أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ١

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ١

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٤

الخامسة : تصريف الرياح (١) حارة وباردة ملقحة وغير ملقحة ، شرقية وغربية وشمالية وجنوبية بحسب حاجة الناس وما تطلبه حياتهم.

السادسة : السحاب (٢) المسخر بين السماء والأرض تكوينه وسوقه من بلد إلى آخر ليمطر هنا ولا يمطر هناك حسب إرادة العزيز الحكيم.

ففي هذه الآيات الست أكبر برهان وأقوى دليل على وجود الله تعالى وعلمه وقدرته وحكمته ورحمته وهو لذلك رب العالمين وإله الأولين والآخرين ولا رب غيره ولا إله سواه. إلا أن الذي يجد هذه الأدلة ويراها ماثلة في الآيات المذكورة هو العاقل أما من لا عقل له لأنه عطل عقله فلم يستعمله في التفكير والفهم والإدراك ، واستعمل بدل العقل الهوى فإنه أعمى لا يبصر شيئا وأصم لا يسمع شيئا ، وأحمق لا يعقل شيئا ، والعياذ بالله تعالى.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ لا إله إلا الله فلا تصح العبادة لغير الله تعالى ، لأنه لا إله حق (٣) إلا هو.

٢ ـ الآيات الكونية في السموات والأرض تثبت وجود الله تعالى ربا وإلها موصوفا بكل كمال منزها عن كل نقصان.

٣ ـ الآيات التنزيلية القرآنية (٤) تثبت وجود الله ربا وإلها وتثبت النبوة المحمدية وتقرر رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٤ ـ الانتفاع بالآيات مطلقا ـ آيات الكتاب أو آيات الكون ـ خاص بمن يستعملون عقولهم دون أهوائهم.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ

__________________

(١) نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن سبّ الريح ، فقد روى ابن ماجه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تسبوا الريح فإنها من روح الله تأتي بالرحمة والعذاب ، ولكن سلوا الله من خيرها وتعوّذوا بالله من شرها».

(٢) سمي السحاب سحابا لأنه يسحب من موضع إلى آخر أي من بلد إلى بلد آخر.

(٣) في بعض تلبية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لبيك إله الحق لبيك».

(٤) الآيات الكونية هي المنسوبة إلى الكون الذي هو الخلق الذي كونه الله تعالى فكان ، وذلك السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما من سائر المخلوقات والآيات التنزيلية هي المنسوبة إلى القرآن المنزل من الله على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

١٤١

وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (١٦٥) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧))

شرح الكلمات :

(أَنْداداً) : جمع ند وهو المثل والنظير والمراد بالأنداد هنا الشركاء يعبدونها بحبها والتقرب إليها بأنواع العبادات كالدعاء والنذر لها والحلف بها.

التبرؤ : التنصل من الشيء والتباعد عنه لكرهه.

(الَّذِينَ اتُّبِعُوا) : المعبودون والرؤساء المضلون.

الذين اتبعوا : المشركون والمقلدون لرؤسائهم في الضلال.

(الْأَسْبابُ) : جمع سبب وهي لغة الحبل ثم استعمل في كل ما يربط بين شيئين وفي كل ما يتوصل به إلى مقصد وغرض خاص.

(كَرَّةً) : رجعة وعودة إلى الحياة الدنيا.

الحسرات : جمع حسرة وهي الندم الشديد الذي يكاد يحسر صاحبه فيقعد به عن الحركة والعمل.

معنى الآيات :

لما تقرر في الآيتين السابقتين بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة أن إله الناس أي ربهم ومعبودهم واحد وهو الله جل جلاله وعظم سلطانه أخبر تعالى أنه مع هذا البيان والوضوح

١٤٢

يوجد ناس يتخذون من دون (١) الله آلهة أصناما ورؤساء يحبونهم (٢) كحبهم (٣) لله تعالى أي يسوون (٤) بين حبهم وحب الله تعالى ، والمؤمنون أشد منهم حبا لله تعالى ، كما أخبر تعالى أنه لو يرى المشركون عند معاينتهم العذاب يوم القيامة لرأوا أمرا فظيعا يعجز الوصف عنه ، ولعلموا أن القوة لله وأن الله شديد العذاب إذ تبرأ المتبعون وهم الرؤساء الظلمة دعاة الشرك والضلالة من متبوعيهم الجهلة المقلّدين وعاينوا (٥) العذاب أمامهم وتقطعت تلك الروابط التي كانت تربط بينهم ، وتمنى التابعون العودة إلى الحياة الدنيا لينتقموا من رؤسائهم في الضلالة فيتبرءوا منهم في الدنيا كما تبرءوا هم منهم في الآخرة ، وكما أراهم الله تعالى العذاب فعاينوه ، يريهم أعمالهم القبيحة من الشرك والمعاصي فتعظم حسرتهم ويشتد كربهم ويدخلون بها النار فلا يخرجون منها أبدا.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب حب (٦) الله وحبّ كل ما يحبّ الله عزوجل بحبه تعالى.

٢ ـ من الشرك الحب (٧) مع الله تعالى ، ومن التوحيد الحب بحب الله عزوجل.

٣ ـ يوم القيامة تنحل جميع الروابط من صداقة ونسب ولم تبق إلا رابطة الإيمان والأخوة فيه

٤ ـ تبرؤ (٨) رؤساء الشرك والضلال ودعاة الشر والفساد ممن أطاعوهم في الدنيا واتبعوهم على الظلم والشر والفساد ، وليس بنافعهم ذلك شيئا.

(يا أَيُّهَا (٩) النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا

__________________

(١) دون : تكون بمعنى غير وسوى ، ولا يطّرد ، إذ أصلها أنها ظرف مكان نحو جلست دونك ، وتكون بمعنى الرديء تقول : هذا التمر دون.

(٢) فالآية الكريمة تعني المشركين عبدة الأوثان ورؤساء أهل الكتاب لقوله يحبونهم وهي عامة في كل من يحب غير الله تعالى من مخلوقاته كحب الله تعالى ، إذ الحب إمّا أن يكون لله وإلّا فهو شرك في حب الله تعالى.

