. وعدم التفكير فيما يترتب عليه بل يفوض أمر النتائج إليه تعالى.

هذا ما تضمنته الآية الأولى اما الآية الثانية (١٦٠) فقد تضمنت حقيقة كبرى يجب العلم بها والعمل دائما بمقتضاها وهى أن النصر بيد الله ، والخذلان كذلك فلا يطلب نصر إلا منه تعالى ، ولا يرهب خذلان الا منه عزوجل ، وطلب نصره هو إنفاذ أمره بعد إعداد الأسباب اللازمة له ، وتحاشي خذلانه تعالى يكون بطاعته والتوكل عليه هذا ما دل عليه قوله تعالى في هذه الآية (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ ، وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ ، وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ كمال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخلقى.

٢ ـ فضل الصحابة رضوان الله عليهم وكرامتهم على ربهم سبحانه وتعالى.

٣ ـ تقرير مبدأ المشورة (٥) بين الحاكم وأهل الحل والعقد في الأمة.

__________________

(١) الميم صلة أى مزيدة لتوكيد الكلام وتقويته نحو قوله تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) وقوله : (عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ) وجند ما هنالك

(٢) وذلك لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يعنف الذين تولوا يوم أحد بل رفق بهم ، فأخبر تعالى أنّ ذلك كان بتوفيق منه عزوجل لرسوله.

(٣) قيل يمنعهم الحياء والاحتشام والهيبة من القرب منك بعد ما كان من توليهم وهذا شأن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٤) هذا الترتيب مقصود فأوّلا يعفو عنهم لما كان بينه وبينهم ، وثانيا : يستغفر الله لهم لما كان بينهم وبين ربهم من تبعات ، وبعد هذا الإعداد يصبحون أهلا للمشروة فيشاورهم.

(٥) الاستشارة مأخوذة من شرت الدابة إذا علمت خبرها كجري ونحوه ، ويقال للموضع الذي تركض فيه المشوار. قال ابن عطية : والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام ، من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب. وقد قيل : ما ندم من استشار. ومن أعجب برأيه ضلّ ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما ندم من استشار ولا خاب من استخار ولا عال من اقتصد».

٤٠٢

٤ ـ فضل العزيمة (١) الصادقة مقرونة بالتوكل على الله تعالى.

٥ ـ طلب النصر من غير الله خذلان ، والمنصور من نصره الله ، والمخذول من خذله الله عزوجل.

(وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣) لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤))

شرح الكلمات :

(أَنْ يَغُلَ) : أي يأخد من الغنيمة خفية ، إذ الغلّ والغلول بمعنى السرقة من الغنائم قبل قسمتها.

(تُوَفَّى) : تجزى ما كسبته في الدنيا وافيا تاما يوم القيامة.

(رِضْوانَ اللهِ) : المراد به ما يوجب رضوانه من الإيمان والصدق والجهاد.

وسخط الله : غضبه الشديد على الفاسقين عن أمره المؤذين لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) من الحزم المشورة ، والحزم : جودة النظر في الأمر وتنقيحه ، والحذر من الخطأ فيه والعزم : قصد الإمضاء فيما حزم فيه ، ومن مظاهر الحزم والعزم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه استشار أصحابه في الخروج إلى قتال المشركين خارج المدينة أو البقاء فيها والقتال داخلها ورأى عدم الخروج أصلح ورأى أكثر الأصحاب الخروج فوافقهم فدخل بيته فلبس آلات حربه وخرج فلما رأو كذلك تراجعوا واعتذروا ، ولكنه أبى أن يتراجع فتجلّى حزمه وعزمه ، وقال : «لا ينبغي لنبي لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه».

٤٠٣

(مَنَ) : أنعم وتفضل.

(رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) : هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(يُزَكِّيهِمْ) : بما يرشدهم إليه من الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة والآداب العالية.

(الْحِكْمَةَ) : كل قول صالح نافع أبدا ومنه السنة النبوية.

معنى الآيات :

الغل والغلول (١) والاغلال بمعنى واحد وهو أخذ المرء شيئا من الغنائم قبل قسمتها وما دام السياق في غزوة أحد فالمناسبة قائمة بين الآيات السابقة وهذه ، ففي الآية الأولى (١٦١) ينفى تعالى أن يكون من شأن الأنبياء أو مما يتأتى صدوره عنهم الإغلال وضمن تلك أن أتباع الأنبياء يحرم عليهم أن يغلوا ، ولذا قرىء في السبع أن يغل بضم (٢) الياء وفتح الغين أي يفعله اتباعه بأخذهم من الغنائم بدون إذنه. هذا معنى قوله تعالى : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) ثم ذكر تعالى جزاء وعقوبة من يفعل وقال : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) فأخبرهم تعالى أن من أغل شيئا يأت به يوم القيامة يحمله حتى البقرة والشاة كما يبين ذلك في الحديث (٣) ، ثم يحاسب عليه كغيره ويجزى به ، كما تجزى كل نفس بما كسبت من خير أو شر ولا تظلم نفس شيئا لغنى الرب تعالى عن الظلم وعدله. هذا مضمون الآية الأولى أما الثانية (١٦٢) ينفي تعالى أن تكون حال المتبع لرضوان الله تعالى بالإيمان به ورسوله وطاعتهما بفعل الأمر واجتناب النهى ، كحال المتبع لسخط الله تعالى بتكذيبه تعالى وتكذيب رسوله ومعصيتهما بترك الواجبات وفعل المحرمات فكانت جهنم مأواه ، وبئس المصير جهنم. هذا معنى قوله تعالى (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ ، كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) ثم ذكر تعالى أن كلا من

__________________

(١) سمي الغلول غلولا : لأنّ الأيدي فيها مغلولة أي ممنوعة كأنّ فيها غلا وهو الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى عنقه.

