القضاء والقدر

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

القضاء والقدر

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٢٨

المطلب الثالث

مراتب القدر

دل الكتاب والسنة على أن الإيمان بالقضاء والقدر يقوم على أربعة مراتب لا يتم الإيمان بالقدر إلّا بمجموعها ، ومن لم يؤمن بها لم يؤمن بالقضاء والقدر ، وهي :

١ ـ العلم السابق بالأشياء قبل كونها.

٢ ـ كتابته لها قبل كونها.

٣ ـ مشيئته لها.

٤ ـ خلقه لها (١).

الأدلة التفصيلية لمراتب القدر.

١ ـ المرتبة الأولى : العلم السابق.

والمراد بهذه المرتبة «الإيمان بعلم الله ـ عزوجل ـ بكل شيء من الموجودات والمعدومات والممكنات والمستحيلات ، فعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون ، وأنّه علم ما الخلق عاملون قبل أن يخلقهم ، وعلم أرزاقهم وآجالهم وأحوالهم وأعمالهم في جميع حركاتهم وسكناتهم وشقاوتهم وسعادتهم ، ومن هو منهم من أهل الجنّة ، ومن هو من أهل النّار من قبل أن يخلقهم ، ومن قبل أن يخلق الجنّة والنّار ، علم دقيق ذلك وجليله ، وكثيره وقليله ، وظاهره وباطنه ، وسره وعلانيته ، ومبدأه ومنتهاه ، كل ذلك بعلمه الذي هو صفته ومقتضى اسمه العليم الخبير عالم الغيب والشهادة علّام الغيوب» (٢).

والأدلة على هذه المرتبة من القرآن والسنة أكثر من أن تستقصى ومنها :

__________________

(١) «شفاء العليل» (ص ٢٩).

(٢) «معارج القبول» (٣ / ٩٢٠).

٦١

أولا : من القرآن الكريم :

١ ـ قوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (١).

٢ ـ وقوله تعالى : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) (٢).

٣ ـ وقوله تعالى : (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (٣).

ثانيا : من السنّة :

١ ـ حديث عمران بن حصين ـ رضي الله عنه ـ قال : «قال رجل : يا رسول الله أعلم أهل الجنّة من أهل النار؟ قال : نعم قال : ففيم يعمل العاملون؟ قال : كل ميسّر لما خلق له» (٤).

٢ ـ حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : «سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذراري المشركين فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين» (٥).

فعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون.

المرتبة الثانية : مرتبة الكتابة :

وهي أن الله كتب في اللوح المحفوظ مقادير الخلق ، فما يحدث شيء في الكون إلّا وقد علمه وكتبه قبل حدوثه (٦).

والأدلة من القرآن والسنة على ذلك كثيرة جدا أذكر منها :

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية رقم (٥٩).

(٢) سورة الحشر ، الآية رقم (٢٢).

(٣) سورة الطلاق ، الآية رقم (١٢)

(٤) أخرجه البخاري في «كتاب القدر» (١١ / ٤٩١ ـ مع الشرح) ، باب : جف القلم على علم الله. ومسلم في «الصحيح» كتاب القدر (٢٦٤٩) باب : كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه ، وأبو داود في «السنن» باب : في القدر (٤٧٠٩) من كتاب الله.

(٥) أخرجه البخاري في «كتاب القدر» (١١ / ٤٩٣ ـ مع الشرح) ، باب : الله أعلم بما كانوا عاملين ، ومسلم في «كتاب القدر» (٢٦٥٨) باب : معنى كل مولود يولد على الفطرة.

(٦) العقيدة الواسطية (ص ١٦٤) ، و «شفاء العليل» (ص ١١٥).

٦٢

أولا : الأدلة من القرآن :

تأتي الآيات الكريمة بإثبات هذه المرتبة «الكتابة» مقرونة مع مرتبة «العلم» تارة ، وبدونها تارة أخرى ، ولا فرق فكتابه تعالى من علمه.

١ ـ قال تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) (١).

٢ ـ وقال تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (٢).

٣ ـ وقال تعالى : (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٣).

فما يعزب عن ربك ، أي : ما يغيب عن علمه وبصره وسمعه ومشاهدته أي شيء ، حتى مثاقيل الذر ، بل ما هو أصغر منها ، وهذه مرتبة العلم ، وقوله : (إِلَّا فِي كِتابٍ) : مرتبة الكتابة وكثيرا ما يقرن الله ـ سبحانه وتعالى ـ بين هاتين المرتبتين (٤).

