أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ١

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ١

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٤

شرح الكلمات :

(الْأَسْباطِ) : جمع سبط والسّبط الحفيد ، والمراد بالأسباط هنا أولاد يعقوب الاثنا عشر والأسباط في اليهود كالقبائل في العرب.

(يَبْتَغِ) : يطلب ويريد دينا غير الدين الإسلامي.

(الْخاسِرِينَ) : الهالكين بالخلد في نار جهنم والذين خسروا كل شيء حتى أنفسهم.

معنى الآيتين :

ما زال السياق في حجاج أهل الكتاب فبعد أن وبخهم تعالى بقوله في الآيات السابقة أفغير دين الله تبتغون يا معشر اليهود والنصارى؟ فإن قالوا : نعم فقل أنت (١) يا رسولنا آمنا بالله وما أنزل علينا من وحي وشرع وآمنا بما أنزل على إبراهيم خليل الرحمن وما أنزل على ولديه اسماعيل واسحق ، وما أنزل على يعقوب واولاده الاسباط ، وآمنا بما أوتي موسى من التوراة وعيسى من الإنجيل ، وما أوتى النبيّون من ربهم لا نفرق بين أحد من أنبيائه بل نؤمن بهم وبما جاءوا به فلا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما هي حالكم يا معشر اليهود والنصارى. ونحن لله تعالى مسلمون أي منقادون مطيعون لا نعبده بغير ما شرع ولا نعبد معه سواه. هذا معنى الآية الأولى (٨٤). أما الآية الثانية (٨٥) فإن الله تعالى يقرر أن كل دين غير الاسلام باطل ، وان من يطلب دينا غير الاسلام لن يقبل منه بحال ويخسر في الآخرة خسرانا كبيرا فقال تعالى : (وَمَنْ (٢) يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) الذين يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ، وذلك هو الخسران المبين.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ لا يصح إيمان عبد يؤمن ببعض الرسل ويكفر ببعض ، كما لا يصح ايمان عبد يؤمن ببعض ما أنزل الله تعالى على رسله ويكفر ببعض.

__________________

(١) في الآية تعليم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين عقيدة الإيمان الصحيحة التي أحبها الله لهم ليكملوا بها ويسعدوا عليها بإذن الله تعالى :

(٢) روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تجيىء الأعمال يوم القيامة فتجيىء الصلاة فتقول يا رب أنا الصلاة فيقول إنك على خير وتجيىء الصدقة فتقول يا رب أنا الصدقة فيقول إنك على خير.

ثم يجيىء الصيام فيقول يا رب أنا الصيام فيقول إنك على خير ثم تجيىء الأعمال كل ذلك ويقول الله تعالى إنك على خير ثم يجيىء الإسلام فيقول يا رب أنت السّلام وأنا الإسلام فيقول الله تعالى إنك على خير اليوم بك آخذ وبك اعطي ، قال الله تعالى في كتابه (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) تفرّد به أحمد.

٣٤١

٢ ـ الإسلام : هو الإنقياد والخضوع لله تعالى وهو يتنافى مع التخيير بين رسل الله ووحيه اليهم.

٣ ـ بطلان سائر الأديان والملل سوى الدين الإسلامى وملة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩))

شرح الكلمات :

(كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً) : الاستفهام هنا للاستبعاد (١) ، والهداية الخروج من الضلال.

(الْبَيِّناتُ) : الحجج من معجزات الرسل وآيات القرآن المبيّنة للحق في المعتقد والعمل.

(الظَّالِمِينَ) : المتجاوزين الحد في الظلم المسرفين فيه حتى أصبح الظلم وصفا لازما لهم.

(لَعْنَةَ اللهِ) : طرد الله لهم من كل خير ، ولعنة الملائكة والناس دعاؤهم عليهم بذلك.

(وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) : ولا هم يمهلون من أنظره إذا أمهله ولم يعجّل بعذابه.

(أَصْلَحُوا) : أصلحوا ما أفسدوه من أنفسهم ومن غيرهم.

__________________

(١) الاستفهام للنفي والاستبعاد إذ هو بمعنى لا يهدي الله قوما .. إلخ ومنه قول الشاعر :

كيف نومي على الفراش ولما

يشمل القوم غارة شعواء

٣٤٢

معنى الآيات :

ما زال السياق في أهل الكتاب (١) وإن تناولت غيرهم ممن ارتد عن الإسلام من بعض الأنصار ثم عاد إلى الإسلام فأسلم وحسن إسلامه ففي كل هؤلاء يقول تعالى : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) فقد كفر اليهود بعيسى عليه‌السلام ، وشهدوا أن الرسول محمدا حق وجاءتهم الحجج والبراهين على صدق نبوته وصحة ما جاء به من الدين الحق ، والله حسب سنته في خلقه لا يهدي من أسرف في الظلم وتجاوز الحد فيه فأصبح الظلم طبعا من طباعه فلهذا كانت هداية من هذه حاله مستبعدة للغاية ، وإن لم تكن مستحيلة ثم أخبر تعالى عنهم متوعدا لهم فقال : (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خالِدِينَ فِيها) أي في تلك اللعنة الموجبة لهم عذاب النار (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي ولا يمهلون ليعتذروا ، أولا يخفف عنهم العذاب. ثم لما لم تكن توبتهم مستحيلة ولأن الله تعالى يحب توبة عباده ويقبلها منهم قال تعالى فاتحا باب رحمته لعباده مهما كانت ذنوبهم (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا (٢) مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الكفر والظلم ، (وَأَصْلَحُوا) نفوسهم بالإيمان صالح الأعمال (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فكان هذا كالوعد منه سبحانه وتعالى بأن يغفر لهم ذنوبهم ويرحمهم بدخول الجنة.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ التوغل في الشر والفساد أو الظلم والكفر قد يمنع (٣) العبد من التوبة. ولذا وجب على العبد إذا أذنب ذنبا أن يتوب منه فورا ، ولا يواصله مصرا عليه خشية ان يحال بينه وبين التوبة.