(٢) فتح الياء قراءة حفص وهي ردّ على من تصور أنّ النبي في إمكانه أن يأخذ شيئا من الغنيمة قبل قسمتها فأخبر تعالى أنّه من غير الممكن أن يغل النبي لعصمة الله تعالى لأنبيائه ، وقراءة الضمّ قراءة نافع وهي تحرّم على أتباع النبي الغلول بصيغة بليغة إذ تجعل غلولهم من قبيل المتعذّر الذي لا يحدث.

(٣) في صحيح مسلم أنّ أبا هريرة قال : قام فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم فذكر الغلول فعظمه ، وعظم أمره ثم قال : «لا ألفيّن أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول الله أعنى فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك .. ثم ذكر الفرس والشاة والنفس والرقاع» الرّقاع : جمع رقعة ، وهي ما يكتب عليها.

٤٠٤

أهل الرضوان ، وأصحاب السخط متفاوتون في درجاتهم (١) عند الله ، بحسب أثر أعمالهم في نفوسهم قوة وضعفا فقال : (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) ، فدل ذلك على عدالة العليم الحكيم. هذا ما دلت عليه الآية (١٦٣) أما الآية الأخيرة (١٦٤) فقد تضمنت امتنان الله تعالى على المؤمنين من العرب ببعثه رسوله فيهم ، يتلو عليهم آيات الله فيؤمنون ويكملون في إيمانهم ويزكيهم من أوضار الشرك وظلمة الكفر بما يهديهم به ، ويدعوهم إليه من الإيمان وصالح الأعمال وفاضل الأخلاق وسامى الآداب ، ويعلمهم الكتاب المتضمن للشرائع والهدايات والحكمة التى هى فهم أسرار الكتاب ، والسنة ، وتتجلى هذه النعمة أكثر لمن يذكر حال العرب في جاهليتهم قبل هذه النعمة العظيمة عليهم هذا معنى قوله تعالى في الآية الأخيرة : (لَقَدْ مَنَ (٢) اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (٣) (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تحريم (٤) الغلول وأنه من كبائر الذنوب (٥).

٢ ـ طلب رضوان الله واجب ، وتجنب سخطه واجب كذلك ، والأول يكون بالإيمان وصالح الأعمال والثاني يكون بترك الشرك والمعاصي.

٣ ـ الاسلام أكبر نعمة وأجلها على المسلمين فيجب شكرها بالعمل به والتقيد بشرائعه وأحكامه.

٤ ـ فضل العلم بالكتاب والسنة.

__________________

(١) المشهور أنّ أهل النار في دركات متفاوتة كما أنّ أهل الجنة في درجات متفاوتة فالدرجة ما أريد بها الارتفاع والدركة ما أريد بها السفول والهبوط.

(٢) من هنا بمعنى أسدى النعمة للمؤمنين ببعثة الرسول فيهم وليس هو من المنّ المذموم الذي هو تعداد النعمة إلّا أن الله تعالى له أن يمنّ وهو أمنّ من كل من منّ وأعطى.

(٣) قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها هذه للعرب خاصة : إذ فهمت من كلمة (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أنها تعني من جنسهم العربي ، وبعضهم يرى العموم فيها لكل مؤمن ومؤمنة ، وهو كذلك إذ هو بشر مثلهم.

(٤) شاهده قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الذي غلّ الشملة يوم خيبر : «والذي نفسي بيده إنّ الشملة التي أخذ يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا» ولمّا سمع هذا الوعيد أحد الأصحاب جاء بشراك أو شراكين إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «شراك أو شراكين من نار» رواه مالك في الموطأ.

(٥) الإجماع على أنّ الغال لا تقطع يده ولكن يعزر ، والغلول لا يكون إلّا في الغنائم وسمى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هدايا العمال غلولا ويفضحون بها يوم القيامة لحديث مسلم في قصة ابن اللتبية.

٤٠٥

(أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨))

شرح الكلمات :

المصيبة : إحدى المصائب : ما يصيب الإنسان من سوء وأسوأها مصيبة الموت.

(مِثْلَيْها) : ضعفيها اذ قتلوا في بدر سبعين من المشركين وأسروا (١) سبعين.

(أَنَّى هذا؟) : أي من أين أتانا هذا الذي أتانا من القتل والهزيمة.

(فَبِإِذْنِ اللهِ) : أي بإرادته تعالى وتقديره بربط المسببات بأسبابها.

(نافَقُوا) : أظهروا من الإيمان ما لا يبطنون من الكفر.

(أَوِ ادْفَعُوا) : أي ادفعوا العدو عن دياركم وأهليكم وأولادكم ، ان لم تريدوا ثواب الآخرة.

ادرأوا : أي إدفعوا.

(إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) : في دفع المكروه بالحذر.

__________________

(١) اعتبر الأسير قتيلا لأن الآسر له يملك قتله متى شاء ، فلذا قال تعالى : (قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها).

