أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ١

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ١

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٤

معنى الآيتين :

كان العرب في الجاهلية يشربون الخمور ويقامرون وجاء الإسلام فبدأ دعوتهم إلى التوحيد والإيمان بالبعث الآخر إذ هما الباعث القوي على الاستقامة في الحياة ، ولما هاجر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والعديد من أصحابه وأصبحت المدينة تمثل مجتمعا إسلاميا وأخذت الأحكام تنزل شيئا فشيئا فحدث يوما أن صلى أحد الصحابة بجماعة وهو ثملان فخلط في القراءة فنزلت آية النساء (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) فكانوا لا يشربونها إلا في أوقات معينة وهنا كثرت التساؤلات حول شرب الخمر فنزلت هذه الآية (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) فأجابهم الله تعالى بقوله (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) فترك الكثير (١) كلا من شرب الخمر ولعب القمار لهذه الآية. وبقي آخرون فكان عمر يتطلع إلى منعهما منعا باتا ويقول : (اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا) فاستجاب الله تعالى له ونزلت آية المائدة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) إلى قوله (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) فقال عمر : (انتهينا ربنا) وبذلك حرمت الخمر وحرم الميسر تحريما قطعيا كاملا ووضع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حدّ الخمر وهو الجلد. وحذر من شربها وسماها أم الخبائث وقال : «مدمن الخمر لا يكلمه الله يوم القيامة ولا يزكيه في ثلاثة نفر وهم العاقّ لوالديه ، ومسبل إزاره ، ومدمن شرب الخمر».

وقوله تعالى : (فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ (٢) وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) فهو كما قال تعالى فقد بيّن في سورة المائدة منشأ الإثم وهو أنهما يسببان العداوة والبغضاء بين المسلمين ويصدان عن ذكر الله وعن الصلاة وأي إثم أكبر في زرع العداوة والبغضاء بين أفراد المسلمين ، والإعراض عن ذكر الله وتضييع الصلاة حقا إن فيهما لإثما كبيرا ، وأما المنافع فهي إلى جانب هذا الإثم قليلة ومنها الربح في تجارة الخمر وصنعها ، وما تكسب شاربها من النشوة والفرح والسخاء والشجاعة ، وأما الميسر فمن منافعه الحصول على المال بلا كد ولا تعب وانتفاع بعض الفقراء به إذ كانوا يقامرون على الجزور من الإبل ثم يذبح ويعطى للفقراء والمساكين.

__________________

(١) يري كثير من المفسرين أنّ آية البقرة هذه نزلت قبل آية النساء وما رجحته في التفسير أولى ، لأنّ آية البقرة تعتبر محرّمة للخمر والميسر بخلاف آية النساء.

(٢) لما كان تحريم الخمر تدريجيا كان من الحكمة ذكر ما كانوا يرونه من المنافع في الاتجار بها وشربها وكذا منافع الميسر إذ كانوا يعطون ما يربحونه للفقراء ، وحسبهم وهم المؤمنون صرفا لهم عن الخمر والميسر قوله : (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) وإذا زادت المضرة على المنفعة بطل العمل عقلا وشرعا.

٢٠١

أما قوله تعالى في الآية (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) فهو سؤال نشأ عن استجابتهم لقول الله تعالى : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) فأرادوا أن يعرفوا الجزء الذي ينفقونه من أموالهم في سبيل الله فأجابهم الله تبارك وتعالى بقوله : (قُلِ الْعَفْوَ) أي مازاد على حاجتكم وفضل عن نفقتكم على أنفسكم. ومن هنا قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى» رواه البخاري. وقوله (الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي مثل هذا البيان يبين الله لكم الشرائع والأحكام والحلال والحرام ليعدكم بذلك إلى التفكير الواعي البصير في أمر الدنيا والآخرة فتعملون لدنياكم على حسب حاجتكم إليها وتعملون لآخرتكم التي مردكم إليها وبقاؤكم فيها على حسب ذلك.

وهذا ما تضمنته الآية الأولى (٢١٩) أما الآية الثانية (٢٢٠) (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) الآية فإنه لما نزل قوله تعالى من سورة النساء (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) خاف المؤمنون والمؤمنات من هذا الوعيد الشديد وفصل من كان في بيته يتيم يكفله فصل طعامه عن طعامه وشرابه عن شرابه وحصل بذلك عنت ومشقة كبيرة وتساءلوا عن المخرج فنزلت هذه الآية وبينت لهم أن المقصود هو إصلاح مال اليتامى وليس هو فصله أو خلطه فقال تعالى : (قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ ....) مع الخلط خير من الفصل مع عدم الإصلاح ودفع الحرج في الخلط فقال : (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ (١) فَإِخْوانُكُمْ) ، والأخ يخالط أخاه في ماله ، وأعلمهم أنه تعالى يعلم المفسد لمال اليتيم من المصلح له ليكونوا دائما على حذر ، وكل هذا حماية لمال اليتيم الذي فقد والده. ثم زاد الله في منته عليهم يرفع الحرج في المخالطة فقال تعالى (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) (٢) أي أبقاكم في المشقة المترتبة على فصل أموالكم عن أموال يتاماكم وقوله إن الله عزيز أي غالب على ما يريده حكيم فيما يفعله ويقضي به.

__________________

(١) (فَإِخْوانُكُمْ) الفاء واقعة في جواب إن الشرطية ، وإخوانكم خبر والمبتدأ محذوف تقديره فهم إخوانكم.

(٢) مفعول المشيئة محذوف كما هو الغالب فيه والتقدير : ولو شاء الله عنتكم لأعنتكم أي كلّفكم ما فيه العنت والمشقة ولكنه لم يفعل رحمة بكم ولطفا بحالكم.

٢٠٢

هداية الآيتين :

من هداية الآيتين :

١ ـ حرمة (١) الخمر والميسر حيث نسخت هذه الآية بآية المائدة لقوله تعالى فيها فاجتنبوه وقوله فهل أنتم منتهون.

٢ ـ بيان أفضل صدقة التطوع وهي ما كانت عن ظهر غنى وهو (٢) العفو في هذه الآية.

٣ ـ استحباب التفكر في أمر الدنيا والآخرة لإعطاء الأولى بقدر فنائها والآخرة بحسب بقائها.

٤ ـ جواز خلط مال اليتيم بمال كافله إذا كان أربح له وأوفر وهو معنى الإصلاح في الآية.