٢ ـ التوبة مقبولة متى قامت على أسسها واستوفت شروطها ومن ذلك الإقلاع عن الذنب فورا ، والندم على ارتكابه ، والاستغفار والعزم على عدم العودة إلى الذنب الذي تاب منه ، وإصلاح ما أفسده مما يمكن إصلاحه.

__________________

(١) روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ الآية نزلت في رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك ثمّ راسل قومه : ليسألوا له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل له توبة فجاء قومه وسألوا له فأنزل الله هذه الآية (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً) إلى (غَفُورٌ رَحِيمٌ) والآية تتناول اليهود من باب أولى وتنطبق عليهم تماما فتشمل من تاب منهم ومن لم يتب على حدّ سواء.

(٢) روى ابن كثير والقرطبي أن الحارث بن سويد أخا الجلاس بن سويد الأنصاري قد ارتد بعد اسلامه مع اثني عشر رجلا والتحقوا بمكة ثم تاب الحارث فأسلم وحسن إسلامه.

(٣) أورد هنا القرطبي سؤالا وهو : أن ظاهر الآية (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) دال على أنّ من كفر بعد اسلامه لا يهده الله وكثيرا من الظالمين تابوا من الظلم؟ وأجاب بقوله إنّ معنى لا يهديهم ما داموا مقيمين على كفرهم وظلمهم ولا يقبلون على الإسلام فأمّا إن أسلموا وتابوا فقد وفقهم الله لذلك والله أعلم. ه كلامه.

٣٤٣

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١))

شرح الكلمات :

الكفر : الجحود لله تعالى والتكذيب لرسوله وما جاء به من الدين والشرع.

(بَعْدَ إِيمانِهِمْ) : اي ارتدوا عن الإسلام إلى الكفر.

(الضَّالُّونَ) : المخطئون طريق الهدى.

(مِلْءُ الْأَرْضِ) : ما يملأها من الذهب.

(وَلَوِ افْتَدى بِهِ) : ولو قدمه فداء لنفسه من النار ما قبل منه.

معنى الآيتين :

ما زال السياق في أهل الكتاب وهو هنا في اليهود خاصة إذ أخبر تعالى عنهم أنهم كفروا بعد إيمانهم كفروا بعيسى والإنجيل بعد إيمانهم بموسى والتوراة. ثم ازدادوا (١) كفرا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن فلن تقبل توبتهم إلا إذا تابوا بالإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن لكنهم مصرون على الكفر بهما فكيف تقبل توبتهم إذا مع اصرارهم على الكفر ، ولذا أخبر تعالى أنهم هم الضالون البالغون أبعد الحدود في الضلال ومن كانت هذه حاله فلا يتوب ولا تقبل توبته ، ثم قرر مصيرهم بقوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً) يريد يوم القيامة مع أنه لا مال يومئذ ولكن من باب الفرض والتقدير لا غير. فلو أن لأحدهم ماء الأرض ذهبا وقبل منه فداء لنفسه من عذاب الله لافتدى ، ولكن

__________________

(١) أورد القرطبي إشكالا عن قوله تعالى : (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) مع العلم أن الله تعالى يقبل توبة العبد مالم يغر غر كما صح في الخبر وكيف وهو القائل : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) وذكر ثلاثة أجوبة الأوّل : أنه لا يقبل توبتهم عند الموت كما هو نصّ الآية (حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ...). الثاني : أنها لا تقبل توبتهم التي كانت قبل كفرهم إن الكفر محبط للعمل. والثالث : أنها لا تقبل وهم مصرون على الكفر. قلت وهذا أمثلها وهو ما ذكرته في تفسير الآية. والله أعلم.

٣٤٤

هيهات هيهات (١) إنه يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ، ولكن من جاء ربّه بقلب سليم من الشرك والشك وسائر أمراض القلوب نجا من النار ودخل الجنة بإذن الله تعالى.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ سنة الله فيمن توغل في الكفر أو الظلم أو الفسق وبلغ حدا بعيدا أنه لا يتوب.

٢ ـ اليأس من نجاة من مات كافرا يوم القيامة.

٣ ـ لا فدية تقبل يوم القيامة من أحد ولا فداء لأحد فيه.

(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢))

شرح الكلمات :

(لَنْ تَنالُوا) : لن تحصلوا عليه وتظفروا به.

(الْبِرَّ) : كلمة جامعة لكل خير ، والمراد به هنا ثوابه وهو الجنة.

(تُنْفِقُوا) : تتصدقوا.

(مِمَّا تُحِبُّونَ) : من المال الذي تحبونه لأنفسكم وهو أفضل أموالكم عندكم.

(مِنْ شَيْءٍ) : يريد قلّ أو كثر.

(فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) : لازمه أنه يجزيكم به بحسب كثرته أو قلته.

معنى الآية الكريمة :

يخبر تعالى عباده المؤمنين الراغبين في بره (٢) تعالى وإفضاله بأن ينجيهم من النار ويدخلهم الجنة بأنهم لن يظفروا بمطلوبهم من برّ ربهم حتى ينفقوا من أطيب أموالهم وأنفسها عندهم وأحبّها إليهم. ثم أخبرهم مطمئنا لهم على إنفاقهم أفضل أموالهم بأن ما ينفقونه من قليل

__________________

(١) روى البخاري ومسلم عن أبي قتادة عن أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له : أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدي به؟ فيقول : نعم فيقال له كذبت قد سئلت ما هو أيسر من ذلك فلم تفعل».

(٢) يطلق لفظ البرّ على العمل الصالح أو هو جماعة وثوابه وفي الصحيح يقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البرّ وإنّ البرّ يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا ، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإنّ الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا».

