أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ١

أبي بكر جابر الجزائري

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ١

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٦٤

فقال : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) يريد قلبه وجوارحه (١) فآمن ووحد وعمل صالحا فأحسن فهذا الذي يدخل الجنة وهي أجره على إيمانه وصالح أعماله ، فلا هو يخاف ولا يحزن.

هذا معنى الآيتين الأولى (١١١) والثانية (١١٢) وأما الآية الثالثة (١١٣) فقد سجلت كفر كل من اليهود والنصارى ، بشهادتهم على بعضهم بعضا فقد كفرّ اليهود النصارى بقولهم : إنهم ليسوا على شيء من الدين الحق الذي يعتد به ويؤبه له ، وكفرّ النصارى اليهود بقولهم : ليست اليهود على شيء مع أنهم يقرأون التوراة والإنجيل فلذا كان تكفيرهم لبعضهم البعض حقا وصدقا. ثم أخبر تعالى أن ما وقع فيه اليهود والنصارى وهم أهل كتاب من الكفر والضلال قد وقع فيه أمم قبلهم دون علم منهم وذلك لجهلهم ، وأخبر تعالى أنه سيحكم بينهم يوم القيامة ويجزيهم بكفرهم وضلالهم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ إبطال تأثير النّسب (٢) في السعادة والشقاء ، وتقرير أن السعادة بدخول الجنة مردها إلى تزكية النفس بالإيمان والعمل الصالح ، وإن الشقاوة بدخول النار مردها إلى الشرك ، وارتكاب الذنوب. فلا نسبة إلى يهودية أو نصرانية أو غيرهما تغني عن صاحبها ، وإنما المغني بعد فضل الله ورحمته الإيمان والعمل الصالح بعد التخلي عن الشرك والمعاصي.

٢ ـ كفر اليهود والنصارى وهو شر كفر لأنه كان على علم.

٣ ـ الإسلام الصحيح القائم على أسسه الثلاثة الإيمان والإسلام والإحسان هو سبيل (٣) النجاة من النار والفوز بالجنة.

__________________

(١) أي ذاته إذ طاعة الله تعالى تكون بها قلبا وجوارح ، ومن إطلاق الوجه على الذات قول الشنفرى :

إذا قطعوا رأسي وفي الرأس أكثري

وغودر عند الملتقى ثمّ سائري

قوله وفي الرأس أكثري فيه تفضيل الرأس الذي هو بمعنى الوجه على سائر الجسد لأفضليته فكذلك إطلاق الوجه في الآية وإرادة الذات ، لأنّ الوجه أشرف الذات.

(٢) ويشهد لهذا قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صحيح مسلم : «ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه» الحديث.

(٣) هذا مستفاد من قوله تعالى : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ..) الآية.

١٠١

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥))

شرح الكلمات :

(وَمَنْ أَظْلَمُ) : الاستفهام للإنكار والنفي ، والظلم وضع الشيء في غير محله مطلقا.

(سَعى (١) فِي خَرابِها) : عمل في هدمها وتخريبها حقيقة أو بمنع الصلاة فيها وصرف الناس عن التعبد فيها إذ هذا من خرابها أيضا.

الخزي : الذل والهوان (٢).

(فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) : هناك الله تعالى إذ الله عزوجل محيط بخلقه فحيثما اتجه العبد شرقا أو غربا شمالا أو جنوبا وجد الله تعالى ، إذ الكائنات كلها بين يديه وكيف لا يكون ذلك وقد أخبر عن نفسه أن الأرض قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه ، فليس هناك جهة تخلو من علم الله تعالى وإحاطته بها وقدرته عليها. ويقرر هذا قوله : (إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) ، إنه واسع الذات والعلم والفضل والجود والكرم عليم بكل شيء لأنه محيط بكل شيء.

شرح الآيتين :

ففي الآية الأولى (١١٤) ينفي تعالى أن يكون هناك من هو أكثر ظلما ممن منع مساجد (٣) الله تعالى أن يعبد الله تعالى فيها ، لأن العبادة هي علة الحياة فمن منعها كان كمن أفسد

__________________

(١) أصل السعي : المشي ومنه السعي بين الصفا والمروة وهو المشي بينهما ثم أطلق على التسبب مطلقا يقال : سعى فلان في مصلحتك وسعي فلان في الإفساد بين فلان وفلان

(٢) وقد نال صناديد قريش حيث أذلّهم الله وأخزاهم يوم الفتح على يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم.

(٣) المساجد : جمع مسجد بكسر الجيم على غير قياس إذ فعل بالفتح يفعل بالضم الاسم منه كالمصدر مفعل بالفتح ونظير المسجد المطلع والمشرق والمسكن والمرفق والمسجد بالفتح جبهة المرء وأعضاء سجوده السبعة.

١٠٢

الحياة كلها وعطلها ، وفي نفس الوقت ينكر تعالى هذا الظلم على فاعليه وسواء كانوا قريشا بصدهم النبي وأصحابه عن المسجد الحرام ، أو فلطيوس ملك الروم الذى خرّب المسجد الأقصى (١) أو غيرهم ممن فعلوا هذا الفعل أو من سيفعلونه مستقبلا ، ولذا ضمن تعالى قوله ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ، أمر المسلمين بجهاد الكافرين وقتالهم حتى يسلموا أو تكسر شوكتهم فيذلوا ويهونوا.

وفي الآية الثانية (١١٥) يخبر تعالى رادا على اليهود الذين انتقدوا أمر تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ، مؤذنا بجواز صلاة من جهل القبلة أو خفيت عليه إلى أي جهة كانت فأخبر تعالى أن له المشرق والمغرب (٢) خلقا وملكا وتصرفا ، يوجه عباده إلى الوجهة التي يشاؤها شرقا أو غربا جنوبا أو شمالا ، فلا اعتراض عليه ولا إنكار وأنّ الله تعالى محيط بالكائنات فحيثما توجه العبد في صلاته فهو متوجه إلى الله تعالى ، إلا أنه تعالى أمر بالتوجه في الصلاة إلى الكعبة فمن عرف جهتها لا يجوز له أن يتجه إلا إليها.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ عظم جريمة من يتعرض للمساجد بأي أذى (٣) أو إفساد.

