المسامرة

كمال الدين محمد بن محمد الشافعي [ ابن أبي شريف المقدسي ]

المسامرة

المؤلف:

كمال الدين محمد بن محمد الشافعي [ ابن أبي شريف المقدسي ]


المحقق: كمال الدين القاري و عزّ الدين معميش
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-34-292-X
الصفحات: ٣٦٠

(الركن الثاني

العلم بصفات الله تعالى)

(ومداره على عشرة أصول ، حاصل ستة منها العلم بأنه تعالى قادر عالم حي مريد).

وهذه الأصول الستة هي في ترتيب حجة الإسلام الأربعة الأولى والثامن والتاسع ، فإنه عقد الأصل الأول للعلم بأنه تعالى قادر ، والثاني للعلم بأنه تعالى عالم ، والثالث للعلم بكونه تعالى حيا ، والرابع للعلم بكونه تعالى مريدا ، وعقد الأصل الثامن لبيان أن علمه تعالى قديم ، والتاسع لبيان أن إرادته تعالى قديمة.

٨١
٨٢

الأصلان الأوّلان

وقد قرر المصنف ما تضمنه الأصلان الأولان بقوله : (لمّا ثبت وحدانيته في الألوهية) تعالى وتقدس (ثبت استناد كل الحوادث إليه) تعالى ، والألوهية : الاتصاف بالصفات التي لأجلها استحق أن يكون معبودا ، وهي صفاته التي توحد بها سبحانه فلا شريك له في شيء منها ، وتسمى «خواص الألوهية» ، ومنها الإيجاد من العدم ، وتدبير العالم ، والغنى المطلق عن الموجب والموجد في الذات ، وفي كل من الصفات ، فثبت افتقار الحوادث في وجودها إليه ، فكل حادث من السموات وحركاتها بكواكبها الثابتة وحركات كواكبها السيارة على النظام الذي لا اختلال فيه ، والأرضين وما فيها وما عليها من نبات وحيوان وجماد ، وما بينهما من السحاب المسخر ونحوه ، كل ذلك مستند في وجوده إلى الباري سبحانه ، (وهو) أي : الشأن أن هذه الحوادث (مشاهد) لنا : (منها : كمال الإحسان) في إيجادها ، من اتقان صنعتها وترتيب خلقها ، وما هديت إليه الحيوانات من مصالحها وأعطيته من الآلات لها ، على مقتضى الحكمة البالغة البارعة التي يطلع على طرف منها علم التشريح ومنافع خلقة الإنسان وأعضائه ، وقد كسّرت على ذلك مجلدات (ويستلزم ذلك) أي : استناد وجودها إليه تعالى وكمال الإحسان في إيجادها ، (قدرته تعالى) أي : ثبوت صفة القدرة له ، وهي صفة تؤثر على وفق الإرادة ، (و) يستلزم ذلك أيضا (علمه) تعالى (بما يفعله ويوجده) ، والعلم بهذا الاستلزام فيهما ضروري ؛ ولكن ينبه عليه بأن من رأى خطا حسنا يتضمن ألفاظا عذبة رشيقة تدل على معان دقيقة علم بالضرورة أن كاتبه المنشئ له عالم بتأليف الكلام والكتابة ، قادر عليهما ، (وينضمّ إلى هذا) أي : إلى ثبوت العلم له تعالى بدليله السابق (أنه) هو (الموجد لأفعال المخلوقات ،) كما سيأتي بيانه في الأصل الأول من

٨٣

الركن الثالث (١) ، (فيلزمه) أي : يلزم ما ذكر من المنضم والمنضم إليه (علمه بكل جزئيّ) خلافا للفلاسفة في قولهم : إنه تعالى يعلم الكليات ، وإنه إنما يعلم الجزئيات على وجه كلي لا على الوجه الجزئي (٢) ، وهو باطل ؛ إذ كيف يوجد ما لا يعلمه ، وقد أرشد إلى هذا الطريق قوله تعالى : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) ((٣) (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (٣)) (سورة الملك : ١٤) ، وسنبين معنى صفة العلم في حقه تعالى ، وهاهنا تنبيهات ثلاثة :

أحدها : أن في قوله : «وهو مشاهد منها كمال الإحسان» تنبيها على أن حكمنا بأنها كذلك هو بحسب ما نشاهده بأبصارنا وبصائرنا ، بأن تدركه عقولنا وتصل إليه أفهامنا حتى نقضي بأنه غاية الإحسان عندنا ، لا بمعنى أنه لا يمكن في مقدورات الباري تعالى ما هو أبدع منها كما هو طريق الفلاسفة ؛ لأن العقيدة أن كلا من مقدوراته تعالى ومعلوماته لا تتناهى ؛ كما صرّح به حجة الإسلام في العقيدة المعروفة ب «ترجمة عقيدة أهل السنة والجماعة» من كتاب «الإحياء» (٤) ، وتكرر في «الإحياء» فما وقع في بعض كتب «الإحياء» ك «كتاب التوكل» (٥) مما يدل على خلاف ذلك فإنه ؛ والله أعلم ؛ صدر عن ذهول عن ابتنائه على طريق الفلاسفة ، وقد أنكره الأئمة في عصر حجة الإسلام وبعده ، ونقل إنكاره عن الأئمة الحافظ الذهبيّ في «تاريخ الإسلام» (٦).