٥ ـ حرمة مال اليتيم ، والتحذير من المساس به وخلطه إذا كان يسبب نقصا فيه أو إفسادا

(وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١))

شرح الكلمات :

(وَلا تَنْكِحُوا) : لا تتزوجوا.

الأمة : خلاف الحرة.

(وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) : أي أعجبكم حسنها وجمالها.

(يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) : بحالهم ومقالهم وأفعالهم.

(آياتِهِ) : أحكام دينه ومسائل شرعه.

__________________

(١) إن كل مسكر داخل في اسم الخمر وقليله ككثيره في الحرمة سواء بإجماع الأمة ، وكل أنواع الميسر ولو اختلفت المسميات كاليناصيب وغيرها محرّمة.

(٢) شاهده حديث مسلم : «ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا أي تصدق به على الفقراء والمساكين».

٢٠٣

معنى الآية الكريمة :

ينهى الله تعالى المؤمنين أن يتزوجوا المشركات إلا أن يؤمنّ بالله ورسوله ، فإن آمنّ جاز نكاحهن ، وأعلمهم منفرا من نكاح المشركات مرغبا في نكاح المؤمنات فقال : ولأمة مؤمنة فضلا عن حرة خير من حرة مشركة ، ولو أعجبتكم المشركة لحسنها وجمالها ، كما نهاهم محرما عليهم أن يزوجوا المؤمنات بالمشركين حتى يؤمنوا فإن آمنوا جاز لهم أن ينكحوهم بناتهم ونساءهم فقال تعالى : (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا) وقال منفرا مرغبا ولعبد مؤمن خير من حر مشرك ولو أعجبهم المشرك لشرفه أو ماله أو سلطانه ، وعلل لذلك بقوله. أولئك أي المشركات والمشركون يدعون إلى النار فمخالطتهم مضرة ومفسدة لا سيما بالتزوج منهم ، والله عزوجل يدعو إلى الجنة بالإيمان والعمل الصالح ، وإلى المغفرة بالتوبة الصادقة فاستجيبوا له وأطيعوه فيما أمركم به ونهاكم عنه. كما أنه تعالى يبيّن آياته للناس ليعدهم للتذكر والاتعاظ فيقبلون على طاعته الموصلة إلى رضاه والجنة ، ويبعدون عن معصيته المؤدية إلى سخطه والنار.

هداية الآية الكريمة

من هداية الآية :

١ ـ حرمة نكاح المشركات ، أما الكتابيات فقد أباحهن الله تعالى بآية المائدة إذ قال : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ (١) مِنْ قَبْلِكُمْ).

٢ ـ حرمة نكاح المؤمنة الكافر مطلقا (٢) مشركا كان أو كتابيا.

٣ ـ شرط الولاية في نكاح المرأة لقوله تعالى ولا تنكحوا المشركين فهو هنا يخاطب أولياء النساء المؤمنات ، ولذا لا يصح نكاح إلا بولي (٣).

٤ ـ التنفير من مخالطة المشركين والترغيب في البعد عنهم لأنهم يدعون إلى الكفر بحالهم ومقالهم وأعمالهم ، وبذلك هم يدعون إلى النار.

__________________

(١) الخلاف في حرمة نكاح الكتابيات ضئيل ولا وزن له ، وإن كان عدم التزوج بهن أفضل وأسلم وهذا في الذميات أما الحربيات فلا يجوز نكاحهن وعلى هذا مالك وقد سئل ابن عباس عن نكاح الحربية الكتابية فقال : لا تحل.

(٢) شاهده من القرآن قوله تعالى : (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) الممتحنة.

(٣) لحديث : «لا نكاح إلا بولي» وحديث أبي داود «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليّها فنكاحها باطل باطل باطل» وهو حديث صحيح. والولي عصبة المرأة الأقرب فالأقرب فإن لم يكونوا فالسلطان ولي من لا ولي لها. ومن أركان النكاح الإشهاد عليه بشاهدين فأكثر وعليه الجمهور.

٢٠٤

٥ ـ وجوب موالاة أهل الإيمان ومعاداة أهل الكفر والضلال لأن الأولين يدعون إلى الجنة والآخرين يدعون إلى النار.

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣))

شرح الكلمات :

(الْمَحِيضِ) (١) : مكان الحيض وزمنه والحيض دم يخرج من رحم المرأة إذا خلا من الجنين.

(أَذىً) : ضرر يضر المجامع في أيامه.

(فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) : اتركوا جماعهن (٢) أيام الحيض.

(وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) : أي لا تجامعوهن حتى ينقطع دم (٣) حيضهن.

(فَإِذا تَطَهَّرْنَ) : أي إذا انقطع دم حيضهن واغتسلن منه.

__________________

(١) يطلق على الحيض أيضا لأنّه مصدر حاضت المرأة حيضا ومحاضا ومحيضا فهي حائض وقد يقال حائضة وعليه قول الشاعر : كحائضة يزنى بها غير طاهر. والحيضة المرّة الواحدة والحيضة بكسر الحاء الاسم والحيضة أيضا الخرقة تستثفر بها الحائض قالت عائشة يا ليتني كنت حيضة ملقاة واشتقاق الكلمة من السيلان ومنه الحوض لأنّ الماء يسيل إليه.

(٢) الجمهور على أنّ من وطيء امرأته في الحيض لا كفارة عليه ، وإنما عليه التوبة والاستغفار ، وضعفوا حديث «الكفارة بنصف دينار أو دينار» لاضطرابه وبه قال أحمد وعمل به.

(٣) أجمع العلماء على أنّ للمرأة ثلاثة أحكام في رؤيتها الدم السائل من فرجها فإن كان أسود خاثرا تعلوه حمرة فذلك الحيض ويحرم عليها الصوم والصلاة ويحرم وطؤها ، وتقضي الصوم ولا تقضي الصلاة للأحاديث الصحيحة في ذلك ، وأكثر الحيض خمسة عشر يوما وأقله لا حدّ له على الصحيح وأقل الطهر أيضا خمسة عشر يوما ليكمل الشهر حيضا وطهرا ، وإن كان الدم زائدا على مدّة الحيض فهو الاستحاضة وتصلي معه وتصوم وتوطأ أيضا. والحكم الثالث : دم النفاس وأكثره أربعون يوما وأقله يوم وليلة وحكمه حكم الحيض.

٢٠٥

(فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) : أي جامعوهن في قبلهن ، وهن طاهرات متطهرات (١).

(نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) : يريد مكان إنجاب الأولاد فشبه النساء بالحرث لأن الأرض إذا حرثت أنبتت الزرع ، والمرأة إذا وطئت أنبتت الولد بإذن الله تعالى.

(فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) : إذن بجماع لمرأة مقبلة أو مدبرة إذا كان ذلك في القبل الذي هو منبت الزرع ، وهي طاهرة من الحيض والنفاس.

(وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) : يريد الأعمال الصالحة ومنها إرادة تحصين النفس والزوجة بالجماع وإرادة انجاب الأولاد الصالحين الذين يوحدون الله ويدعون لوالديهم طوال حياتهم.

معنى الآيتين :

يخبر تعالى رسوله بأن بعض المؤمنين سألوه (٢) عن المحيض هل تساكن المرأة معه وتؤاكل وتشارب أو تهجر بالكلية حتى تطهر إذ كان هذا من عادة أهل الجاهلية ، وأمره أن يقول لهم الحيض أذى يضر بالرجل المواقع فيه ، وعليه فليعتزلوا النساء الحيض في الجماع فقط لا في المعاشرة والمآكلة والمشاربة ، وإنما في الجماع فقط أيام سيلان الدم بل لا بأس بمباشرة الحائض في غير ما بين السرة والركبة للحديث الصحيح في هذا كما أكد هذا المنع بقوله لهم : ولا تقربوهن (٣) أي لا تجامعوهن حتى يطهرن بإنقطاع دمهن والاغتسال بعده لقوله فإذا تطهرن أي اغتسلن فأتوهن من حيث أمركم الله باتيانهن وهو القبل لا الدبر فإنه محرم وأعلمهم تعالى أنه يحب التوابين من الذنوب المتطهرين من النجاسات والأقذار فليتوبوا وليتطهروا ليفوزوا بحب مولاهم عزوجل هذا معنى الآية الأولى : (٢٢٢) أما الأية الثانية (٢٢٣) وهي قوله تعالى : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) فهي تضمنت جواب سؤال وهو هل يجوز جماع المرأة مدبرة بأن يأتيها الرجل من ورائها إذ حصل هذا السؤال من بعضهم فعلا فأخبر تعالى

__________________

(١) هل الزوجة الكتابية يجبرها زوجها أن تغتسل من الحيض والنفاس؟ أرى أن يأمرها مرغّبا لها في ذلك وليس عليه إجبارها لأنّه لا إكراه في الدين. وهي غير متعبدة به.

(٢) روى مسلم عن أنس رضي الله عنه أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ، ولم يجامعوها في البيوت فسأل أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) الآية.

(٣) إذا قيل لا تقرّب بفتح الراء معناه لا تتلبّس بالشيء ، وإن قيل : لا تقرب بضم الراء فمعناه : لا تدن ولذا جاز للزوج أن يقرب من زوجته الحائض أو النفساء ويباشرها في غير الفرج.

٢٠٦

أنه لا مانع من ذلك إذا كان في القبل وكانت المرأة طاهرة من دمي الحيض والنفاس ، وسمىّ المرأة حرثا لأن رحمها ينبت فيه الولد كما ينبت الزرع في الأرض الطيبة ومادام الأمر كذلك فليأت الرجل امرأته كما شاء مقبلة أو مدبرة إذ المقصود حاصل وهو الإحصان وطلب الولد.

فقوله تعالى أنّى شئتم يريد على أي حال من إقبال أو إدبار شئتم شرط أن يكون ذلك في القبل لا الدبر (١). ثم وعظ تعالى عباده بقوله : وقدّموا لأنفسكم من الخير ما ينفعكم في آخرتكم واعلموا أنكم ملاقوا الله تعالى فلا تغفلوا عن ذكره وطاعته إذ هذا هو الزاد الذي ينفعكم يوم تقفون بين يدي ربكم. وأخيرا أمر رسوله أن يبشر المؤمنين بخير الدنيا والآخرة وسعادتهما من كان إيمانه صحيحا مثمرا التقوى والعمل الصالح.

هداية الآيتين :

من هداية الآيتين :

١ ـ حرمة الجماع أثناء الحيض والنفاس لما فيه من الضرر ، ولقوله تعالى : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ).

٢ ـ حرمة وطء المرأة إذا انقطع دم حيضها أو نفاسها ولم تغتسل ، لقوله تعالى : (فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَ).

٣ ـ حرمة (٢) نكاح المرأة في دبرها لقوله تعالى : (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) وهو القبل.

٤ ـ وجوب التطهير من الذنوب بالتوبة ، والتطهير من الأقذار والنجاسات بالماء.

٥ ـ وجوب تقديم ما أمكن من العمل الصالح ليكون زاد المسلم إلى الدار الآخرة لقوله تعالى : (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ).

٦ ـ وجوب تقوى الله تعالى بفعل ما أمر وترك ما نهى عنه وزجر.

٧ ـ بشرى الله تعالى على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكل مؤمن (٣) ومؤمنة.

__________________

(١) وذلك لتحريم وطيء المرأة في دبرها للآية الكريمة وللأحاديث الصحاح وما أكثرها ومنها قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيها الناس إنّ الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أعجازهن» وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أتى امرأة في دبرها لم ينظر الله إليه يوم القيامة» وورد : تلك اللّوطية الصغرى.

(٢) تقدّمت الأحاديث المحرمة لنكاح المرأة في دبرها ذات رقم (١) في هذه الصفحة.

(٣) أي صادق الإيمان كما تقدم وعلامة صدقه أن يحركه للعمل الصالح ويحمله على ترك الشرك والمعاصى.

٢٠٧

(وَلا تَجْعَلُوا (١) اللهَ عُرْضَةً (٢) لِأَيْمانِكُمْ أَنْ (٣) تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤) لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧))

شرح الكلمات :

العرضة : ما يوضع مانعا من شىء ، واليمين يحلفها المؤمن أن لا يفعل خيرا.

الأيمان : جمع يمين نحو والله لا أفعل كذا أو والله لأفعلنّ كذا.

البرور : الطاعة وفعل البر.

اللغو : الباطل ، وما لا خير فيه. ولغو اليمين أن يحلف العبد على الشيء يظنه كذا فيتبين خلافه ، أو ما يجري على لسانه من أيمان من غير إرادة الحلف.

(كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) : ما تعمّد القلب وقصد اليمين لأجله لفعله حتما أو منعه.

(يُؤْلُونَ) : الإيلاء (٤) : الحلف على عدم وطء الزوجة.

التربص : الانتظار والتمهل.

(فاؤُ) : رجعوا إلى وطء نسائهم بعد الامتناع عنه باليمين.