(٣) وذلك لأنهم كانوا يدعون الله في الشدّة ، ويعظمون حرمات الحرم ، والأشهر الحرم فلذا هم يحبون الله تعالى ولكن يحبون آلهتهم ورؤساءهم أكثر من حب الله تعالى لجهلهم به سبحانه وتعالى.

(٤) لحديث ابن مسعود في الصحيح : «قلت أي الذنب أعظم يا رسول الله؟ قال : أن تجعل لله ندا وهو خلقك».

(٥) معاينة العذاب تكون عند الموت وعند العرض والمساءلة يوم القيامة.

(٦) للحديث الصحيح : «أحبوا الله لما يغذوكم من النعم ، وأحبوني بحب الله».

(٧) الحبّ : حبان حبّ عبادة وهذا لا يكون إلا لله تعالى ، وحب غريزة كحب الطعام والشراب وسائر الملاذ ، فهذا يجب القصد فيه وعدم الإفراط فقط ، وخير الحب ما كان لأجل الله تعالى.

(٨) وشواهد هذا في غير آية من القرآن كقوله تعالى : (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ).

(٩) قيل : هذه الآية نزلت في ثقيف ، وخزاعة وبني مدلج إذ حرّموا من الأنعام ما حرّموا وعلى كلّ فهي عامة في كل من حرّم غير ما حرّم الله تعالى.

١٤٣

خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ (١) وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (١٦٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠))

شرح الكلمات :

الحلال : ما انحلت عقدة الحظر عنه وهو ما أذن الله تعالى فيه.

الطيب : ما كان طاهرا غير نجس ، ولا مستقذر تعافه النفوس.

(خُطُواتِ الشَّيْطانِ) الخطوات جمع خطوة وهي المسافة بين قدمي الماشي والمراد بها هنا مسالك الشيطان وطرقه المفضية بالعبد إلى تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم.

(عَدُوٌّ مُبِينٌ) : عداوته بينة وكيف وهو الذي أخرج أبوينا آدم وحواء من الجنة وأكثر الشرور والمفاسد في الدنيا إنما هي بوسواسه وإغوائه.

(بِالسُّوءِ) (٢) : كل ما يسوء النفس ويصيبها بالحزن والغم ويدخل فيها سائر الذنوب.

(الْفَحْشاءِ) (٣) : كل خصلة قبيحة كالزنا واللواط والبخل وسائر المعاصي ذات القبح الشديد.

(أَلْفَيْنا) : وجدنا.

معنى الآيات :

بعد ذلك العرض لأحوال أهل الشرك والمعاصي والنهاية المرة التي انتهوا إليها وهي الخلود في عذاب النار نادى الرب ذو الرحمة الواسعة البشرية (٤) جمعاء (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي

__________________

(١) لفظ الفحشاء لم يطلق في القرآن إلا على فاحشة الزنا واللواط اللهم إلا في آية واحدة وهي (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) فإن الفحشاء هنا بمعنى البخل بمنع الزكاة.

(٢) قيل : السوء مالا حدّ فيه من الذنوب ، والفحشاء ما فيه حدّ.

(٣) أصل الفحشاء : قبح المنظر وعليه قول الشاعر :

وجيد كجيد الريم ليس بفاحش

ثم توسع فيه فأصبح يطلق على ما قبح من المعاني.

(٤) انه وإن كان سبب نزول الآية خاصا فإن معناها عام ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

١٤٤

الْأَرْضِ) ، وهو عطاؤه وإفضاله ، حلالا طيبا (١) حيث أذن لهم فيه ، وأما ما لم يأذن لهم فيه فإنه لا خير لهم في أكله لما فيه من الأذى لأبدانهم وأرواحهم معا ، ثم نهاهم عن اتباع آثار عدوه وعدوهم فإنهم إن اتبعوا خطواته قادهم إلى حيث شقاؤهم وهلاكهم ، وأعلمهم وهو ربهم أن الشيطان لا يأمرهم إلا بما يضر أبدانهم وأرواحهم والسوء وهو كل ما يسوء النفس والفحشاء وهي أقبح الأفعال وأردى الأخلاق وأفظع من ذلك أن يأمرهم بأن يكذبوا على الله فيقولوا عليه مالا يعلمون فيحرمون ويحللون ويشرعون باسم الله ، والله في ذلك برىء وهذه قاصمة الظهر والعياذ بالله تعالى ، حتى إذا أعرضوا عن إرشاد ربهم واتبعوا خطوات الشيطان عدوهم ففعلوا السوء وارتكبوا الفواحش وحللوا وحرموا وشرعوا ما لم يأذن به الله ربهم ، وقال لهم رسول الله اتبعوا ما أنزل الله قالوا لا ، بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا ، يا سبحان الله يتبعون ما وجدوا عليه آباءهم ولو كان باطلا ، وضلالا ، أيقلدون (٢) أباءهم ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا من أمور الشرع والدين ، ولا يهتدون إلى ما فيه الصلاح والخير.

هداية الآيات

من هداية الآيات

١ ـ وجوب طلب الحلال والاقتصار على العيش منه ولو كان ضيقا قليلا.

٢ ـ الحلال ما أحله الله ، والحرام ما حرمه الله تعالى فلا يستقل العقل بشىء من ذلك.

٣ ـ حرمة اتباع مسالك الشيطان وهي كل معتقد أو قول أو عمل نهى الله تعالى عنه.

٤ ـ وجوب الابتعاد عن كل سوء وفحش لأنهما مما يأمر بهما الشيطان.

٥ ـ حرمة تقليد من لا علم له ولا بصيرة في الدين.

٦ ـ جواز اتباع أهل العلم والأخذ بأقوالهم وآرائهم المستقاة من الوحي الإلهي الكتاب والسنة.

__________________

(١) يصح إعراب (حَلالاً طَيِّباً) على أنهما حالان من (مِمَّا فِي الْأَرْضِ) ويصح أيكون طيبا صفة لحلال كما يصح أن يكون حلالا مفعولا لكلوا.

