أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ١

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ١

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٤

لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥))

شرح الكلمات :

(أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) : اعطوا حظا وقسطا من التوراة.

(يُدْعَوْنَ) : يطلب (١) إليهم أن يتحاكموا فيما اختلفوا فيه من الحق إلى كتابهم الذي يؤمنون به وهو التوراة فيأبون ويعرضون.

(يَتَوَلَّى) : يرجع وهو مصمم على عدم العودة إلى الحق.

(أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) : هذا قول اليهود ويعنون بالأيام الأربعين يوما تلك التي عبدوا فيها العجل بعد غياب موسى عليه‌السلام عنهم.

(يَفْتَرُونَ) : يكذبون.

(لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) : هو يوم القيامة.

(ما كَسَبَتْ) : ما عملت من خير أو شر.

(لا يُظْلَمُونَ) : بأن يعذبوا بدون المقتضي لعذابهم من الشرك والكفر والمعاصي.

معنى الآيات :

ما زال السياق في فضح أهل الكتاب بذكر ذنوبهم وجرائمهم فيقول تعالى لرسوله حاملا له على التعجب من حال اليهود ألم تر يا رسولنا الى الذين أوتوا نصيبا (٢) من الكتاب أى ألم ينته إلى علمك أمرهم حيث يدعون إلى التحاكم (٣) الى كتاب الله تعالى فيما انكروه (٤) واختلفوا فيه من صفاتك وشأن نبوّتك ورسالتك ، ثم يتولى عدد منهم وهم مصممون على عدم العودة وطلب الحق والإقرار به. إنها حال تدعو الى التعجب حقا ، وصارفهم عن قبول الحق

__________________

(١) قال ابن عباس : هذه الآية نزلت بسبب أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل على يهود في بيت المدراس فدعاهم إلى الاسلام فقالوا له على أيّ دين أنت؟ فقال على ملّة ابراهيم ، فقالوا إنّ ابراهيم كان يهوديا فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هلّموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم فأبوا عليه فنزلت هذه الآية.

(٢) التنكير للتقليل وليس للتعظيم لأنّ السياق في ذمّهم وتقبيح سلوكهم.

(٣) الآية دليل على وجوب من دعي إلى التحاكم إلى شرع الله أن يجيب إلى ذلك ولا يمتنع وإلّا يقدح في إيمانه.

(٤) أي من كون ابراهيم عليه‌السلام لم يكن يهوديا ، حيث زعموا أنه كان يهوديا كما تقدّم في بيان سبب نزول الآية : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ ...).

٣٠١

ومراجعته هو اعتقادهم الفاسد بأن النار لا تمسهم إذا ألقوا فيها إلا مدة أربعين يوما وهي المدة التى عبد فيها أسلافهم العجل يوم غاب موسى عنهم لمناجاته ربه تعالى في جبل الطور. وهذه الدعوى باطلة لا أساس لها من الصحة بل يخلدون في النار لا بعبادة أسلافهم العجل أربعين يوما بل بكفرهم وظلمهم وجحودهم وعنادهم ، ويبين تعالى الحقيقة لرسوله والمؤمنين وهي أن هذه الدعوى اليهودية ما هى إلا فرية (١) افتراها علماؤهم ليهوّنوا عليهم ارتكاب الجرائم وغشيان عظائم الذنوب. كما حصل للمسلمين في القرون المظلمة من تاريخ الإسلام حيث أصبح مشايخ التصوف يدجّلون على المريدين بأنهم سيستغفرون لهم ويغفر لهم.

ثم قال تعالى مستعظما حالهم مهوّلا موقفهم : فكيف (٢) أي حالهم. إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه وهو يوم القيامة كيف تكون حالهم انها حال يعجز الوصف عنها ، (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) من خير أو شر وهم لا يظلمون بنقص حسناتهم إن كانت لهم حسنات ، ولا بالزيادة في سيئآتهم وما لهم إلا السّيئات.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ من الإعراض عن الدين والكفر به رفض التحاكم إليه قال تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ، ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً). سورة النساء / ٦٥.

٢ ـ أفسد شيء للأديان بعقائدها وشرائعها وعباداتها الافتراء فيها والإبتداع عليها والقول فيها بغير علم.

٣ ـ مضرّة الإغترار بما يقوله بعض المفسرين والمحشين على الكتب الدينية من الحكايات والأباطيل بحجة الترغيب أو الترهيب فيغتر بها الناس فيضلوا ويهلكوا.

٤ ـ فضيلة ذكر أهوال يوم القيامة وما يلاقى فيها أهل الظلم والشر والفساد وفي القرآن (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) سورة ص / ٤٦.

__________________

(١) ومن جملة افتراءاتهم قولهم إنّ الله وعد يعقوب أن لا يعذب أبناءه.

(٢) هذا خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته على جهة التوقيف والتعجب.

٣٠٢

(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧))

شرح الكلمات :

(اللهُمَ) : يا الله حذف حرف النداء «يا» وعوّض عنه الميم المشدّدة وهو خاصّ بنداء الله تعالى

(مالِكَ) : المالك : الحاكم المتصرّف يفعل في الملك ما يشاء ويحكم ما يريد لعظم سلطانه وقوة إرادته.

(الْمُلْكِ) : المملوك : والمقصود به ما سوى المالك عزوجل ، من سائر الكائنات.

(تُؤْتِي الْمُلْكَ) : السلطان والتصرف في بعض الملكوت.

(تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) : تدخل الليل في النهار فلا يبقى ليل ، وتولج النهار في الليل فلا يبقى نهار

(تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) : أي تخرج جسما حيا من جسم ميت في المحسوسات كالدجاجة من البيضة ، والبيضة من الدجاجة ، ومن المعنويات تخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن.

(بِغَيْرِ حِسابٍ) (١) : بغير عدد ولا حد لواسع فضله وغناه عما سواه.