(الطَّلاقَ) : فك رابطة الزوجية وحلها بقوله هي طالق أو مطلقة أو طلقتك.

__________________

(١) قيل نزلت الآية في أبي بكر الصديق لما حلف أن لا ينفق على ابن خالته مسطح لأنه خاض في الإفك وقيل نزلت في عبد الله بن رواحة حين حلف أن لا يكلّم ختنه بشير بن النعمان.

(٢) العرضة ما ينصب في الطريق مانعا فيعترض طريق السائرين وأصبح يطلق على كل ما يوضع أمّام الناس يقال : فلان أصبح عرضة للناس أي يقعون فيه ويقال : المرأة عرضة للنكاح أي إذا بلغت فهي أمام أنظار الرجال.

(٣) (أَنْ تَبَرُّوا) أصلها أن لا تبرّوا فحذفت لا كما حذفت في (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) أي أن لا تضلّوا وحذفها للتخفيف ولظهور المعنى المراد.

(٤) يقال آلى يؤلي إيلاء ، وائتلي يأتلي ائتلاء ، وتألّى تأليا إذا حلف على كذا ، والإيلاء جائز لتأديب الأزواج ولكن لا يصل إلى أربعة أشهر فقد آلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من نسائه شهرا تأديبا لهن.

٢٠٨

معنى الآيات :

ينهى الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين أن يجعلوا الحلف به مانعا من فعل الخير وذلك كأن يحلف العبد أن لا يتصدق على فلان أو أن لا يكلم فلانا أو أن لا يصلح بين اثنين فقال تعالى ولا تجعلوا الله يريد الحلف به عرضة لأيمانكم (١) أي مانعا لكم من فعل خير أو ترك إثم أو اصلاح بين الناس. وأخبرهم أنه سميع لأقوالهم عليم بنياتهم وأفعالهم فليتقوه عزوجل.

ثم أخبرهم أنه تعالى لا يؤاخذهم باللغو (٢) في أيمانهم وهو أن يحلف الرجل على الشيء يظنه كذا فيظهر على خلاف ما ظن ، أو أن يجري على لسانه ما لا يقصده من الحلف كقوله لا ، والله ، بلى والله فهذا مما عفا الله عنه لعباده فلا إثم فيه ولا كفارة تجب فيه. لكن يؤاخذهم بما كسبت قلوبهم من الإثم وذلك كأن يحلف المرء كاذبا ليأخذ حق أخيه المسلم بيمينه الكاذبة فهذه هي اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار وهذه لا تنفع فيها الكفارة الموضوعة لمن حلف على أن لا يفعل أو يفعل ثم حنث ، وإنما على صاحب اليمين الغموس التوبة بتكذيب نفسه والاعتراف بذنبه ورد الحق الذي أخذه بيمينه الفاجرة إلى صاحبه وبذلك يغفر الله تعالى له ويرحمه ، والله غفور رحيم.

وبمناسبة ذكر اليمين ذكر تعالى حكم من يولي من امرأته أي يحلف أن لا يطأها فأخبر تعالى أن على المولي تربص أربعة أشهر فإن فاء إلى امرأته أي رجع إلى وطئها فبها ونعمت ، وعليه أن يكفر عن يمينه ، وإن لم يفىء إلى وطئها وأصرّ على ذلك فإن على القاضي أن يوقفه أمامه ويطالبه بالفىء فإن أبى طلقها عليه.

قال الله تعالى (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر لهم ما ارتكبوه من الذنب في حق نسائهم ويرحمهم لتوبتهم.

وإن عزموا (٣) الطلاق بأن أبوا أن يفيئوا طلقوا ، والله سميع لأقوالهم عليم بما في قلوبهم. فليحذروه بعدم فعل ما يكره ، وترك فعل ما يحب.

__________________

(١) الأيمان جمع يمين وهي الحلف ، وسمي الحلف يمينا أخذا من اليمين لأن عادة العرب إذا حلف أحدهم للآخر وضع يده اليمنى على يده اليمنى ويقال أعطاه يمينا إذا حلف له مؤكدا حلفه بوضع يده اليمنى على يد صاحبه اليمنى.

(٢) اللّغو : مصدر لغا يلغوا لغوا. إذا قال كلاما خطأ وباطلا ، ولذا المؤمنون إذا سمعوا اللّغو أعرضوا ولم يلتفتوا إليه ولم يأبهوا له. (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ).

(٣) عزم الطلاق : هو التصميم عليه فإن لم يفيئوا فقد وجب عليهم الطلاق وعليه فالمولى بين خيري النظرين وهما الفيء أو الطلاق.

٢٠٩

هداية الآيات :

١ ـ كراهية منع الخير بسبب اليمين وعليه فمن حلف أن لا يفعل خيرا فليكفر عن يمينه وليفعل الخير لحديث الصحيح «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير».

٢ ـ لغو اليمين معفو عنها ولها صورتان الأولى أن يجري على لسانه لفظ اليمين وهو لا يريد أن يحلف نحو لا والله ، وبلى والله ، والثانية أن يحلف على شىء يظنه كذا فيتبين خلافه ، مثل أن يقول والله ما في جيبي درهم ولا دينار وهو ظان أو جازم أنه ليس في جيبه شىء من ذلك ، ثم يجده فهذه صورة لغو اليمين.

٣ ـ اليمين المؤاخذ عليها العبد هي أن يحلف متعمدا الكذب قاصدا له من أجل الحصول على منفعة دنيوية وهي المقصودة بقوله تعالى : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) وتسمى باليمين الغموس ، واليمين الفاجرة.

٤ ـ اليمين التي تجب فيها الكفارة هي التي يحلف فيها العبد أن يفعل كذا ويعجز فلا يفعل أو يحلف أن لا يفعل كذا ثم يضطر ويفعل ، ولم يقل أثناء حلفه إن شاء الله ، والكفارة مبيّنة في آية المائدة وهي إطعام عشرة مساكين ، أو كسوتهم أو تحرير رقبة فإن لم يجد صام ثلاثة أيام.

٥ ـ بيان حكم الإيلاء وهو أن يحلف الرجل أن لا يطأ امرأته مدة فإن كانت أقل من (١) أربعة أشهر فله أن لا يحنث نفسه ويستمر ممتنعا عن الوطء ، إلى أن تنتهي مدة الحلف إلا أن الأفضل أن يطأ ويكفر عن (٢) يمينه ، وإن كانت أكثر من أربعة أشهر فإن عليه أن يفىء إلى زوجته أو تطلق عليه وإن كان ساخطا غير راض.