(٢) استدل بهذه الآية على حرمة التقليد في العقائد مطلقا أما في الفروع فهو أهون ، والتقليد هو قبول الحكم بلا دليل ولا حجّة.

١٤٥

(وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١))

شرح الكلمات :

(مَثَلُ) : المثل الصفة والحال.

(يَنْعِقُ) : يصيح والاسم النعيق (١) وهو الصياح ورفع الصوت.

الدعاء : طلب القريب كدعاء المؤمن ربه يا رب. يا رب.

النداء (٢) : طلب البعيد كأذان الصلاة.

الصم : جمع أصم فاقد حاسة السمع فهو لا يسمع.

البكم : جمع أبكم فاقد حاسة النطق فهو لا ينطق.

(لا يَعْقِلُونَ) : لا يدركون معنى الكلام ولا يميزون بين الأشياء لتعطل آلة الإدراك عندهم وهي العقل.

معنى الآية الكريمة :

لما نددت الآية قبل هذه (١٧٠) بالتقليد والمقلدين الذي يعطلون حواسهم ومداركهم ويفعلون ما يقول لهم رؤساؤهم ويطبقون ما يأمرونهم به مسلمين به لا يعرفون لم فعلوا ولم تركوا جاءت هذه الآية بصورة عجيبة ومثل غريب للذين يعطلون قواهم العقلية ويكتفون بالتبعية في كل شيء حتى أصبحوا كالشياه من الغنم يسوقها راعيها حيث شاء فإذا نعق بها داعيا لها أجابته ولو كان دعاؤه إياها لذبحها ، وكذا إذا ناداها بأن كانت بعيدة أجابته وهي لا تدري لم نوديت إذ هي لا تسمع ولا تفهم إلا مجرد الصوت الذي ألفته بالتقليد (٣) الطويل والاتباع بدون دليل.

__________________

(١) النعيق : دعاء الراعي ، وتصويته بالغنم ، وعليه قول الشاعر :

فانعق بضأنك يا جرير فإنما

منتك نفسك في الخلاء ضلالا

(٢) وفي الحديث : «إنّ بلالا أندى صوتا».

(٣) وهناك معنى آخر للآية قاله الطبري وهو أن المراد مثل الكافرين في دعائهم آلهتهم كمثل الذي ينعق بشيء بعيد فهو لا يسمع من أجل البعد فليس للناعق من ذلك إلّا النداء الذي يتعبه وينصبه وما فسّرناه به أصحّ وأمثل.

١٤٦

فقال تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) في جمودهم وتقليد ابائهم في الشرك والضلال كمثل غنم (١) ينعق بها راعيها الأمين عليها فهو إذا صاح فيها داعيا لها أو مناديا لها سمعت الصوت وأجابت ولكن لا تدري لماذا دعيت ولا لماذا نوديت لفقدها العقل. وهذا المثل صالح لكل من يدعو أهل الكفر والضلال إلى الإيمان والهداية فهو مع من يدعوهم من الكفرة والمقلدين والضلال الجامدين كمثل الذي ينعق إلخ .....

هداية الآية

من هداية الآية الكريمة :

١ ـ تسلية الدعاة إلى الله تعالى عند ما يواجهون المقلدة من أهل الشرك والضلال.

٢ ـ حرمة التقليد لأهل الأهواء والبدع.

٣ ـ وجوب طلب العلم والمعرفة حتى لا يفعل المؤمن ولا يترك إلا على علم بما فعل وبما ترك.

٤ ـ لا يتابع إلا أهل العلم والبصيرة في الدين ، لأن اتباع الجهال يعتبر تقليدا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا (٢) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ (٣) وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣))

__________________

(١) يقال : نعق الغراب ، ونغق بالغين ونعب ، نعق إذا صوّت من غير أن يمد عنقه ويحركها ، ونغق بمعناه فإذا مدّ عنقه وحرّكها. ثم صاح قيل فيه نعب.

(٢) أخرج مسلم قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا أيها الناس إن الله طيّب لا يقبل إلّا طيبا ، وإنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال : يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم ، وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ ..) الآية. ثم ذكر الرجل يطيل السفر ، أشعث أغبر يمدّ يديه إلى السماء يا رب يا رب ، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام ، فأنى يستجاب لذلك؟!».

(٣) الميت والميتة بتسكين الياء هو ما مات قطعا وانتهت حياته ، والميّت ، والميّتة بتشديد الياء هو ما لم يمت بعد ولكنه آيل أمره إلى الموت ، هكذا يرى أرباب اللغة واستشهدوا بقول الله تعالى لرسوله : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) وهذا دليل إطلاق ميّت بالتشديد على من لم يمت بعد كما استشهدوا بقول الشاعر :

ليس من مات فاستراح بميت

إنّما الميت ميّت الأحياء

١٤٧

شرح الكلمات :

الطيبات : جمع طيب وهو الحلال.

(وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) : اعترفوا بنعم الله عليكم واحمدوه عليها واصرفوها في مرضاته.

(إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) : إن كنتم مطيعين لله منقادين لأمره ونهيه.

(حَرَّمَ) : حظر ومنع.

(الْمَيْتَةَ) : ما مات من الحيوان حتف أنفه بدون تذكية.

(الدَّمَ) : المسفوح السائل ، لا المختلط باللحم.

(الْخِنْزِيرِ) : حيوان خبيث معروف بأكل العذرة ولا يغار على أنثاه.

(وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) : الإهلال : رفع الصوت باسم من تذبح له من الآلهة.

(اضْطُرَّ) : ألجىء وأكره بحكم الضرر الذي لحقه من الجوع أو الضرب.

(غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) : الباغي الظالم الطالب لما لا يحل له والعادي المعتدي المجاوز لما له إلى ما ليس له.

الإثم : أثر المعصية على النفس بالظلمة والتدسية.