ثانيا : من السنة النبوية :

من الأدلة الواردة في السنة على ذلك ، ما يلي :

١ ـ حديث علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قال : «كنّا جلوسا مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه عود ينكت في الأرض وقال : ما منكم من أحد إلّا قد كتب مقعده من النّار أو من الجنّة فقال رجل من القوم : ألا نتكل يا رسول الله؟

قال : لا ، اعملوا فكلّ ميسّر. ثم قرأ : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى) (٥)» (٦).

٢ ـ حديث جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال : «جاء

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية رقم (٣٨).

(٢) سورة الحج ، الآية رقم (٧٠).

(٣) سورة يونس ، الآية رقم (٦١).

(٤) تفسير ابن سعدي (٣ / ٣٦٦).

(٥) سورة الليل ، الآية رقم (٥).

(٦) أخرجه البخاري في تفسير سورة (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) (٧ / ٧١٨) باب : (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) ومسلم بأبين من هذا في «كتاب القدر» (٤ / ٢٠٣٩ ، ٢٠٤٠).

٦٣

سراقة بن مالك بن جعشم قال : يا رسول الله بين لنا ديننا كأنّا خلقنا الآن فيما العمل اليوم؟ فيما جفّت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما نستقبل؟ قال : لا بل فيما جفّت به الأقلام وجرت به المقادير قال : ففيم العمل؟ قال زهير ـ أحد رواة الحديث ـ ثم تكلم أبو الزبير ـ وهو الراوي عن جابر ـ رضي الله عنه ـ بشيء لم أفهمه ، فسألت ما قال؟ فقال اعملوا فكل ميسّر» (١).

ويدخل في الإيمان بكتابة المقادير خمسة وهي :

التقدير الأول : التقدير الأزلي قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة عند ما خلق الله القلم. ودليل هذا التقدير ما تقدم من أدلة مرتبة المشيئة ويضاف إليها :

١ ـ حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة قال : وعرشه على الماء» (٢).

٢ ـ حديث عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ أنّه قال لابنه : يا بنيّ إنّك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أنّ ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وما أخطأك لم يكن ليصيبك ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنّ أوّل ما خلق الله القلم فقال له : اكتب قال : ربّ وما ذا أكتب؟ قال : مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة» يا بني إنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من مات على غير هذا فليس مني» (٣).

التقدير الثاني : التقدير حين أخذ الميثاق على بني آدم وهم على ظهر أبيهم آدم ودليل هذا التقدير ما تقدم في مرتبة الكتابة ويضاف إليها :

١ ـ قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ

__________________

(١) أخرجه مسلم في «كتاب القدر» (٤ / ٢٠٤٠) باب : كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه.

(٢) أخرجه مسلم في «كتاب القدر» (٤ / ٢٠٤٤).

(٣) أخرجه أبو داود في «السنن» باب : في القدر (٤٧٠٠) من كتاب السنة.

٦٤

وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (١).

٢ ـ حديث عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أنه سئل عن هذه الآية : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ) الآيات ، فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسأل عنها فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله تبارك وتعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه حتى استخرج منه ذرية فقال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنّة يعملون ، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال : خلقت هؤلاء للنّار وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل : يا رسول الله ، ففيم العمل؟ قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنّة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله ربّه الجنّة ، وإذا خلق العبد للنّار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النّار فيدخله ربّه النّار» (٢).

التقدير الثالث : التقدير العمري عند تخليق النطفة في الرّحم ، فيكتب إذ ذاك ذكوريتها وأنوثتها والأجل والعمل والشقاوة والسعادة والرزق وجميع ما هو لاق فلا يزاد فيه ولا ينقص منه.

وأدلة هذا التقدير كثيرة ، منها :

١ ـ حديث عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : حدّثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو الصادق المصدوق «إنّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب : رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أو سعيد ، فو الذي لا إله غيره إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية رقم (١٧٢ ـ ١٧٤).

(٢) أخرجه أبو داود في «كتاب السنة» من «السنن» (١٢ / ٣٠٧ مع العون) والترمذي في «السنن» كتاب «تفسير القرآن» (٥ / ٢٦٦) باب : من سورة الأعراف.

٦٥

الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النّار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنّة فيدخلها» (١).

التقدير الرابع : التقدير الحولي في ليلة القدر ، يقدر فيها كل ما يكون فى السنة إلى مثله. ودليله قوله تعالى : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (٢).

التقدير الخامس : التقدير اليومي.

وهو سوق المقادير إلى المواقيت التي قدرت لها فيما سبق.

ودليله قوله تعالى : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (٣).