__________________

(١) انظر : ص ١١٩.

(٢) علم الله بالجزئيات على وجه كلي : زعم الفلاسفة بداية أن الله لا يعلم إلا نفسه ، ثم جاء ابن سينا واختار أنه يعلم الأشياء علما كليا ، لا يدخل تحت الزمان ، ولا يختلف بالماضي والمستقبل والآن ، ومع هذا الزعم أقر أنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، وذلك لأنه يعلم الجزئيات بنوع كلي ، ومثال ذلك أن الشمس تنكسف بعد أن لم تكن منكسفة ، ثم تنجلي فتحصل لها ثلاثة أحوال :

١ ـ حال هو فيها معدوم ، منتظر الوجود ، أي سيكون.

٢ ـ وحال هو فيها موجود ، أي : هو كائن.

٣ ـ وحال ثالثة هو فيها معدوم ولكنه كان من قبل. والعلوم متعددة بهذه الأحوال ومختلفة ، وتعاقبها على المحل يوجب تغير الذات العالمة ، فلذلك لا يختلف علم الله في هذه الأحوال ، وهو علم كلي أزلي ، وقد أبطل الغزالي مذهبه.

(٣) سقط من (م).

(٤) انظر : إحياء علوم الدين ، ١ / ١٥٣.

(٥) انظر : المرجع السابق ، ٤ / ٣٣٨.

(٦) انظر : تاريخ الإسلام ، (وفيات ٥٠١ ـ ٥١٠) ، ص ١١٩ ـ ١٢٤.

٨٤

الثاني : أن معنى كونه تعالى قادرا أنه يصح منه إيجاد العالم وتركه ، كما يدل عليه ما قدمناه من أن القدرة صفة تؤثر على وفق الإرادة ، فليس شيء من إيجاد العالم وتركه لازما لذاته ، بحيث يستحيل انفكاكه عنه ، إلى هذا ذهب الملّيّون ، وقد أنكرت الفلاسفة القدرة بهذا المعنى ، فقالوا : إيجاده العالم على النظام الواقع من لوازم ذاته فيمتنع خلوه عنه ، وليس هذا خلافا منهم في تفسير القادر بأنه الذي إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل ، إلا أنهم زعموا أن مشيئة الفعل الذي هو الفيض والجود لازمة لذاته ، كلزوم سائر الصفات الكمالية ، لتوهمهم أن ذلك وصف كمال.

الثالث : أن متعلق العلم أعمّ من متعلق القدرة ، فإن (١) العلم يتعلق بالواجب والممكن والممتنع (٢) ، والقدرة إنما تتعلق بالممكن دون الواجب والممتنع. هذا تقرير ما تضمنه الأصلان الأولان.

وأما ما تضمنه :

الأصل الثالث

فقد قرره بقوله : (والعلم والقدرة) أي : الاتصاف بهما (بلا حياة) أي : بلا اتصاف بها (محال) وليس معنى الحياة في حقه تعالى ما يقوله الطبيعي من قوة الحس ولا قوة التغذية ولا القوة التابعة للاعتدال النوعي التي تفيض عنها سائر القوى الحيوانية ، ولا ما يقوله الحكماء وأبو الحسين البصري (٣) من أن معنى حياته تعالى كونه يصح أن يعلم ويقدر ، بل هي صفة حقيقية قائمة بالذات تقتضي صحة العلم والقدرة والإرادة.

ولا يخفى ـ مما سبق ـ تنزيهها عن كونها كيفية أو عرضا ، وكذلك كل صفة من صفات ذاته تعالى وتقدس.

__________________

(١) في (م) : لأن.

(٢) «الواجب» عند الفلاسفة : هو الذي لا يكون معلولا أي : لا يحتاج إلى علة ، وعند المتكلمين : هو الذي لا يقبل العدم ووجوده نابع من ذاته.

أما «الممتنع» فتعريفه عند الفلاسفة والمتكلمين واحد وهو : الذي لا يقبل الوجود.

(٣) أبو الحسين البصري : محمد بن علي بن الطيب البصري المعتزلي ، متكلم ، أصولي ، سكن بغداد ودرس بها إلى حين وفاته بها سنة ٤٣٦ ه‍ وقد شاخ ، من مؤلفاته الكثيرة : المعتمد في أصول الفقه ، تصفّح الأدلة في أصول الدين ، شرح الأصول الخمسة. (معجم المؤلفين ، ٣ / ٥١٨).

٨٥

(ثم) قال لإثبات صفة الإرادة وهي ما تضمنه :

الأصل الرابع

(كلّ صادر عنه) تعالى من الممكنات (في وقت) من الأوقات (كان من الممكن صدور ضدّه فيه ،) أي : صدور ضد ذلك الصادر بدله في ذلك الوقت (أو صدوره) هو ، أعني ذلك الصادر (بعينه في وقت آخر قبل ذلك الوقت) الذي صدر فيه (أو بعده ، فتخصيصه بذلك الوقت) أي : بصدوره فيه (دون الممكن الآخر) ودون ما قبل ذلك الوقت وما بعده (لا بد من كونه لمعنى يصرف القدرة المناسبة للضدّين والوقتين) مناسبة كائنة (على السواء عن إيجاده) متعلق بقوله : «يصرف» ، أي : لا بد من كون ذلك التخصيص لمعنى يصرف القدرة عن إيجاد ذلك الممكن (في غير ذلك الوقت ، أو) إيجاد (غيره) أي : غير ذلك الممكن بدله في ذلك الوقت ، فالعطف في قوله : «أو غيره» على الضمير المجرور وهو الهاء في «إيجاده» دون إعادة الجار.