__________________

(١) الرزق هو كل ما ينتفع به الإنسان فيطلق على الطعام على اختلافه من حبّ وتمر ولحم وعلى كل ما يحتاج إليه الإنسان في حفظ بنيته صالحة للعبادة.

٣٠٣

معنى الآيتين :

من المناسبات التى قيلت في نزول هاتين الآيتين : أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أخبر أصحابه أن ملك أمته سيبلغ كذا وكذا في أحاديث صحاح سخر اليهود والمنافقون من إخبار الرسول بذلك مستبعدين له غاية البعد لجهلهم وكفرهم فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين ضمن الرد على نصارى نجران فأمره أن يقول : (اللهُمَ (١) مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ ..) الخ .. أمره أن يقول ذلك ليعطيه ما وعده به من إتساع ملك أمته حتى يشمل ملك فارس والروم ، وليرد على ضلال النصارى في تأليه عيسى عليه‌السلام ، إذ المعبود بحق المستحق للعبادة والتأليه دون سواه من هو مالك الملك كله ، ويتصرف فيه وحده يؤتي منه ما يشاء لمن يشاء ، وينزع ممن أعطاهم ما شاء ومتى شاء لا يحول دون تصرفه حائل ، ولا يقف دون إعطائه أو نزعه واقف. يعز الذليل متى شاء ويذل العزيز متى شاء ، بيده الخير (٢) لا بيد غيره يفيضه على من يشاء ، ويمنعه عمّن يشاء وهو على كل شيء قدير. يولج النهار في الليل فلا يبقى نهار ، ويولج الليل في النهار فلا يبقى ليل ، مظهر من مظاهر القدرة الموجبة لألوهيته وطاعته ومحبته ، ويدخل ساعات من الليل في النهار فيقصر الليل ويطول النهار ، ويدخل ساعات من النهار في الليل فيطول ، مظهر من مظاهر الحكمة والقدرة والرحمة ، يخرج الحي من الميت الانسان من النطفة والنبتة من الحبة ويخرج الميت من الحي النطفة من الإنسان الحي ، والبيضة من الدجاجة ، والكافر الميت من المؤمن الحي ، والعكس كذلك ، هذه مظاهر ربوبيته المستلزمة لألوهيته فتقرر أنه الإله الحق ، لا رب غيره ولا إله سواه ، وبذلك تأكد أمران : الأول : أن الله قادر على اعطاء رسوله ما وعده لأمته ، وقد فعل ، والثاني : أن عيسى لم يكن إلا عبدا مربوبا لله بالعبودية وشرفه بالرسالة وأيده بالمعجزات.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ فضل الدعاء (٣) بهاتين الآيتين بأن يقرأهما العبد ثم يقول : رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما

__________________

(١) ذكر القرطبي أن النضر بن شميل قال : من قال اللهم فقد دعا الله تعالى بجميع أسمائه كلها ، وقال الحسن البصري : اللهم : تجمع الدعاء.

(٢) والشرّ بيده أيضا وحذف لتطلب المقام ذلك نحو : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) أي والبرد.

(٣) أخرج أبو نعيم في الحلية أن معاذا حبس يوما عن صلاة الجمعة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله عما حبسه فقال كان عليّ دين ـ

٣٠٤

تعطي منهما من تشاء ، وتمنع من تشاء اقض عنى ديني ، فإنه يقضى بإذن الله تعالى ويعطى إن سأل حاجة له من حوائج الدنيا والآخرة.

٢ ـ استجابة الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنجازه (١) ما وعده في أمته.

٣ ـ بطلان ألوهية عيسى عليه‌السلام وثبوت عبوديته ورسالته وكرامته.

(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٢٨) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠))

شرح الكلمات :

(لا يَتَّخِذِ) : لا يجعل.

(أَوْلِياءَ) : جمع وليّ يتولّونهم بالنصر والمحبة والتأييد.

(فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) (٢) : أي بريء الله تعالى منه ، ومن برىء الله منه هلك.

__________________

ـ ليحنّا اليهودي فوقف عند بابي يرصدني فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اتحبّ أن يقضى عنك ربّك؟ قال : قلت نعم قال اقرأ كل يوم (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) إلى قوله (بِغَيْرِ حِسابٍ) ثمّ قل رحمن الدنيا والآخرة ورحيمها تعطي منها من تشاء وتمنع من تشاء اقض عني ديني. فلو كان عليك ملء الأرض ذهبا لأدّاه عنك.

(١) إذ لم يقبض الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى دانت الجزيرة كلها بالإسلام ولم يمض ربع قرن حتى بلغ ملك أمّته من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق ، ومن جملة ذلك دولة فارس والروم.

(٢) هذا نحو : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) أي أهل القرية على حذف مضاف كذلك : (فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) أي ليس في ولاية الله وحزبه في شيء.

٣٠٥

(تُقاةً) (١) : وقاية باللسان وهى الكلمة الملينة للجانب ، المبعدة للبغضاء.

(مُحْضَراً) : حاضرا يوم القيامة.

(أَمَداً بَعِيداً) : مدى وغاية بعيدة.

(وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) : أي يخوفكم عقابه إن عصيتموه.

معنى الآيات :

ينهى تعالى عباده المؤمنين عن اتخاذهم الكافرين أولياء من دون المؤمنين أي أعوانا وانصارا يبادلونهم المحبة والمناصرة على إخوانهم المؤمنين ، وأعلمهم تعالى أن من يفعل ذلك فقد برىء الله تعالى منه وذلك لكفره ورّدته حيث والى أعداء الله وعادى أولياءه ، فقال تعالى (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ (٢) الْمُؤْمِنِينَ ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) أي برىء الله تعالى منه وانقطعت صلته وانبتّ حبل الولاية بينه وبين الله تعالى ، ويا هلاكه ثم رخص تعالى للمؤمنين المستضعفين الذين يعيشون تحت سلطان الكافرين في أن يعطوهم حلاوة لسانهم دون قلوبهم وأعمالهم (٣) فيتقون بذلك شرهم وأذاهم ، وذلك بكلمة المصانعة والمجاملة قال تعالى : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ...) ولما كان أمر البراء والولاء ذا خطر عظيم قال تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) أي في أن تتخذوا أعداءه أولياء ضد اوليائه وأخبرهم أن المصير إليه لا إلى غيره فليحذر العصاة من وقوفهم بين يدي الله فقال : (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ).