(وَالْمُطَلَّقاتُ (٣) يَتَرَبَّصْنَ

__________________

(١) ما السرّ في الأربعة أشهر؟ يبدو أنها ثلث السنة والثلث كثير كما في حديث سعد في الوصية ويؤيد هذا ما أجراه عمر رضي الله عنه من سؤال النساء عن مدى صبر المرأة على زوجها فقلن شهران ويقل صبرها في ثلاثة أشهر وينفد في أربعة أشهر. فأمر قواد الأجناد أن لا يمسكوا الرجل في الغزو أكثر من أربعة أشهر.

(٢) لقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير».

(٣) (وَالْمُطَلَّقاتُ) الجملة خبرية ومعناها الإنشاء وهو الأمر بالتربص ثلاثة قروء وهذا خاص بالحرائر أمّا الإماء فيتربصن قرأين لا غير ثبت هذا بالسنة الصحيحة وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «طلاق الأمة تطليقتان وقرءها حيضتان».

٢١٠

بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨))

شرح الكلمات :

(الْمُطَلَّقاتُ) : جمع مطلقة وهي المرأة تسوء عشرتها فيطلقها زوجها أو القاضي.

(يَتَرَبَّصْنَ) : ينتظرن.

(قُرُوءٍ) : القرء إما مدة الطهر ، أو مدة الحيض.

(ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ) : من الأجنّة فلا يحل للمطلقة أن تكتم ذلك.

(وَبُعُولَتُهُنَ) : أزواجهن واحد البعولة : بعل كفحل ونخل.

(بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ) : أي في مدة التربص والانتظار.

(وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَ) : يريد على الزوجة حقوق لزوجها ، ولها حقوق على زوجها.

(وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) : هي درجة القوامة (١) أن الرجل شرعا هو القيم على المرأة.

معنى الآية الكريمة :

بمناسبة طلاق المؤلى إن أصر على عدم الفيئة ذكر تعالى في هذه الآية (وَالْمُطَلَّقاتُ) (٢) الخ أن على المطلقة التي تحيض أن تنتظر فلا تتعرض للزواج (٣) مدة ثلاثة أقراء فإن انتهت المدة ولم يراجعها زوجها فلها أن تتزوج وهذا الانتظار يسمى عدة وهي واجبة مفروضة عليها لحق زوجها ، إذ له الحق أن يراجعها (٤) فيها وهذا معنى قوله تعالى في الآية : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُ

__________________

(١) لفظ الدرجة دال على علو المنزلة وهو كذلك ، وهو ظاهر في أنه يحميها ، ويصونها وينفق عليها وتجب طاعته عليها كما أن هناك فضلا في الخلق والخلق والكسب والعمل كالجهاد وشهود الجمعة والجماعات.

(٢) المطلقات : جنس يشمل كل مطلقة ويخرج من لا تحيض لصغر سن أو كبر بدليل الكتاب من سورة الطلاق.

(٣) القرء : لفظ مشترك بين الحيض والطهر ، ولذا ذهب مالك إلى أن القرء الطهر فجعل العدّة ثلاثة أطهار ورجحه قوله تعالى : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) وهو أوّل الطهر ، وذهب غيره إلى أنّ القرء الحيض ، والكلّ جائز وواسع والحمد لله ، إلّا أن الاعتداد بالأطهار أرفق بالمطلّقة إذ تكون المدّة أقصر لأنها تطلق في طهر لم يجامعها فيه الزوج فيبقى عليها طهران فقط.

(٤) جعل الله تعالى مدّة العدّة رحمة بالزوجين إذ قد تحدث لهما ندامة فيتراجعان بلا كلفة قال تعالى من سورة الطلاق : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) أي المراجعة ، وللرجعية النفقة على الزوج لأنها محبوسة من أجله ولا يجوز له أن يستمتع بها لا بالنظر ولا غيره ولو وطئها بدون نيّة مراجعة أثم ولا حدّ عليه للشبهة.

٢١١

بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً).

كما أن على المطلقة أن لا تكتم الحيض بأن تقول : ما حضت إلا حيضة أو حيضتين وهي حاضت ثلاثا تريد بذلك الرجعة لزوجها ، ولا تقول حضت ثلاثا وهي لم تحض من أجل أن لا ترجع إلى زوجها ، ولا تكتم الحمل كذلك حتى إذا تزوجت من آخر تنسب إليه الولد وهو ليس بولده وهذا من كبائر الذنوب. ولذا قال تعالى ولا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن ، يريد من حيض وحمل إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وقوله تعالى : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ) يريد والزوج أحقّ بزوجته المطلقة مادامت في عدّتها وعلى شرط أن لا يريد بإرجاعها المضارة بها بل لا بد وأن يريد برجعتها الإصلاح وطيب العشرة بينهما وهذا ظاهر قوله تعالى : (إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) ، وعلى المطلقة أن تنوي برجوعها إلى زوجها الإصلاح أيضا.

ثم أخبر تعالى أن للزوجة من الحقوق على زوجها ، مثل ما للزوج عليها من حقوق فقال تعالى : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) وأخبر أن للرجل على المرأة درجة لم ترقها المرأة ولم تكن لها وهي القيوميّة المفهومة من قوله تعالى من سورة النساء : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) وختمت الآية بجملة (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) إشعارا بوجوب تنفيذ هذه التعاليم لعزة الله تعالى وحكمته فإن الغالب يجب أن يطاع والحكيم يجب أن يسلم له في شرعه لأنه صالح نافع غير ضار.

هداية الآية

من هداية الآية :

١ ـ بيان عدة المطلقة إذا كانت تحيض وهو التربص ثلاثة حيض أو أطهار.

٢ ـ حرمة كتمان المطلقة حيضا أو حملا خلقه الله تعالى في رحمها ، ولأي غرض كان.

٣ ـ أحقية (١) الزوج بالرجعة من مطلقته إذا لم تنقض عدتها ، حتى قيل الرجيعة زوجة بدليل أنها لو ماتت يرثها زوجها ولو مات ترثه. وأنه لا يحل أن تخطب أو تتزوج مادامت في عدتها.

٤ ـ اثبات حقوق كل من (٢) الزوجين على صاحبه.

__________________

(١) معنى أحق في قوله : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) أن المطلقة لها حق أن لا ترجع والزوج له حق أن يراجعها متى شاء فكان هناك حقان أقواهما حق الزوج. أو يقال اسم التفضيل هنا ليس على بابه ، والأوّل أظهر لقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الأيم أحق بنفسها من وليّها.