«ثم هذا التقدير اليومي تفصيل من التقدير الحولي ، والحولي تفصيل من التقدير العمري عند تخليق النطفة ، والعمري تفصيل من التقدير العمري الأول يوم الميثاق ، وهو تفصيل من التقدير الأزلي الذي خطه القلم في الإمام المبين ، والإمام المبين هو من علم الله ـ عزوجل ـ وكذلك منتهى المقادير في آخريتها إلى علم الله ـ عزوجل ـ فانتهت الأوائل إلى أوليته وانتهت الأواخر إلى آخريته (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) (٤)» (٥).

وهاتان المرتبتان «العلم» و «الكتابة» اتفق عليها الرسل والأنبياء من أولهم إلى خاتمهم واتفق عليها الصحابة ومن تبعهم من هذه الأمة (٦) ، ولم يخالف فيها إلّا غلاة القدرية الأوائل الذين زعموا أن الأمر أنف وأنّ الله ـ تعالى عمّا يقولون علوا كبيرا ـ لا يعلم الأشياء

__________________

(١) أخرجه البخاري في «كتاب القدر» () ، ومسلم في «كتاب القدر» (٢٦٤٣).

(٢) سورة الدخان ، الآية رقم (٤).

(٣) سورة الرحمن ، الآية رقم (٢٩).

(٤) سورة النجم ، الآية رقم (٤٢).

(٥) «معارج القبول» (٣ / ٩٣٩ ، ٩٤٠).

(٦) «شفاء العليل» (ص ٩١).

٦٦

قبل وجودها ولم يقدرها قبل وقوعها فضلا عن كتابتها ، وقولهم هذا هو الكفر بالله ـ عزوجل ـ ؛ ولذا كفّر الصحابة ومن تبعهم أصحاب هذا القول ، ومنكروا هاتين المرتبتين اليوم قليل (١).

المرتبة الثالثة : مرتبة الإرادة والمشيئة :

وفي الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأن ما في السموات وما في الأرض من حركة ولا سكون إلّا بمشيئة الله ـ سبحانه ـ ولا يكون في ملكه إلّا ما يريد (٢).

قال العلامة ابن قيم الجوزية : «وهذه المرتبة قد دل عليها إجماع الرسل من أولهم إلى آخرهم ، وجميع الكتب المنزلة من عند الله ، والفطرة التي فطر الله عليها خلقه ، وأدلة المعقول والعيان ، وليس في الوجود موجب ومقتض إلّا مشيئة الله وحده فما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن هذا عمود التوحيد الذي لا يقوم إلّا به والمسلمون من أولهم إلى آخرهم مجمعون على أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن» (٣).

والأدلة على هذه المرتبة من القرآن والسنة لا تحصى إلّا بمشقة ، ولكن أذكر منها :

أولا : الأدلة من القرآن الكريم :

١ ـ قوله تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٤).

٢ ـ قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) (٥).

٣ ـ قوله تعالى : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٦).

٤ ـ قوله تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ

__________________

(١) «العقيدة الواسطية» (ص ١٦٤) ، و «مجموع الفتاوى» (٨ / ٥٦).

(٢) «العقيدة الواسطية».

(٣) «شفاء العليل» (ص ١٢٥).

(٤) سورة يس ، الآية رقم (٨٢).

(٥) سورة يونس ، الآية رقم (٩٩).

(٦) سورة آل عمران ، الآية رقم (٢٦).

٦٧

يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) (١).

٥ ـ قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢).

٦ ـ قوله تعالى : (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) (٣). والآيات في المعنى كثيرة.

ثانيا : الأدلة من السنة النبوية :

فمنها :

١ ـ حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ أنّه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن ، كقلب واحد يصرفه حيث يشاء ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم مصرّف القلوب صرّف قلوبنا على طاعتك» (٤).

٢ ـ وحديث أبي هريرة ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت ـ ارحمني إن شئت ، ارزقني إن شئت وليعزم مسألته ، إنّه يفعل ما يشاء لا مكره له» (٥).

وقد أنكرت المعتزلة هذه المرتبة والتي تليها ـ الخلق والإيجاد ـ والسبب في ذلك يعود إلى الخلاف في مسألة أخرى هي : هل الإرادة والمشيئة تستلزم الرضا والمحبة.

وهي المسألة التي وقع فيها الخلاف بين أهل السنة والمبتدعة على قولين :

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية رقم (١٢٥).

(٢) سورة آل عمران ، الآية رقم (٦).

(٣) سورة الإنسان ، الآية رقم (٣٠).

(٤) أخرجه مسلم في كتاب القدر (٤ / ٢٠٤٥ برقم ٢٦٥٤).

(٥) أخرجه البخاري باب : في المشيئة والإرادة من كتاب التوحيد (١٣ / ٤٤٨ ـ مع الشرح) ، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (٤ / ٢٠٦٣ برقم ٢٦٧٨).