معنى الآيتين الكريمتين

بعد أن بينت الآية السابقة (١٧١) حال الكفرة المقلدة لآبائهم في الشرك وتحريم ما أحل الله من الأنعام حيث سيبوا للآلهة السوائب ، وحموا لها الحامات ، وبحروا لها البحائر ، نادى الجبار عزوجل عباده المؤمنين : يا أيها الذين آمنوا بالله ربا وإلها وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله ربكم ما أنعم به عليكم من حلال اللحوم ، ولا تحرموها كما حرمها مقلدة المشركين ، فإنه تعالى لم يحرم عليكم (١) إلا أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغيره تعالى. ومع هذا من ألجأته الضرورة فخاف على نفسه الهلاك فأكل فلا إثم عليه على شرط أن لا يكون في سفره باغيا على المسلمين ولا عاديا بقطع الطريق عليهم وذلك لأن الله غفور لأوليائه التائبين إليه رحيم بهم لا يتركهم في ضيق ولا حرج.

__________________

(١) لمّا أباح تعالى لعباده المؤمنين الحلال الطيب وهو كثير لم يعدّده لكثرته ، وعدّد الحرام لقلته فذكر الميتة والدم الخ كما فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما سئل عما يلبس المحرم فعدل عن بيان المباح لكثرته وذكر المحرّم لقلته فقال : لا يلبس القميص ولا السراويل .. الخ. وهذا من الايجاز البليغ.

١٤٨

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ الندب إلى أكل الطيبات من رزق الله تعالى في غير إسراف.

٢ ـ وجوب شكر الله تعالى بالاعتراف بالنعمة له وحمده عليها وعدم صرفها في معاصيه.

٣ ـ حرمة أكل الميتة ، (١) والدم المسفوح ، ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله تعالى.

٤ ـ جواز الأكل من المذكورات عند الضرورة (٢) وهي خوف الهلاك مع مراعاة الاستثناء في الآية وهو «غير باغ ولا عاد».

٥ ـ أذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أكل السمك (٣) والجراد وهما من الميتة ، وحرّم أكل كل ذي ناب (٤) من السباع وذي مخلب من الطيور.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ (٥) بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦))

__________________

(١) هذه أصول المحرّمات الأربعة ، وأما المختنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع وما ذبح على النصب فهي متفرّعة عن تلك الأصول وهي مذكورة في أوّل المائدة.

(٢) من وجد طعاما لا تقطع فيه اليد يأكله ولا يأكل من الميتة لأذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمحتاج أن يأكل من الثمر المعلق فقال : «من أصاب منه من ذي حاجة بغية غير متخذ خبنة فلا شيء عليه» وقوله منه : أي من الثمر المعلق ، إذ سئل عنه فقال .. الخ.

(٣) للحديث الصحيح أحل لنا ميتتان : الحوت والجراد ، ودمان : الكبد والطحال.

(٤) لحديث الصحيح : «نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور».

(٥) إشارة إلى الحكم عليهم بأنهم من أهل الخلود في النار ، كما هو صالح أن يكون إشارة إلى ما تقدم من الوعيد ، والمعنى متقارب.

١٤٩

شرح الكلمات :

(يَكْتُمُونَ) : يجحدون ويخفون.

(ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ) : الكتاب التوراة وما أنزل الله فيه صفة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأمر بالإيمان به.

(لا يُكَلِّمُهُمُ (١) اللهُ) : لسخطه عليهم ولعنه لهم.

(وَلا يُزَكِّيهِمْ) : لا يطهرهم من ذنوبهم لعدم رضاه عنهم.

(الضَّلالَةَ) : العماية المانعة من الهداية إلى المطلوب.

الشقاق : التنازع والعداء حتى يكون صاحبه في شق ومنازعه في آخر

(بَعِيدٍ) : يصعب انهاؤه والوفاق بعده.

معنى الآيات :

هذه الآيات الثلاث نزلت قطعا في أحبار (٢) أهل الكتاب تندد بصنيعهم وتريهم جزاء كتمانهم الحق وبيعهم العلم الذي أخذ عليهم أن يبينوه بعرض خسيس (٣) من الدنيا يجحدون أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودينه إرضاء للعوام حتى لا يقطعوا هداياهم ومساعدتهم المالية ، وحتى يبقى لهم السلطان الروحي عليهم فهذا معنى قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) وأخبر تعالى أن ما يأكلونه من رشوة في بطونهم إنما هو النار إذ هو مسببها ومع النار غضب الجبار فلا يكلمهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم.

كما أخبر تعالى عنهم في الآية (١٧٥) أنهم وهم البعداء اشتروا الضلالة بالهدى أي الكفر بالايمان ، والعذاب بالمغفرة أي النار بالجنة ، فما أجرأ هؤلاء على معاصي الله ، وعلى التقحم في النار فلذا قال تعالى فما أصبرهم (٤) على النار. وكل هذا الذي تم مما توعد الله به هؤلاء

__________________

(١) لا يكلمهم كلام تشريف وتكريم كما يكلّم أولياءه الصالحين. أمّا ما كان من كلام إهانة وتحقير نحو : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) فلا يدخل في هذا النفي. والله أعلم.

(٢) روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآية نزلت في أحبار اليهود ، كانوا يصيبون من سفلتهم هدايا ، وكانوا يرجون أن يكون النبي المبعوث منهم ، فلما بعث من غيرهم غيّروا صفته وقالوا : هذا نعت النبي الذي يخرج آخر الزمان حتى لا يتبعوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٣) هو الرشوة التي يأخذها القاضي والمفتي والعياذ بالله.

(٤) هذا تعجيب للمؤمنين من حالهم.

١٥٠

الكفرة ، لأن الله نزّل الكتاب بالحق مبينا فيه سبيل الهداية وما يحقق لسالكيه من النعيم المقيم ومبينا سبيل الغواية وما يفضي بسالكيه إلى غضب الله وأليم عذابه.

وفي الآية الآخيرة (١٧٦) أخبر تعالى أن الذين اختلفوا في الكتاب التوراة والانجيل وهم اليهود والنصارى (١) لفي عداء واختلاف بينهم بعيد ، وصدق الله فما زال اليهود والنصارى مختلفين متعادين إلى اليوم ، ثمرة اختلافهم في الحق الذي أنزله الله وأمرهم بالأخذ به فتركوه وأخذوا بالباطل فأثمر لهم الشقاق البعيد.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ حرمة كتمان الحق (٢) ، لا سيما إذا كان للحصول على منافع دنيوية مالا أو رياسة.