(٢) من الحقوق المتبادلة بين الزوجين أن يتزيّن كل منهما لصاحبه بما يكون زينة عرفية لهما مما هو مباح.

٢١٢

٥ ـ تقرير سيادة الرجل على المرأة لما وهبه الله من ميزات (١) الرجولة المفقودة في المرأة.

(الطَّلاقُ (٢) مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩))

شرح الكلمات :

(الطَّلاقُ) (٣) : الاسم من طلّق وهو أن يقول الرجل لزوجته أنت طالق أو طلقتك.

(مَرَّتانِ) (٤) : يطلقها ، ثم يردها ، ثم يطلقها ثم يردها. أي يملك الزوج الإرجاع في طلقتين أما إن طلق الثالثة فلا يملك ذلك ولا ترجع حتى تنكح زوجا غيره.

(فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) : حسن العشرة فإن خافت المرأة أو خاف الزوج أن لا يؤدي حقوق الزوجية جاز الفداء وهو دفع مال للزوج ليخلي سبيل المرأة تذهب حيث شاءت ، ويسمى هذا خلعا.

(حُدُودَ اللهِ) : ما يجب أن ينتهي إليه العبد من طاعة الله ولا يتجاوزه.

__________________

(١) تقدم ذكر بعضها في الصفحة قبل ذي تحت رقم (٤).

(٢) كان الطلاق في الجاهلية وبرهة من الزمن في الإسلام ليس له حد فقد يطلق الرجل امرأته عشرات المرات حتى إن رجلا قال لامرأته لا آويك ولا أدعك تحلين قالت وكيف؟ قال : أطلقك فإذا دنا مضي عدتك راجعتك ، فشكت ذلك إلى عائشة فذكرت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ ..) الخ.

(٣) الطلاق شرعا : هو حل العصمة المنعقدة بين الزوجين بألفاظ مخصوصة منها أنت طالق ، والطلاق مباح لرفع الضرر عن أحد الزوجين أو عن كليهما.

(٤) روى الدار قطني عن أنس أن رجلا قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال الله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) فلم صار ثلاثا؟ قال : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) هي الثالثة.

٢١٣

الظالم : المتجاوز لما حدّ الله تعالى ، والظلم وضع الشىء في غير موضعه.

معنى الآية الكريمة

ما زال السياق في بيان أحكام الطلاق فيقرر تعالى في هذه الآية أن الطلاق الذي يملك الزوج الرجعة فيه هو طلقتان أولى ، وثانية فقط ، ومن هنا فمن طلق الثانية فهو بين خيارين إما أن يمسك زوجته بمعروف ، أو يطلقها بإحسان فإن طلقها فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره هذا معنى قوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) أي بحسن العشرة وهو أداء ما للزوج من حقوق ، أو تسريح أي تطليق بإحسان بأن يعطيها باقي صداقها إن كان ، ويمتعها بشىء من المال ولا يذكرها بسوء.

وقوله تعالى (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ (١) أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) : حرم تعالى على الزوج أن يأخذ من مهر زوجته شيئا بدون رضاها ، إلا في حال واحدة وهي إذا كرهت المرأة الزوج ولم تطق البقاء معه وهو غير ظالم لها في هذه الحال يجوز أن تعطي الزوج مالا ويطلقها ويسمى هذا خلعا وهو (٢) حلال على الزوج غير الظالم ، وهذا معنى (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) وهي هنا المعاشرة الحسنة فلا جناح أى لا إثم فيما فدت (٣) به نفسها فلها أن تعطي المال للزوج وله أن يأخذه منها مقابل تركها وحل عصمة الزوجية بينهما.

وقوله تعالى : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) (٤) يريد أحكام شرعه فلا يحل تجاوز الحلال إلى الحرام ، ولا تجاوز الإحسان إلى الإساءة ، ولا المعروف إلى المنكر ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه عرضها للعذاب ، وما ينبغي له ذلك.

__________________

(١) الخطاب هنا للأزواج وفي قوله (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) للحكام وولاة الأمور.

(٢) لا خلاف في أنّ المخالع منها بائنة لا يملك الزوج رجعتها في العدّة وهل يعتبر الخلع طلاقا أو فسخا. الراجح أنّه طلاق فتعتد المخالع منها عدة الطلاق ثلاثة قروء.

(٣) أما ما كان من الفدية مثل المهر أو أقل فلا خلاف فيه أي في جوازه ، وأما ما كان أكثر من المهر ففيه خلاف والراجح على أنه جائز ولكنه مناف لمكارم الأخلاق.

(٤) القصر في جملة (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) قصر حقيقي إذ كل ظالم متعد لحدود الله.

٢١٤

هداية الآية

من هداية الآية :

١ ـ حرمة الطلاق الثلاث (١) بلفظ واحد ، لأن الله تعالى قال الطلاق مرتان.

٢ ـ المطلقة ثلاث طلقات لا تحل لزوجها حتى تنكح زوجا غيره (٢) ويطلقها أو يموت عنها.

٣ ـ مشروعية الخلع وهو أن تكره المرأة البقاء مع زوجها فتخلع نفسها منه بمال تعطيه إياه عوضا عما أنفق عليها في الزواج بها.

٤ ـ وجوب الوقوف عند حدود الله وحرمة تعديها.

٥ ـ تحريم الظلم وهو ثلاثة أنواع : ظلم الشرك وهذا لا يغفر للعبد إلا بالتوبة منه وظلم العبد لأخيه الإنسان وهذا لا بد من التحلل منه ، وظلم العبد لنفسه بتعدّي حد من حدود الله وهذا أمره إلى الله إن شاء غفره وإن شاء واخذ به

(فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠))

شرح الكلمات

(فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ) : الطّلقة الثالثة فلا تحل له إلا بعد ان تنكح زوجا غيره

(فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) : أي لا إثم ولا حرج عليهما في الزواج من جديد

(أَنْ يَتَراجَعا) : ان يرجع كل منهما لصاحبه بعقد جديد وبشرط أن يظنا إقامة حدود الله فيهما ، وإلا فلا يجوز نكاحهما.

معنى الآية الكريمة :

يقول تعالى مبينا حكم من طلق امرأته الطلقة الثالثة : فإن طلقها فلا تحلّ له حتى تنكح زوجا غيره ، ويكون النكاح صحيحا ويبني بها الزوج الثاني لحديث «حتى تذوقي عسيلته

__________________

(١) وهو الطلاق البدعي والجمهور على أنه يقع ثلاثا وخلاف الجمهور يقولون طلاق بدعي ويقع واحدة ودليلهم الاية : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) والطلاق بلفظ الثلاث ليس فيه مرتان ولا اقراء فلذا هو بدعي ولا تبين المطلقة به بل هي مطلقة واحدة لا غير.