٦٨

الأول : وهو قول المبتدعة من القدرية المعتزلة والجهمية الجبرية والأشاعرة.

وهؤلاء ذهبوا إلى أن الإرادة تستلزم المحبة والرضا ثم أنّهم اختلفوا فيما يترتب على ذلك :

أ ـ فقالت الجهمية والأشاعرة :

«قد علم بالكتاب والسنة والإجماع أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ـ ولمّا ثبت عندهم أن المشيئة والإرادة والمحبة والرضى كلها بمعنى واحد ـ قالوا : فالمعاصي والكفر كلها محبوبة لله لأن الله شاءها وخلقها» (١).

ب ـ وقالت المعتزلة القدرية :

«قد علم بالدليل أن الله يحب الإيمان والعمل الصالح ولا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر ، بل يكره الكفر والفسوق والعصيان» قالوا : فيلزم من ذلك أن يكون كل ما في الوجود من المعاصي واقعا بدون مشيئته وإرادته ، كما هو واقع على خلاف أمره ، وخلاف محبته ، ورضاه» (٢).

وهكذا انتهى الأمر بهاتين الطائفتين إلى قولين باطلين ، إمّا إخراج بعض المقدورات أن تكون مقدرة ومرادة لله كما فعلت المعتزلة. وإمّا بالقول بأن الله يحب الكفر والمعاصي كما فعلت الأشعرية الذين خالفوا بذلك نصوص الكتاب والسنة» (٣).

الثاني : قول أهل السنّة :

وهو أن الإرادة لا تستلزم الرضا والمحبة بل بينهما فرق كبير.

وهذا ما دل عليه الكتاب والسنّة والفطرة الصحيحة والعقل الصحيح.

__________________

(١) «الاحتجاج بالقدر» (ص ٦٦).

(٢) «الاحتجاج بالقدر» (ص ٦٧).

(٣) «شفاء العليل».

٦٩

والأدلة من القرآن على الإرادة والمشيئة سبق ذكر طرف منها عند أدلة هذه المرتبة من الكتاب والسنّة والتي تدل على أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

وأمّا نصوص المحبة والرّضا ، فمنها :

أولا : من الكتاب :

١ ـ قوله تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) (١).

٢ ـ وقوله تعالى : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) (٢).

٣ ـ وقال بعد ما نهى عن الشرك والظلم والفواحش والكبر (كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) (٣).

ثانيا : من السنّة :

١ ـ حديث المغيرة بن شعبة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله حرم عليكم عقوق الأمهات ، ووأد البنات ، ومنع وهات ، وكره لكم قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال» (٤).

٢ ـ وحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : فقدت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة من الفراش فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه في المسجد ، وهما منصوبتان وهو يقول : اللهم أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك ، لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك» (٥).

قال العلامة ابن قيم الجوزية ـ رحمه‌الله تعالى : «فتأمل ذكر

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية رقم (٢٠٥).

(٢) سورة الزمر ، الآية رقم (٧).

(٣) سورة الإسراء ، الآية رقم (٣٨).

(٤) متفق عليه ، أخرجه البخاري في باب : «ما ينهى عن إضاعة المال من كتاب الاستقراض» (٥ / ٦٨ ـ مع الشرح) ، ومسلم في «كتاب الأقضية» (٣ / ١٣٤١ رقم ١٧١٥).

(٥) أخرجه مسلم في «كتاب مسلم» (١ / ٣٥٢ برقم ٤٨٦).

٧٠

استعاذته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصفة الرضا من صفة السخط ، وبفعل المعافاة من فعل العقوبة ، فالأول للصفة ، والثاني لأثرها المترتب عليها ، ثم ربط ذلك كله بذاته سبحانه ، وأن ذلك كله راجع إليه وحده ، لا إلى غيره ، فما أعوذ منه واقع بمشيئتك وإرادتك ، وما أعوذ به من رضاك ومعافاتك هو بمشيئتك وإرادتك ، إن شئت أن ترضى عن عبدك وتعافيه ، وإن شئت أن تغضب عليه وتعاقبه ، فإعاذتي مما أكره وأحذر ، ومنعه أن يحل بي هو بمشيئتك أيضا ، فالمحبوب والمكروه كله بقضائك ومشيئتك ، فعياذي بك منك : عياذي بحولك وقوتك وقدرتك ورحمتك وإحسانك ، مما يكون بحولك وقوتك وقدرتك وعدلك وحكمتك ، فلا أستعيذ بغيرك من غيرك ، ولا أستعيذ بغيرك من شيء هو صادر عن مشيئتك وقضائك ، بل أنت الذي تعيذني بمشيئتك مما هو كائن بمشيئتك ، فأعوذ بك منك» (١).