٢ ـ وجوب حماية المساجد من دخول الكافرين إلا أن يدخلوها بإذن المسلمين وهم أذلاء صاغرون.

٣ ـ صحة صلاة (٤) النافلة على المركوب في السفر إلى القبلة وإلى غيرها.

٤ ـ وجوب استقبال القبلة إلا عند العجز (٥) فيسقط هذا الواجب.

٥ ـ العلم بإحاطة الله تعالى بالعوالم كلها قدرة وعلما فلا يخفى عليه من أمر العوالم شيء ولا يعجزه آخر.

__________________

(١) وقد خرّب بيت المقدس أيضا بختنصر اليهودي البابلي قبل النصارى.

(٢) بناء على كروية الأرض فإن الأرض كلها مشرق ومغرب إذ كل مكان تشرق فيه هو مكان تغرب فيه.

(٣) من عظم ذنب من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه أخذ المالكية أن المرأة الصرورة التي لم تحج الفرض لا تمنع من الحج وإن لم يكن معها محرم ، وعدّوا منعها من أداء الفريضة من الصدّ عن المسجد الحرام.

(٤) إذ صحّ عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلي النافلة على راحلته حيثما اتجهت به القبلة وإلى غيرها.

(٥) للعجز صور منها : أن يكون مريضا لا يقدر على التحول ، ومنها أن يكون خائفا ومنها أن يكون مقاتلا أو هاربا ومنها أن يكون جاهلا بها فطلبها ولم يعرف فصلى حيث ترجح القبلة وإن لم يصبها.

١٠٣

(وَقالُوا (١) اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧) وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا (٢) يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩))

شرح الكلمات :

(سُبْحانَهُ) : تنزه وتقدس عن كل نقص ومنه أن يكون له ولد.

(قانِتُونَ) : خاضعون مطيعون تجري عليهم أقداره وتنفذ فيهم أحكامه.

(بَدِيعُ السَّماواتِ) : مبدعها أي موجدها على غير مثال سابق.

(قَضى أَمْراً) : حكم بإيجاده.

(أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ) : كآيات موسى وعيسى في العصا وإحياء الموتى.

(وَلا تُسْئَلُ) : قرىء بالتاء للمجهول ، ولا نافية والفعل مرفوع وقرىء بالبناء للمعلوم ولا ناهية والفعل مجزوم.

(الْجَحِيمِ) : دركة من دركات النار وهي أشدها عذابا.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في ذكر أباطيل الكافرين من أهل الكتاب والمشركين والرد عليها بما يظهر زيفها ويبطلها نهائيا ففي الآيتين الأولى (١١٦) والثانية (١١٧) يذكر تعالى قول

__________________

(١) الضمير المرفوع في : (قالُوا) عائد إلى الفرق الثلاث وهم أهل الكتاب ومشركوا العرب.

(٢) لولا : بمعنى لعل التحضيضية.

١٠٤

أهل الكتاب والمشركين في أن الله اتخذ ولدا إذ قالت اليهود العزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله وقال بعض مشركي العرب الملائكة بنات الله ، ذكر تعالى قولهم اتخذ الله ولدا ثم نزّه (١) نفسه عن هذا القول الباطل والفرية (٢) الممقوتة ، وذكر الأدلة المنطقية العقلية على بطلان الدعوى.

فأولا : ملكية الله تعالى لما في السموات والأرض ، وخضوع (٣) كل من فيهما لحكمه وتصريفه وتدبيره يتنافى عقلا مع اتخاذ ولد منهم.

ثانيا : قدرة الله تعالى المتجلية في إبداعه السموات والأرض وفي قوله للشيء كن فيكون يتنافى معها احتياجه إلى الولد (٤) ، وهو مالك كل شيء وربّ كل شيء وفي الآية الثالثة (١١٨) يرد تعالى على قولة المشركين الجاهلين : (لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ) حيث اقترحوا ذلك ليؤمنوا ويوحدوا فأخبر تعالى أن مثل هذا الطلب طلبه من قبلهم فتشابهت قلوبهم في الظلمة والإنتكاس ، فقد قال اليهود لموسى أرنا الله جهرة ، أما رؤية الله وتكليمه إياهم فغير ممكن في هذه الحياة حياة الامتحان والتكليف ولذا لم يجب إليه أحدا من قبلهم ولا من بعدهم ، وأما الآيات فما أنزل الله تعالى وبيّنه في كتابه من الآيات الدالة على الإيمان بالله ووجوب عبادته وتوحيده فيها ، وعلى صدق نبيه في رسالته ووجوب الإيمان به واتباعه كاف ومغن عن أية آية مادية يريدونها ، ولكن القوم لكفرهم وعنادهم لم يروا في آيات القرآن ما يهديهم وذلك لعدم إيقانهم ، والآيات يراها وينتفع بها الموقنون لا الشاكون المكذبون.

وفي الآية الرابعة (١١٩) يخفف تعالى على نبيّه همّ مطالبة المشركين بالآيات بأنه غير مكلف بهداية أحد ولا ملزم بإيمان آخر ، ولا هو مسئول (٥) يوم القيامة عمن يدخل النار من الناس ، إذ مهمته محصورة في التبشير (٦) والإنذار تبشير من آمن وعمل صالحا بالفوز بالجنة

__________________

(١) وذلك بقوله (سُبْحانَهُ) مصدر معناه التبرئة والتنزيه والمحاشاة.

(٢) أخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : قال الله تعالى : (كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمني ولم يكن له ذلك. فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان وأمّا شتمه إياي فقوله لي ولد فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولدا).

(٣) الخضوع هنا تفسير للقنوت ، والقنوت يكون بمعنى الطاعة في ذلة وانكسار وخشوع كما هو في هذا السياق ويكون بمعنى السكوت كما في الصلاة كقوله تعالى : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) أي لا تتكلموا في صلاتكم ويكون بمعنى الدعاء في الصلاة.