(٢) لا يحل لا مرى أن يتزوج مطلقة ثلاثا ليحلها لزوجها للعن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من يفعل ذلك في قوله «لعن الله المحلل والمحلل له» وسماه بالتيس المستعار.

٢١٥

ويذوق عسيلتك» ، فإن طلقها الثاني بعد البناء والخلوة والوطء أو مات عنها جاز لها أن تعود إلى الأول إن رغب هو في ذلك وعلما من أنفسهما أنهما يقيمان حدود الله فيهما بإعطاء كل واحد حقوق (١) صاحبه مع حسن العشرة وإلا فلا مراجعة تحل لهما. ولذا قال تعالى إن ظنا أن يقيما حدود الله ثم نوّه الله تعالى بشأن تلك الحدود فقال : (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) وهي شرائعه ، يبينها سبحانه وتعالى لقوم يعلمون (٢) ، إذ العالمون بها هم الذين يقفون عندها ولا يتعدونها فيسلمون من وصمة الظلم وعقوبة الظالمين.

هداية الآية

من هداية الآية

١ ـ المطلقة ثلاثا لا تحل لمطلقها (٣) إلا بشرطين الأول أن تنكح زوجا غيره نكاحا صحيحا ويبني بها ويطأها والثاني أن يغلب على ظن كل منهما أن العشرة بينهما تطيب وأن لا يتكرر ذلك الاعتداء الذي أدى إلى الطلاق ثلاث مرات.

٢ ـ موت الزوج الثاني كطلاقه تصح معه الرجعة إلى الزوج الأول بشرطه.

٣ ـ إن تزوجت المطلقة ثلاثا بنيّة التمرد على الزوج حتى يطلقها لتعود إلى الأول فلا يحلّها هذا النكاح لأجل التحليل ، لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبطله وقال : «لعن الله المحلل والمحلل له» ويسمّى بالتيس المستعار ، ذاك الذي يتزوج المطلقة ثلاثا بقصد أن يحلها للأول.

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١))

__________________

(١) ذهب بعض الفقهاء إلى أنه ليس على الزوجة عمل لزوجها ولا حق له عليها إلّا في الاستمتاع بها وهو قول واه يرده ما كان عليه بنات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأزواجه وأزواج أصحابه ، إذ كن يطحنّ ويغسلن ويطبخن ويقمن بعمل المنزل ويؤمرن بذلك بل ويضر بن إن قصّرن فيه.

(٢) أي الذين يفهمون الأحكام فهما يهيئهم للعمل بها وبإدراك مصالحها فلا يتحيلون في فهمها ليتركوا العمل بها.

(٣) اختلف فيمن طلقت طلقة أو طلقتين ثم تزوجت ومات زوجها وطلقها ورجعت إلى زوجها الأوّل فهل النكاح الجديد يهدم السابق أو تبقى على ما كانت عليه؟ الجمهور على أنها تبقى على ما كانت عليه من طلقة أو طلقتين.

٢١٦

شرح الكلمات :

(أَجَلَهُنَ) : أجل المطلقة مقاربة (١) انتهاء ايام عدتها

(أَوْ سَرِّحُوهُنَ) : تسريح المطلقة تركها بلا مراجعة لها حتى تنقضي عدتها وتبين من زوجها.

(ضِراراً) : مضارة لها وإضرارا بها.

(لِتَعْتَدُوا) : لتتجاوزوا حد الإحسان إلى الإساءة.

(هُزُواً) (٢) : لعبا بها بعدم التزامكم بتطبيق أحكامها.

(نِعْمَتَ اللهِ) : هنا هي الإسلام.

(الْحِكْمَةِ) (٣) : السنة النبوية.

(يَعِظُكُمْ بِهِ) : بالذي أنزله من أحكام الحلال والحرام ؛ لتشكروه تعالى بطاعته.

معنى الآية الكريمة

ما زال السياق في بيان أحكام الطلاق والخلع والرجعة ففي هذه الآية يأمر تعالى عباده المؤمنين إذا طلق أحدهم امرأته وقاربت نهاية عدتها أن يراجعها فيمسكها (٤) بمعروف ، والمعروف هو حسن عشرتها أو يتركها حتى تنقضي عدتها ويسرحها بمعروف فيعطيها كامل حقوقها ولا يذكرها إلا بخير ويتركها تذهب حيث شاءت. وحرم على أحدهم أن يراجع امرأته من أجل أن يضرّ بها فلا هو يحسن إليها ولا يطلقها فتستريح منه ، فقال تعالى : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) يريد عليهن حتى تضطر المرأة المظلومة إلى المخالعة فتفدي نفسها منه بمال وأخبر تعالى : أن من يفعل هذا الإضرار فقد عرض نفسه للعذاب الأخروي.

كما نهى تعالى المؤمنين عن التلاعب بالأحكام الشرعية ، وذلك بإهمالها وعدم تنفيذها فقال تعالى : (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ (٥) اللهِ هُزُواً) وأمرهم أن يذكروا نعمة الله عليهم حيث منّ

__________________

(١) بالإجماع أن المراد من بلوغ الأجل هنا مقاربة بلوغه لأنّه إذا بلغ الأجل لا خيار له في الإمساك.

(٢) لا خلاف بين أهل العلم أنّ من طلق هازلا أنّ الطلاق يلزمه لحديث أبي داود أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة».

(٣) الحكمة هي السنة المبيّنة على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مراد الله فيما لا نصّ عليه من الكتاب.

(٤) قال أهل العلم : إنّ من الإمساك بالمعروف أنّ الزوج إذا لم يجد ما ينفق على زوجته يطلقها فإن لم يطلقها خرج عن حدّ المعروف.

(٥) روي عن أبي الدرداء أنه قال : كان الرجل في الجاهلية يطلّق ويقول إنّما طلّقت وأنا لاعب وينكح ويعتق ويقول كنت لاعبا فنزلت هذه الآية : (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً).

٢١٧

عليهم بالإسلام دين الرحمة والعدالة والإحسان وذلك ليشكروه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.