٤٠٦

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في أحداث غزوة أحد ففي الآية الأولى : ينكر الله تعالى على المؤمنين قولهم بعد أن أصابتهم مصيبة القتل والجراحات والهزيمة : (أَنَّى (١) هذا) أي من أي وجه جاءت هذه المصيبة ونحن مسلمون ونقاتل في سبيل الله ومع رسوله؟ فقال تعالى : (أَوَلَمَّا (٢) أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) بأحد قد أصبتم مثليها ببدر لأن ما قتل من المؤمنين بأحد كان سبعين ، وما قتل من المشركين ببدر كان سبعين قتيلا وسبعين أسيرا ، وأمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجيبهم : قل هو من عند أنفسكم ، وذلك بمعصيتكم لرسول الله حيث خالف الرماة أمره ، وبعدم صبركم إذ فررتم من المعركة تاركين القتال. وقوله (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) إشعار بأن الله تعالى أصابهم بما أصابهم به عقوبة لهم حيث لم يطيعوا رسوله ولم يصبروا على قتال أعدائه. هذا ما تضمنته الآية الأولى (١٦٥) أما الآيات الثلاث بعدها فقوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) يخبر تعالى المؤمنين أن ما أصابهم يوم أحد عند التقاء جمع المؤمنين وجمع المشركين في ساحة المعركة كان بقضاء الله وتدبيره ، وعلته إظهار المؤمنين على صورتهم الباطنية الحقة وانهم صادقون في إيمانهم ، ولذا قال تعالى وليعلم المؤمنين علم انكشاف وظهور كما هو معلوم له في الغيب وباطن الأمور هذا أولا وثانيا ليعلم الذين نافقوا فأظهروا الإيمان والولاء لله ولرسوله والمؤمنين ثم أبطنوا الكفر والعداء لله ورسوله والمؤمنين فقال عنهم في الآيتين الثالثة (١٦٧) والرابعة (١٦٨) (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا) وهم عبد الله بن ابى بن سلول رئيس المنافقين وعصابته الذين رجعوا من الطريق قبل الوصول إلى ساحة المعركة ، وقد قال لهم عبد الله بن حرام والد جابر تعالوا قاتلوا في سبيل الله رجاء ثواب الآخرة ، وان لم تريدوا ثواب الآخرة فادفعوا عن أنفسكم واهليكم معرة جيش غاز يريد قتلكم إذ وقوفكم معنا يكثر سوادنا ويدفع عنا خطر العدو الداهم فأجابوا قائلين : لو نعلم قتالا سيتم لاتبعانكم ، فأخبر تعالى عنهم بأنهم في هذه الحال (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) إذ يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) حتى من أنفسهم يعلم أنهم يكتمون عداوة الله ورسوله والمؤمنين وارادة السوء بالمؤمنين ، وأن قلوبهم

__________________

(١) أنّى هذا : جملة أسمية فأنّى بمعنى أين وهو الخبر مقدم ، وهذا مبتدأ مؤخر.

(٢) الاستفهام هنا للإنكار والتعجب لأنّ قولهم (أَنَّى هذا) مما ينكر ويتعجب منه وذلك أن سبب المصيبة غير خاف ولا غامض فهو ظاهر مكشوف ، وهو عصيانهم للقيادة بمخالفة أمرها ، ولما : اسم زمان مضمن معنى الشرط وقلتم : هو الجزاء.

٤٠٧

مع الكافرين الغازين.

ثم أخبر تعالى عنهم أنهم قعدوا عن الجهاد في أحد وقالوا لإخوانهم في النفاق ـ وهم في مجالسهم الخاصة ـ : ـ لو أنهم قعدوا فلم يخرجوا كما لم نخرج نحن ما قتلوا. فأمر الله تعالى رسوله أن يرد عليهم قائلا : (فَادْرَؤُا) أي ادفعوا (١) عن أنفسكم الموت إذا حضر أجلكم إن كنتم صادقين في دعواكم أنهم لو قعدوا ما قتلوا.

من هداية الآيات :

١ ـ المصائب (٢) ثمرة الذنوب.

٢ ـ كل الأحداث التي تتم في العالم سبق بها علم الله ، ولا تحدث إلا بإذنه.

٣ ـ قد يقول المرء قولا أو يظن ظنا يصبح به على حافة هاوية الكفر.

٤ ـ الحذر لا يدفع (٣) القدر.

(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١))

شرح الكلمات :

(وَلا تَحْسَبَنَ) : ولا تظنن.

(قُتِلُوا) : استشهدوا.

(أَحْياءٌ) : يحسون ويتنعمون في نعيم الجنة بالطعام والشراب.

__________________

(١) هذا رد على ابن أبيّ كبير المنافقين وسيدهم الذي قال : لو أطاعونا ما قتلوا.

(٢) قال تعالى من سورة الشورى (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) أي من الذنوب والمعاصي.

(٣) ومع أنّه لا يدفع القدر فإنّ استعماله واجب لقوله تعالى (خُذُوا حِذْرَكُمْ).

٤٠٨

(فَرِحِينَ) : مسرورين.

(أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) : لما وجدوا من الأمن التام عند ربهم.

(وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) : على ما خلفوا وراءهم في الدنيا لما نالهم من كرامة في الجنة.

(يَسْتَبْشِرُونَ) : يفرحون

(وَفَضْلٍ) : وزيادة.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث عن غزوة أحد فقال تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلا تَحْسَبَنَ) (١) أي لا تظنن الذين استشهدوا من المؤمنين في أحد وغيرها أمواتا لا يحسون ولا يتنعمون بطيب الرزق ولذيذ العيش بل هم أحياء عند ربهم يرزقون أرواحهم في حواصل طير خضر يأكلون من ثمار الجنة ويأوون إلى قناديل معلقة بالعرش. إنهم فرحون بما أكرمهم (٢) الله تعالى به ، ويستبشرون بإخوانهم المؤمنين الذين خلفوهم في الدنيا على الإيمان والجهاد بأنهم إذا لحقوا بهم لم يخافوا ولم يحزنوا لأجل ما يصيرون إليه من نعيم الجنة وكرامة الله تعالى لهم فيها. إن الشهداء جميعا مستبشرون فرحون بما ينعم (٣) الله عليهم ويزيدهم وبأنه تعالى لا يضيع أجر المؤمنين شهداء وغير شهداء بل يوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ الشهداء أحياء والمؤمنون أحياء في الجنة غير أن حياة الشهداء أكمل.