(٤) من الأدلة العقلية على إبطال فرية اتخاذ الله تعالى الولد : أن الولدية تقتضي التجانس ، والله تعالى ليس كمثله شيء ، وهو لا يجانسه شيء ثم الولد يتنافى مع الرق والملك والله له ملك السموات والأرض فكيف يكون الرقيق ولدا؟!

(٥) قرأ نافع وحده ولا تسأل بفتح التاء وسكون اللام في قوله : ولا تسأل عن أصحاب الجحيم وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يا ليت شعري ما فعل أبواي» فأنزل الله تعالى هذه الآية.

(٦) البشير كالنذير فعلهما بشر وأنذر واسم الفاعل : مبشر ومنذر ، ونقل إلى بشير ونذير للمبالغة في الفعل.

١٠٥

والنجاة من النار ، وإنذار من كفر وعمل سوءا بدخول النار والعذاب الدائم فيها.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ حرمة نسبة أي شيء إلى الله تعالى بدون دليل من الوحي الإلهي إذ أنكر تعالى نسبة الولد إليه أنكره على أهل الكتاب والمشركين معا.

٢ ـ تشابه قلوب أهل الباطل في كل زمان ومكان لاستجابتهم للشيطان وطاعتهم له.

٣ ـ لا ينتفع بالآيات إلا أهل اليقين لصحة عقولهم وسلامة قلوبهم.

٤ ـ على المؤمن أن يدعو إلى الله تعالى ، وليس عليه أن يهدى ، إذ الهداية بيد الله ، وأما الدعوة فهي في قدرة الإنسان ، وهو مكلّف بها.

(وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ (١) قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما (٢) لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١))

شرح الكلمات :

(مِلَّتَهُمْ) : دينهم الذي هم عليه من يهودية ونصرانية.

قل ان الهدى هدى الله : الهدى ما أنزل به كتابه وبعث به رسوله وهو الإسلام ، لا ما ابتدعه اليهود والنصارى من بدعة اليهودية والنصرانية.

__________________

(١) (مِلَّتَهُمْ) : بمعنى مللهم إذ لكل كافر ملة ، ومن هنا ذهب الجمهور إلى أن الكفر ملة واحدة ، وذهب أحمد في رواية له ومالك إلى أن الكفر ملل ، ولذا فلا يرث اليهودي النصراني ، ولا النصراني اليهودي ولا المجوسي إذ لكلّ ملّة وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يتوارث أهل ملتين» ويبقى معنى الكفر ملة واحدة أي : إنّه ليس فيه فاضل ، ومفضول.

(٢) روي أن أحمد استدل على كفر من قال بخلق القرآن بهذه الآية : (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) وهو القرآن فمن قال بخلق القرآن قال بخلق علم الله تعالى وهو كفر صريح.

١٠٦

(مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) : الولي من يتولاك ويكفيك أمرك والنصير من ينصرك ويدفع عنك الأذى.

(يَتْلُونَهُ حَقَ (١) تِلاوَتِهِ) : لا يحرفون كلمه عن مواضعه ولا يكتمون الحق الذي جاء فيه من نعت الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيره.

(فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) : المشار إليهم كفار أهل الكتاب والخسران خسران الدنيا والآخرة.

معنى الآيتين :

ما زال السياق في أهل الكتاب يكشف عوارهم ويدعوهم إلى الهدى لو كانوا يهتدون ففي الآية الأولى (١٢٠) يخبر تعالى رسوله وأمته تابعة له أن اليهود والنصارى لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم الباطلة وهي اليهودية أو النصرانية ، وفي هذا نهى عن اتباعهم ثم أمره أن يخبرهم أن الهدى هدى (٢) الله الذي هو الإسلام وليس اليهودية ولا النصرانية إذ هما بدعتان من وضع أرباب الأهواء والأطماع الماديّة.

ثم يحذر الله رسوله وأمته من اتباع اليهود والنصارى بعد الذي جاءهم من العلم والنعمة التي أتمها عليهم وهي الإسلام فيقول : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ).

وفي الآية الثانية (١٢١) يخبر تعالى أن الذين آتاهم الله الكتاب التوراة والإنجيل فكانوا يتلونه حق تلاوته فلا يحرفون ولا يكتمون هؤلاء يؤمنون بالكتاب حق الإيمان أما الذين يحرفون كلام الله ويكتمون ما جاء فيه من نعوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهؤلاء لا يؤمنون به وهم الخاسرون دون غيرهم ، ومن آمن (٣) من أهل الكتاب بكتابه وتلاه حق تلاوته سوف يؤمن بالنبي الأمي ويدخل في دينه قطعا.

هداية الآيات

من هداية الآيتين :

١ ـ لا يحصل المسلم على رضا اليهود والنصارى إلا بالكفر بالإسلام واتباع دينهم الباطل

__________________

(١) هم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتابعوهم بإحسان كان أحدهم إذا مرّ باية رحمة سألها الله تعالى وإذا مر باية عذاب تعوذ بالله من العذاب.

(٢) إن ما يهدي إليه الرّب تعالى عباده المؤمنين بمعنى ما يوفقهم إليه من الإسلام ظاهرا وباطنا ، فيعملون بطاعته وطاعة رسوله في المنشط والمكره ذلك هو هدى الله المبعد عن الضلال والموصول إلى دار السّلام.

(٣) كعبد الله بن سلام ومن آمن على عهد رسول الله من أحبار أهل الكتاب.

١٠٧

وهذا ما لا يكون للمسلم أبدا فلذا طلب رضا اليهود والنصارى محرم لا يحل أبدا.

٢ ـ لا دين (١) حق إلا الإسلام فلا ينبغي أن يلتفت إلى غيره بالمرة.

٣ ـ من يوالي اليهود والنصارى باتباعهم على باطلهم يفقد ولاية الله تعالى ويحرم نصرته.

٤ ـ طريق الهداية في تلاوة كتاب الله حق تلاوته بأن يجوده قراءة ويتدبرّه هداية ويؤمن بحكمه ومتشابهه ، ويحلل حلاله ويحرم حرامه ، ويقيم حدوده كما يقيم حروفه.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣)) (٢) (٣)

شرح الكلمات :

(إِسْرائِيلَ) : لقب يعقوب بن اسحق بن إبراهيم عليهم‌السلام.