هذا ما تضمنته الآية الأولى (٢٨) وأما الآية الثانية (٢٩) فقد أمر تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ان يقول للناس مؤمنهم وكافرهم (.. إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ ..) من حب أو بغض ، من رضى أو سخط فلا تنطقوا به ولا تظهروه بحال من الأحوال ، أو أن تظهروه بقول أو عمل أو حال فإنه تعالى يعلمه ويعلم ما في السموات وما في الأرض ، ويحاسب به ويجزى عليه وهو

__________________

(١) قال ابن عباس : التقاة هي أن يتكلم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان ، ولا يقتل ولا يأتي مأثما ، وقرىء (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) وقالوا في التقية : أن يكون المؤمن في دار الكفار قائما بينهم فله أن يداريهم بلسانه إذا كان خائفا على نفسه وقلبه مطمئن بالإيمان. وأصل تقاة : وقية على وزن فعلة كتؤدة فقلبت الواو تاء وقلبت الياء ألفا فصارت تقاة.

(٢) (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) حرف الجر (مِنْ) لتأكيد الظرفية وهو تقييد للنهي في الظاهر فيكون المنهي عنه اتخاذ الكافرين أولياء دون المؤمنين ، وهو المراد من الآية ولذلك صور منها : أن يتخذ المسلم أو المسلمون جماعة الكفر أولياء لهم ميلا إلى كفرهم ومناوأة للمسلمين وهذه كفر بلا خلاف ، ومنها أن يوالي الكفار لأجل الإضرار بالمسلمين وهذه كالأولى ، ومنها ما أذن فيها وهي التقية.

(٣) روى البخاري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّا لنكشر في أقوام وقلوبنا تلعنهم» يريد المنافقين. والتكشير كالابتسام إلّا أنه متكلف فيه.

٣٠٦

على كل شيء قدير. ألا فليراقب الله العاقل وليتقه ، فلا يقدم على معاصيه ، وخاصة موالاة أعدائه على أوليائه. وأما الآية الثالثة (٣٠) (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ..) ففيها يذكر تعالى عباده بيوم القيامة ليقصروا عن الشر ويرعووا من الظلم والفساد فيقول أذكروا يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا أي حاضرا تجزى به ، وما عملت من سوء وشر حاضرا أيضا ويسوءها مرآه فتود بكل قلبها لو ان بينها وبينه غاية من المسافة لا تدرك وينهي تعالى تذكيره وإرشاده سبحانه وتعالى بقوله (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) مؤكدا التحذير الأول به ، ويختم الآية بقوله والله رؤوف بالعباد ، ونعم ما ختم به إذ لولاه لطارت قلوب العالمين فزعا وخوفا فذو الرأفة بعباده لا يوأس من رحمته.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ حرمة موالاة الكافرين (١) مطلقا.

٢ ـ موالاة الكافرين على المؤمنين ردة وكفر وبراءة من الله تعالى.

٣ ـ جواز التقيّة في حال ضعف المؤمنين وقوة الكافرين.

٤ ـ وجوب الحذر من عذاب الله تعالى وذلك بطاعته تعالى.

٥ ـ خطورة الموقف يوم القيامة ووجوب الاستعداد له بالإيمان والتقوى.

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢))

شرح الكلمات :

(تُحِبُّونَ اللهَ) : لكمال ذاته وإنعامه عليكم.

__________________

(١) أي وإن لم يكن فيها ضرر للمسلمين ، وما أذن فيه للتقية فإنه مؤقت ولا يجوز الاستمرار فيه إلّا حال العجز عن الهجرة خشية ان يولد للمسلم أولاد فيوالون الكافرين وهم لا يعلمون أنّ ما كان عليه آباؤهم كان تقية لا غير.

٣٠٧

(يُحْبِبْكُمُ اللهُ) : لطاعتكم إيّاه وطهارة أرواحكم بتقواه.

(يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) : يسترها عليكم ولا يؤاخذكم بها.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا) : أعرضوا عن الإيمان والطاعة.

معنى الآيتين :

لما ادعى وفد نصارى نجران أن تعظيمهم المسيح وتقديسهم له ولأمه إنما هو من باب طلب حبّ (١) الله تعالى بحب ما يحب وتعظيم ما يعظم أمر الله تعالى رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه الآية أن يقول لهم : إن كنتم تحبون الله تعالى ليحبكم فاتبعونى على ما جئت به من التوحيد والعبادة يحببكم الله تعالى ، ويغفر لكم ذنوبكم أيضا وهو الغفور الرحيم. وبهذا أبطل دعواهم في أنهم ما ألّهوا المسيح عليه‌السلام الا طلبا لحب الله تعالى والحصول عليه. وأرشدهم إلى أمثل طريق للحصول على حب (٢) الله تعالى وهو متابعة الرسول على ما جاء به من الإيمان والتوحيد والعبادة المزكية للروح المورثة لحب الله تعالى وهذا ما تضمنته الآية الأولى (٣١). وأما الآية الثانية (٣٢) فقد أمر تعالى رسوله أن يأمر وفد نصارى نجران وغيرهم من أهل الكتاب والمشركين بطاعته وطاعة رسوله إذ هما طريق الكمال والإسعاد في الدنيا والآخرة. فإن أبوا وأعرضوا أو تولوا فقد باءوا بغضب الله وسخطه عليهم لأنهم كافرون والله لا يحب الكافرين هذا معنى قوله تعالى (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ).