كما عليهم أن يذكروا نعمة الله عليهم زيادة على الإسلام وهي نعمة انزال الكتاب. والحكمة ليعظهم بذلك فيأمرهم بما فيه سعادتهم وكمالهم ، وينهاهم عما فيه شقاؤهم وخسرانهم : ثم أمرهم بتقواه عزوجل ، فقال (وَاتَّقُوا اللهَ) وأعلمهم أنه أحق أن يتقى لأنه بكل شيء عليم لا يخفى عليه من أمرهم شيء فيلحذروا أن يراهم على معصيته مجانبين لطاعته.

هداية الآية

من هداية الآية :

١ ـ لا يحل للمطلق أن يراجع امرأته من أجل أن يضرّ بها ويظلمها حتى تخالعه بمال.

٢ ـ حرمة التلاعب بالأحكام الشرعية بعدم مراعاتها ، وتنفيذها.

٣ ـ وجوب ذكر نعمة الله على العبد وذلك بذكرها باللسان ، والاعتراف (١) بها في الجنان.

٤ ـ وجوب تقوى الله تعالى في السر والعلن.

٥ ـ مراقبة الله تعالى في سائر شؤون الحياة لأنه بكل شىء عليم.

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢٣٢))

(٢)

شرح الكلمات :

(فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) : أى انتهت (٣) عدتهن.

__________________

(١) وصرفها فيما يرضي المنعم عزوجل وذلك باستعمال القوى الفعلية والبدنية في طاعة الله تعالى ، وانفاق المال فيما يجب أن ينفق فيه.

(٢) (ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ) الإشارة فيه إلى حكم العضل المحرّم والمخاطب به سائر المسلمين ولم يقل ذلكم إذ الأصل هو الإشارة إلى المذكور وهو مفرد ولو قال ذلكم جاز.

(٣) بلوغ الأجل في هذه الآية هو نهايته وليس كالآية السابقة إذ بلوغ الأجل فيها المراد قرب نهايته إذ لو بلغ الأجل نهايته ما صحّت مراجعتها.

٢١٨

(فَلا تَعْضُلُوهُنَ) : أي لا تمنعوهن من التزوج مرة أخرى بالعودة إلى الرجل الذي طلقها ولم يراجعها حتى انقضت عدتها.

(إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) : إذا رضى الزوج المطلق أن يردها إليه ورضيت هي بذلك.

(ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ) : أي النهي عن العضل يكلف به أهل الإيمان إذ هم القادرون على الطاعة.

(ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ) : أى ترك العضل خير لكم من العضل وأطهر لقلوبكم ؛ إذ العضل قد يسبب ارتكاب الفاحشة.

معنى الآية الكريمة :

ينهى الله تعالى أولياء أمور النساء أن يمنعوا المطلقة طلقة أو طلقتين فقط من أن تعود إلى زوجها الذي طلقها وبانت منه بانقضاء عدتها ، إذا رضيت هي بالزواج منه مرة أخرى ورضي هو به وعزما على المعاشرة الحسنة بالمعروف وكانت هذه الآية استجابة لأخت معقل بن يسار رضي الله عنه حيث أرادت أن ترجع إلى زوجها (١) الذي طلقها وبانت منه بانقضاء العدة فمنعها أخوها معقل.

وقوله تعالى : (ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ) أي هذا النهي عن العضل يوجه إلى أهل الإيمان بالله واليوم الآخر فهم الأحياء الذين يستجيبون لله ورسوله إذا أمروا أو نهوا.

وأخيرا أخبرهم تعالى أن عدم منع المطلقة من العودة إلى زوجها خير لهم ، حالا ومآلا وأطهر لقلوبهم ومجتمعهم. وأعلمهم أنه يعلم عواقب الأمور وهم لا يعلمون فيجب التسليم بقبول شرعه ، والانصياع لأمره ونهيه. فقال تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)

هداية الآية

من هداية الآية :

١ ـ حرمة العضل أي منع المطلقة أن ترجع إلى من طلقها.

٢ ـ وجوب (٢) الولاية على المرأة ، لأن الخطاب في الآية كان للأولياء (وَلا تَعْضُلُوهُنَ).

__________________

(١) اسم هذا الزوج (أبو البداح) وكان قد طلق أخت معقل بن يسار ورغب في العودة إليها بنكاح جديد بعد انقضاء عدتها فأبى معقل وقال لها : وجهي من وجهك حرام إن تزوّجتيه فنزلت هذه الآية (وَإِذا طَلَّقْتُمُ ...) الخ.

(٢) دليله أن أخت معقل كانت ثيبة ومنعها أخوها من الزواج بمن طلّقها وراجعها ثم طلقها مرّة ثانية وانقضت عدتها ولمّا نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمعقل : «إن كنت مؤمنا فلا تمنع أختك من أبي البداح» فقال آمنت بالله وردّها إلى أبي البداح فهذا دليل على شرطية الولي في النكاح البكر والثيب سواء.

٢١٩

٣ ـ المواعظ تنفع أهل الإيمان لحياة قلوبهم.

٤ ـ في امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه الخير كله ، والطهر جميعه.

(وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ (١) بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٣))

شرح الكلمات :

(حَوْلَيْنِ) : عامين.

(وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ) : أي على الأب

(بِالْمَعْرُوفِ) : بحسب حاله يسارا وإعسارا.

(وُسْعَها) : طاقتها وما تقدر عليه.

(لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها) (٢) : أي لا يحل أن تؤذى أم الولد بمنعها من إرضاع ولدها ، أو بمنعها الأجرة على إرضاعه هذا في حال طلاقها ، أو موت زوجها.

__________________

(١) قوله تعالى (كِسْوَتُهُنَ) إمّا أن يكون المراد به المرضع غير المطلقة فهي التي يجب لها الكسوة أمّا المرضع بأجرة فلا كسوة لها وإنما لها ثمن الإرضاع ، أو يكون ذكر الكسوة من باب مكارم الأخلاق إذ ذو الخلق الكريم يكرم مرضعة ولده بالكسوة وغيرها.

(٢) في الآية دليل على أن الأم أحق بالحضانة إذا طلقت أو مات الوالد ولا خلاف في ذلك ما لم تتزوج فإنّ حضانتها تسقط بذلك لقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن شكت إليه : «أنت أحقّ به ما لم تنكحي» واختلف في مدّة الحضانة ، فما لك يرى أنها إلى بلوغ الغلام وتزوّج الجارية ، ورأى الشافعي أنها إلى ثمان سنوات ثم يخيّر الولد بين أبيه وأمه فأيهما اختار له ذلك والبنت كذلك فقد صحّ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيّر الولد بين أبيه وأمه.

٢٢٠