وبنو إسرائيل : هم اليهود.

(الْعالَمِينَ) : البشر الذين كانوا في زمانهم مطلقا.

(لا تَجْزِي) : لا تقضي ولا تغني.

العدل : الفداء.

(شَفاعَةٌ) : وساطة أحد.

__________________

(١) يشهد لهذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح : «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار».

(٢) هذا النداء الثالث الذي نادى الله تعالى به بني اسرائيل يأمرهم بذكر نعمه ليشكروها بالإيمان برسوله والدخول في دين الإسلام ، لكن حالهم كما قال القائل :

لقد أسمعت لو ناديت حيا

ولكن لا حياة لمن تنادي

(٣) يلاحظ تقدم الشفاعة في النداء الثاني على أخذ العدل وتأخير الشفاعة في هذا النداء وتقديم العدل وما هو إلّا تفنن في الأسلوب إذهابا للسآمة. وهذا شأن الكلام البليغ.

١٠٨

معنى الآيتين :

يعظ الرحمن عزوجل اليهود فيناديهم (١) بأشرف ألقابهم ويأمرهم بذكر نعمه تعالى عليهم وهي كثيرة ، ويأمرهم أن يذكروا تفضيله تعالى لهم على عالمي زمانهم والمراد من ذكر النعم شكرها فهو تعالى في الحقيقة يأمرهم بشكر نعمه وذلك بالإيمان به وبرسوله والدخول في دينه الحق (الإسلام).

كما يأمرهم باتقاء عذاب يوم القيامة حيث لا تغني نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها فداء ولا تنفعها شفاعة وهذه هي نفس الكافر والمشرك حيث لا شفاعة تنال الكافر أو المشرك ، ولا يوجد لهم ناصر ينصرهم فيدفع عنهم العذاب إذ اتقاء عذاب يوم القيامة يكون بالإيمان بالله ورسوله والعمل الصالح ، بعد التخلي عن الكفر والمعاصي.

هداية الآيتين :

١ ـ وجوب ذكر نعم الله على العبد ليجد بذلك دافعا نفسيا لشكرها ، إذ غاية الذكر هي الشكر.

٢ ـ وجوب اتقاء عذاب يوم القيامة بالإيمان وصالح الأعمال بعد التخلي عن الشرك والعصيان.

٣ ـ استحالة الفداء يوم القيامة ، وتعذر وجود شافع يشفع لمن مات على الشرك لا بإخراجه من النار ، ولا بتخفيف العذاب عنه.

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ (٢) رَبُّهُ (٣) بِكَلِماتٍ (٤)

__________________

(١) بهذا النداء ختم الحجاج مع اليهود في هذه السورة ، فلم يجر لهم ذكر بعد فكان من براعة المقطع. ذكر هذا صاحب التحرير والتنوير ، وليس صحيحا بل الصحيح أن ختم الحجاج مع اليهود انتهى عند قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) الآية (١٥٠).

(٢) أبرهم بالسريانية والعبرية أيضا معناه أب رحيم ، ولرحمته جعله الله تعالى كافلا لأطفال المؤمنين في الجنة إلى يوم القيامة إن صحّ الحديث بذلك.

(٣) ذكر الربوبية هنا تشريف لابراهيم عليه‌السلام وإيذان بأن ابتلاءه كان تربية له واعدادا له لأمر خطير.

(٤) الكلمات : جمع كلمة ، وهي اللفظ المفرد وتطلق على الكلام أيضا والمراد بها هنا كلمات تحمل الأوامر التكليفية ومن أبرزها ما يلي : كسر الأصنام ، والهجرة ، وذبح اسماعيل ، وبناء البيت العتيق ، والختان ، والصلاة ، والزكاة ، وخصال الفطرة ، والصدق ، والصبر ، وبالجملة فقد نهض ابراهيم بكل ما عهد إليه ربّه بالقيام به من الشرائع فلذا أكرمه بالإمامة وشرّفه بها.

١٠٩

فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي (١) قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤))

شرح الكلمات :

(ابْتَلى) : اختبره بتكليفه بأمور شاقة عليه.

(بِكَلِماتٍ) : متضمنة أوامر ونواهي.

(فَأَتَمَّهُنَ) : قام بهن وأداهن على أكمل الوجوه وأتمها.

(إِماماً) : قدوة صالحة يقتدى به في الخير والكمال.

(الظَّالِمِينَ) : الكافرين والمشركين والفاسقين المعتدين على الناس.

معنى الآية الكريمة :

بعد ذلك الحجاج الطويل الذي عاشه رسول الله مع طائفتي أهل الكتاب من اليهود والنصارى وكذا المشركين في الآيات السابقة لهذه الآية أمر تعالى رسوله أن يذكر ابتلاءه تعالى لنبيه وخليله إبراهيم عليه‌السلام بما كّلفه به من أوامر ونواهي فقام بها خير قيام فأنعم عليه بأكبر إنعام وهو أنه جعله إماما للناس ، ومن أبرز تلك التكاليف وقوفه في وجه الوثنيين ، وتحطيم أوثانهم ، والهجرة من ديارهم والهم بذبح ولده إسماعيل قربانا لله ، وبناء البيت ، وحجه والدعوة إليه مما استحق به الإمامة للناس كافة وفي هذا تبكيت للفرق الثلاثة العرب المشركين واليهود والنصارى إذ كلهم يدعي انتماءه لإبراهيم والعيش على ملته فها هو ذا إبراهيم موحد وهم مشركون ، عادل وهم ظالمون ، متّبع للوحي الإلهي وهم به كافرون ولصاحبه مكذبون وفي الآية بيان رغبة إبراهيم في أن تكون الإمامة في ذريته وهي رغبة صالحة فجعلها الله تعالى في ذريته (٢) كما رغب واستثنى تعالى الظالمين فإنهم لا يستحقونها فهي لا تكون إلا في أهل الخير والعدل والرحمة لا تكون في الجبابرة القساة ولا الظالمين العتاة.