٢ ـ تحذير علماء الإسلام من سلوك مسلك علماء أهل الكتاب بكتمانهم الحق وافتاء (٣) الناس بالباطل للحصول على منافع مادية معينة.

٣ ـ التحذير من الاختلاف في القرآن الكريم لما يفضي إليه من العداء والشقاق البعيد بين المسلمين.

(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا

__________________

(١) ويدخل في هذا مشركو العرب فقد اختلفوا في القرآن فقالوا : شعر ، وقالوا سحر ، وقالوا : أساطير.

(٢) يدخل فيه كتمان الشهادة الذي حرّمه الله تعالى بقوله : (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ ، وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ).

(٣) يشهد له حديث «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار».

١٥١

وَالصَّابِرِينَ (١) فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧))

شرح الكلمات :

(الْبِرَّ) : اسم جامع لكل خير وطاعة لله ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) : البر الحق برّ من آمن بالله واليوم الآخر إلى آخر الصفات.

(وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) : أعطى المال (٢) حيث تعين اعطاؤه مع شدة حبه (٣) له فآثر ما يحب الله على ما يحب

(ذَوِي الْقُرْبى) : أصحاب القرابات ، الأقرب فالأقرب.

(الْيَتامى) : جمع يتيم وهو من مات والده وهو لم يبلغ الحنث.

(الْمَساكِينَ) : جمع مسكين ، فقير معدم أسكنته الحاجة فلم يقدر على التصرف.

(ابْنَ السَّبِيلِ) : المسافر البعيد الدار المنقطع عن أهله وماله.

(السَّائِلِينَ) : جمع سائل : الفقير المحتاج الذي أذن له في السؤال لدفع غائلة الحاجة عن نفسه.

(فِي الرِّقابِ) : الرقاب جمع رقبة والإنفاق منها معناه في عتقها.

(الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) : البأساء : شدة البؤس من الفقر ، والضراء : شدة الضر أو المرض.

(وَحِينَ الْبَأْسِ) : عند القتال واشتداده في سبيل الله تعالى.

(أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) (٤) : أي في دعواهم الايمان والبر والبرور

معنى الآية الكريمة :

في الآيات الثلاث السابقة لهذه الآية ندد الله تبارك وتعالى بأحبار أهل الكتاب وذكر ما توعدهم به من غضبه وأليم عقابه يوم القيامة كما تضمن ذلك تخويف علماء الإسلام من أن

__________________

(١) نصب : (وَالصَّابِرِينَ) على المدح إذ هو معطوف على (وَالْمُوفُونَ) وهو مرفوع ، ونظيره قوله تعالى : (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) والنصب على المدح شائع في كلام العرب وهو إشارة وتنبيه على فضيلة الصبر ومزيّته وقرىء والصابرون بالرفع على الأصل.

(٢) فيه دليل على أن في المال حقا غير الزكاة وشاهده قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنّ في المال حقا سوى الزكاة». رواه ابن ماجه والترمذي.

(٣) ويصح أن يكون على حب الله لا على شيء آخر ، أي أعطى المال من أعطاهم لأجل حب الله عزوجل.

(٤) ورد في فضل الصدق قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإنّ البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا». في الصحيح.

١٥٢

يكتموا العلم على الناس طلبا لحظوظ الدنيا الفانية ، وفي هذه الآية رد الله تعالى على أهل الكتاب أيضا تبجحهم بالقبلة وادّعاء هم الايمان والكمال فيه لمجرد أنهم يصلون إلى قبلتهم بيت المقدس بالمغرب أو طلوع الشمس بالمشرق إذ الأولى قبلة اليهود والثانية قبلة النصارى فقال تعالى : ليس (١) البر كل البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ، وفي هذا تنبيه عظيم للمسلم الذي يقصر إسلامه على الصلاة ولا يبالي بعدها ما ترك من واجبات وما ارتكب من منهيات ، بين تعالى لهم البار الحق في دعوى الايمان والإسلام والاحسان فقال : (وَلكِنَّ الْبِرَّ) (٢) (٣) أي ذا البر أو البار بحق هو (مَنْ آمَنَ بِاللهِ) وذكر أركان الإيمان إلا السادس منها (القضاء والقدر) ، (وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ) وهما من أعظم أركان الاسلام ، وأنفق المال في سبيل الله مع حبه له وضنّه به ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل فهو ينفق ماله على من لا يرجو منه جزاء ولا مدحا ولا ثناء كالمساكين وأبناء السبيل والسائلين من ذوي الخصاصة والمسغبة ، وفي تحرير الأرقاء وفكاك الأسرى وأقام الصلاة أدامها وعلى الوجه الأكمل في أدائها وأتى الزكاة المستحقين لها ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة من أعظم قواعد الاسلام ، وذكر من صفاتهم الوفاء بالعهود والصبر في أصعب الظروف وأشد الأحوال ، فقال تعالى : (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ) وهذا هو مبدأ الإحسان وهو مراقبة الله تعالى والنظر إليه وهو يزاول عبادته ، ومن هنا قرر تعالى أن هؤلاء هم الصادقون في دعوى الايمان والاسلام وهم المتقون بحق غضب الله وأليم عذابه ، جعلنا الله منهم ، فقال تعالى مشيرا لهم بلام البعد وكاف الخطاب لبعد مكانتهم وارتفاع درجاتهم (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ).

هداية الآية الكريمة

من هداية الآية الكريمة :

١ ـ الاكتفاء ببعض أمور الدين دون القيام ببعض لا يعتبر صاحبه (٤) مؤمنا ولا ناجيا.

__________________

(١) قرأ حفص : (الْبِرَّ) بالنصب على أنه خبر ليس مقدما والاسم أن وما دخلت عليه والتقدير : تولية وجوهكم ، وقرأ غيره البر مرفوعا على أنّه الاسم والخبر : أن وما دخلت عليه.