٣٤٥

أو كثير نفيس أو خسيس هو به عليم وسيجزيهم به ، وبهذا حبّب إليهم الإنفاق ورغبهم فيه فجاء أبو طلحة رضى الله عنه يقول يا رسول الله ان الله تعالى يقول : (لَنْ (١) تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) ، وإن من أحب أموالي إليّ بيرحا (حديقة) فاجعلها حيث أراك الله يا رسول الله ، فقال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم مال رابح أو رائج اجعلها في أقربائك فجعلها في أقربائه حسان بن ثابت وأبي بن كعب رضي الله عنهم أجمعين.

هداية الآية

من هداية الآية :

١ ـ البر وهو فعل الخير يهدي إلى الجنّة.

٢ ـ لن يبلغ العبد برّ الله وما عنده من نعيم الآخرة حتى ينفق من أحب أمواله اليه.

٣ ـ لا يضيع المعروف عند الله تعالى قل أو كثر طالما أريد به وجهه تعالى.

__________________

(١) لما نزلت هذه الآية (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) بادر الأصحاب رضوان الله عليهم بالتصدق بأحب أموالهم إليها فأعتق عمر جارية له من أحب الجواري إليه ، وأعتق ولده مولاه نافعا وتصدق زيد بن حارثة بفرس له كانت أحب ما يملك وتصدق أبو طلحة ببستانه (بيرحا) فدل هذا على فقه الصحابة ومدى استجابتهم لما هو خير عند الله وأعظم أجرا فرضي الله عنهم وأرضاهم ولا حرمنا حبّهم وجوارهم.

٣٤٦

الجزء الرابع

(كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧))

شرح الكلمات :

(الطَّعامِ) (١) : اسم لكل ما يطعم من أنواع المأكولات.

حلٌّ : الحل : الحلال ، وسمي حلالا لانحلال عقدة الحظر عنه.

(لِبَنِي إِسْرائِيلَ) : أولاد يعقوب الملقب بإسرائيل المنحدرون من أبنائه الأثني عشر إلى يومنا هذا.

(حَرَّمَ) : حظر ومنع.

(التَّوْراةُ) : كتاب أنزل على موسى عليه‌السلام وهو من ذريّة إسرائيل.

(فَاتْلُوها) : اقرأوها على رؤوس الملأ لنتبين صحة دعواكم من بطلانها.

افترى (٢) الكذب : اختلقه وزوره وقاله.

(مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) : دينه وهي عبادة الله تعالى بما شرع ، ونبذ الشرك والبدع.

(حَنِيفاً) (٣) : مائلا عن الشرك إلى التوحيد.

__________________

(١) (الطَّعامِ) (ال) للجنس ولفظ كلّ للتنصيص على العموم.

(٢) الافتراء كالاختلاق سواء والافتراء مأخوذ من الفري وهو قطع الجلد قطعا ليصلح به قربة وحذاء ونحوهما.

(٣) (حَنِيفاً) : منصوب على الحال وصاحبها ابراهيم المجرور بالإضافة.

٣٤٧

(بِبَكَّةَ) : مكة.

(لِلْعالَمِينَ) : للناس أجمعين.

(مَقامُ إِبْراهِيمَ) (١) : آية من الآيات وهو الحجر الذي قام عليه أثناء بناء البيت فارتسمت قدماه وهو صخر فكان هذا آية.

(مَنْ دَخَلَهُ) : الحرم الذى حول البيت بحدوده المعروفة.

(آمِناً) : لا يخاف على نفس ولا مال ولا عرض.

الحج : قصد البيت للطواف به وأداء بقية المناسك.

(سَبِيلاً) : طريقا والمراد القدرة على السير إلى البيت والقيام بالمناسك.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحجاج مع أهل الكتاب فقد قال يهود للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف تدعى أنك على دين إبراهيم ، وتأكل ما هو محرم في دينه من لحوم الإبل وألبانها فرد الله تعالى على هذا الزعم الكاذب بقوله : كل الطعام كان حلا أي حلالا لبني إسرائيل وهم ذرية يعقوب الملقب بإسرائيل ، ولم يكن هناك شيء محرم عليهم في دين إبراهيم اللهم إلا ما حرم اسرئيل «يعقوب» على نفسه خاصة وهو لحوم الإبل وألبانها لنذر نذره وهو أنه مرض (٢) مرضا آلمه فنذر (٣) لله تعالى إن شفاه ترك أحب الطعام والشراب إليه ، وكانت لحوم الإبل وألبانها من أحب الأطعمة والأشربة إليه فتركها لله تعالى ، هذا معنى قوله تعالى : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ) من قبل أن تنزل التوراة ، إذ التوراة نزلت على موسى بعد إبراهيم ويعقوب بقرون عدة ، فكيف تدعون أن إبراهيم كان لا يأكل لحوم الإبل ولا يشرب ألبانها فأتوا بالتوراة فاقرؤوها فسوف تجدون أن ما حرم الله تعالى على اليهود إنما كان لظلمهم واعتدائهم فحرم عليهم أنواعا من الأطعمة ، وذلك بعد إبراهيم ويعقوب

__________________

(١) مقام ابراهيم : من جملة الآيات إذ أثر قدمي إبراهيم باقية على المقام الذي هو صخرة وفيه قال أبو طالب :

وموطىء ابراهيم في الصخر رطبة

على قدميه حافيا غير ناعل

وأمر تعالى بالصلاة خلفه في قوله : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) فمن طاف بالبيت يختم طوافه بصلاة ركعتين خلفه.

(٢) أكثر الروايات على أن مرض يعقوب كان بعرق النساء ، وأنّ ما نذره من ترك أحب الطعام والشراب إليه كان باجتهاد منه وليس شرعا عنده إذ هو من المباح وللعبد أن يترك مباحا متى شاء لا سيما إن تركه لله تقرّبا إليه وتوسلا لقضاء حاجته كشفاء من مرض مثلا.