ثالثا : من الفطرة :

فقد فطر الله عباده على أن يقولوا : هذا الفعل يحبه الله ، وهذا يكرهه الله ، والكل واقع بقدرة الله ومشيئته (٢).

وهذا كله مما يدل على أن هناك فرقا بين الإرادة والمشيئة وبين المحبة والرضا.

ثمّ إنّ الإرادة عند أهل السنة وكما جاء في كتاب الله على نوعين :

أحدهما : الإرادة الكونية القدرية :

وهي الإرادة المستلزمة لوقوع المراد ، التي يقال فيها : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن (٣).

وهي الإرادة الشاملة لجميع ما يقع في الكون ، ومن أدلتها :

__________________

(١) «مدارج السالكين» (١ / ٢٥٤ ، ٢٥٥). وقد توسع ـ رحمه‌الله ـ في شرحه في «شفاء العليل» (٢ / ٢٦٥).

(٢) «مدارج السالكين» (١ / ٢٥٤).

(٣) مجموع الفتاوى (٨ / ١٨٨).

٧١

١ ـ قوله تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) (١).

٢ ـ قوله تعالى : (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) (٢).

٣ ـ قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) (٣).

وهذه الإرادة لا تستلزم المحبة ، بل قد يكون بها ما يحبه الله ويرضاه ، وقد يكون بها ما لا يحبه الله ويرضاه ، كما خلق إبليس وهو يبغضه ، وخلق الشياطين والكفار والأعيان والأفعال المسخوطة له ، وهو يبغضها.

النوع الثاني : الإرادة الدينية الشرعية :

وهي محبة المراد ورضاه ومحبة أهله والرضا عنهم وجزاهم بالحسن ، ومن أدلتها :

١ ـ (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (٤).

٢ ـ قوله تعالى : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) (٥).

وهذه الإرادة هي المستلزمة للمحبة والرضا.

ويبقى هنا الإجابة على إيراد يورده البعض على الإرادة الكونية القدرية وهو : كيف يريد الله أمرا ولا يرضاه ولا يحبّه؟ وكيف يشاؤه ويكوّنه؟ وكيف يجتمع إرادته له وبغضه وكراهته (٦)؟

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية رقم (١٢٥).

(٢) سورة هود ، الآية رقم (٣٤).

(٣) سورة البقرة ، الآية رقم (٢٥٣).

(٤) سورة البقرة ، الآية رقم (١٨٥).

(٥) سورة المائدة ، الآية رقم (٦).

(٦) انظر هذا الاعتراض وما بعده من جواب «شرح العقيدة الطحاوية» (٢ / ٣٢٧).

٧٢

ويجاب على الإيراد بأن «المراد نوعان» :

الأول : مراد لنفسه :

وهو المطلوب المحبوب لذاته وما فيه من الخير ، فهو مراد إرادة الغايات والمقاصد.

الثاني : مراد لغيره :

وهو ما لا يكون مقصودا للمريد ، ولا فيه مصلحة له بالنظر إلى ذاته ، وإن كان وسيلة إلى مقصوده ومراده ، فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته ، مراد له من حيث إفضاؤه وإيصاله إلى مراده ، فيجتمع فيه الأمران : بغضه وإرادته ، ولا يتنافيان ، لاختلاف متعلقهما.

وهذا كالدواء الكرية ، إذا علم المتناول له أن فيه شفاءه ، وقطع العضو المتآكل ، إذا علم أن في قطعه بقاء جسده ، وكقطع المسافة الشاقة ، إذا علم أنّها توصل إلى مراده ومحبوبه ، بل العاقل يكتفي في إيثار هذا المكروه وإرادته بالظنّ الغالب ، وإن خفيت عنه عاقبته ، فكيف بمن لا يخفى عليه خافية.

فهو سبحانه يكره الشيء ، ولا ينافي ذلك إرادته لأجل غيره ، وكونه سببا إلى أمر هو أحبّ إليه من فوته.