وقوله : (إلى تخصيصه) متعلق «يصرف» أيضا ، أي : لمعنى يصرف عن إيجاد ذلك الممكن في غير ذلك الوقت ، أو إيجاد غيره فيه إلى تخصيص ذلك الممكن (دون غيره بذلك الوقت) المخصوص.

(ولا نعني بالإرادة إلا ذلك المعنى المخصّص ، فهو) أي : ذلك المعنى الذي عنيناه بالإرادة (صفة) حقيقية وجودية قائمة بذاته (توجب تخصيص المقدور) دون غيره (بخصوص وقت إيجاده) دون ما قبله وما بعده من الأوقات.

وكلّ من العلم والإرادة قديم ، وهذا ما تضمنه :

الأصلان الثامن والتاسع

ونبه عليه المصنف بقوله : (والعلم متعلّق أزلا بذلك التخصيص الذي أوجبته الإرادة ،) وهو كما مر آنفا تخصيص المقدور بخصوص وقت إيجاده (كما أن الإرادة في الأزل متعلّقة بتخصيص الحوادث بأوقاتها ،) ولا يتغير العلم ولا الإرادة بوجود المعلوم ، والمراد كما ينبه عليه قوله : (لم يحدث له) تعالى (علم بحدوث الحادث) أي : بسبب حدوثه (ولا) حدث له تعالى (إرادة بحسب كلّ

٨٦

مراد) ، وما زعمه جهم بن صفوان (١) وهشام بن الحكم (٢) من أن علمه تعالى بأن هذا قد وجد وذاك قد عدم حادث ، وما زعمته الكرامية من أن إرادته تعالى حادثة قائمة بذاته منهما باطل (لبطلان كونه) تعالى (محلّا للحوادث ،) وقد تقدم تقريره (٣).

(و) حدوث الإرادة باطل أيضا (للزوم افتقار الإرادة الحادثة إلى إرادة أخرى ،) وافتقار هذه الأخرى إلى ثالثة (ويتسلسل) هذا الافتقار ، (إذ لا يمكن حدوث بعض الإرادات بلا إرادة) تخصصها بخصوص وقت إيجادها ، (مع أن المقتضى لثبوت صفة الإرادة ذلك الخصوص وهو) يعني الخصوص (ملازم للحدوث) لا ينفك عنه ، لما مرّ من أنه لا بدّ لكل حادث من مخصّص له بخصوص وقت إيجاده ، (والفرض أن تلك الإرادة حادثة) بزعم الخصم فلا بد لها من إرادة تخصصها فيلزم التسلسل المحال.

(وأيضا المحوج لتجدّد العلم بتجدد المعلوم عزوب العلم) أي : ذهابه بالغفلة عنه ، (فلو فرض) عدم العزوب كأن فرض (علم بأن زيدا يقدم عند كذا) ك : عند طلوع الشمس مثلا (فلم يعزب) ذلك العلم (بل استمر بعينه إلى قدومه عند كذا) كطلوع الشمس مثلا (كان قدومه معلوما بعين ذلك العلم ، وعلم الله بالأشياء قديم فاستحال) لقدمه (عزوبه ؛ لأنه عدمه وما ثبت قدمه استحال عدمه ، لما نبين في صفة البقاء).

واعلم أنه يؤخذ من قول الشيخ أن «العلم متعلق أزلا بالتخصيص الذي أوجبته الإرادة» أن وقوع الشيء تابع لتعلق العلم أزلا بوقوعه.

فإن قيل : هذا معاكس لما اشتهر من قولهم : «إن العلم تابع للوقوع» (٤).

__________________

(١) جهم بن صفوان : السمرقندي ، أبو محرز ، من موالي بني راسب ، رأس الجهمية ، قتل سنة ١٢٨ ه‍. (لسان الميزان ، ٢ / ١٤٢).

(٢) هشام بن الحكم : الكوفي ، رافضي ، له نظر وجدل وتآليف كثيرة. من أصحاب جعفر الصادق ، كان شيخ الإمامية في وقته ، نشأ بواسط وسكن بغداد ، من مؤلفاته : الإمامة والقدرة ، والشيخ والغلام. (سير أعلام النبلاء ، ١ / ٥٤٣ ، فهرست الطوي ، ص / ١٧٤).

(٣) في ص ٥٣.

(٤) العلم تابع للوقوع أو المعلوم ؛ هذه القاعدة تنطبق على علم المخلوق ، يكون أولا حقيقة في ذاته ، ثم يكون علم المخلوق به بعد ذلك ، أما علم الخالق فإنه أزلي ، وتعلقه كما قال المصنف يكون أزلا بالتخصيص الذي أوجبته صفة الإرادة.