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ محبة العبد للرب تعالى واجب وإيمان لقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أحبوا الله تعالى لما يغذوكم به من النعم وأحبونى بحب (٣) الله تعالى». وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله

__________________

(١) الحبّ : المحبة ، والحبّ بالكسر كالحبّ ، والحبّ أيضا المحبوب ، ومنه الأثر : أسامة حبّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وابن حبه : أي زيد مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وورد حبه يحب ولم يأت اسم الفاعل منه حابّ كما لم يأت اسم المفعول من أحبّ محبّ وإنما أتى محبوب.

(٢) روى مسلم عن أبي هريرة أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الله إذا أحبّ عبدا دعا جبريل فقال إني أحب فلانا فأحبه قال فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول : إنّ الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء قال ثم يوضع له القبول في الأرض ، وإذا أبغض عبدا دعا جبريل فيقول إني أبغض فلانا فأبغضه قال فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إنّ الله يبغض فلانا فأبغضوه قال فيبغضونه ثم توضع له البغضاء في الأرض».

(٣) الحبّ : الميل إلى ما في إدراكه لذة روحية كحب الله ورسوله وحب ما يحب الله ورسوله ويستلزم الحب طاعة المحبوب قال الشاعر :

تعصي الإله وأنت تظهر حبه

هذا لعمري في القياس بديع

لو كان حبك صادقا لأطعته

إنّ المحب لمن يحب مطيع

٣٠٨

أحب إليه مما سواهما».

٢ ـ محبة الله تعالى للعبد هي غاية ما يسعى إليه أولوا العلم في الحياة.

٣ ـ طريق الحصول على محبّة الله تعالى للعبد هو اتباع النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإيمان بما جاء به واتباع شرعه وطاعته في المنشط والمكره ، للآية (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) إذ ليس الشأن أن يحبّ العبد ، وإنما الشأن أن يحبّ!

٤ ـ دعوى محبة الله ورسوله مع مخالفة أمرهما ونهيهما دعوى باطلة وصاحبها خاسر لا محالة.

(إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧)) (١)

شرح الكلمات :

(اصْطَفى آدَمَ) : اختار ، وآدم هو أبو البشر عليه‌السلام.

__________________

(١) اصطفاء آدم كان بالوحي إليه وبإكرامه له بأن خلقه بيديه ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته واصطفاء نوح بإرساله وجعله أبا للبشر بعد الطوفان وبإطالة عمره وإهلاك الظالمين بدعوته وآل إبارهيم بأن جعل النبوة بعد إبراهيم فيهم وختمهم بمحمد فخرهم وسيد أوّلهم وآخرهم. واصطفى آل عمران ومنهم : حنّة ومريم ، وعيسى اصطفاهم بكمالات لم تكن لأحد في أيامهم سواهم.

٣٠٩

(آلَ إِبْراهِيمَ) : آل الرجل أهله وأتباعه على دينه الحق.

(عِمْرانَ) : رجل صالح من صلحاء بنى إسرائيل في عهدهم الأخير هو زوج حنّة وأبو مريم عليهم‌السلام.

(الْعالَمِينَ) : هم الناس المعاصرون لهم.

(امْرَأَتُ عِمْرانَ) : حنّة (١)

(نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي) : ألزمت نفسها أن تجعله لله يعبده ويخدم بيته الذي هو بيت المقدس.

(مُحَرَّراً) (٢) : خالصا لا شركة فيه لأحد غير الله بحيث لا تنتفع به أبدا.

(مَرْيَمَ) : خادمة الرب تعالى.

(أُعِيذُها بِكَ) : احصّنها واحفظها بجنابك من الشيطان.

(وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) : زكريا أبو يحيى عليهما‌السلام وكانت امرأته أختا لحنّة.

(الْمِحْرابَ) : مقصورة ملاصقة للمسجد.

(أَنَّى لَكِ هذا؟) : من أين لك هذا ، أي من أين جاءك.

معنى الآيات :

لما ادعى نصارى وفد نجران ما ادعوه في المسيح عليه‌السلام من تأليهه وتأليه أمّه أنزل الله تعالى هذه الآيات يبيّن فيها مبدأ أمر عيسى وأمه وحقيقة أمرهما فأخبر تعالى أنه اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران اصطفاهم لدينه واختارهم لعبادته ففضلهم بذلك على الناس وأخبر أنهم ذريّة (٣) بعضهم من بعض لم تختلف عقائدهم ، ولم تتباين فضائلهم وكمالاتهم الروحيّة وذلك لحفظ الله تعالى لهم وعنايته بهم. وأخبر تعالى أنه سميع عليم أي سميع لقول إمرأة عمران عليم بحالها لما قالت : (.. رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً ..) ، وذلك أنها كانت لا تلد فرأت في حديقة منزلها طائرا يطعم أفراخه فحنّت إلى الولد وسألت ربها أن يرزقها ولدا وتجعله له يعبده ويخدم بيته فاستجاب الله تعالى لها فحملت ومات زوجها وهى

__________________

(١) هي حنّة بنت ما قودا مات زوجها وهي حبلى.

(٢) أي خالصا لعبادة الله لا تبقي به أنسالها ولا خدمة.

(٣) ذرية : منصوب على الحال في الآية الكريمة ، ولفظ الذرية يطلق على الواحد وعلى الجمع ويطلق على الولد والوالد ، وهو مشتق من الذرء الذي هو الخلق فذرأ بمعنى خلق.