ومن ذلك : أنه خلق إبليس ، الذي هو مادّة لفساد الأديان والأعمال والاعتقادات والإرادات ، وهو سبب لشقاوة كثير من العباد ، وعلمهم بما يغضب الربّ تبارك وتعالى ، وهو السّاعي في وقوع خلاف ما يحبه الله ويرضاه ، ومع هذا ، فهو وسيلة إلى محاب كثيرة للربّ تعالى ترتبت على خلقه ، ووجودها أحبّ إليه من عدمها :

منها : أنها تظهر للعباد قدرة الرّب تعالى على خلق المتضادات المتقابلات ، فخلق هذه الذات التي هي أخبث الذوات وشرّها ، وهي سبب كل شر في مقابلة ذات جبريل ، التي هي من أشرف الذوات وأطهرها وأزكاها ، وهي مادة كل خير ، فتبارك خالق هذا وهذا. كما ظهرت قدرته في خلق الليل والنهار ، والدّاء والدواء ، والحياة والموت ، والحسن والقبيح ، والخير والشر. وذلك أدلّ دليل على

٧٣

كمال قدرته وعزته وملكه وسلطانه ، فإنّه خلق هذه المتضادات ، وقابل بعضها ببعض ، وجعلها محالّ تصرّفه وتدبيره ، فخلو الوجود عن بعضها بالكلية تعطيل لحكمته ، وكمال تصرفه وتدبير مملكته.

ومنها : ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه ومغفرته وستره وتجاوزه عن حقه وعتقه لمن شاء من عبيده ، فلو لا خلق ما يكرهه من الأسباب المفضية إلى ظهور آثار هذه الأسماء لتعطلت هذه الحكم والفوائد ، وقد أشار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى هذا بقوله : «لو لم تذنبوا ، لذهب الله بكم ، ولجاء بقوم يذنبون ، ويستغفرون ، فيغفر لهم».

ومنها : ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة ، فإنّه الحكيم الخبير ، الذي يضع الأشياء مواضعها ، وينزلها منازلها اللائقة بها ، فلا يضع الشيء في غير موضعه ، ولا ينزله في غير منزلته التي يقتضيها كمال علمه وحكمته وخبرته ، فهو أعلم حيث يجعل رسالاته ، وأعلم بمن يصلح لقبولها ، ويشكره على انتهائها إليه ، وأعلم بمن لا يصلح لذلك. فلو قدر عدم الأسباب المكروهة ، لتعطلت حكم كثيرة ، ولفاتت مصالح عديدة ، ولو عطلت تلك الأسباب لما فيها من الشر ، لتعطل الخير الذي هو أعظم من الشر الذي في تلك الأسباب ، وهذا كالشمس ، والمطر والرياح ، التي فيها من المصالح ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل بها من الشر.

ومنها : حصول العبودية المتنوعة التي لو لا خلق إبليس لما حصلت ، فإن عبودية الجهاد من أحبّ أنواع العبودية إليه سبحانه ، ولو كان الناس كلهم مؤمنين ، لتعطلت هذه العبودية وتوابعها من الموالاة لله سبحانه وتعالى والمعاداة فيه ، وعبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعبودية الصبر ، ومخالفة الهوى ، وإيثار محاب الله تعالى ، وعبودية التوبة والاستغفار ، وعبودية الاستعاذة بالله أن يجيره من عدوه ، ويعصمه من كيده وأذاه. إلى غير ذلك من الحكم التي تعجز العقول عن إدراكها» (١).

__________________

(١) «شرح العقيدة الطحاوية» لابن أبي العز (٢ / ٣٢٧ ـ ٣٣٠).

٧٤

المرتبة الرابعة : مرتبة الخلق والإيجاد.

وهو «الإيمان بأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ خالق كل شيء ، فهو خالق كل عامل وعمله ، وكل متحرك وحركته ، وكل ساكن وسكونه ، وما من ذرة في السموات ولا في الأرض إلّا والله ـ سبحانه وتعالى ـ خالقها وخالق حركتها وسكونها» (١).

قال العلامة ابن قيم الجوزية : «وهذا أمر متفق عليه بين الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وعليه اتفقت الكتب الإلهية والفطر والعقول والاعتبار» (٢).

والأدلة من القرآن الكريم والسنة النبوية من الكثرة مما لا يحصى إلّا بمشقة. أذكر منها :

أولا : الأدلة من الكتاب :

١ ـ قال تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (٣).

٢ ـ وقوله تعالى : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (٤).

ثانيا : الأدلة من السنة :

١ ـ حديث ورّاد مولى المغيرة بن شعبة قال : كتب معاوية إلى المغيرة : اكتب إليّ ما سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول خلف الصلاة ، فأملى عليّ المغيرة قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول خلف الصلاة : «لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد» (٥).

٢ ـ وحديث البراء بن عازب ـ رضي الله عنه ـ قال : رأيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الخندق ينقل معنا التراب ، وهو يقول :

__________________

(١) «معارج القبول» (٣ / ٩٤٠).

(٢) «شفاء العليل» (ص ١٤٥).

(٣) سورة الصافات ، الآية رقم (٩٦).

(٤) سورة غافر ، الآية رقم (٦٢).

(٥) أخرجه البخاري ، باب : الذكر بعد الصلاة من كتاب الأذان (٢ / ٣٢٥) ، وفي كتاب القدر (١١ / ٥١٢) باب : لا مانع لما أعطى الله.