٨٧

قلنا : لا تعاكس ؛ لأن معنى قولنا : «إن الوقوع تابع للعلم» أن حدوث الواقع على حسب ما تعلق به العلم القديم ، ومراد القائل بأن العلم تابع للوقوع أن العلم بوقوع الشيء في وقت معين تابع لكونه بحيث يقع فيه ، فالعلم بمثابة الحكاية عنه ، والحكاية تابعة للمحكي ، وبهذا الاعتبار فالمعلوم أصل في التطابق والعلم تابع له فيه.

(الأصل الخامس) والأصل (العاشر) في ترتيب حجة الإسلام ، جمعهما المصنف هنا لتعلق الخامس بما ترجم له به ، وتعلق العاشر بما تضمنه كل من الخامس ومن الأصول الستة السابق ذكرها.

فالأصل الخامس (أنه تعالى سميع بصير)

(بلا جارحة) لا (حدقة و) لا (أذن ، كما أنه) تعالى (عليم بلا دماغ و) لا (قلب) ، لا كعلم المخلوق المختلف في محلّه أهو الدماغ أو القلب؟ ولا كسمع المخلوق الذي هو : قوة مودعة في مقعر الصماخ يتوقف إدراكها للأصوات على حصول الهواء الموصل لها إلى الحاسة وتأثر (١) الحاسة ، ولا كبصر المخلوق الذي هو : قوة مودعة في العصبتين المجوفتين الخارجتين من الدماغ ، بل المراد بالعلم صفة وجودية قائمة بالذات توجب العالمية ، والمراد بالسمع ، صفة وجودية قائمة بالذات شأنها إدراك كل مسموع وإن خفي ، والمراد بالبصر : صفة وجودية قائمة بالذات شأنها إدراك كل مبصر وإن لطف.

(بمرأى منه) تعالى (خفايا الهواجس والأوهام) و «المرأى» : موضع الرؤيا ، و «الهاجس» : ما يخطر بالبال ، و «الوهم» بمعناه ، ففي «المحكم» : الوهم من خطرات القلب ، وجمعه أوهام ، (وبمسمع منه صوت أرجل النملة) الصغيرة المسماة بالذرة (على الصخرة الملساء) و «المسمع» ـ بفتح ميمه ـ : الموضع الذي يسمع منه.

وثبوت صفتي السمع والبصر بالسمع ، فقد ورد وصفه تعالى بهما فيما لا يكاد يحصى من الكتاب والسنة ، وهو مما علم ضرورة من دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلا حاجة بنا إلى الاستدلال عليه كسائر ضروريات الدين ، ومع ذلك فقد استدل عليه المصنف ـ كأصله ـ بقوله : (لأنهما صفتا كمال) وقد اتصف بهما المخلوق (فهو)

__________________

(١) في (م) : وتأثير في.

٨٨

تعالى (الأحقّ بالاتصاف بهما من المخلوق ،) وإلّا لزم أن يكون للمخلوق من صفات الكمال ما ليس للخالق (وقد قال تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) (سورة الأنعام : ٨٣) ، وقد ألزم) إبراهيم (عليه) الصلاة و (السلام أباه) آزر (الحجة بقوله :) (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ) (سورة مريم : ٤٢) فأفاد أن عدمهما) أي : عدم السمع والبصر (نقص لا يليق بالمعبود).

وكان اللائق أن يحذف المصنف قوله : «من المخلوق» لأن أفعل التفضيل المقترن ب «ال» يمتنع الإتيان معه ب «من» كما تقرر في العربية.

وهل السمع والبصر صفتان زائدتان على العلم ، أو راجعتان إليه؟

ذهب الجمهور من أهل السنة إلى الأول ، وذهب فلاسفة الإسلام وأبو الحسين البصري والكعبي (١) إلى الثاني ، وهو الذي عول عليه المصنف ، ولكنه عبر بالصفة على طريق أهل السنة فقال : (واعلم أنهما) يعني صفتي السمع والبصر (ترجعان إلى صفة العلم) وليستا زائدتين عليه (لما قدّمنا) في الكلام على رؤية الباري تعالى من (أن الرؤية نوع علم ، و) نقول هنا : (السمع كذلك).

وهاهنا تحقيق وهو : أنهما وإن رجعا إلى صفة العلم بمعنى الإدراك فإثبات صفة العلم إجمالا لا يغني في العقيدة عن إثباتهما تفصيلا بلفظيهما الواردين في الكتاب والسنة ؛ لأنا متعبدون بما ورد فيهما ، وقد مرّ أن الرؤية تشتمل على مزيد إدراك ، والسمع مثلها ، وإلى هذا التحقيق يشير قول المصنف : «إن الرؤية نوع علم والسمع كذلك» ، مع قوله بعد ذلك : «سميع بسمع ، بصير بصفة تسمى بصرا» ، ففي ذلك تنبيه على أنه لا بدّ من الإيمان بهذين النوعين تفصيلا.

والأولى كما في «شرح المواقف» (٢) بناء على أنهما صفتان زائدتان على العلم أن يقال : لمّا ورد النقل بهما آمنّا بذلك ، وعرفنا أنهما لا يكونان بالآلتين المعروفتين ، واعترفنا بعدم الوقوف على حقيقتهما.