٣١٠

حبلى وقالت ما قص الله تعالى عنها في قوله : (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ) (١) (لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) وحان وقت الولادة فولدت ولكن انثى لا ذكرا فتحسرت لذلك ، وقالت : (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) وكيف لا يعلم وهو الخلاق العليم. وقالت : (.. وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى ..) في باب الخدمة في بيت المقدس فلذا هي آسفة جدا ، وأسمت مولودتها مريم أي خادمة الله ، وسألت ربها أن يحفظها وذريتها من الشيطان الرجيم واستجاب الله تعالى لها فحفظها وحفظ (٢) ولدها عيسى عليه‌السلام فلم يقربه شيطان قط. وتقبل (٣) الله تعالى ما نذرته له وهو مريم فأنبتها نباتا حسنا فكانت تنمو نماء عجيبا على خلاف المواليد ، وكفلها زكريا فتربت في بيت خالتها وذلك أن حنة لما وضعتها أرضعتها ولفّتها في قماطها وبعثت بها الى صلحاء بنى إسرائيل يسندونها إلى من يرون تربيتها في بيته ، لأن أمها نذرتها لله تعالى فلا يصح منها أن تبقيها في بيتها ووالدها مات أيضا ، فأحب كل واحد أن يكفلها فكفلها زكريا وأصبحت في بيت خالتها (٤) بتدبير الله تعالى لها ، ولما كبرت أدخلها المحراب لتتعبد فيه ، وكان يأتيها بطعامها ، فيجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف فيعجب لذلك ويسألها قائلا : (يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا؟) فتجيبه قائلة (هُوَ مِنْ عِنْدِ (٥) اللهِ) وتعلل لذلك فتقول : (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ).

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان إفضال الله تعالى وإنعامه على من يشاء.

٢ ـ بيان أن عيسى عليه‌السلام ليس بابن الله ولا هو الله ، ولا ثالث ثلاثة بل هو عبد الله ورسوله أمه مريم ، وجدته حنّة ، وجدّه عمران من بيت شرف وصلاح في بني اسرائيل.

٣ ـ استجابة الله تعالى لدعاء أوليائه كما استجاب لحنّة ورزقها الولد وأعاذ بنتها وولدها من الشيطان الرجيم.

__________________

(١) جريا على سنتهم في نذر أولادهم الذكور لخدمة بيت المقدس.

(٢) أخرج مسلم عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ما من مولود يولد إلّا نخسه الشيطان فيستهل صارخا من نخسة الشيطان إلّا ابن مريم وأمّه» ثم قال أبو هريرة اقرؤا إن شئتم (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ).

(٣) أي رضيها منها وقبلها كالشيء يهدى للكريم فيقبله ويثيب عليه.

(٤) روي عن ابن عباس أن زكريا استأجر لها ظئرا فأرضعتها حولين كاملين.

(٥) تريد أنّه يحصل لها بغير طريقة الأسباب المعروفة وإنّما يوضع بين يديها كرامة لها والله هو الرازق لها سبحانه وتعالى.

٣١١

٤ ـ مشروعية (١) النذر لله تعالى وهو التزام المؤمن الطاعة تقربا إلى الله تعالى.

٥ ـ بيان فضل الذّكر على الأنثى في باب النهوض بالأعمال والواجبات.

٦ ـ جواز التحسّر والتأسف لما يفوت العبد من الخير الذى كان يأمله.

٧ ـ ثبوت كرامات الأولياء كما تم لمريم في محرابها.

٨ ـ تقرير نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ مثل هذه القصص لا يتأتّى لأمّي أن يقصه إلا أن يكون رسولا يوحى إليه. ولهذا ختمه بقوله (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ).

(هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١))

شرح الكلمات :

(هُنالِكَ) : ثمّ عند ما (٢) رأى كرامة الله لمريم عليهاالسّلام.

(زَكَرِيَّا) : أحد أنبياء بني إسرائيل ورسلهم.

(هَبْ لِي) : أعطني.

__________________

(١) ذكر القرطبي أنّ ولدا قال لأمه يا أمّه ذريتي لله أتعبد له وأتعلم العلم له فقالت نعم فسار يتعبد ويطلب العلم فلما كمل في علمه وحاله أتاها فطرق الباب فقالت من؟ فقال ابنك فلان ، فقالت : قد تركتك لله فلا نعود فيك.

(٢) أي في ذلك المكان وهو المحراب تنبّه إلى الدعاء لما شاهد من خوارق العادات فدعا طالبا الولد فاستجاب الله تعالى له ، ولا يقال كيف يأخذ الرسول على من دونه ومن امرأة بالذات؟ فإن الحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها التقطها ، وأهل الكمال من الناس يعتبرون دائما بما يرون ويسمعون.

٣١٢

(مِنْ لَدُنْكَ) : من عندك.

(ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) : أولادا أطهارا صالحين.

(بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) : هى عيسى عليه‌السلام ، لأنه كان بكلمة الله تعالى «كن».

(وَسَيِّداً (١) وَحَصُوراً) (٢) : شريفا ذا علم وحلم ، ولا رغبة له في النساء لقلة مائه.

(غُلامٌ) : ولد ذكر.

(عاقِرٌ) (٣) : عقيم لا تلد لعقمها وعقرها.

(آيَةً) : علامة استدل بها على بداية الحمل لأشكر نعمتك.

(إِلَّا رَمْزاً) : إلا إشارة بالرأس أو باليد يفهم منها ما يفهم من الكلام.

(الْإِبْكارِ) : أول النهار ، والعشي آخره.

معنى الآيات :

لما شاهد زكريا من كرامات الله لمريم أنها تؤتى بفاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف ذكر أن الله تعالى قد يعطي ما شاء لمن يشاء على غير نظام السنن الكونيّة فكبر سنّه وعقم امرأته لا يمنعان أن يعطيه الله تعالى ولدا ، فسأل ربّه الولد فاستجاب (٤) له ربّه فبشرته الملائكة بالولد وهو قائم يصلى في محرابه قائلة إن الله يبشرك بولد اسمه يحيى (٥) مصدّقا بكلمة من الله يريد أنه يصدق بعيسى بن مريم ويكون على نهجه ، لأن عيسى هو الكلمة إذ كان بقول الله تعالى له «كن» فكان ، ووصفه بأنّه سيد ذو علم وحلم وتقى وحصور لا يأتي (٦) النساء ، ونبيّ من الصالحين. فلما سمع البشارة من الملائكة جاءه الشيطان وقال له : إن الذي سمعته من البشرى هو من الشيطان ولو كان من الرحمن لأوحاه إليك وحيا ، وهنا أراد زكريا أن يتثبت من الخبر فقال : (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي

__________________

(١) السيد في عرف الشرع : من يقوم بإصلاح حال الناس في دنياهم وأخراهم معا وشاهده قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» وقوله في الحسن : «إنّ ابني هذا سيّد».