(٣) روى ابن ماجه في سننه أن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يقول شفاء عرق النساء إلية شاة (عربية) تذاب ثم تجزأ ثلاثة أجزاء ثم يشرب على الرّيق في كل يوم جزء ، قال أنس فوصفته لأكثر من مائة فبرأ فإذن الله تعالى».

٣٤٨

بقرون طويلة. قال تعالى في سورة النساء : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا) (اليهود) (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) وقال في سورة الأنعام : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ (١) ، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) الآية.

ولما طولبوا بالإتيان بالتوراة وقراءتها بهتوا ولم يفعلوا فقامت الحجة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم. وقوله تعالى : فمن افترى على الله الكذب بعد قيام الحجة بأن الله تعالى لم يحرم على إبراهيم ولا على بني إسرائيل شيئا من الطعام والشراب إلا بعد نزول التوراة باستثناء ما حرم إسرائيل على نفسه من لحمان الإبل وألبانها ، فأولئك هم الظالمون بكذبهم على الله تعالى وعلى الناس. ومن هنا أمر الله تعالى رسوله أن يقول : صدق الله فيما أخبر به رسوله ويخبره به وهو الحق من الله ، إذا فاتبعوا يا معشر اليهود ملة إبراهيم الحنيف الذي لم يكن أبدا من المشركين.

هذا ما تضمنته الآيات الثلاث : ٩٣ ـ ٩٤ ـ ٩٥ وأما قوله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ (٢) وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) فإنه متضمن الرّد (٣) على اليهود الذين قالوا إن بيت المقدس هي أول قبلة شرع للناس استقبالها فلم يعدل محمد وأصحابه عنها إلى استقبال الكعبة؟ وهي متأخرة الوجود فأخبر تعالى أن أول بيت وضع للناس هو الكعبة لا بيت المقدس وأنه جعله مباركا يدوم بدوام الدنيا والبركة لا تفارقه فكل من يلتمسها بزيارته وحجه والطواف به يجدها ويحظى بها ، كما جعله هدى للعالمين فالمؤمنون يأتون حجاجا وعمارا فتحصل لهم بذلك أنواع من الهداية ، والمصلون في مشارق الأرض ومغاربها يستقبلونه في صلاتهم ، وفي ذلك من الهداية للحصول على الثواب وذكر الله والتقرب إليه أكبر هداية وقوله تعالى فيه آيات بينات يريد : في المسجد الحرام دلائل واضحات منها مقام إبراهيم وهو الحجر الذي كان يقوم عليه أثناء بناء البيت حيث بقي أثر قدميه عليه مع أنه صخرة من الصخور ومنها زمزم والحجر والصفا والمروة وسائر المشاعر كلها آيات ومنها الأمن التام لمن دخله فلا

__________________

(١) راجع تفسير هذه الآية في موضعها من سورة الأنعام.

(٢) أخرج مسلم في صحيحه عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض قال : «المسجد الحرام قلت ثم أيّ قال المسجد الأقصى قلت كم بينهما قال ، أربعون عاما ثم جعلت الأرض لك مسجدا فحيثما أدركتك الصلاة فصل».

(٣) ذكر القرطبي عن مجاهد قوله تفاخر المسلمون واليهود فقالت اليهود : بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة لأنها مهاجر الأنبياء في الأرض المقدسة ، وقال المسلمون بل الكعبة أفضل فأنزل الله تعالى هذه الآية (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) الآية

٣٤٩

يخاف غير الله تعالى. قال تعالى : (وَمَنْ دَخَلَهُ (١) كانَ آمِناً) ثم هذا الأمن له والعرب يعيشون في جاهلية جهلاء وفوضى لا حد لها ، ولكن الله جعل في قلوبهم حرمة الحرم وقدسيته ووجوب أمن كل من يدخله ليحجه أو يعتمره ، وقوله تعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ (٢) سَبِيلاً) ، لمّا ذكر تعالى البيت الحرام وما فيه من بركات وهدايات وآيات ألزم عباده المؤمنين به وبرسوله بحجه ليحصل لهم الخير والبركة والهداية ، ففرضه بصيغة ولله على الناس وهي أبلغ صيغ الإيجاب ، واستثنى العاجزين عن حجه واعتماره بسبب مرض أو خوف أو قلة نفقة للركوب والإنفاق على النفس والأهل أيام السفر.

وقوله تعالى في آخر الآية : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) فإنه خبر منه تعالى بأن من كفر بالله ورسوله وحج بيته بعد ما ذكر من الآيات والدلائل الواضحات فإنه لا يضر إلا نفسه أما الله تعالى فلا يضره شيء وكيف وهو القاهر فوق عباده والغنى عنهم أجمعين.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ ثبوت النسخ في الشرائع الإلهية ، إذ حرم الله تعالى على اليهود بعض ما كان حلا لهم.

٢ ـ إبطال دعوى اليهود أن إبراهيم كان محرما عليه لحوم الإبل وألبانها.

٣ ـ تقرير النبوة المحمدية بتحدي اليهود وعجزهم عن دفع الحق الذي جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٤ ـ البيت الحرام كان قبل بيت المقدس وأن البيت الحرام أول بيت وضع للتعبد بالطواف به

٥ ـ مشروعية طلب البركة بزيارة البيت وحجه والطواف به والتعبد حوله.

٦ ـ وجوب الحج على الفور (٣) لمن لم يكن له مانع يمنعه من ذلك.

٧ ـ الإشارة إلى كفر من يترك الحج وهو قادر عليه ، ولا مانع يمنعه منه غير (٤) عدم المبالاة.

__________________

(١) صورة اللفظ خبر ومعناه الإنشاء أي الأمر بمعنى : فمن دخله فأمنوه هكذا قال بعضهم. ولا منافاة بين القولين فإن الحرم كان آمنا في عهد الجاهلية قرونا بما ألقى الله في قلوب العرب من حرمة الحرم ، إنّ بيت المقدس تسلط عليه الجبابرة فخرّبوه غير مرّة ومكة ردّ الله الطغاة عنها.