٧٥

والله لو لا الله ما اهتدينا

ولا صمنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا

وثبت الأقدام إن لاقينا

والمشركون قد بغوا علينا

إذا أرادوا فتنة أبينا (١)

وغيرها كثير من الأدلة الثابتة.

__________________

(١) أخرجه البخاري ، باب : حفر الخندق ، من كتاب الجهاد (٦ / ٤٦).

٧٦

المطلب الرابع

خلق أفعال العباد

أفعال العباد كلها ـ حسنها وسيئها ـ داخلة في خلق الله ـ عزوجل ـ وقضائه ، وقدره ، فلا يقع في هذا الكون شيء إلّا وهو خالقه ، كما قال تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (١).

وهذه المسألة وإن كانت داخلة في عموم أدلة المرتبة الرابعة من مراتب القدر السابقة الذكر ، إلّا أني أفردتها لأهميتها ؛ إذ هي المسألة التي صار الناس لأجلها ـ في باب القضاء والقدر ـ فرقا وأحزابا.

وهنا متعلقان بالمسألة :

المتعلق الأول : بالخالق ـ عزوجل.

وفي هذا المتعلق قال أهل السنّة والجماعة ومن وافقهم ـ ولو ظاهرا ـ من الجبرية الجهميّة والأشاعرة : إن الله ـ عزوجل ـ هو خالق أفعال العباد ، كما قال تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (٢) ، وكما في غيرها من الأدلة المتقدمة في أدلة المرتبة الرابعة من مراتب القدر.

ونفت المعتزلة القدرية أن يكون الله ـ عزوجل ـ خالق أفعال العباد ، وزعموا أنّ العباد هم الذين يخلقون أفعالهم ، فأثبتوا خالقين كقول المجوس ، فكانوا مجوس هذه الأمة (٣) (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) (٤).

__________________

(١) سورة الصافات ، الآية رقم (٩٦).

(٢) سورة الصافات ، الآية رقم (٩٦).

(٣) إذ قال المجوس بأصلين هما : النور والظلمة ، وزعموا أن الخير من فعل النور ، والشر من فعل الظلمة وكذلك القدرية يضيفون الخير إلى الله ، والشر إلى غيره والله سبحانه وتعالى خالق الخير والشر لا يكون شيء منهما إلّا بمشيئته.

(٤) سورة البقرة ، الآية رقم (١١٨).

٧٧

المتعلق الثاني : بالعبد نفسه

فهل له قدرة وإرادة واستطاعة على فعله؟ وهل هذه القدرة مؤثرة أم لا؟

وهنا اختلف أهل الأهواء إلى أقوال متعددة كان منها : ـ

القول الأول : قول المعتزلة القدرية.

قالوا : إن للعبد قدرة وإرادة واستطاعة على فعله ، وهذا حق ، وكونهم زعموا أن هذه القدرة والاستطاعة مستقلة عن إرادة الله وقدرته الشاملة ، وأنّهم هم الخالقون لأفعالهم! ومن قال إنّ الله خالق أفعال العباد فقد عظم خطؤه عندهم (١)!!

القول الثاني : قول الجهميّة الجبرية

وهؤلاء زعموا أن لا قدرة للعبد ولا إرادة ولا اختيار ولا استطاعة له على فعله البتة ، وأن العباد مجبورون على أفعالهم ، وإنّما حركاتهم كحركة الأشجار عند هبوب الرياح ، وكحركات الأمواج وأنّهم على الطاعة والمعصية مجبورون ، وأنّهم غير ميسّرين لما خلقوا له ، بل هم عليه مقسورون مجبورون ، وإنّما تنسب أفعالهم إليهم على سبيل المجاز (٢) ، ولسان حالهم أو قالهم قول الأول :

ألقاه في اليم مكتوفا وقال له :

إياك إياك أن تبتل بالماء

وهذا القول «إن لم يكن شرا من القدرية فليس هو بدونه في البطلان.

وإجماع الرسل واتفاق الكتب الإلهية وأدلة العقول والفطر والعيان يكذّب هذا القول ويردّه ، والطائفتان في عمى عن الحق القويم والصراط المستقيم» (٣).

__________________

(١) هذا ما يقوله أحد طواغيتهم وهو : عبد الجبار الهمذاني في كتابه المسمى ب «المغني».

(٢) «شفاء العليل» (ص ١٤٦).

(٣) «شفاء العليل» (ص ١٤٦).