(٢) قال المفسرون في الحصور أقوالا كثيرة أمثلها أنه كان معصوما من الفواحش والقاذورات وغير مانعه ذلك من تزويج النساء الحلال وغشيانهن وإيلادهن ، إذ يفهم من دعاء زكريا المتقدم أنه يكون له أولاد طيبون صالحون.

(٣) مأخوذ من عقرت المرأة رحمها أي قطعتها فلم تحبل ولم تلد وهو وصف خاص بالنساء فلذا يقال عاقر ولا يلبس ، إذ لا يوجد في الرجال عاقر حتى يفرق بينهما بالتاء.

(٤) الفاء في قوله تعالى : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) هي للترتيب أي فور دعائه استجاب الله تعالى له وفيها معنى السببية أيضا : أي بسبب دعائه أعطاه والله على ما يشاء قدير.

(٥) يحيى : معرب يوحنا بالعبرانية نطق بها العرب على صيغة المضارع.

(٦) هذا قول الجمهور وقد تقدّم في النهر ما هو أمثل ما قيل في الحصور مراعاة لكمال الأنبياء وعلو مقاماتهم.

٣١٣

عاقِرٌ؟) فأوحى إليه : أن هذا فعل الله والله يفعل ما يشاء. وهنا قال زكريا رب اجعل لي آية يريد علامة يستدل بها على وجود الحمل ليستقبل النعمة بالشكر فأجابه ربه قائلا : (آيَتُكَ : أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) يريد أنك تصبح وأنت عاجز عن الكلام لمدة ثلاثة أيام ، فلا تقدر أن تخاطب أحدا إلا بالإشارة وهي الرمز فيفهم عنك ، وأمره تعالى أن يقابل هذا الإنعام بالشكر التام فقال له (وَاذْكُرْ (١) رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ) يريد صلّ بالعشي آخر النهار والإبكار أوله.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ الاعتبار بالغير ، إذ زكريا دعا بالولد لما رأى كرامة الله تعالى لمريم.

٢ ـ مشروعية الدعاء وكونه سرا أقرب إلى الإجابة ، وكونه في الصلاة كذلك.

٣ ـ جواز تلبيس إبليس على المؤمن ، ولكن الله تعالى يذهب كيده ووسوسته.

٤ ـ جواز سؤال الولد الصالح.

٥ ـ كرامات الله تعالى لأوليائه ـ باستجابة دعاءهم.

٦ ـ فضل الإكثار من الذكر ، وفضيلة صلاتى الصبح والعصر وفي الحديث : «من صلى البردين دخل الجنة».

(وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤))

__________________

(١) روي عن كعب القرظي قوله : لو رخّص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا إذ جعل له آية الولد له ألّا يكلم الناس ثلاثة أيام إلّا رمزا ولم يعفه من الذكر بل أمره بقوله : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) ولرخص للرجل في الحرب إذ قال تعالى : (إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً).

٣١٤

شرح الكلمات :

(وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) : أذكر لوفد نصارى نجران ما قالت الملائكة فإن ذلك دليل على صحة نبوّتك ، وصدقك في أمر التوحيد ، وعدم ألوهية عيسى.

(اصْطَفاكِ) : اختارك لعبادته وحسن طاعته.

(وَطَهَّرَكِ) : من الذنوب وسائر النقائص المخلة بالولاية لله تعالى.

(وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) (١) : أي فضلك على نساء العالمين بما أهّلك له من كرامة ولادة عيسى من غير أب.

(اقْنُتِي) (٢) : أطيعي ربك واقنتي له واخشعي.

(وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) : اشهدى صلاة الجماعة في بيت المقدس.

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) : أي ما ذكرت من قصة مريم وزكريا من أخبار الغيب.

(لَدَيْهِمْ) : عندهم وبينهم.

(إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) (٣) : جمع قلم وهو ما يكتب به وإلقاؤها لأجل الاقتراع بها على كفالة مريم.

(يَخْتَصِمُونَ) : فى شأن كفالة مريم عليها وعليهم‌السلام.

معنى الآيات :

يقول تعالى لنبيه اذكر لوفد نجران الذين يحاجونك في ألوهية المسيح إذ قالت الملائكة مخاطبة مريم أم المسيح بما أهّلها الله تعالى له وأكرمها به من اصطفاء (٤) الله تعالى لها لتكون من صالحى عباده ، وتطهيره إياها من سائر الذنوب والنقائص والعيوب مفضلا لها على نساء عالمها حيث برأها وأكرمها وأظهر آية قدرته فيها فولدت عيسى بكلمة الله وليس على سنته

__________________

(١) قيل في سبب لقبها بالصدّيقة أنها لم تسأل الآية عند ما بشرت بالولد كما سألها زكريا عليه‌السلام ، وأثنى عليها تعالى بقوله : (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ).

(٢) روي عن الأوزاعي أنّه قال : لمّا أمر تعالى مريم بالقنوت قامت في الصلاة حتى ورمت قدماها ، وسالت دما وقيحا.

(٣) ألقوها في نهر الأردن وهو نهر جار وأفادت هذه الآية مشروعية القرعة وأنها وإن كانت في شرع من قبلنا إلّا أنها شرعت لنا على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها وكذا حديث : «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأوّل ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا».