(٢) تواردت طرق حديث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن السبيل في قوله تعالى : (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) فقال : «الزاد والراحلة» وهو كذلك.

(٣) مما يدل على فورية الحج إذا توفرت النفقة وأمن الطريق وزالت الموانع قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «تعجلوا إلى الحج فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له» رواه أحمد ، فما دمنا مأمورين بالتعجل كان الفور ألزم والتراخي أبعد ، والله أعلم وأعزّ وأحكم.

(٤) الإجماع على أنّ الحج مرّة واحدة في العمر لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا ، ولو قلت نعم لوجبت» إذ سأل سائل قائلا : أفي كل عام يا رسول الله. وذلك لمّا نزلت : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ...) ومما يؤكد فرضيته وهي مؤكدة بخطاب الله تعالى : أن عمر رضي الله عنه قال : من أطاق الحج فلم يحج فسواء عليه مات يهوديا أو نصرانيا. قال ابن كثير اسناده صحيح.

٣٥٠

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩))

شرح الكلمات :

الكفر : الجحود.

آيات الله : ما أنزل تعالى من الحجج والبينات في القرآن المقررة لنبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما أنزله تعالى في التوراة والإنجيل من صفات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونعوته الموجبة للإيمان به واتباعه على دين الحق الذي جاء به وهو الإسلام.

(شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) (١) : عليم به مطلع عليه ، وما يعملونه هو الكفر والشر والفساد.

(تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) (٢) : تصرفون الناس ممن آمن منكم ومن العرب عن الإسلام الذي هو سبيل الله تعالى المفضي بأهله إلى سعادة الدارين.

(تَبْغُونَها عِوَجاً) (٣) : تطلبون لها العوج حتى تخرجوا بها عن الحق والهدى فيضل سالكها وذلك بالتحريف والتضليل.

(وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) : بعلمكم بأن الإسلام حق ، وأن ما تبغونه له من الإضلال لأهله والتضليل هو كفر وباطل.

معنى الآيتين :

بعد أن دحض الله تعالى شبه أهل الكتاب وأبطلها في الآيات السابقة أمر تعالى رسوله

__________________

(١) هذا دال على أن أهل الكتاب يؤمنون بعموم علم الله وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء فلهذا كان توبيخهم أشدّ.

(٢) قرىء تصدون من صدّ إذ يقال صدّه ، وأصده عن كذا صرفه عنه.

(٣) أصلها تبغون لها فحذفت اللام نحو (كالوهم) أي كالوا لهم.

٣٥١

أن يقول لهم موبخا مسجلا عليهم الكفر يا أهل الكتاب لم تكفرون بحجج الله تعالى وبراهينه المثبتة لنبوة نبيّه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودينه الإسلام تلك الحجج والبراهين التي جاء بها القرآن والتوراة والإنجيل معا؟ والله جل جلاله مطلع على كفركم عليم به ، أما تخافون عقابه أما تخشون عذابه؟.

كما أمر تعالى رسوله أيضا أن يقول لهم مؤنبّا موبخا لهم على صرفهم المؤمنين عن الإسلام بأنواع الحيل والتضليل : يا أهل الكتاب (١) أي يا أهل العلم الأول لم تصرفون المؤمنين عن الإسلام الذي هو سبيل الله بما تثيرونه بينهم من الشكوك والأوهام تطلبون للإسلام العوج لينصرف المؤمنون عنه ، مع علمكم التام بصحة الإسلام وصدق نبيّه محمد عليه الصلاة والسّلام أما تخافون الله ، أما تخشونه تعالى وهو مطلع على سوء تدبيركم غير غافل عن مكركم وغشكم وخداعكم.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ شدة قبح كفر وظلم من كان عالما من أهل الكتاب بالحق ثم كفره وجحده بغيا وحسدا.

٢ ـ حرمة صرف الناس عن الحق والمعروف بأنواع الحيل وضروب الكذب والخداع.

٣ ـ علم الله تعالى بكل أعمال عباده من خير وشر وسيجزيهم بها فضلا منه وعدلا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١)

__________________

(١) أخرج ابن اسحق في سبب نزول هذه الآية : (يا أَهْلَ الْكِتابِ ...) أن شماس بن قيس اليهودي رأى جماعة من المسلمين من الأوس والخزرج باديا عليهم الوئام (المحبة) فغاظه ذلك فأمر أحد اليهود أن يجلس بينهم ويذكرهم بحرب بعاث وفعل فحدث نزاع بينهم أدى بهم إلى الخروج الى الحرّة للتقاتل وفعلا خرجوا وسمع بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخرج إليهم وهدأهم بقوله : «أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم» وما زال يعظهم حتى ألقوا السلاح وتعانقوا وهم يبكون ، وعرفوا أنها مكرة يهود وخدعتهم عليهم لعائن الله ، وأنزل تعالى هذه الآية والتي قبلها.

٣٥٢

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣))

شرح الكلمات :

(فَرِيقاً) : طائفة (١) من الحاقدين على الإسلام العاملين على الكيد له والمكر به وبأهله.

(يَرُدُّوكُمْ) : يرجعوكم إلى الكفر بعد إيمانكم.

(وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ) : الاستفهام للإنكار والتعجب من كفرهم بعد إيمانهم.

(آياتُ اللهِ) : آيات القرآن الكريم.

(يَعْتَصِمْ) : يتمسك بشدة.

(حَقَّ تُقاتِهِ) : باستفراغ الوسع في إمتثال أمره ، واجتناب نهيه ، وتقاته (٢) هي تقواه.