وهنا انتهى الكلام في الأصل الخامس ، وقد شرع المصنف في :

__________________

(١) الكعبي : أبو القاسم ؛ عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي الكعبي ، من معتزلة بغداد ، أخذ عن أبي الحسن الخياط ، وانتهت إليه رئاسة المذهب. له مصنفات كثيرة ، منها في التفسير وعيون المسائل. توفي سنة ٣١٩ ه‍. (طبقات المعتزلة ، لابن المرتضى ، ص ٨٨).

(٢) انظر : شرح المواقف ، ٨ / ٨٧.

٨٩

الأصل العاشر

وهو أن له تعالى صفات زائدة على ذاته

فقال : (ثمّ إنه) تعالى (سميع بسمع ، بصير بصفة تسمّى بصرا) وعبّر (١) في البصر خاصة بذلك دفعا لسبق الوهم إلى «العين» في إطلاق البصر (وكذا عليم بعلم ، وقدير بقدرة ، ومريد بإرادة) وحي بحياة ، خلافا للفلاسفة والشيعة في نفيهم الصفات الزائدة على الذات ، وإسنادهم ثمرات هذه الصفات إلى الذات ، وللمعتزلة في نفيهم زيادة صفة العلم وصفتي السمع والبصر ، وقولهم : عالم بذاته لا بصفة زائدة ، وسميع بذاته كذلك ، وبصير بذاته كذلك.

وإنما أثبتنا الصفات زائدة على مفهوم الذات (لأنّه تعالى أطلق على نفسه هذه الأسماء) في كتابه وعلى لسان نبيّه (خطابا لمن هو من أهل اللغة ، والمفهوم في اللغة من عليم : ذات له علم) ، ومن قدير : ذات له قدرة ، وكذا سائر الأوصاف المشتقّة تدل على ذات ووصف ثابت لتلك الذات ، (بل يستحيل عندهم) أي : عند أهل اللغة (عليم بلا علم ، كاستحالته) أي : كاستحالة علم (بلا معلوم) أو كاستحالة عليم بلا معلوم (فلا يجوز صرفه عنه) أي : عن معناه لغة (إلّا لقاطع عقليّ يوجب نفيه) أي : نفي معناه لغة (ولم يوجد فيه) أي : في إيجاب نفي المعنى اللغويّ (ما يصلح شبهة فضلا عن) وجود (دليل).

واعلم أنّا وإن أثبتنا الصفات زائدة على مفهوم الذات فلا نقول : «إنها غير الذات» ، كما لا (٢) نقول : «إنها عين الذات» ؛ لأن الغيرين هما المفهومان اللذان ينفكّ أحدهما عن الآخر في الوجود ، بحيث يتصوّر وجود أحدهما مع عدم

__________________

(١) في (م) : عرّف.

(٢) ليست في (ط).

٩٠

الآخر ، وكلّ من الذات المقدّسة وصفاتها لا يتصوّر انفكاك أحدهما عن الآخر. والله أعلم.

(الأصل السادس) والأصل (السابع : أنه تعالى متكلّم بكلام قديم أزليّ ، باق أبدي ، قائم بذاته) لا يفارقها.

وقد عقد حجة الإسلام الأصل السادس في كونه تعالى متكلّما والسابع في كون كلامه قديما.

ومما يدل على المدّعى ، وهو كونه متكلما : إجماع الرسل عليهم الصلاة والسلام ، فإنه قد تواتر عنهم أنهم كانوا ينسبون له الكلام فيقولون : إنه تعالى أمر بكذا ونهى عن كذا وأخبر بكذا ، وكل ذلك من أقسام الكلام ، فثبت المدّعى.

فإن قيل : إن صدق الرسل موقوف على تصديق الله إياهم ، إذ لا طريق إلى معرفته سواه ، وتصديقه تعالى إياهم إخبار عن كونهم صادقين ، والإخبار كلام خاص به تعالى ، فقد توقّف صدقهم في إثبات كلامه على كلامه تعالى ، وذلك دور.

قلنا : لا دور ؛ لأن تصديقه تعالى إياهم بإظهار المعجزة على وفق دعواهم ، فإنه يدل على صدقهم : ثبت الكلام ؛ بأن كانت المعجزة من جنسه ؛ كالقرآن الذي يعلم أوّلا أنه معجز خارج عن طوق البشر ، ثم يعلم به صدق الدعوى ، أم لم يثبت ؛ كما إذا كانت المعجزة شيئا آخر.

وإثبات صفة الكلام له تعالى هو على ما يليق به سبحانه ، كسائر الصفات.

فهو متكلّم بكلام (ليس بحرف ولا صوت ، هو) تعالى (به) أي : بذلك الكلام (طالب) لفعل أو ترك ، (مخبر) لعباده بما كان وبما يكون بالنسبة إلى وقت وجودهم (أما أنه) يعني الكلام الذي هو صفة له تعالى (قديم فلأنه) يمتنع قيام الحوادث بذاته تعالى.

وقوله : «هو به طالب مخبر» إشارة إلى أن الكلام متنوع في الأزل إلى أمر ونهي وخبر واستخبار ونداء ، والأولان والرابع والخامس أنواع للطلب.