(٤) اختلف في نبوة النساء ورجح كثيرون نبوة مريم لخطاب الملائكة لها واخبارهم باصطفاء الله تعالى لها وهذا يرجح نبوتها. أما الرسالة فلا لأن الرسالة تتطلب الاتصال بالرجال وهذا يتنافى مع كمال النساء وما خلقن له من الستر والحجاب.

٣١٥

تعالى في تناسل البشر من ذكر وأنثى ، وأمرها بمواصلة الطاعة والاخبات والخشوع لله تعالى فقال : (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ ، يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي) (١) (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) (٢) ، وخص الصلاة بالذكر لأهميتها وذكرها بأعظم أركانها وهو السجود والركوع وفي بيت المقدس مع الراكعين.

هذا معنى الآيتين الأولى (٤٢) والثانية (٤٣). أما الآية الثالثة (٤٤) فقد خاطب الرب تبارك وتعالى رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم مشيرا إلى ما سبق في هذا القصص المتعلق بآل عمران حنة ومريم وزكريا ويحيى ومريم أخيرا بأنه كله من انباء الغيب واخباره يوحيه تعالى إليه فهو بذلك نبيّه ورسوله ، وما جاء به من الدين هو الحق ، وما عداه فهو باطل ، وبذلك تقرر مبدأ التوحيد ، وأنه لا إله إلا الله ، وبطل باطل أهل الكتاب فلا عزير ابن الله ، ولا المسيح بن الله ، ولا هو إله مع الله ، وإنما هو عبد الله ورسول الله. ثم تقريرا لمبدأ الوحي وتأكيدا له قال تعالى لرسوله أيضا ، وما كنت لديهم أي عند علماء بني اسرائيل وصلحائهم وفي حضرتهم ، وهم يقترعون على النذيرة «مريم» من يكفلها فرموا بأقلامهم في النهر فمن وقف قلمه في الماء كان كافلها بإذن الله فألقوا أقلامهم تلك الأقلام التي كانت تكتب الحق والهدى لا الباطل والضلال كما هي أغلب أقلام أرباب الصحف والمجلات اليوم فوقف قلم زكريا ففاز بكفالتها (٣) بإذن الله تعالى وقد تقدم قول الله تعالى فكفلها زكريا ، بهذا قامت الحجة على أهل الكتاب وغيرهم بأنه لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وأن الدين الحق هو الاسلام. وما عداه فباطل وضلال!

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ فضل مريم عليهاالسّلام وأنها وليّة صديقة وقد أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنها من كمّل النساء ففي

__________________

(١) قدم السجود على الركوع في الذكر وإن كان مؤخرا في الفعل لأنه ألصق بالشكر والمقام مقام شكر.

(٢) فيه دليل على صلاة المرأة في الجماعة وقد سن ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مثل قوله : «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» وإن كان قوله (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) لا يستلزم الصلاة في جماعة إذ هو أمر بالركوع فقد تركع وحدها أو مع غيرها.

(٣) قال القرطبي دلت هذه الآية : (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) على أنّ الخالة أحق بالحضانة من سائر القرابات ما عدا الجدة ، وقد قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ابنة حمزة «أمة الله» لجعفر لأنّ خالتها كانت تحته. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّما الخالة بمنزلة الأمّ».

٣١٦

الصحيح «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء (١) إلا آسية إمرأة فرعون ، ومريم بنت عمران ، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام».

٢ ـ أهل القرب من الله هم أهل طاعته القانتون له.

٣ ـ الصلاة سلم العروج الى الملكوت الأعلى.

٤ ـ ثبوت الوحي المحمدي وتقريره.

٥ ـ مشروعية الاقتراع عند الاختلاف وهذه وإن كانت في شرع من قبلنا إلا أنها مقررة في شرعنا والحمد لله.

(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ (٢) رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧))

شرح الكلمات :

(يُبَشِّرُكِ) : يخبرك بخبر سار مفرح لك.

(بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) (٣) : هو المسيح عليه‌السلام وسمي كلمة لأنه كان بكلمة الله تعالى (كُنْ).

(الْمَسِيحُ) (٤) : لقب عيسى عليه‌السلام ومن معانيه الصديق.

الوجيه : ذو الجاه والقدر والشرف بين الناس.

__________________

(١) وفي رواية أخرى : «خير نساء العالمين أربع : مريم بنت عمران ، وآسية امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

(٢) ذهب القرطبي إلى أنّ كلمة ربّ تعني سيدي أي جبريل ، وهو خطأ واضح بل المراد به الربّ تبارك وتعالى فهي تخاطب ربّها طالبة معرفة سبب الولد إذ الأسباب المعتادة لم تكن فكيف يكون الولد.

(٣) المراد بكلمة هو كلمة التكوين ووصف عيسى بكلمة مراد به كلمة خاصة وهي كلمة (كُنْ).

(٤) اختلف في سبب تلقيب عيسى بالمسيح ، والمشهور أنه لقب تشريف كالفاروق مثلا أو الملك أو الصديق ، وأمّا عيسى فهو معرب أيشوع ومعناه السيد ، وهل المسيح مشتق من المسح؟ وهل هو بمعنى الماسح أو الممسوح خلاف.

٣١٧

(فِي الْمَهْدِ) : المهد مضجع الصبي وهو رضيع.

(وَكَهْلاً) : الكهولة سنّ ما بين الشباب والشيخوخة.

(وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) : تريد لم يقربها ذكر لا للوقاع ولا لغيره ، وذلك لعقمها وبعدها عن الرجال الأجانب.