(بِحَبْلِ اللهِ) : كتابه القرآن ودينه الإسلام ، لأن الكتاب والدين هما الصلة التي تربط المسلم بربه ، وكل ما يربط ويشد شيئا بآخر هو سبب وحبل.

(فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) : جمعها على أخوة الإيمان ووحد بينها بعد الاختلاف والنفرة.

(شَفا حُفْرَةٍ) : شفا الحفرة حافتها وطرفها بحيث لو غفل الواقف عليها وقع فيها.

__________________

(١) قالوا هم شاس اليهودي وأصحابه الذين أثاروا الفتنة بين الأوس والخزرج ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فطاعة أعداء الإسلام من اليهود والنصارى كانت وما زالت سبب دمار أمة الإسلام.

(٢) التقاة اسم مصدر اتقى يتقي اتقاء وأصلها وقية فتحرك حرف العلّة فانفتح ما قبله فقلب واوا فصارة وقاة ، وأبدلت الواو تاء فصارت تقاة.

٣٥٣

(فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) : بهدايتكم إلى الإسلام وبذلك أنجاكم من النار.

معنى الآيات :

بعد أن وبخ تعالى اليهود على خداعهم ومكرهم وتضليلهم للمؤمنين وتوعدهم على ذلك ، نادى المؤمنين محذرا إياهم من الوقوع في شباك المضللين من اليهود فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ) وذلك أن نفرا من الأوس والخزرج كانوا جالسين في مجلس يسودهم الود والتصافي ببركة الإسلام الذي هداهم الله تعالى إليه فمرّ بهم شاس بن قيس اليهودي فآلمه ذلك التصافي والتحابب وأحزنه بعد أن كان اليهود يعيشون في منجاة من الخوف من جيرانهم الأوس والخزرج لما كان بينهم من الدمار والخراب فأمر شاس شابا أن يذكرهم بيوم بعاث فذكروه وتناشدوا الشعر فثارت الحميّة القبلية بينهم فتسابوا وتشاتموا حتى هموا بالقتال فأتاهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكرهم بالله تعالى وبمقامه بينهم فهدأوا ، وذهب الشر ونزلت هذه الآيات : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ) فحذرهم من مكر أهل المكر من اليهود والنصارى ، وأنكر عليهم ما حدث منهم حاملا لهم على التعجب من حالهم لو كفروا بعد إيمانهم فقال عزوجل : وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله صباح مساء في الصلوات وغيرها ، وفيكم رسوله (١) هاديا ومبشرا ونذيرا وأرشدهم إلى الاعتصام بدين الله وبشر المعتصمين بالهداية إلى طريق السعادة والكمال فقال : ومن يعتصم بالله أي بكتابه وسنة نبيّه فقد هدي إلى صراط مستقيم ثم كرر تعالى نداءه (٢) لهم بعنوان الإيمان تذكيرا لهم به وأمرهم بأن يبذلوا وسعهم في تقوى الله عزوجل وذلك بطاعته كامل الطاعة بامتثال أمره واجتناب نهيه حاضا لهم على الثبات على دين الله حتى يموتوا عليه فلا يبدلوا ولا يغيروا فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ (٣) وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) وأمرهم بالتمسك بالإسلام عقيدة وشريعة ونهاهم عن التفرق والاختلاف وأرشدهم إلى ذكر نعمته تعالى عليهم بالألفة

__________________

(١) عصمة هذه الأمة من الذنوب والسقوط في هذين الأمرين : الكتاب والسنة فمهما تمسكت أمة الإسلام بهما فإنها لا تضل ولا تسقط ولو كادها أهل الأرض أجمعون ومهما أعرضت عنهما سقطت وهانت ولو دعمها أهل الأرض أجمعون.

(٢) من مظاهر إكرام الله تعالى للمؤمنين أن ناداهم مباشرة بيا أيها الذين آمنوا بخلاف أهل الكتاب فإنه أمر رسوله أن يناديهم إشعارا لهم بعدم رضاه عنهم وغضبه عليهم.

(٣) روى أن تقوى الله حق تقاته : تتمثّل في أن يطاع تعالى ولا يعصى ويشكر ولا يكفر ويذكر ولا ينسى ، وخصصتها آية التغابن (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) إذ لا تكليف مع العجز عن القيام به.

٣٥٤

والمحبة التي كانت ثمرة هدايتهم للإيمان والإسلام ، بعد أن كانوا أعداء متناحرين مختلفين فألّف بين قلوبهم فأصبحوا بها إخوانا متحابين متعاونين ، كما كانوا قبل نعمة الهداية إلى الإيمان على شفا جهنم لو مات أحدهم يومئذ لوقع فيها خالدا أبدا ، وكما أنعم عليهم وأنقذهم من النار ما زال يبين لهم الآيات الدالة على طريق الهداية الداعية إليه ليثبتهم على الهداية ويكملهم فيها فقال تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا (١) وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً ، وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها ، كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ (٢) لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ طاعة كثير من علماء اليهود والنصارى بالأخذ بنصائحهم وتوجيهاتهم وما يشيرون به على المسلم تؤدي بالمسلم إلى الكفر شعر بذلك أم لم يشعر فلذا وجب الحذر كل الحذر منهم.

٢ ـ العصمة في التمسك بكتاب الله وسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمن تمسك بهما لم يضل.

٣ ـ الأخذ بالإسلام جملة والتمسك به عقيدة وشريعة أمان من الزيغ والضلال وأخيرا من الهلاك والخسران.

٤ ـ وجوب التمسك بشدة بالدين الإسلامي وحرمة (٣) الفرقة والاختلاف فيه.

٥ ـ وجوب ذكر النعم لأجل شكر الله تعالى عليها بطاعته وطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٦ ـ القيام على الشرك والمعاصي وقوف على شفير جهنم فمن مات على ذلك وقع في جهنم حتما بقضاء الله وحكمه.