(٢) وقيل هو على حذف مضاف أي : ولكن البرّ برّ من آمن على حد (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) أي أهل القرية ، وما أوّلناه به أقرب وأيسر.

(٣) هذه الآية : (لَيْسَ الْبِرَّ) الخ آية عظيمة تضمنت قواعد الشرع وأمهات الأحكام لم تتضمن آية غيرها ما تضمنته هي ، إذ تضمنت أركان الإيمان وقاعدتي الإسلام الصلاة والزكاة ، والجهاد والصبر ، والوفاء ، والتقوى والانفاق العام والخاص.

(٤) شاهده من القرآن في قوله تعالى : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ..) الآية.

١٥٣

٢ ـ أركان (١) الايمان هي المذكورة في هذه الآية ، والمراد بالكتاب (٢) في الآية الكتب.

٣ ـ بيان وجوه الانفاق المرجو ثوابه يوم القيامة وهو ذوي القربى إلخ ...

٤ ـ بيان عظم شأن الصلاة والزكاة.

٥ ـ وجوب الوفاء بالعهود.

٦ ـ وجوب الصبر وخاصة عند القتال.

٧ ـ التقوى هي ملاك الأمر ، والغاية التي ما بعدها للعاملين غاية.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩))

شرح الكلمات :

(كُتِبَ (٣) عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) (٤) : كتب فرض والقصاص : إذا لم يرض ولي الدم بالدية ولم يعف.

(فِي الْقَتْلى) : الفاء سببية أي بسبب القتل والقتلى جمع قتيل وهو الذي أزهقت روحه فمات بأي آلة.

__________________

(١) أركان الإيمان ستة جاءت في حديث جبريل الذي رواه مسلم وهي : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، والقدر خيره وشره ، ولم يذكر القدر في الآية لأن الكتاب دال عليه.

(٢) إنّ ال : التي في الكتاب للجنس ، والجنس تحته أفراد كالإنسان أفراده كثيرون ، والكتب المطلوب الإيمان بها هي كل ما أنزل من كتاب وأعظمهما القرآن ، والتوراة والإنجيل والزبور ، وصحف إبراهيم عليه‌السلام.

(٣) قيل كتب هنا : هو إخبار عما كتب في اللّوح المحفوظ وسبق به القضاء ولا منافاة بين ما شرع وفرض علينا في القرآن والسنة ، وما كتب في كتاب المقادير إذ الكل سبق به علم الله وأراده فكان كما أراد.

(٤) القصاص : مأخوذ من قصّ الأثر إذا تتبعه ومنه القاص لأنّه يتتبع الأخبار والآثار والقاتل كأنه سلك طريقا فقص أثره فيها ومشى على سبيله في ذلك.

١٥٤

(الْحُرُّ) : الحر خلاف العبد (١) والعبد هو الرقيق المملوك.

(فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) : فمن تنازل له ولي الدم عن القود إلى الدية أو العفو.

فاتباع بمعروف : فالواجب أن تكون مطالبة الدية بالمعروف بالرفق واللين.

(وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) : وأن يكون أداء الدية بإحسان خاليا من المماطلة والنقص.

(ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ) : أي ذلك الحكم العادل الرحيم وهو جواز أخذ الدية بدلا من القصاص تخفيف عنكم من ربكم إذ كان في شرع من قبلكم القصاص فقط أو الدية فقط ، وأنتم مخيرون بين العفو والدية والقصاص.

(فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) : يريد من أخذ الدية ثم قتل فإنه يتعين قتله (٢) لا غير.

(الْقِصاصِ) : المساواة في القتل والجراحات وفي آلة القتل أيضا.

(حَياةٌ) : إبقاء شامل عميم ، إذ من يريد أن يقتل يذكر أنه سيقتل فيترك القتل فيحيا ، ويحيا من أراد قتله ، ويحيا بحياتهما خلق كثير ، وعدد كبير.

(أُولِي الْأَلْبابِ) : أصحاب العقول الراجحة ، واحد الألباب : لبّ وهو في الانسان العقل.

(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) : ليعدكم بهذا التشريع الحكيم لاتقاء ما يضر ولا يسر في الدنيا والآخرة.

معنى الآية الكريمة :

هذه الآية نزلت في حيين من العرب كان أحد الحيين يرى أنه أشرف من الآخر فلذا يقتل الحر بالعبد ، والرجل بالمرأة تطاولا وكبرياء فحدث بين الحيين قتل وهم في الاسلام فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت هذه الآية تبطل ذحل (٣) الجاهلية وتقرر مبدأ العدل

__________________

(١) ذهب أبو حنيفة إلى أن الحر يقتل بالعبد مخالفا للجمهور لعموم آية المائدة : (النفس بالنفس).

(٢) اختلف فيمن قتل بعد أخذ الدية فقال مالك والشافعي وكثير من العلماء هو كمن قتل ابتداء إن شاء الوليّ قتله وإن شاء عفا عنه وعذابه في الآخرة ، وقال آخرون عذابه أن يقتل ولا يمكن الحاكم الولي من العفو. وقال عمر بن عبد العزيز أمره إلى الإمام.

(٣) ذحل الجاهلية : ثأر الجاهلية وعاداتها قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن من أعتى الناس على الله يوم القيامة ثلاثة ، رجل قتل غير فاتله ، ورجل قتل في الحرم ، ورجل أخذ بذحول الجاهلية».

١٥٥

والمساواة (١) في الاسلام فقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى (٢) بِالْأُنْثى) ، فلا يقتل بالرجل رجلان ، ولا بالمرأة رجل ولا امرأتان ولا بالعبد حر ولا عبدان.

فمن تنازل له أخوه (٣) وهو ولي الدم عن القصاص إلى الدية أو العفو مطلقا فليتبع ذلك ولا يقل لا أقبل إلا القصاص بل عليه أن يقبل ما عفا عنه أخوه له من قصاص أو دية أو عفو ، وليطلب ولي الدم الدية بالرفق والأدب ، وليؤد القاتل الدية بإحسان بحيث لا يماطل ولا ينقص منها شيئا.