وتنوعه هذا لا ينافي كونه واحدا ؛ لأنها ليست أنواعا حقيقة وإنما هي أنواع اعتبارية تحصل له بحسب تعلقه بالأشياء ، فذلك الكلام الواحد باعتبار تعلقه بشيء على وجه مخصوص يكون خبرا ، وباعتبار تعلقه بشيء آخر أو على وجه آخر يكون أمرا ، وكذا الحال في البواقي.

٩١

واعلم أن «كلامه النفسي» (١) لا يوصف بأنه متبعض ولا متجزئ ، ولا يوصف بأنه عبري ولا سوري ولا عربي ، إنما العبري والسوري والعربي هو اللفظ الدال عليه.

ثم المخالف في صفة الكلام فرق :

منهم مبتدعة الحنابلة ، قالوا : كلامه تعالى حروف وأصوات تقوم بذاته وهو قديم ، وبالغوا حتى قال بعضهم جهلا : الجلد والغلاف قديمان فضلا عن المصحف (٢) ، وهذا قول باطل بالضرورة.

ومنهم الكرامية ، فإنهم وافقوا الحنابلة في أن كلامه تعالى حروف وأصوات ؛ ((٣) ولكنهم سموا ذلك قولا له (٣)) ، وسلموا أنه حادث ، وقالوا : قائم بذاته ، لتجويزهم قيام الحوادث به ، تعالى عما يقولون ، ((٤) وزعموا أن كلامه هو قدرته على التكلم وهم يثبتون قدم القدرة (٤)).

ومنهم المعتزلة ، قالوا : كلامه تعالى أصوات وحروف يخلقها في غيره كاللوح المحفوظ أو جبريل أو الرسول ، وهو حادث عندهم خلافا للحنابلة.

وهذا الذي قالته المعتزلة لا ننكره نحن بل نقول به ونسميه كلاما لفظيا ، ولكنا نثبت أمرا وراء ذلك وهو المعنى القائم بالنفس ، ونقول : هو الكلام حقيقة ، فهو قديم قائم بذاته ، وهو غير العبارات كما قدمناه ، إذ قد تختلف العبارات بالأزمنة والأمكنة والأقوام ، ولا يختلف ذلك المعنى النفسي ، وغير العلم إذ قد يخبر الرجل بما لا يعلمه بل يعلم خلافه أو يشك فيه.

واعلم أن قولنا : «العبارات تختلف باختلاف الأزمنة ..» يؤخذ منه الجواب عن سؤال مشهور وهو : إنه قد ورد الإخبار في كلام الله تعالى بلفظ المضيّ كثيرا نحو : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً) (سورة نوح : ١) ، (وَقالَ مُوسى) (سورة الأعراف : ١٠٤) ، (فَعَصى فِرْعَوْنُ) (سورة المزمل : ١٦) ، والإخبار بلفظ المضي عما لم يوجد يعدّ كذبا ، والكذب محال عليه تعالى.

__________________

(١) الكلام النفسي : هو الصفة القائمة بالنفس والتي يعبر عنها بالألفاظ ، وهي غير حقيقة العلم وغير الإرادة ، وإنما صفة مهيأة لأن يخاطب بها الآخرون على وجه الأمر أو النهي أو الإخبار ، تدل عليه الألفاظ ، وهي صفة قديمة قائمة بذاته تعالى.

(٢) انظر : الإرشاد ، للجويني ، ص ١٢٨.

(٣) سقط من (م).

(٤) سقط من (م).

٩٢

والجواب : إن إخبار الله تعالى لا يتصف أزلا بالماضي والحال والمستقبل لعدم الزمان ، وإنما يتصف بذلك فيما لا يزال بحسب التعلقات ، فيقال : قام بذات الله تعالى إخبار عن إرسال نوح مطلقا ، وذلك الإخبار موجود أزلا ، باق أبدا ، فقبل الإرسال كانت العبارة الدالة عليه : «إنا نرسل» وبعد الإرسال : (إِنَّا أَرْسَلْنا) ، فالتغير في لفظ الخبر لا في الإخبار القائم بالذات ، وهذا كما تقول في علمه تعالى : إنه قائم بذاته تعالى أزلا العلم بأن نوحا مرسل ، وهذا العلم باق أبدا ، فقبل وجوده علم أنه سيوجد ويرسل ، وبعد وجوده علم بذلك العلم أنه وجد وأرسل ، والتغير في المعلوم لا في العلم ، كما يؤخذ مما مرّ في الكلام على العلم والإرادة.

واعلم أن المصنف استدل على قدم الكلام على طريق التنزل أولا ، منبها على التنزل آخرا بقوله : «فكيف ... إلخ» فقال : (لو لم يمتنع قيام الحوادث به وقام بذاته معنى فترددنا في قدمه معه وحدوثه فيه ، ولا معيّن لأحدهما وجب إثبات قدمه) أي قدم ذلك المعنى (لأن الأنسب ،) أي : لمرجح هو أن الأنسب (بالقديم) من حيث هو قديم (قدم صفاته ،) إذ القديم بالقديم أنسب من الحادث بالقديم ؛ لاتحادهما في وصف القدم ، (ولأن الأصل) في صفات القديم من حيث هو قديم (عدم الحدوث ، فكيف) لا يجب إثبات قدم المعنى القائم بذاته؟ (إذا بطل قيام الحوادث به) بأدلته المبينة في محالّها ، فقد وجد المقتضي لثبوت قدم المعنى القائم بذاته تعالى ، وهو ما ذكره من الاستدلال (مع أنه لا مانع من قدم كلامه النفسي) تعالى ، وإذا ثبت وجود المقتضي وانتفاء المانع ثبت المدّعى.