٢ ـ الشهداء (٤) يستبشرون بالمؤمنين الذين خلفوهم على الإيمان والجهاد بأنهم اذا لحقوا بهم نالهم من الكرامة والنعيم ما نالهم هم قبلهم.

__________________

(١) روى أبو داود بسند صحيح عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقامهم قالوا : من يبلغ إخواننا عنا أنّا أحياء في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عند الحرب فقال الله سبحانه : أنا ابلغهم عنكم فأنزل الله (وَلا تَحْسَبَنَ) الآية».

(٢) مما ورد في فضل الشهيد أنّ الله تعالى يغفر له كل ذنب أذنبه إلّا الدين لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «القتيل في سبيل الله يكفر كل شيء إلّا الدين كذلك قال لي جبريل عليه‌السلام آنفا». قال العلماء : الدين يشمل كل الحقوق المتعلقة بالذمة.

(٣) روى الترمذي وصححه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «للشهيد عند الله ست خصال : يغفر له في دفعة ويرى مقعده من الجنة ويجار من عذاب القبر ، ويأمن من الفزع الأكبر ، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها ، ويزوج اثنتين وسبعين زوجه من الحور العين ويشفع في سبعين من أقاربه».

(٤) الإجماع على أن شهيد المعركة بين الكفار والمسلمين أنه لا يغسل ولا يصلى عليه لحديث البخاري. «وادفنوهم بدمائهم» يعني شهداء أحد ولم يغسلهم والعلة في عدم غسلهم أن دماءهم تأتي يوم القيامة كريح المسك.

٤٠٩

٣ ـ لا خوف ينال المؤمن الصالح إذا مات ولا حزن يصيبه.

(الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥))

شرح الكلمات :

(اسْتَجابُوا) (١) : اجابوا الدعوة وقبلوا الأمر.

(الْقَرْحُ) (٢) : ألم الجراحات.

(أَحْسَنُوا) : أعمالهم واقوالهم أتوا بها وفق الشرع واحسنوا الى غيرهم.

(اتَّقَوْا) : ربهم فلم يشركوا به ولم يعصوه فيما أمرهم به أو نهاهم عنه.

(جَمَعُوا لَكُمْ) : جمعوا الجيوش لقتالكم.

(حَسْبُنَا اللهُ) : يكفينا الله ما أرادونا به من الأذى.

(وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) : نعم الوكيل الله نوكل إليه أمورنا ونفوضها اليه.

(فَانْقَلَبُوا) : رجعوا من حمراء الأسد الى المدينة.

اولياء الشيطان : أهل طاعته والاستجابة اليه فيما يدعوهم إليه من الشر والفساد.

__________________

(١) قيل إن هذه الآية : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا ..) الخ نزلت في رجلين من بني الأشهل كانا مثخنين بالجراح وخرجا إلى حمراء الأسد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتوكأ أحدهما على صاحبه.

(٢) أخرج أصحاب الصحاح عن عروة بن الزبير أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت له كان أبواك من الذين استجابوا لله وللرسول من بعد ما أصابهم القرح ، وتعني بأبويه الزبير ، وأبا بكر الصديق رضي الله عنهما.

٤١٠

معنى الآيات :

ما زال السياق في أحداث غزوة أحد وما لابسها من أمور وأحوال والآيات الأربع كلها في المؤمنين الذين حضروا غزوة أحد يوم السبت وخرجوا في طلب أبى سفيان يوم الأحد وعلى رأسهم نبيهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى أن يرفع معنويات أصحابه الذين كلموا وهزموا يوم السبت بأحد ، وأن يرهب أعداءه فأمر مؤذنا يؤذن بالخروج في طلب أبى سفيان وجيشه ، فاستجاب المؤمنون وخرجوا وإن منهم للمكلوم المجروح ، وإن أخوين جريجين كان أحدهما يحمل أخاه على ظهره فاذا تعب وضعه فمشى قليلا ، ثم حمله حتى انتهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه إلى حمراء الأسد ، وألقى الله تعالى الرعب في قلب أبى سفيان فارتحل هاربا الى مكة ، وقد حدث هنا أن معبدا الخزاعى (١) مر بمعسكر أبي سفيان فسأله عن الرسول فأخبره أنه خرج في طلبكم وخرج معه جيش كبير وكلهم تغيظ عليكم ، أنصح لك أن ترحل فهرب برجاله خوفا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، فأقام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحمراء الأسد برجاله كذا ليلة ثم عادوا لم يمسسهم سوء وفيهم نزلت هذه الآيات الأربع وهذا نصها :

الآية (١٧٢) (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) يريد في أحد واستجابوا : لبوا نداء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخرجوا معه في ملاحقة أبى سفيان ، (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) ولكل من أحسن واتقى أجر عظيم ، ألا وهو الجنة الآية الثانية (١٧٣) (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ (٢) إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ). المراد من الناس القائلين هم نفر من عبد القيس مروا بأبي سفيان وهو عازم على العودة الى المدينة لتصفية المؤمنين بها في نظره فقال له أبو سفيان أخبر محمدا وأصحابه أنى ندمت على تركهم أحياء بعدما انتصرت عليهم وإنى جامع جيوشي وقادم عليهم ، والمراد من الناس الذين جمعوا هم أبو سفيان فلما بلغ هذا الخبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه زادهم (٣) إيمانا فوق إيمانهم بنصر الله تعالى وولايته لهم ، وقالوا : حسبنا الله أي يكفينا الله شرهم ، ونعم الوكيل الذى يكفينا ما أهمنا

__________________

(١) لأنّ خزاعة كانت حلفاء لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعيبة نصحه أي موضع سرّه.