__________________

(١) الذرية : مأخوذ من ذرأ الله الخلق ذرءا أي : خلقهم والجمع ذراري.

(٢) قال تعالى : (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ). الآية من سورة العنكبوت.

١١٠

هداية الآية

من هداية الآية :

١ ـ الإمامة لا تنال إلا بصحة اليقين (١) والصبر على سلوك سبيل المهتدين.

٢ ـ مشروعية ولاية العهد ، بشرط أن لا يعهد إلا إلى من كان على غاية من الإيمان والعلم والعمل والعدل والصبر.

٣ ـ القيام بالتكاليف الشرعية قولا وعملا (٢) يؤهل لأن يكون صاحبه قدوة صالحة للناس.

(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً (٣) لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦))

شرح الكلمات :

(الْبَيْتَ) : الكعبة التي هي البيت الحرام بمكة المكرمة.

(مَثابَةً) : مرجعا يثوب إليه العمّار والحجاج.

(أَمْناً) : مكانا آمنا يأمن فيه كل من دخله.

(مَقامِ إِبْراهِيمَ) : الحجر الذي كان قد قام عليه ابراهيم أيام كان يبني البيت وذلك أنه لما ارتفع البناء احتاج إبراهيم إلى حجر عال يرقى عليه ليواصل بناء الجدران فجيء بهذا الحجر فقام عليه فسمي مقام إبراهيم.

__________________

(١) شاهد هذا في كتاب الله تعالى إذ قال عزوجل : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) السجدة. فلذا قيل : بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.

(٢) هذا مستفاد من قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً)

(٣) مثابة أصله ثاب مصدر ثاب يثوب مثابا ، وزيدت فيه التاء للمبالغة كما زيدت في كلمة علامة ونسّابة ويشهد لهذا قول الشاعر :

جعل البيت مثابا لهم

ليس منه الدهر يقضون الوطر

١١١

(مُصَلًّى) : مكان يصلى فيه أو عنده أو إليه.

(عَهِدْنا) : وصينا وأمرنا.

تطهير البيت : تنزيهه عن الأقذار الحسية كالدماء والأبوال ومعنوية كالشرك والبدع والمفاسد.

(أَضْطَرُّهُ) : ألجئه مكرها إلى العذاب.

معنى الآيتين :

ما زال السياق في تذكير المشركين وأهل الكتاب معا بأبي الأنبياء وإمام الموحدين إبراهيم عليه‌السلام ، ومآثره الطيبة الحميدة ، ومواقفه الإيمانية العظيمة ليتجلى بذلك بطلان دعوى كل من أهل الكتاب والمشركين في انتسابهم إلى إبراهيم كذبا وزورا إذ هو موحد وهم مشركون وهو مؤمن وهم كافرون فقال تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اذكر لهم كيف جعلنا البيت مثابة للناس (١) يثوبون إليه في كل زمان حجاجا وعمارا ، وأمنا دائما من دخله أمن على نفسه وماله وعرضه. وقلنا لمن حجوا البيت أو اعتمروا اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى فكان من سنة من طاف بالبيت أن يصلى خلف المقام ركعتين ، كما أوصينا (٢) من قبل إبراهيم وولده إسماعيل بتطهير البيت من كل رجس معنويا كالأصنام وعبادة غير الله تعالى أو حسيا كالأقذار والأوساخ من دم أو بول حتى يتمكن الطائفون والعاكفون (٣) والمصلون من أداء هذه العبادات بلا أي أذى يلحقهم أو يضايقهم.

هذا ما تضمنته الآية الأولى (١٢٥) أما الآية الثانية (١٢٦) فقد تضمنت أمر الله تعالى لرسوله أن يذكر دعوة إبراهيم ربّه بأن يجعل مكة بلدا آمنا من (٤) دخله يأمن فيه (٥) على نفسه وماله وعرضه ، وأن يرزق أهله وسكانه المؤمنين من الثمرات وأن الله قد استجاب لإبراهيم دعوته إلا أن الكافرين لا يحرمون الرزق في الدنيا ولكن يحرمون الجنة في الدار الآخرة حيث

__________________

(١) فقد أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن موسى عليه‌السلام حج البيت وأن هودا حجه من قبل وكذا سائر الأنبياء والمرسلين.

(٢) الآية وعهدنا : إلّا أن الوعد المؤكد وقوعه يصير عهدا ، فإن عدي بإلى صار وصية ، فلذا فسّرنا العهد هنا بالوصية.

(٣) العكوف : ملازمة المسجد للصلاة والعبادة ، والعاكفون الملازمون للمسجد الحرام من ساكن مكة وغريب.

(٤) الجمهور على أن الحدود تقام على أصحابها في الحرم ، وخالف أبو حنيفة في هذا ، وقول الجمهور أصح وعليه العمل فقد روى البخاري أن عمرو بن سعيد قال : إن الحرم لا يعيذ عاصيا ، ولا فارا بدم ولا فارا بخربة

(٥) هل كانت مكة حراما قبل دعوة ابراهيم أو بعد دعوته خلاف ويشهد لكونها ما كانت حراما قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن ابراهيم حرّم مكة ودعا لأهلها .. الحديث في مسلم.

١١٢

يلجئهم تعالى مضطرا لهم إلى عذاب النار الغليظ وبئس هذا المصير الذي يصيرون إليه ـ وهو النار ـ من مصير.

هداية الآيات

من هداية الآيتين :

١ ـ منة الله تعالى بجعل البيت مثابة للناس وأمنا توجب حمد الله على كل مؤمن.

٢ ـ سنة صلاة ركعتين خلف المقام لمن (١) طاف بالبيت.

٣ ـ وجوب حماية البيت والمسجد الحرام من أي ضرر يلحق من يوجد فيه من طائف وعاكف وقائم وراكع وساجد.

٤ ـ بركة دعوة إبراهيم لأهل مكة ، واستجابة الله تعالى له دعوته فلله الحمد والمنة.

٥ ـ الكافر لا يحرم الرزق لكفره (٢) بل له الحق في الحياة إلا أن يحارب فيقتل أو يسلم.