ثم ذكر تعالى منّته على المسلمين حيث وسع عليهم في هذه المسألة فجعل ولي الدم مخيرا بين ثلاثة العفو أو الدية أو القود (القصاص) في حين أن اليهود كان مفروضا عليهم القصاص فقط ، والنصارى الدية فقط وأخبر تعالى بحكم أخير في هذه القضية وهو أن من أخذ الدية وعفا عن القتل ثم تراجع وقتل فقال : (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ). واختلف في هذا العذاب الأليم هل هو عذاب الدنيا بالقتل ، أو هو عذاب الآخرة ، ومن هنا قال مالك والشافعي حكم هذا المعتدي كحكم القاتل ابتداء إن عفي عنه قبل ، وإن طولب بالقود أو الدية أعطى ، وقال آخرون ترد منه الدية ويترك لأمر الله ، وقال عمر بن عبد العزيز رحمه‌الله يرد أمره إلى الإمام يحكم فيه بما يحقق المصلحة العامة ثم أخبر تعالى : أن في القصاص الذي شرع لنا وكتبه علينا مع التخفيف حياة عظيمة لما فيه من الكف عن إزهاق الأرواح وسفك الدماء فقال تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

هداية الآية الكريمة

من هداية الآية الكريمة :

١ ـ حكم القصاص في الإسلام وهو المساواة والمماثلة فيقتل (٤) الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة

__________________

(١) الجمهور على أن الجماعة تقتل بالواحد ، وذلك إذا باشروا القتل فقتلوا لقول عمر رضي الله عنه في قتل غلام قتله سبعة فقتلهم وقال : لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم ولم يخالفه أحد فكان إجماعا.

(٢) ذهب بعض إلى أن الرجل لا يقتل بالمرأة وحالفهم الجمهور لآية المائدة : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) الآية.

(٣) أخوه : أي في الإسلام إذ لا يقتل المسلم بالذمي لقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يقتل مسلم بكافر» وهو مذهب الجمهور وذلك لعدم تكافؤ الدمين.

(٤) اختلف في هل يقتل الرجل بولده فذهب الجمهور إلى عدم قتله به وذهب مالك إلى أنه إذا أضجعه وقتله يقتل به وإذا رماه بحجر أو بعصا أو بأي سبب فيه شبهة أنه لم يرد قتله فلا يقتل به لحديث «إدرأوا الحدود بالشبهات».

١٥٦

والمرأة بالرجل والرجل بالمرأة ويقتل القاتل بما قتل به مماثلة لحديث : «المرء مقتول بما قتل به».

ولما كان العبد مقوما بالمال فإنه لا يقتل به الحر بل يدفع إلى سيده مال. وبهذا حكم الصحابة والتابعون وعليه الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد وخالف أبو حنيفة فرأى القود فيقتل الحر بالعبد أخذا بظاهر هذه الآية.

٢ ـ محاسن الشرع الإسلامي وما فيه من اليسر والرحمة حيث أجاز العفو (١) والدية بدل القصاص.

٣ ـ بلاغة القرآن الكريم ، إذ كان حكماء العرب في الجاهلية يقولون : القتل أنفى للقتل ، فقال القرآن : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ). فلم يذكر لفظ القتل بالمرة فنفاه لفظا وواقعا.

(كُتِبَ (٢) عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ (٣) إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢))

شرح الكلمات :

(كُتِبَ) : فرض وأثبت.

(خَيْراً) : مالا نقدا أو عرضا أو عقارا.

(الْوَصِيَّةُ) : الوصية ما يوصى به من مال وغيره.

__________________

(١) اختلف في أخذ الدية من قاتل العمد فقال الجمهور : وليّ الدم يخير بين أخذ الدية والقصاص ولا خيار للقاتل ، فلو قال : اقتصّوا مني ليس له ذلك بل هو لوليّ الدم لأنّه مخيّر بين ثلاثة.

(٢) هذه الآية : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ) الخ تسمى آية الوصية وذكّر الفعل والوصية مؤنثة لأحد أمرين الأول : الفصل بين الفعل والفاعل ، والثاني : مالا فرج له يذكر ويؤنث.

(٣) المراد من الموت هنا : أسبابه ، إذ العرب إذا احضر السبب كنّت به عن المسبب ، قال جرير في مهاجاته الفرزدق :

أنا الموت الذي حدّثت غنه

فليس لهارب مني نجاء

فكنّى بنفسه عن الموت ، إذ هو سبب مجيئه في نظره وزعمه.

١٥٧

(بِالْمَعْرُوفِ) : ما تعارف عليه الناس كثيرا أو قليلا بحيث لا يزيد على الثلث.

التبديل : التغيير للشيء بآخر.

(جَنَفاً أَوْ إِثْماً) : الجنف : الميل عن الحق خطأ ، والإثم تعمد الخروج عن الحق والعدل.

معنى الآيات :

بمناسبة ذكر آية القصاص وفيها أن القاتل عرضة للقتل والمفروض فيه أن يوصي في ماله قبل قتله ، ذكر تعالى آية الوصية هنا فقال تعالى : كتب عليكم أيها المسلمون إذا حضر أحدكم الموت إن ترك مالا الوصية (١) أي الإيصاء للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين ثم نسخ الله تعالى هذا الحكم بآية المواريث (٢) ، ويقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فلا وصية لوارث» (٣) ونسخ الوجوب وبقي الاستحباب ولكن لغير الوالدين والأقربين الوارثين إلا أن يجيز ذلك الورثة وأن تكون الوصية ثلثا فأقل فإن زادت وأجازها الورثة جازت لحديث ابن عباس عند الدار قطني لا تجوز الوصية لوارث إلا أن يشاء الورثة ، ودليل استحباب الوصية حديث سعد في الصحيح حيث أذن له الرسول في الوصية بالثلث ، وقد تكون الوصية واجبة على المسلم وذلك إن ترك ديونا لازمة ، وحقوقا واجبة في ذمته فيجب أن يوصي بقضائها واقتضائها بعد موته لحديث ابن عمر في الصحيح «ما حق امرىء مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده» ، هذا ما تضمنته الآية الأولى (١٨٠) وأما الآية الثانية (٤) (١٨١) فيقول تعالى لعباده المؤمنين فمن بدل إيصاء مؤمن أوصى به بأن زاد فيه أو نقص أو غيره أو بدل نوعا بآخر فلا إثم على الموصي ولكن الإثم على من بدل وغيّر ، وختم هذا الحكم بقوله أن الله سميع عليم تهديدا ووعيدا لمن يقدم على تغيير الوصايا لغرض فاسد وهوى سيء وفي الآية الأخيرة (١٨٢) أخبر تعالى أن من خاف (٥) من موص جنفا أو ميلا عن الحق والعدل بأن جار في وصيته بدون تعمد الجور ولكن خطأ أو خاف إثما على الموصى حيث جار