(٢) روى البخاري عن ابن عباس أنّه قال في قوله تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) إلى (وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) قالها إبراهيم الخليل عليه‌السلام حين ألقي في النار وقالها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم.

(٣) الذي زادهم إيمانا هو قول الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم ، وهل الإيمان يزيد وينقص؟ الخلاف قديم في هذه القضية. والقول الذي تشهد له نصوص الكتاب والسنة هو أنّ الإيمان يقوى ويضعف فإذا قوي زاد عمل المؤمن في الطاعات بفعل الحسنات وترك السيئات وإذا ضعف قلّ عمله الصالح وزاد عمله الصالح فيستدل على الإيمان قوة وضعفا بمتعلّقه وهو الطاعة والمعصية.

٤١١

ونفوض أمرنا إلى الله. الآية الثالثة (١٧٤) (فَانْقَلَبُوا) أي رجعوا من حمراء الأسد لأن أبا سفيان القى الله الرّعب في قلبه فانهزم وهرب ، رجعوا مع نبيهم سالمين في نعمة الإيمان والاسلام والنصر ، (وَفَضْلٍ) حيث أصابوا تجارة في طريق عودتهم (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) أى أذى ، (وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ) بالاستجابة لما دعاهم الله ورسوله وهو الخروج في سبيل الله لملاحقة أبي سفيان وجيشه. وقوله تعالى : (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) وما أفاضه على رسوله كاف في التدليل عليه الآية الرابعة (١٧٥) (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) (١) (فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، وذلك أن وفد عبد القيس آجره أبو سفيان بكذا حمل من زبيب إن هو خوف المؤمنين منه فبعثه كأنه (طابور) يخذل له المؤمنين إلا أن المؤمنين عرفوا أنها مكيدة وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ، فنزلت الآية : (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ) الناطق على لسان النفر من عبد القيس يخوف المؤمنين من أوليائه أبى سفيان وجمعه ، فلا تخافوهم فنهاههم عن الخوف منهم وأمرهم أن يخافوه (٢) تعالى فلا يجبنوا ويخرجوا الى قتال أبى سفيان وكذلك فعلوا لأنهم المؤمنون بحق رضى الله عنهم أجمعين.

هداية الآيات

من هداية الآيات

١ ـ فضل الإحسان والتقوى وأنهما مفتاح كل خير.

٢ ـ فضل أصحاب رسول الله على غيرهم ، وكرامتهم على ربهم.

٣ ـ فضل كلمة «حسبنا الله ونعم الوكيل» (٣) قالها رسول الله وقالها ابراهيم من قبل فصلّى الله عليهما وسلم.

٤ ـ بيان أن الشيطان يخوف (٤) المؤمنين من أوليائه ، فعلى المؤمنين أن لا يخافوا غير ربهم تعالى فى الحياة ، فيطيعونه ويعبدونه ويتوكلون عليه ، وهو حسبهم ونعم الوكيل لهم.

__________________

(١) معنى يخوف أولياءه أنه يخوف المؤمنين بأوليائه وهم المشركون وذلك على لسان نعيم بن مسعود الذي آجره أبو سفيان ليخوف المؤمنين بعزم أبي سفيان على الكرّة عليهم لاستئصالهم وإبادتهم.

(٢) الخوف من الله تعالى أمر الله به وهو واجب على كل مؤمن وحقيقته : أن يترك العبد ما يخاف أن يعذب عليه وقيل ليس الخائف الذي يبكي ويمسح عينيه وإنما من يترك ما يخاف أن يعذّب به.

(٣) الوكيل : فعيل بمعنى مفعول أي : الموكول إليه الأمر.

(٤) الشيطان يكون من الجنّ ومن الإنس فإن كان من الجنّ فتخويفه يكون بواسطة الوساوس ، وإن كان من شياطين الإنس فتخويفه يكون بالكلام الشفوي الذي ظاهره النصح وباطنه الخداع والغشّ.

٤١٢

(وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨))

شرح الكلمات :

الحزن : غمّ يصيب النفس لرؤية أو سماع ما يسوءه ويكرهه

(الْكُفْرِ) : الكفر تكذيب الله تعالى ورسوله فيما جاء به الرسول وأخبر به.

(يُسارِعُونَ) : يبادرون.

(حَظًّا) : نصيبا.

(اشْتَرَوُا الْكُفْرَ) : اعتاضوا الكفر عن الايمان.

(نُمْلِي لَهُمْ) : الإملاء : الإمهال والارخاء بعدم البطش بهم وترك الضرب على أيديهم بكفرهم.

(إِثْماً) : الإثم : كل ضار قبيح ورأسه : الكفر والشرك.

معنى الآيات :

ما زال السياق في أحداث غزوة أحد ففي هذه الآيات الثلاث ـ وقد كشفت الأحداث عن أمور خطيرة حيث ظهر النفاق مكشوفا لا ستار عليه ، وحصل من ذلك ألم شديد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ـ يخاطب الله تعالى رسوله قائلا له : لا يحزنك (١) مسارعة هؤلاء المنافقين (٢) فى

__________________

(١) قرأ نافع يحزنك بضم الياء وكسر الراء من أحزن يحزن في كل القرآن ، إلّا قوله تعالى : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) وقرأ الجمهور يحزنك بفتح الياء وضم الزاي.