٦ ـ مصير من مات كافرا إلى النار ، لا محالة ، والموت في الحرم لا يغني عن الكافر شيئا.

(وَإِذْ يَرْفَعُ (٣) إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ (٤) رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ (٥) لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ

__________________

(١) روى البخاري عن عمر رضي الله عنه أنه قال : وافقت ربي في ثلاث : قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام ابراهيم مصلى فنزلت : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) الآية.

(٢) هذا مستفاد من قول الله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ..) الخ ، إذ ابراهيم عليه‌السلام سأل الرزق للمؤمنين لا غير نظرا إلى أن الله تعالى ردّ طلبه في سؤاله الإمامة لكافة ذريته إذ قال : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) فمن هنا استثنى ابراهيم غير المؤمنين فأعلمه الله أن الغذاء حق الحيّ مؤمنا كان أو كافرا.

(٣) الاتيان بالمضارع هنا مع أن السياق في أمور مضت من أجل استحضار الحالة كأنّها مشاهدة وذلك إبرازا لمواقف إمام الموحدين ابراهيم المشرفة ترغيبا في الاقتداء به.

(٤) إسماعيل هو الولد البكر لابراهيم ، وأمّه هاجر الجارية المصرية ومعنى إسماعيل : (سمع الله).

(٥) هذا كسؤال المسلم في صلاته (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) أي أدم هدايتنا واحفظ سيرنا عليه حتى نفوز برضاك والجنة فكذلك سؤال إبراهيم (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) أي أدم لنا إسلامنا واحفظه علينا حتى لا نتركه لأنّه علّة وجودنا وغاية أملنا في الحياة.

١١٣

وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩))

شرح الكلمات :

(وَإِذْ) : ظرف لما مضى من الزمان ويعلق بمحذوف تقديره أذكر وقت كذا وكذا.

(الْقَواعِدَ) : جمع قاعدة ما يبنى عليه الجدار من أساس ونحوه.

(الْبَيْتِ) : الكعبة حماها الله وطهرها.

(إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) : هذه الجملة وسيلة توسل بها إبراهيم وولده لقبول دعائهما.

(مُسْلِمَيْنِ) : منقادين لك خاضعين لأمرك ونهيك راضين بحكمك عابدين لك.

(أَرِنا مَناسِكَنا) : علمنا كيف نحج بيتك ، تنسكا وتعبدا لك.

(تُبْ عَلَيْنا) : وفقنا للتوبة إذا زللنا واقبلها منا.

(وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً) : هذا الدعاء استجابه الله تعالى ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو ما طلباه.

(الْكِتابَ) : القرآن.

(الْحِكْمَةَ) : السنة وأسرار الشرع والإصابة في الأمور كلها.

(يُزَكِّيهِمْ) : يطهر أرواحهم ويكمل عقولهم ، ويهذب أخلاقهم بما يعلمهم من الكتاب والحكمة ، وما بينه لهم من ضروب الطاعات.

(الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) : العزيز الغالب الذي لا يغلب. الحكيم في صنعه وتدبيره بوضع كل شيء في موضعه.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في ذكر مآثر إبراهيم عليه‌السلام المنبئة عن مكانته السامية في كمال الإيمان والطاعة ، وعظيم الرغبة في الخير والرحمة فقد تضمنت الآيات الثلاث ذكر إبراهيم وإسماعيل وهما يبنيان البيت برفع قواعده وهما يدعوان الله تعالى بأن يتقبل (١) منهما عملهما متوسلين إليه بأسمائه وصفاته (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

__________________

(١) هذه من كمال الحال إذ هو في حال البناء ، والتعب ، والعرق ويسأل أن يتقبل منه عمله. هذا شأن أهل الكمال من الرجال قال تعالى عنهم : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) الآية.

١١٤

كما يسألانه عزوجل أن يجعلهما مسلمين له وأن يجعل من ذريتهما أمة مسلمة (١) له مؤمنة به موحدة له ومنقادة لأمره ونهيه مطيعة ، وأن يعلمهما مناسك (٢) حج بيته العتيق ليحجاه على علم ويتوب عليهما ، كما سألاه عزوجل أن يبعث في ذريتهما رسولا منهم يتلو عليهم آيات الله ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم بالإيمان وصالح الأعمال ، وجميل الخلال وطيب الخصال.

وقد استجاب الله تعالى دعاءهما فبعث في ذريتهما من أولاد إسماعيل إمام المسلمين وقائد الغر المحجلين نبينا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد قرر هذا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «أنا دعوة (٣) أبي إبراهيم وبشارة عيسى ... عليهم جميعا السّلام».

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ فضل الإسهام بالنفس في بناء المساجد (٤).

٢ ـ المؤمن البصير في دينه يفعل الخير وهو خائف أن لا يقبل منه فيسأل الله تعالى ويتوسل إليه بأسمائه وصفاته أن يتقبله منه.

٣ ـ مشروعية سؤال الله للنفس وللذرية الثبات على الإسلام حتى الموت عليه.

٤ ـ وجوب تعلم مناسك الحج والعمرة على من أراد أن يحج أو يعتمر.

٥ ـ وجوب طلب تزكية النفس بالإيمان والعمل الصالح ، وتهذيب الأخلاق بالعلم والحكمة.

٦ ـ مشروعية التوسل إلى الله تعالى في قبول الدعاء وذلك بأسمائه تعالى وصفاته لا بحق فلان وجاه فلان كما هو شأن المبتدعة والضلال ففي هذه الآيات الثلاث توسل إبراهيم وإسماعيل بالجمل التالية :

١ ـ (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

__________________

(١) هي أمّة الإسلام التي أنشأها بعون الله تعالى محمد الذي بعثه الله رسولا في ذرية اسماعيل للعالمين.

(٢) النسك في اللغة الغسل بالماء ، يقال نسك ثوبه إذا غسله ، وهو في الشرع اسم للعبادة ، لأن العبادة تطهّر النفس وتزكيها ، يقال : رجل ناسك ومتنسك إذا لازم العبادة يغسل بها نفسه لتطهر وتزكو فيفلح بذلك ويفوز. ومناسك الحج هي العبادات المشروعة فيه من إحرام وطواف وذبح الهدي وغير ذلك.