(قَضى أَمْراً) : أراده وحكم بوجوده.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في حجّاج وفد نصارى نجران إذ قال الله تعالى لرسوله واذكر (١) لهم إذ قالت الملائكة يا مريم (إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) الآية ، حيث أخبرتها الملائكة أي جبريل عليه‌السلام بأن الله تعالى يبشرها بولد يكون بكلمة الله تعالى اسمه المسيح عيسى ابن مريم ، وأنه ذو جاه وشرف في الدنيا وفي الآخرة ومن المقربين ، وأنه يكلم الناس وهو في مهده وقت رضاعه ، كما يكلمهم في شبابه وكهولته (٢) ، وأنه من الصالحين الذين يؤدون حقوق الله تعالى وحقوق عباده وافية غير منقوصة فردت مريم قائلة : (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ) أي كيف يكون لي ولد ولم يغشنى بشر بجماع وسنة الله في خلق الولد الغشيان فأجابها جبريل قائلا : الأمر هكذا سيخلق الله تعالى منك ولدا من غير أب ، وهو سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء وإذا حكم بوجود شيء من غير ذوات الأسباب فإنما يقول له كن فهو يكون كما قضى الله تعالى وأراد.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان شرف مريم وكرامتها على ربها إذ كلمها جبريل وبشرها بعد أن تمثل لها بشرا.

٢ ـ بيان شرف عيسى عليه‌السلام ووجاهته في الدنيا والآخرة وأنه من المقربين والصالحين.

٣ ـ تكلم عيسى في المهد (٣) آية من آيات الله تعالى حيث لم تجر العادة أن الرضيع يتكلم في زمان رضاعه.

__________________

(١) إذ الظرفية هنا بدل من نظيراتها السابقة وهي معمولة لفعل محذوف أي اذكر.

(٢) ذكر الكهولة هنا تطمين لأمه أنّه لا يموت صغيرا وتكليمه في الكهولة يكون بعد نزوله من السماء لأنّه عليه‌السلام رفع مع نهاية سنّ الشباب وهو ثلاثة وثلاثون سنة لا غير.

(٣) لقد تكلم في المهد غير واحد ، منهم شاهد يوسف ، وصاحب جريج وكلام عيسى في المهد هو قوله : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ) الآية في سورة مريم.

٣١٨

٤ ـ جواز طلب الإستفسار (١) عما يكون مخالفا للعادة لمعرفة سرّ ذلك أو علته أو حكمته.

(وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١))

شرح الكلمات :

(الْكِتابَ) : الخط والكتابة.

(الْحِكْمَةَ) : العلم الصحيح والإصابة في الأمور وفهم أسرار التشريع الإلهي.

(وَرَسُولاً) : أي وابعثه رسولا.

آية : علامة دالة على رسالته وصدق نبوته.

(أَخْلُقُ لَكُمْ) : أي أصور لكم ، لا الخلق الذي هو الإنشاء والاختراع إذ ذاك لله تعالى.

(كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) (٢) : كصورة الطير.

__________________

(١) هذا من قولها (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ) الآية.

(٢) قيل اليهود هم الذين طلبوا أن يخلق لهم خفاشا لأنّه أعجب من سائر الخلق ومن عجائبه أنه لحم ودم يطير بغير ريش ويلد كما يلد الحيوان ولا يبيض كما يبيض سائر الطيور وله لبن يرضع به أولاده ويضحك كما يضحك الإنسان ويحيض كما تحيض المرأة ولا يبصر في ضوء النهار ولا في ظلمة الليل وإنّما يبصر في ساعتين بعد غروب الشمس ساعة وبعد طلوع الفجر ساعة.

٣١٩

(الْأَكْمَهَ) : الذي ولد أعمى.

(الْأَبْرَصَ) : ذو البرص وهو مرض عياء عجز عنه الطب القديم والحديث ، والبرص بياض يصيب الجلد البشري.

(تَدَّخِرُونَ) : تحبسونه وتخفونه عن أطفالكم من الطعام وغيره.

(لِما بَيْنَ يَدَيَ) : من قبلي.

(إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) : إلهي وإلهكم فاعبدوه.

معنى الآيات :

ما زال السياق في بيان حقيقة عيسى عليه‌السلام ، وأنه عبد الله ورسوله وليس بابن الله ولا بإله مع الله فأخبر تعالى أنه يخلقه بكلمة كن ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وقد فعل ، وأنه يبعثه رسولا إلى بني إسرائيل وقد فعل فأخبرهم عيسى أنه قد جاءهم بآية من ربهم تدل على صدق رسالته وهذه الآية (١) هي أنه يخلق لهم من الطين على صورة الطير وينفخ فيها فتكون طيرا بإذن الله ، وأنه يبرىء الأكمه والأبرص ويحي الموتى بإذن الله وفعلا كان يمسح على ذي العاهة المستعصاة كالبرص فيبرأ صاحبها فورا ، وطلبوا منه أن يحي لهم سام بن نوح (٢) فأحياه بإذن الله ، وأنه يخبرهم بما يأكلون في بيوتهم وما يدخرون فما يخطىء أبدا ، ثم قال لهم : إن في ذلك المذكور لآية لكم دالة على صدقي إن كنتم مؤمنين فآمنوا بي ولا تكذبونى وقد جئتكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ، ولأحل لكم بعض الذي حرم (٣) عليكم ، وفي ذلكم خير لكم ورحمة فآمنوا بي ، فكذبوه فقال لهم : اتقوا الله واطيعوني تنجوا وتسعدوا وأعلمهم أخيرا أن الله تعالى هو ربّه وربهم وأن عليهم أن يعبدوه ليكملوا ويسعدوا وأن عبادة الله تعالى وحده وبما شرع هي الصراط المستقيم المفضي بالسالكين إلى الكمال والإسعاد في الحياتين.

__________________

(١) قوله تعالى (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) وحّد آية وهي آيات لأنها جنس كنعمة بمعنى جنس النعم والمراد من الآية ما تقدم في قوله (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ) الخ.

(٢) روي أنه أحيا لهم أربعة وهم سام بن نوح ، والعاذر وكان صديقا له. وابن العجوز وابنة العاشر.

(٣) هو ما حرّمه الله عليهم على عهد موسى من أكل الشحوم ونحوها ، أمّا ما كان محرّما أصلا لضرورة فلا يحله لهم وذلك كالسرقة والقتل والزنا والربا فإنه لا يحله لهم أبدا.

٣٢٠