(٢) قيل في هؤلاء المسارعين في الكفر إنهم المنافقون وقيل هم كفار قريش وقيل هم اليهود ، واللفظ يشمل كل ذلك إذ الفئات الثلاث كلها كانت تسارع في الكفر بنصرته والعمل فيه وبه

٤١٣

الكفر ، وقال في الكفر ولم يقل الى الكفر إشارة إلى أنهم ما خرجوا منه لأن اسلامهم كان نفاقا فقط ، (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) ، والله يريد أن لا يجعل لهم نصيبا من نعيم الآخرة فلذا تركهم في كفرهم كلما خرجوا منه عادوا إليه ، وحكم عليهم بالعذاب العظيم فقال : (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ). هذا ما تضمنته الآية الأولى (١٧٦). أما الآية الثانية (١٧٧) فقد تضمنت حكم الله تعالى على الذين يرتدون بعد إيمانهم فيبيعون الإيمان بالكفر ، ويشترون الضلالة بالهدى حكم عليهم بأنهم لن يضروا (١) الله شيئا من الضرر ، ولهم عذاب أليم فقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) (٢) (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) والعذاب الأليم هو عذاب النار إذ لا آلم ولا أشد إيجاعا منه.

وأما الآية الثالثة (١٧٨) فقد تضمنت بطلان حسبان الكافرين أن الله تعالى عند ما يمهلهم ويمدّ في أعمارهم ولم يعاجلهم بالعذاب أن ذلك خير لهم ، لا ، بل هو شر لهم ، إذ كلما تأخروا يوما اكتسبوا فيه إثما فبقدر ما تطول حياتهم يعظم ذنبهم وتكثر آثامهم ، وحينئذ يوبقون ويهلكون هلاكا لا نظير له قال تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَ) (٣) (الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ ، إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي ذو إهانة ، لأنهم كانوا ذوى كبر وعلو في الأرض وفساد ، فلذا ناسب أن يكون في عذابهم اهانات لهم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ لا ينبغى للمؤمن أن يحزنه كفر كافر ولا فسق فاسق ، لأن ذلك لا يضر الله تعالى شيئا ، وسيجزى الله الكافر والفاسق بعدله.

٢ ـ لا ينبغى للعبد أن يغره إمهال الله له ، وعليه أن يبادر بالتوبة من كل ذنب إذ ليس هناك إهمال وإنما هو إمهال.

٣ ـ الموت للعبد (٤) خير من الحياة ، لأنه إذا كان صالحا فالآخرة خير له من الدنيا وإن كان غير

__________________

(١) (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) من الضرر لا في ذاته ولا في دينه ولا في ملكه وسلطانه ولا رسوله ، وفي الحديث القدسي الذي رواه مسلم : «يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضرونى ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني».

(٢) كرّر لفظ (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) لأجل التأكيد والتقرير حتى ييأس المنافقون والكافرون من إلحاق أي ضرر برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبدعوته وشيئا : منصوب على المصدرية أي : لن يضروا الله ضررا قليلا ولا كثيرا.

(٣) فسر الإملاء بطول العمر ورغد العيش ، وهو كذلك مع إضافة عدم معاجلتهم بالعقوبة انظارا لهم لا إهمالا.

(٤) شاهده قول ابن مسعود رضي الله عنه ما من أحد برّ ولا فاجر إلّا والموت خير له لأنّه إن كان برّا فقد قال الله تعالى : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) وإن كان فاجرا فقد قال تعالى : (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) وروي مثله عن ابن عباس أخرجه رزين.

٤١٤

ذلك حتى لا يزداد اثما فيوبق بكثرة ذنوبه.

(ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠))

شرح الكلمات :

(لِيَذَرَ) : ليترك.

(يَمِيزَ) : يميزّ ويبيّن.

(الْخَبِيثَ) : من خبثت نفسه بالشرك والمعاصى.

(الطَّيِّبِ) : من طهرت نفسه بالإيمان والعمل الصالح.

(الْغَيْبِ) : ما غاب فلم يدرك بالحواس.

(يَجْتَبِي) : يختار ويصطفي.

(يَبْخَلُونَ) (١) : يمنعون ويضنون.

يطوقون به : يجعل طوقا في عنق أحدهم.

معنى الآيتين :

ما زال السياق في أحداث وقعة أحد ، وما لازمها من ظروف وأحوال فاخبر تعالى في هذه الآية (١٧٩) انه ليس من شأنه تعالى أن يترك المؤمنين على ما هم عليه فيهم المؤمن الصادق

__________________

(١) البخل بضم الباء واسكان الخاء ، والبخل بفتح الباء والخاء معا هو أن يمنع الإنسان الحق الواجب عليه من زكاة أو ضيافة أو إطعام جائع ، وستر عار ولم يوجد من يقوم به سواه ومالا فلا يقال فيه بخيل شرعا.