٧٨

القول الثالث : قول الأشاعرة ـ ومن وافقهم ـ وهؤلاء وإن خالفوا خصومهم المعتزلة ووافقوا أهل السنّة والجماعة فقالوا : إنّ الله خالق أفعال العباد ، إلّا أنّهم قالوا في قدرة العبد وإرادته واستطاعته قولا لم يسبقهم إليه أحد.

إذ قالوا : إن للعبد قدرة على إحداث فعله ـ وهذا حق ـ ولكنّهم زعموا أن هذه قدرة لا تأثير لها في إحداث الفعل البتة ، وهذا ما يعبرون عنه ب «الكسب» وهو ما وصفه العلّامة ابن قيم الجوزية بأنّه «لفظ لا معنى له ولا حاصل تحته» (١).

بل هو كلام متناقض غير معقول ، فإنّ القدرة إذا لم يكن لها تأثير أصلا في الفعل كان وجودها كعدمها ، ولم تكن قدرة ، إذا من محالات العقول إثبات قدرة لا أثر لها بوجه البتة ، بل هو كنفي القدرة أصلا (٢) ، وهو ما اعترف به عدد من محققي المذهب الأشعري أنفسهم (٣).

ولذا سخر منهم خصومهم المعتزلة وسائر العقلاء فقالوا : ثلاثة أشياء لا حقيقة لها : طفرة النظّام ، وأحوال أبي هاشم ، وكسب الأشعريّ (٤).

الأمر الذي اضطربت معه أقوال اتباعه واختلفت حتى ذهب كل منهم إلى رأي ، وفرّ إلى قول ، لما رأوا ما في هذا القول من التناقض (٥).

فنحا فريق منهم إلى التصريح بحقيقة المذهب ـ وهو الجبر ـ واقترب البعض من مذهب أهل السنّة (٦) ، وسعى آخرون إلى النهوض

__________________

(١) «شفاء العليل» (ص ٣١٣).

(٢) كالإيجي ، والجويني ، والرازي وغيرهم وانظر : «العلم الشامخ» للمقبليّ (ص ٢٦٤).

(٣) «مجموع الفتاوى» (٨ / ١٢٨) و (٨ / ٤٦٦ ـ ٤٦٧).

(٤) «مجموع الفتاوى» (٨ / ١٢٨).

(٥) «مجموع الفتاوى» (٨ / ١٢٨).

(٦) كأبي المعالي الجويني في «العقيدة النظامية» (ص : ٤٣ ـ ٥٦).

٧٩

بالمذهب الأشعري من عثرته وتوجيه قول إمامهم أبي الحسن الأشعري في «الكسب» كيما يخالف النصوص النقلية والأدلة العقلية ، وكان منهم أبو بكر الباقلاني وأبو حامد الغزالي اللذان تحرّزا وتجملا بتعبيرات وتفسيرات كلامية متعددة ، لم تجد القبول حتى بين بني جنسهم ، ومن يتكلم بلسانهم من أهل الكلام.

واستقر مذهبهم على ما نحا إليه جمهورهم من أن للعبد قدرة لا تأثير لها في مقدورها ، ولا في صفة من صفاتها!!

وحقيقة هذا القول يعود إلى قول الجهميّة الجبرية ، يقول شيخ الإسلام ابن تيميّة : «ولا يقول ـ أي الأشعري ـ إن العبد فاعل في الحقيقة بل كاسب ، ولم يذكروا بين الكسب والفعل فرقا معقولا ، بل حقيقة قولهم قول جهم : أن العبد لا قدرة له ، ولا فعل ولا كسب» (١).

ويعود سبب تناقض الأشاعرة في هذه المسألة إلى مسائل أخرى من أهمها مسألتين :

المسألة الأولى :

قولهم : إن الفعل هو المفعول ، والخلق هو المخلوق ، وعدم تفريقهم بين ما يقوم بالله من الأفعال ، وما هو منفصل عنه ، وجعلهم كلّها أفعال الله.

«والتحقيق الذي علية أئمة السنّة وجمهور الأمة من الفرق بين الفعل والمفعول ، والخلق والمخلوق».

فأفعال العباد هي كغيرها من المحدثات مخلوقة مفعولة لله ، كما أن نفس العبد وسائر صفاته مخلوقة مفعولة لله ، وليس ذلك نفس خلقه وفعله ، بل هي مخلوقة ومفعوله ، وهذه الأفعال هي فعل العبد القائم به ، ليست قائمة بالله ولا يتصف بها ، فإنّه لا يتصف بمخلوقاته ومفعولاته ، وإنّما يتصف بخلقه وفعله كما يتصف بسائر ما يقوم بذاته ، والعبد فاعل لهذه الأفعال وهو المتصف بها ، وله عليها قدرة ، وهو

__________________

(١) «النبوات» (ص ١٦٦).

٨٠