(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلا

__________________

(١) في الآية حرمة التفرق في الدين ومنه التفرق في الحكم ، فكلاهما محرّم لما يفضي بالمتفرقين إلى الهلاك والخسران.

عرف هذا أعداء الإسلام فعملوا على تفرقة أمّة الإسلام ، وفرقوها مذاهب وطوائف ثمّ دويلات وحكومات ثم أذلوها وأهانوها.

(٢) وهذه نعمة أخرى : مواصلة إنزال القرآن بالأحكام والشرائع والآداب والمواعظ والعبر ليتم لهم كمالهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة فلله الحمد والمنّة.

(٣) في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم : «إنّ الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ، وأن تناصحوا من ولّاه الله أمركم ، ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال».

٣٥٥

تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩))

شرح الكلمات :

الأمة : أفراد من البشر أو غيرهم تربطهم رابطة جنس أو لغة أو دين ويكون أمرهم واحدا والمراد بالأمة هنا المجاهدون وهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(الْخَيْرِ) : الإسلام وكل ما ينفع الإنسان في حياته الأولى والآخرة من الإيمان والعمل الصالح.

(بِالْمَعْرُوفِ) : المعروف كل ما عرفه الشرع فأمر به لنفعه وصلاحه للفرد أو الجماعة.

(الْمُنْكَرِ) : ضد المعروف ، وهو ما نهى عنه الشرع لضرر وإفساد ، للفرد أو الجماعة.

(كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا) : هم أهل الكتاب من اليهود (١) والنصارى.

(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ) (٢) : هذا يوم القيامة.

(فَفِي رَحْمَتِ اللهِ) : رحمة الله هنا : الجنّة جعلنا الله تعالى من أهلها ، آمين.

__________________

(١) وقيل هم الحرورية وقيل المبتدعة من هذه الأمة وكونهم اليهود والنصارى هذا الراجح والحق وعليه جمهور المفسرين.

(٢) تبيض وجوه المؤمنين المتقين ، وتسود وجوه الكافرين والمبتدعين من أصحاب الأهواء.

٣٥٦

(تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ) : هذه آياتنا نقرأها عليك متلبسة بالحق ، لا باطل فيها أبدا.

(وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) : إلى الله تصير الأمور فيقضي فيها بما يشاء ويحكم ما يريد فضلا وعدلا.

معنى الآيات :

بعد ما أمر الحق تبارك وتعالى عباده المؤمنين بتقواه والتمسك بدينه ونهاهم عن الفرقة والاختلاف وحضهم على ذكر نعمه ليشكروها بطاعته أمرهم في هذه الآية (١٠٤) بأن يوجدوا من أنفسهم جماعة تدعو إلى الإسلام وذلك بعرضه على الأمم والشعوب ودعوتهم إلى الدخول فيه ، كما تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر في ديار الإسلام وبين أهله فقال تعالى مخاطبا إياهم : ولتكن منكم (١) أي يجب أن تكون منكم طائفة يدعون إلى الخير أي الإسلام ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، وبشرهم بأن الأمة التي تنهض بهذا الواجب هي الفائزة بسعادة الدنيا والآخرة فقال : فأولئك هم المفلحون الفائزون بالنجاة من العار والنار ، وبدخول الجنة مع الأبرار.

وفي الآيات (١٠٥) (١٠٦) (١٠٧) نهاهم أن يسلكوا طريق أهل الكتاب في التفرق في السياسة والاختلاف في الدين فيهلكوا هلاكهم فقال تعالى : مخاطبا إياهم : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) فلا ينبغي أن يكون العلم والمعرفة بشرائع الله سببا في الفرقة والخلاف (٢) ، وهما أداة الوحدة والائتلاف ، وأعلمهم بجزاء المختلفين من أهل الكتاب ليعتبروا فلا يختلفوا ولا يتفرقوا فقال تعالى : وأولئك لهم عذاب عظيم لا يقادر قدره ولا يعرف مداه ، وأخبرهم عن موعد حلول هذا العذاب العظيم بهم وأنه يوم القيامة حينما تبيض وجوه المؤمنين المؤتلفين القائمين على الكتاب والسنة ، وتسود وجوه الكافرين المختلفين القائمين على البدع والأهواء ، فقال تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ (٣)

__________________

(١) من للتبعيض وعليه فسرنا الآية وقلنا بوجود طائفة لا كل الأمّة إذ لا بد من العلم لمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، والعلم لا يتوفر لكل فرد أبدا ولذا فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على الكفاية.

(٢) نهاهم تعالى عن التفرق والاختلاف وقد وقع ما نهاهم عنه وثبت ما أخبر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد قال : «تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك وتفرقت أمتى على ثلاث وسبعين فرقة» رواه الترمذي وقال : هذا حديث صحيح وفعلا فقد وجدت ست فرق وهي : الحرورية ـ والقدرية ـ والجهمية ـ والمرجئة ـ والرافضة ـ والجبرية. انقسمت كل فرقة من هذه إلى اثنتى عشرة فرقة فصارت اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلّا أهل السنة والجماعة.

(٣) روى ابن القاسم عن مالك في العتبية أنه قال ما آية في كتاب الله أشدّ على أهل الاختلاف من أهل الأهواء من هذه الآية : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ..) قال مالك : انما هذه الآية لأهل القبلة بدليل قوله تعالى : (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ ...).

٣٥٧

وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) وبيّن جزاء الفريقين فقال : فأما الذين اسودت وجوههم من سوء ما عاينوه من أهوال الموقف وما أيقنوا أنهم صائرون إليه من عذاب النار فيقال لهم تقريعا وتوبيخا : أكفرتم بعد إيمانكم؟ إذ هذه وجوه من تلك حالهم ، فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون بالله وشرائعه.