٤١٥

في إيمانه ، والكاذب فيه وهو المنافق. بل لا بد من الابتلاء بالتكاليف الشاقة منها كالجهاد والهجرة والصلاة والزكاة ، وغير الشاقة من سائر العبادات حتى يميز المؤمن الصادق وهو الطيب الروح ، من المؤمن الكاذب وهو المنافق الخبيث الروح ، قال تعالى (ما (١) كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) وذلك أن الله لم يكن من سنته في خلقه أن يطلعهم على الغيب فيميز المؤمن من المنافق ، والبار من الفاجر ، وانما يبتلى بالتكاليف ويظهر بها المؤمن من الكافر والصالح من الفاسد. إلا أنه تعالى قد يجتبي من رسله من يشاء فيطلعه على الغيب ، ويظهره على مواطن الأمور وبناء على (٢) هذا فآمنوا بالله ورسوله حق الإيمان ، فإنكم إن آمنتم صادق الإيمان واتقيتم معاصي الرحمان كان لكم بذلك أعظم الأجور وهو الجنة دار الحبور والسرور هذا ما دلت عليه الآية (١٧٩) أما الآية الثانية (١٨٠) فإن الله تعالى يخبر عن خطا البخلاء الذين يملكون المال ويبخلون به فيقول : ولا يحسبنّ أي ولا يظنن الذين يبخلون بما آتاهم الله من المال الذي تفضل الله به عليهم أن بخلهم به خير لأنفسهم كما يظنون بل هو أى البخل شرّ لهم ، وذلك لسببين الأول ما يلحقهم في الدنيا من معرة البخل وآثاره السئية على النفس ، والثانى أن الله تعالى سيعذبهم به بحيث يجعله طوقا من نار في أعناقهم ، أو بصورة ثعبان فيطوقهم (٣) ، ويقول لصاحبه : «أنا مالك أنا كنزك» كما جاء في الحديث. فعلى من يظن هذا الظن الباطل ان يعدل عنه ، ويعلم أن الخير في الإنفاق لا فى البخل. وأن ما يبخل به هو مال الله ، وسيرثه ، ولم يجن البخلاء إلا المعرة في الدنيا والعذاب في الآخرة. قال تعالى : (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) ، فاتقوه فيما آتاكم فآتوا زكاته وتطوعوا بالفضل فإن ذلك خير لكم. والله يعلم وأنتم لا تعلمون.

__________________

(١) روي أن الآية نزلت إجابة لمن طالبوا بعلامة يفرقون بها بين المؤمن والمنافق ، فأجابهم الله تعالى بأنه ليس من شأنه أن يترك المؤمنين على ما هم عليه في اختلاطهم مع المنافقين حتى ينزل من الشرائع والتكاليف ما يميز بفعله وتركه المؤمن من المنافق.

(٢) إذ العبرة ليست بمعرفة الغيب وإنما العبرة بالنجاة من النار والفوز بالجنة وعليه فأعرضوا عن المطالبة بمعرفة الغيب وأقبلوا على ما يحقق لكم نجاتكم وسعادتكم.

(٣) روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة يأخذ بلهزمتيه ـ يعني شدقيه ـ ثم يقول : أنا مالك ، أنا كنزك ثم تلا هذه الآية : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ...) الآية

٤١٦

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ من حكم التكليف اظهار المؤمن الصادق من المؤمن الكاذب.

٢ ـ استئثار الرب تعالى بعلم الغيب دون خلقه الا ما يطلع عليه رسله لحكمة اقتضت ذلك.

٣ ـ ثمن الجنة الإيمان والتقوى.

٤ ـ البخل بالمال شر لصاحبه ، وليس بخير له كما يظن البخلاء.

٥ ـ من أوتي مالا ومنع حق الله فيه عذب به يوم القيامة دلت على ذلك هذه الآية وآية (١) التوبة وحديث البخارى : «من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة فيأخذ بلهزمتيه ـ أى شدقيه ـ يقول أنا مالك أنا كنزك ، ثم تلا الآية (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ ...) الآية».

(لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤))

__________________

(١) هي قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ، هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ).

٤١٧

شرح الكلمات :

(عَذابَ الْحَرِيقِ) (١) : هو عذاب النار المحرقة تحرق أجسادهم.

(ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) : أى ذلك العذاب بسبب ما قدمته أيديكم من الجرائم.

(عَهِدَ إِلَيْنا) : أمرنا ووصانا في كتابنا (التوراة).

(أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ) : أي لا نتابعه ، على ما جاء به ولا نصدقه في نبوته.

(بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) : القربان : ما يتقرب به الى الله تعالى من حيوان وغيره يوضع في مكان فتنزل عليه نار بيضاء من السماء فتحرقه.

(بِالْبَيِّناتِ) : الآيات والمعجزات.

(وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) : أي من القربان.

(فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ) : الاستفهام للتوبيخ ، وممن قتلوا من الأنبياء زكريا ويحيى عليهما‌السلام.

(الزُّبُرِ) : جمع زبور وهو الكتاب كصحف ابراهيم.

(الْكِتابِ الْمُنِيرِ) : الواضح البين كالتوراة والزبور والإنجيل.

معنى الآيات :

لما نزل قول الله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ) ودخل أبو بكر الصديق رضى الله عنه بيت (المدراس) (٢) واليهود به وهم يستمعون لأكبر علمائهم وأجل أحبارهم فنحاص فدعاه أبو بكر الى الإسلام ، فقال فنحاص : إن ربا يستقرض نحن أغنى منه! ينهانا صاحبك عن الربا ويقبله فغضب أبو بكر رضي الله عنه وضرب اليهودى فجاء الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فشكا أبا بكر فسأل الرسول أبا بكر قائلا : «ما حملك على ما صنعت»؟ فقال إنه قال : إن الله فقير ونحن أغنياء فأنكر اليهودى فأنزل (٣) الله تعالى الآية (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) ، أي نكتبه أيضا ، ونقول لهم : (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) ، وقولنا ذلك بسبب ما

__________________

(١) الحريق : اسم للملتهبة من النار ، إذ النار تشمل الملتهبة وغير الملتهبة.