(٣) رواه أحمد بلفظ : «إني عند الله لخاتم النبيين وإن آدم لمجندل في طينته وسأنبئكم بأول ذلك. دعوة ابراهيم ، وبشارة عيسى بي ورؤيا أمي التي رأت وكذلك أمهات النبيين يرين.»

(٤) وفي الحديث الصحيح : «من بنى لله مسجدا بنى الله له قصرا في الجنة».

١١٥

٢ ـ (إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

٣ ـ (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(وَمَنْ يَرْغَبُ (١) عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ (٢) فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى (٣) بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢) أَمْ (٤) كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤))

شرح الكلمات :

(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) : الرغبة عن الشيء عدم حبه وترك طلبه وملة إبراهيم هي عبادة الله وحده بما شرع لعباده.

__________________

(١) الاستفهام للنفي والإنكار ، وملّة ابراهيم هي عبادة الله وحده لا شريك له بما شرع الله تعالى لعباده من أنواع العبادات في كتابه وعلى لسان رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٢) الاصطفاء مأخوذ من الصفوة وهو تخير الأصفى أي الأكثر صفاء ، واصطفى : قلبت فيه التاء طاء لتناسبها مع الصاد في الاطباق إذ الأصل : اصتفى أي : طلب الصفوة.

(٣) وصى وأوصى بمعنى عهد إليه بكذا ، والموصى به هنا هو كلمة (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) وذلك بعبادته وحده بما شرع بعد خلع الأنداد. وذي هي ملّة ابراهيم.

(٤) أم بمعنى : بل والهمزة هي التي للاستفهام الإنكاري وتقدير الكلام : بل أكنتم شهداء حين حضر يعقوب الموت فوصّى بنيه. يوبّخهم على كذبهم وينكر عليهم.

١١٦

(إِلَّا مَنْ سَفِهَ (١) نَفْسَهُ) : لا يرغب عن ملة إبراهيم التي هي دين الإسلام إلا عبد جهل قدر نفسه فأذلها وأهانها بترك سبيل عزها وكمالها وإسعادها وهي الإسلام.

(اصْطَفَيْناهُ) : اخترناه لرسالتنا والبلاغ عنا ، ومن ثم رفعنا شأنه وأعلينا مقامه.

(أَسْلِمْ) : انقد لأمرنا ونهينا فاعبدنا وحدنا ولا تلتفت إلى غيرنا.

(اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ) : اختار لكم الدين الإسلامي ورضيه لكم فلا تموتنّ (٢) إلا وأنتم مسلمون.

(يَعْقُوبَ) : هو اسرائيل بن اسحق بن إبراهيم وبنوه هم يوسف وإخوته.

أمة خلت : جماعة أمرها واحد. (خَلَتْ) : مضت إلى الدار الآخرة.

(لَها ما كَسَبَتْ) : أجر ما كسبته من الخير.

(وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) : من خير (٣) أو غيره.

معنى الآيات :

لما ذكر تعالى في الآيات السابقة مواقف إبراهيم السليمة الصحيحة عقيدة وإخلاصا وعملا صالحا وصدقا ووفاء فوضح بذلك ما كان عليه إبراهيم من الدين الصحيح قال تعالى : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) تلك الملة الحنيفية الواضحة السهلة. اللهم لا أحد يرغب عنها إلا عبد جهل قدر نفسه ، ولم يعرف لها حقها في الطهارة والصفاء والإكمال والإسعاد وضمن هذا الخبر ذكر تعالى إنعامه على إبراهيم وما تفضل به عليه من الإصطفاء في الدنيا والإسعاد في الآخرة في جملة الصالحين.

وفي الآية الثانية (١٣١) يذكر تعالى أن ذاك إلا اصطفاء تم لإبراهيم عند استجابته لأمر ربه بالإسلام حيث أسلم ولم يتردد. وفي الآية الثالثة (١٣٢) يذكر تعالى إقامة الحجة على

__________________

(١) سفه نفسه : استخفّ بقدرها جهلا به. ولذا نصب نفسه لتضمّن سفه معنى جهل.

(٢) في قوله : (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) إيجاز بليغ إذ معناه إلزموا الإسلام ودوموا عليه ولا تفارقوه حتى تموتوا. وجملة (وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) في محل نصب على الحال ، والمعنى مطيعون خاضعون.

(٣) فيه معنى (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ومعنى (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها).

١١٧

المشركين وأهل الكتاب معا إذ ملة الإسلام القائمة على التوحيد وصى بها إبراهيم بنيه ، كما وصى بها يعقوب بنيه وقال لهم : لا تموتن إلا على الإسلام فأين الوثنية العربية واليهودية والنصرانية من ملة إبراهيم ، ألا فليثب العقلاء إلى رشدهم.

وفي الآية الرابعة (١٣٣) يوبخ تعالى اليهود القائلين كذبا وزورا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألست تعلم أن يعقوب وصى بنيه باليهودية فقال تعالى : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) أي أكنتم حاضرين لما حضر يعقوب الموت فقال لبنيه مستفهما إياهم : ما تعبدون من بعدي؟ فأجابوه بلسان واحد : (نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ (١) وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً (٢) وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) فإن قالوا كنا حاضرين فقد كذبوا وبهتوا ولعنوا وإن قالوا لم نحضر بطلت دعواهم أن يعقوب وصى بنيه باليهودية ، وثبت أنه وصاهم بالإسلام لا باليهودية.

وفي الآية الأخيرة (١٣٤) ينهي تعالى جدل اليهود الفارغ فيقول لهم : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) ـ يعني إبراهيم وأولاده ـ لها ما كسبت من الإيمان وصالح الأعمال ، ولكم أنتم معشر يهود ما اكتسبتم من الكفر والمعاصي وسوف لا تسألون يوم القيامة عن أعمال غيركم وإنما تسألون عن أعمالكم وتجزون بها ، فاتركوا الجدل وأقبلوا على ما ينفعكم في آخرتكم وهو الإيمان الصحيح والعمل الصالح ، ولا يتم لكم هذا إلا بالإسلام فأسلموا.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ لا يرغب عن الإسلام بتركه أو طلب غيره من الأديان إلا سفيه لا يعرف قدر نفسه.