وقد بين المصنف انتفاء المانع بقوله : (إذ يعقل قيام طلب التعلم بذات الأب) من ابن سيولد له (قبل أن يخلق له ولد ، حتى لو فرض خلقه) أي الولد (وعلمه بما قام بأبيه من ذلك الطلب) بأن خلق الله تعالى له علما بما في قلب أبيه من الطلب (صار) ذلك الولد (مأمورا به) أي : بذلك الطلب الذي قام بذات أبيه ، ودام وجوده إلى وقت علم الولد به.

فإن قيل : القائم بذات الأب العزم على الطلب وتخيّله ، لا نفس الطلب ؛ لأن وجود الطلب بدون من يطلب منه شيء محال.

قلنا : المحال طلب تنجيزي لا معنوي قائم بذات من هو عالم بوجود

٩٣

المطلوب منه وأهليته ، وكلامنا فيه ، والعلم بهما كاف في اندفاع الاستحالة.

(فليعقل قيام الطلب الذي دلّ عليه قوله تعالى : (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) (سورة طه : ١٢) بذات الله تعالى) أزلا (ومصير موسى) عليه الصلاة والسلام (مخاطبا به) أي : بذلك الطلب (بعد وجوده) أي : بعد وجود السيد موسى (وخلق معرفته به) أي : بذلك الطلب (إذ سمع) أي : وقت سماع السيد موسى (لذلك الكلام القديم).

و «سمع» يتعدى باللام تارة كما جرى عليه المصنف ، ويتعدى بنفسه أخرى ، فمن الأول : «سمع الله لمن حمده» ، ومن الثاني : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ) (سورة المجادلة : ١).

(هذا قول) إمام السنة الشيخ أبي الحسن علي بن إسماعيل (الأشعريّ ، أعني : كون الكلام النفسي مما يسمع) فقد اختلف أهل السنة في كون الكلام النفسي مسموعا (١) ؛ فذهب الأشعري إلى أن السماع يتعلق بكل موجود كما تتعلق الرؤية به ، والكلام النفسي موجود ، (قاسه) أي : قاس الأشعري سماع الكلام النفسي الذي ليس بصوت ولا حرف (على رؤية ما ليس بلون) قياسا (٢) ألزم به من خالفه من أهل السنة ، لاتفاقهم على جواز الرؤية ووقوعها في الآخرة فقال : (فكما عقل رؤية ما ليس بلون ولا جسم فليعقل سماع ما ليس بصوت) وهو لا يكون إلا بطريق خرق العادة كما نبه عليه القاضي أبو بكر الباقلاني (٣).

(واستحال) الإمام أبو منصور (الماتريدي سماع ما ليس بصوت) وهو الذي ذهب إليه الأستاذ أبو إسحاق الأسفرايني.

ولا يتحقق ما يصلح أن يكون محلا للخلاف بينهما وبين الأشعري ؛ لأنه إما أن يفرض الكلام في الاستحالة عقلا فلا يتأتى إنكار إمكان أن يخلق للقوة

__________________

(١) سماع الكلام النفسي يكون بحاسة السمع لدى الإنسان (النبي) ، مع الاعتقاد أن كلام الله ليس من جنس كلام الآدميين ولا مشابها لكلام المخلوقين ، بل هو مخالف لسائر الأجناس والأصوات وأبنية اللغات ، فالله تعالى قادر على أن يخلق في الإنسان القابلية لسماع كلامه مباشرة من غير أن يؤدي ذلك إلى مشابهة أصوات المخلوقة.

(٢) ليست في (م).

(٣) انظر : التمهيد ، ص ١١٠.

٩٤

السامعة إدراك الكلام النفسي ، أو يفرض في الاستحالة عادة ، ولا يتأتى إنكار إمكان ذلك خرقا للعادة ، بل قد ساق صاحب «التبصرة» من عبارة الماتريدي في كتاب «التوحيد» ما يقتضي جواز سماع ما ليس بصوت ثم قال : «فجوّز يعني الماتريدي سماع ما ليس بصوت» (١). اه.

والخلاف إنما هو في الواقع للسيد موسى عليه‌السلام ، فأنكر الماتريدي سماعه الكلام النفسي (وعنده) أي : الماتريدي أنه (سمع موسى عليه) الصلاة و (السلام صوتا دالّا على كلام الله تعالى) وعند الأشعري أنه عليه الصلاة والسلام سمع الكلام النفسي.