(٢) بيت المعلم من بنى اسرائيل.

(٣) إنّ من نزلت فيهم الآية لم يقتلوا الأنبياء ، وإنما قتلهم سلفهم ، ولكن برضاهم عن أسلافهم وما صنعوا كان حكمهم حكم من قتل لأنّ الرضا بالمعصية معصية. روي أن رجلا حسّن قتل عثمان عند الشعبي فقال له الشعبي شركت في دمه فجعل الرضا بالقتل قتلا.

٤١٨

قدمته أيديكم من الشر والفساد ، وأن الله ليس بظلام للعبيد ، فلم يكن جزاؤكم مجافيا للعدل ولا مباعدا له أبدا لتنزه الرب تعالى عن الظلم لعباده هذا ما تضمنته الآية الأولى (١٨١) (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) والآية الثانية (١٨٢) (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) وأما الآية الثالثة (١٨٣) وهى قوله تعالى : (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)؟ فقد تضمنت دعوى يهودية كاذبة باطلة لا صحة لها البتة ، والرد عليها فالدعوى هى قولهم إنّ الله (١) قد أمرنا موصيا لنا أن لا نؤمن لرسول فنصدقه ونتابعه على ما جاء به ، حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، يريدون صدقة من حيوان أو غيره توضع أمامهم فتنزل عليها نار من السماء فتحرقها فذلك آية نبوته ، وأنت يا محمد ما اتيتنا بذلك فلا نؤمن بك ولا نتابعك على دينك ، وأما الرد فهو قول الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قل يا رسولنا : (قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ) وهى المعجزات ، (وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) وهو قربان تأكله النار فلم قتلتموهم ، إذ قتلوا زكريا ويحيى وحاولوا قتل عيسى ، إن كنتم صادقين في دعواكم؟ وأما الآية الرابعة (١٨٤) فانها تحمل العزاء لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ يقول له ربه تعالى : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ) فلم يؤمنوا بك ، فلا تحزن ولا تأسى لأنك لست وحدك الذي كذبت ، فقد كذبت رسل كثر كرام ، جاءوا أقوامهم بالبينات أي المعجزات ، وبالزبر ، والكتاب المنير كالتوراة والإنجيل وصحف إبراهيم وكذبتهم أممهم كما كذبك هؤلاء اليهود والمشركون معهم فاصبر ولا تحزن.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ كفر اليهود وسوء أدبهم مع الله تعالى ومع أنبيائهم ومع الناس أجمعين.

٢ ـ تقرير جريمة قتل اليهود للأنبياء وهى من أبشع الجرائم.

__________________

(١) روى القرطبي عن الكلبي أنّ هذه الآية نزلت ردّا على كعب بن الأشرف ، ومالك بن الصيف ووهب بن يهوذا وفنحاص بن عزريا أتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا له : أتزعم أنّ الله أرسلك إلينا وأنه أنزل علينا كتابا عهد إلينا فيه أن لا نؤمن لرسول يزعم أنه من عند الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار فإن جئتنا به صدّقناك. فأنزل الله تعالى هذه الآية.

٤١٩

٣ ـ بيان كذب اليهود في دعواهم أن الله عهد إليهم أن لا يؤمنوا بالرسول حتى (١) يأتيهم بقربان تأكله النار.

٤ ـ تعزية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحمله على الصبر والثبات أمام ترهات اليهود وأباطيلهم.

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦))

شرح الكلمات :

(ذائِقَةُ الْمَوْتِ) (٢) : أي ذائقة موت جسدها أما هي فانها لا تموت.

(تُوَفَّوْنَ) : تعطون جزاء أعمالكم خيرا أو شرا وافية لا نقص فيها.

(زُحْزِحَ) : نجّي وأبعد.

(فازَ) : نجا من مرهوبه وهو النار ، وظفر بمرغوبه وهو الجنة.

(مَتاعُ الْغُرُورِ) (٣) : المتاع كل ما يستمتع به ، والغرور : الخداع ، فشبهت الدنيا بمتاع خادع غارّ صاحبه ، لا يلبث أن يضمحل ويذهب.

__________________

(١) وإن صحت دعواهم في التوراة فإن فيها استثناء عيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو هي منسوخة في الإنجيل ، ولكن ما ردّ الله تعالى به عليهم لا يتطلب مزيد حجج فإنه قاطع مفحم مسكت ونصّ التوراة تمامه : «حتى يأتيكما المسيح ومحمد فإذا أتياكما فآمنوا بهما من غير قربان».

(٢) قرىء ذائقة الموت بالإضافة ، وذائقة الموت بدونها ، والأولى قراءة العامة ، وهذا مما لا محيص للإنسان عنه ، قال أميّة بن الصلت :

من لم يمت عبطة يمت هرما

للموت كأس والمرأ ذائقها

ومعنى عبطة : شابا وللموت علامات من أبرزها عرق الجبين ، وفي الحديث : «المؤمن يموت بعرق الجبين» فإذا شوهدت لقن الميت لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله».

(٣) يوضح معنى متاع الغرور : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والله ما الدنيا في الآخرة إلّا كما يغمس أحدكم أصبعه في اليمّ فلينظر بم ترجع إليه» والغرور مصدر إضيف إليه المتاع ، فالمتاع ما يتمتع به ثم يضمحل وكونه للغرور زاد في التحذير منه فلذا قال فيها قتادة : الدنيا متاع متروك يوشك أن تضمحل بأهلها.

٤٢٠