وأما الذين ابيضت وجوههم فلم يطل في الهول موقفهم حتى يدخلوا جنة ربهم قال تعالى : (فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

وفي الآية (١٠٨) شرف الله تعالى نبيّه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخطابه والوحي إليه فقال : (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها (١) عَلَيْكَ بِالْحَقِ) أي هذه الآيات المتضمنة للهدى والخير نقرأها عليك بالحق الثابت الذي لا مرية فيه ، ولا شك يعتريه فبلغها عنا وادع بها إلينا فمن استجاب لك نجا ومن أعرض هلك ، وما الله يريد ظلما للعالمين. فلا يعذب إلا بعد الإعلام والإنذار.

وفي الآية الأخيرة (١٠٩) يخبر تعالى أنه له ملك السموات والأرض خلقا وتصرفا وتدبيرا ، وأن مصير الأمور إليه وسيجزى المحسن بالحسنى والمسيء بالسّوأى.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب وجود طائفة من أمة الإسلام تدعو الأمم والشعوب إلى الإسلام وتعرضه عليهم وتقاتلهم إن قاتلوها عليه ، ووجوب وجود هيآت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل مدن وقرى المسلمين.

٢ ـ حرمة الفرقة بين المسلمين والاختلاف في دين الله.

٣ ـ أهل البدع والأهواء يعرفون في عرصات القيامة باسوداد وجوههم.

٤ ـ أهل السنة والجماعة وهم الذين يعيشون عقيدة وعبادة على ما كان عليه رسول الله (٢) صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه يعرفون يوم العرض بابيضاض وجوههم.

__________________

(١) التلاوة ؛ كالقراءة إلا أن القراءة عادة تكون لكلام مكتوب وأما التلاوة فهي مجرد حكاية كلام لإرادة تبليغه بلفظه.

(٢) افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة وستفترق هذه الملة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة في الجنة وقيل من هم يا رسول الله فقال هم الذين يكونون على ما أنا عليه وأصحابي.

٣٥٨

٥ ـ كرامة الرسول على ربّه وتقرير نبوّته. وشرف من آمن به واتبع ما جاء به.

٦ ـ مرد الأمور إلى الله تعالى في الدنيا والآخرة فيجب على عقلاء العباد أن يتخذوا لهم عند الله عهدا بالإيمان به وتوحيده في عبادته بتحقيق لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١١١) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢))

شرح الكلمات :

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) : وجدتم أفضل وأبرك أمة وجدت على الأرض.

(أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) : أظهرت وأبرزت لهداية الناس ونفعهم.

(أَذىً) : الأذى الضرر اليسير.

(يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ) : ينهزمون فيفرون من المعركة مولينكم أدبارهم أي ظهورهم.

(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) : أحاطت بهم المذلة ولصقت بهم حتى لا تفارقهم.

(وَباؤُ بِغَضَبٍ) : رجعوا من رحلتهم الطويلة في الكفر وعمل الشر بغضب الله.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ) .. الخ : ذلك : إشارة إلى ما لصق بهم من الذلة والمسكنة وما عادوا به من غضب الله تعالى وما تبعه من عذاب. (فالباء) في بأنهم

٣٥٩

سببية أي بسبب فعلهم كذا وكذا والمسكنة هي ذلة الفاقة والفقر.

(يَعْتَدُونَ) : الاعتداء مجاوزة الحد في الظلم والشر والفساد.

معنى الآيات :

لما أمر الله تعالى المؤمنين بتقواه والاعتصام بحبله فامتثلوا وأمرهم بتكوين جماعة منهم يدعون إلى الإسلام ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فامتثلوا ذكرهم بخير عظيم فقال لهم : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) كما قال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كنتم خير الناس للناس ..» ووصفهم بما كانوا به خير أمة فقال تأمرون بالمعروف وهو الإسلام وشرائع الهدى التي جاء بها نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتنهون عن المنكر وهو الكفر والشرك وكبائر الإثم والفواحش ، وتؤمنون بالله. وبما يتضمنه الإيمان بالله من الإيمان بكل ما أمر تعالى بالإيمان به من الملائكة والكتب والرسل والبعث الآخر والقدر. ثم دعا تعالى أهل الكتاب الى الإيمان الصحيح المنجي من عذاب الله فقال عزوجل ، ولو آمن أهل الكتاب بالنبي محمد وما جاء به من الإسلام لكان خيرا لهم من دعوى الإيمان الكاذبة التي يدعونها. وأخبر تعالى عنهم بأن منهم المؤمنين الصادقين في إيمانهم كعبد الله بن سلام وأخيه ، وثعلبة بن سعيد وأخيه ، وأكثرهم الفاسقون الذين لم يعملوا بما جاء في كتابهم من العقائد والشرائع من ذلك أمر الله تعالى بالإيمان بالنبي الأميّ واتباعه على ما يجيء به من الاسلام ثم أخبر المسلمين أن فساق أهل الكتاب لن يضروهم إلا أذى يسيرا كإسماعهم الباطل وقولهم الكذب. وأنهم لو قاتلوهم ينهزمون أمامهم مولينهم ظهورهم فارّين من القتال ثم لا ينصرون على المسلمين في أي قتال يقع بين الجانبين.

كما أخبر تعالى في الآية (١١٢) أنه تعالى ضرب عليهم الذلة والمسكنة أينما ثقفوا وفي أيّ البلاد وجدوا لن تفارقهم الذلة والمسكنة في حال من الأحوال إلا في حال دخولهم في الإسلام وهو حبل (١) الله ، أو معاهدة وارتباط بدولة قوية وذلك هو حبل (٢) الناس. كما أخبر تعالى عنهم

__________________

(١) هذه الآية مخصصة لعموم آية الأعراف (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ) إلا في حال إسلامهم أو ارتباطهم بمعادة دولة قوية كما هي الحال اليوم.

(٢) الحبل مستعار هنا للعهد أي المعاهدة التي تربطهم بدولة قوية كبريطانيا وأمريكا الآن.

٣٦٠