__________________

(١) (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) : هذا شرط وجوابه الوصية إلّا أن الشائع أنّ جواب الشرط يكون مقرونا بالفاء وسقطت هنا جوازا كم في قول الشاعر :

من يفعل الحسنات الله يشكرها

والشر بالشر عند الله مثلان

أي فالله يشكرها.

(٢) آية المواريث في النساء وهي : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ ...) إلى آخر الآيات إلى حليم.

(٣) نص الحديث : «إنّ الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث» رواه أصحاب السنن وغيرهم وهو صحيح الإسناد.

(٤) هي قوله تعالى : (فَمَنْ خافَ) الخ .. والخطاب لسائر المسلمين ، والإجماع على أنّ للموصى أن يغيّر في وصيته ويرجع فيما شاء منها إلّا ما كان من تدبير العبد فإنه لا يرجع فيه.

(٥) الخوف هنا : بمعنى الظنّ والتوقع ، وقرىء موص ، من وصّى المضاعف ، أما موص فهو من أوصى فهو موص.

١٥٨

وتعدى على علم في وصيته فأصلح (١) بينهم أي بين الموصي والموصى لهم فلا إثم عليه في إصلاح الخطأ وتصويب الخطأ والغلط ، وختم هذا الحكم بقوله : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وعدا بالمغفرة والرحمة لمن أخطأ غير عامد.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ نسخ الوصية للوارثين مطلقا إلا بإجازة (٢) الورثة.

٢ ـ استحباب (٣) الوصية بالمال لمن ترك مالا كثيرا يوصي به في وجوه البر والخير.

٣ ـ تأكد الوصيّة حضر (٤) الموت أو لم يحضر لمن له أو عليه حقوق خشية أن يموت فتضيع الحقوق فيأثم بإضاعتها.

٤ ـ حرمة تبديل الوصية وتغييرها إلى غير الصالح.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤))

شرح الكلمات :

(كُتِبَ) : فرض وأثبت.

__________________

(١) من أوصى بما لا يجوز الانتفاع به أو تناوله واستعماله كمن أوصى بخمر أو بناء قبّة على ميّت أو إحياء بدعة مولد ونحوه فإنه يجوز تبديله بما هو جائز ولا يصح إمضاؤه.

(٢) للحديث الصحيح : «فلا وصية لوارث».

(٣) لحديث سعد في الصحيح.

(٤) لحديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيح.

يجوز تبديل الوصية إذا كان فيها جور أو محرّم لقوله تعالى : (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ).

١٥٩

(الصِّيامُ) : لغة الامساك والمراد به هنا الامتناع عن الأكل والشرب وغشيان النساء من طلوع الفجر إلى غروب الشمس (١).

(أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) : تسعة وعشرون أو ثلاثون يوما بحسب شهر رمضان.

(فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) : فعلى من أفطر لعذر المرض أو السفر فعليه صيام أيام أخر بعدد الأيام التي أفطر فيها.

(يُطِيقُونَهُ) : أي يتحملونه بمشقة لكبر سن أو مرض لا يرجى برؤه.

(فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) : فالواجب على من أفطر لعذر مما ذكر أن يطعم على كل يوم مسكينا ، ولا قضاء عليه.

(فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) : أي زاد على المدين (٢) أو أطعم أكثر من مسكين فهو خير له.

(وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) : الصيام على من يطيقه ولو بمشقة خير من الافطار مع الطعام.

معنى الآيتين :

لما هاجر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة وأصبحت دار إسلام أخذ التشريع ينزل ويتوالى ففي الآيات السابقة كان حكم القصاص والوصية ومراقبة الله في ذلك ، وكان من أعظم ما يكون في المؤمن من ملكة التقوى الصيام فأنزل الله تعالى فرض الصيام في السنة الثانية للهجرة فناداهم بعنوان الايمان يا آيها الذين آمنوا وأعلمهم أنه كتب عليهم الصيام كما كتبه على الذين من قبلهم من الأمم السابقة فقال : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ...) وعلل ذلك بقوله : لعلكم تتقون أي ليعدكم به للتقوى التي هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي ، لما في الصيام من مراقبة الله تعالى ، وقوله : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) ذكره ليهوّن به عليهم كلفة الصوم ومشقته ، إذ لم يجعله شهورا ولا أعواما. وزاد في التخفيف أن أذن للمريض والمسافر أن يفطر ويقضي بعد الصحة أو العودة من السفر فقال لهم : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى (٣) سَفَرٍ (٤) فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ.) كما أن غير المريض والمسافر إذا

__________________

(١) أي بنيّة امتثال أمر الله تعالى به أو بنيّة التقرب إليه عزوجل.

(٢) هل الواجب مدّ أو مدّان خلاف ، فمن الفقهاء من يرى مدّين ومنهم من يرى مدا واحدا والمدّ الحفنة بحفنة الرجل المعتدل بين القصر والطول.

(٣) أي في حالة سفر فلذا لا ينبغي لمن عزم على السفر أن يفطر حتى يغادر بلده المقيم به شأن الصيام كشأن الصلاة فلا يقصر حتى يغادر مباني البلد.

(٤) أي فالواجب صيام عدّة من أيام أخر.

١٦٠