٢ ـ الإسلام دين البشرية (٣) جمعاء ، وما عداه فهي أديان مبتدعة باطلة.

٣ ـ استحباب الوصية للمريض يوصي فيها بنيه وسائر أفراد أسرته بالإسلام حتى الموت عليه.

٤ ـ كذب اليهود وبهتانهم وصدق من قال : اليهود قوم بهت.

__________________

(١) فيه إطلاق لفظ الأب على العمّ لأن اسماعيل عم ليعقوب وليس بأب له ، وفيه إطلاق الأب على الجد أيضا ومن هنا ذهب من ذهب إلى أن الجد كالأب يحجب الأخوة عن الأرث لأنّ الأب يحجب الأخوة حجب اسقاط.

(٢) أي نوحّده بالألوهية أي : العبادة ولا نشرك به في عبادته سواه.

(٣) الإسلام هو ملّة سائر الأنبياء ، وإن تنوعت أنواع التكليف عندهم ، واختلفت مناهج العمل بينهم ، إذ الإسلام هو انقياد لله وخضوع ولذا قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نحن معشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد».

١١٨

٥ ـ يحسن بالمرء ترك الإعتزاز بشرف وصلاح (١) الماضين ، (٤) والإقبال على نفسه بتزكيتها وتطهيرها.

٦ ـ سنة الله في الخلق أن المرء يجزى بعمله ، ولا يسأل عن عمل غيره.

٧ ـ يطلق لفظ الأب على العم تغليبا وتعظيما.

(وَقالُوا (٢) كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥) قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا (٣) وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ (٤) وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ (٥) بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧) صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (١٣٨))

شرح الكلمات :

(تَهْتَدُوا) : تصيبوا طريق الحق.

__________________

(١) وفي الحديث الصحيح «من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه» وفي هذا المعنى قال الشاعر الحكيم

لا تقل أصلي وفصلي يا فتى

إنما أصل الفتى ما قد حصل

(٢) ذكر ابن كثير عن ابن اسحاق أن عبد الله بن صوريّا الأعور اليهودي قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما الهدى إلّا ما نحن عليه ، فاتبعنا يا محمد تهتد ، وقالت النصارى مثل ذلك فأنزل الله عزوجل : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) الآية.

(٣) روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا : آمنا بالله وما أنزل إلينا ، وما أنزل إليكم ..».

(٤) الأسباط : أولاد يعقوب عليه‌السلام وهم اثنا عشر ولدا ، يوسف وبنيامين وهوذا ولكل واحد منهم أمّة من الناس. الواحد سبط والجمع أسباط والسبط في بني إسرائيل بمنزلة القبيلة في ولد اسماعيل عليه‌السلام وسموا الأسباط من السبط وهو التتابع لأنهم متتابعون.

(٥) أي : لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كصنيع اليهود والنصارى.

١١٩

(مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) : دين إبراهيم الذي كان عليه.

(حَنِيفاً) (١) : مستقيما على دين الله تعالى موحدا فيه لا يشرك بالله شيئا.

(ما أُوتِيَ مُوسى) : التوراة.

وما أوتي عيسى : الإنجيل

(فِي شِقاقٍ) : خلاف وفراق وعداء لك وحرب عليك.

(صِبْغَةَ اللهِ) : دينه الذي طهرنا به ظاهرا وباطنا فظهرت آثاره علينا كما يظهر أثر الصبغ على الثوب المصبوغ.

معنى الآيات :

ما زال السياق في حجاج أهل الكتاب ودعوتهم إلى الإسلام فقد قال اليهود للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه. كونوا يهودا تهتدوا إلى الحق ، وقالت النصارى من وفد نجران كذلك كونوا نصارى تهتدوا فحكى الله تعالى قولهم ، وعلم رسوله أن يقول لهم لا نتبع يهودية ولا نصرانية بل نتبع دين إبراهيم الحنيف المفضي بصاحبه إلى السعادة والكمال.

وفي الآية الثانية (١٣٦) أمر الله تعالى رسوله والمؤمنين أن يعلنوا في وضوح عن عقيدتهم الحقة وهي الإيمان بالله وما أنزل من القرآن ، وما أنزل على الأنبياء كافة ، وما أوتي موسى وعيسى من التوراة والإنجيل خاصة ، مع عدم التفرقة بين رسول ورسول والإسلام الظاهر والباطن لله رب العالمين.

وفي الآية الثالثة (١٣٧) يقول تعالى لرسوله والمؤمنين إن آمن اليهود والنصارى إيمانا صحيحا كإيمانكم (٢) فقد اهتدوا ، وإن أبوا فتولوا وأعرضوا فأمرهم لا يعدو شقاقا وحربا لله ورسوله ، والله تعالى سيكفيكهم بما يشاء وهو السميع لأقوالهم الباطلة العليم بأعمالهم الفاسدة ، وقد أنجز (٣) تعالى وعده لرسوله فأخرج اليهود من المدينة بل ومن الحجاز مع ما

__________________

(١) أصل الحنف : الميل ومنه قولهم رجل أحنف أي مائل القدمين إلى بعضهما بعضا قالت أم الأحنف : والله لو لا الحنف برجله ما كان في فتيانكم من مثله ولمّا مال إبراهيم عن أديان الشرك إلى دين التوحيد قيل فيه حنيف وصار بمعنى مستقيم. إذ هو على منهج الحق وغيره على الباطل.

(٢) الآية : (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ ..) وكان ابن عباس يقرأها : فإن آمنوا بالذي آمنتم به وهو تفسير لا قراءة ، وعليه فمثل : زائدة نظيرها ، ليس كمثله شيء أي ليس كهو شيء.

(٣) نعم أنجز الله تعالى وعده لرسوله فكفاه اليهود الذين وطّنوا العزم على قتله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحاولوا وخابوا ولم يقدروا إذ كفاه الله تعالى إياهم.

١٢٠