قال تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) (سورة النساء : ١٦٤) والحمل على الإسناد الحقيقي ممكن ـ كما مر ـ ولا موجب للعدول عنه ، وعلى هذا فاختصاص السيد موسى باسم الكليم ظاهر (و) على ما قاله الماتريدي (خصّ) موسى (به) أي : باسم الكليم المفهوم من قول المصنف كلّم (٢) (لأنه) أي : سماعه الصوت على وجه فيه خرق للعادة ، إذ هو سماع (بغير واسطة الكتاب والملك) ذكره الماتريدي بمعناه في كتاب «التأويلات» (٣) ، ويوافقه ظاهر قوله تعالى : (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ) (سورة القصص : ٣٠) (وهو) أي : ما ذهب إليه الماتريدي (أوجه) عند المصنف قال : (لأن المخصوص باسم السمع من العلم ما يكون إدراك صوت ، وإدراك ما ليس صوتا قد يخص باسم الرؤية وقد يكون له الاسم الأعم أعني العلم مطلقا) عن التقييد بمتعلق.

ولمن انتصر للأشعري أن يقول : بل المخصوص باسم السمع من العلم ما يكون إدراكا بالقوة المودعة في مقعر الصماخ ، وقد يخلق لها إدراك ما ليس بصوت خرقا للعادة فيسمى سمعا ، ولا مانع من ذلك ، بل في كلام أبي منصور السابق نقله عن كتاب «التوحيد» له ما يشهد لذلك ، وقد علمت مما قدمناه أنه لا يتحقق في أصل المسألة خلاف وأن الخلاف في الواقع للسيد موسى.

__________________

(١) انظر : التوحيد ، للماتريدي ، ص ٥١. وعبارته : «إن كل غير الصوت لا يتكلم فيه بتسميع ، وجائز أن يتكلم فيه بعلم ، ثم لم يجب التفريق بينهما في حرف الإثبات ، ولم يوجب في ذاته اختلافا».

(٢) ليست في (م).

(٣) انظر : تأويلات أهل السنة ، ١ / ٤٤٣ للماتريدي.

٩٥

(وبعد اتفاق أهل السنة) من الأشعرية والماتريدية وغيرهم (١) (على أنه تعالى متكلّم) بكلام نفسي هو صفة له قائمة به (لم يزل) تعالى (متكلما) به ، (اختلفوا في أنه تعالى : هل هو مكلّم) بصيغة الفاعل من «كلّم» المضعف بوزن «كرم» (لم يزل مكلّما؟).

(فعن الأشعري : نعم) هو تعالى كذلك ، قال الله تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) (سورة النساء : ١٦٤) (وعن بعض أهل السنة ، ونقله بعض متكلمي الحنفية عن أكثرهم) أي : أكثر أهل السنة أو أكثر متكلمي الحنفية : (لا).

قال المصنف : (وهو عندي حسن ، فإن معنى المكلّمية لا يراد به هنا نفس الخطاب الذي يتضمّنه الأمر و) الذي يتضمنه (النهي ، كـ (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) (سورة التوبة : ٥) ((وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) (سورة الإسراء : ٣٢) لأن معنى الطلب يتضمنه) أي : يتناول ذلك الخطاب وهو قسمان : الطلب الذي يتضمنه الأمر ، والطلب الذي يتضمنه النهي.

(فلا يختلف فيه) أي : في أن ذلك الخطاب ليس تكليما بل هو تكلم كما مر (إذ هو) أي : ذلك الخطاب (داخل في الكلام القديم) الذي به الباري تعالى متكلم ((٢) كما قاله الماتريدي (٢)) (وإنما يراد به) أي : بمعنى المكلمية (إسماع لمعنى : (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) (سورة طه : ١٢) مثلا) ولمعنى ((وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧)) (سورة طه : ١٧) ، وحاصل هذا عروض إضافة خاصة للكلام القديم بإسماعه لمخصوص بلا واسطة) كما قاله الأشعري ، وبلا واسطة (معتادة) كما قاله الماتريدي (ولا شك في انقضاء هذه الإضافة بانقضاء الإسماع ، فإن أريد به غير) هذين (الأمرين فليبيّن حتى ينظر فيه. والله سبحانه أعلم).

والتحقيق : أن الذي يثبته الأشعري المكلمية بمعنى آخر غير الأمرين اللذين ذكرهما المصنف ، وهو مبني على أصل له خالفه فيه غيره ، وبيان ذلك : أن المتكلمية والمكلمية مأخوذتان من الكلام لكن باعتبارين مختلفين ، فالمتكلّمية مأخوذة من

__________________

(١) لا نعلم من قال من غير الأشاعرة والماتريدية بالكلام النفسي ، والذي نعلمه أن الطائفة الثالثة من أهل السنة وهم الحنابلة ، لا يقولون بالكلام النفسي ، وإنما لهم عبارات مجملة ؛ كالقول : القرآن كلام الله غير مخلوق.

(٢) سقط من (ط).

٩٦

الكلام باعتبار قيامه بذات الباري تعالى وكونه صفة له ، وهذا محل وفاق.

وأما المكلّمية فمأخوذة عند الأشعري من الكلام القائم بذاته تعالى لكن باعتبار تعلقه أزلا بالمكلف ، بناء على ما ذهب إليه هو وأتباعه من تعلق الخطاب أزلا بالمعدوم الذي سيوجد ، وشدد سائر الطوائف النكير عليهم في ذلك (١) ، فالأشعري قائل بالمكلمية بمعنى تعلق الخطاب في الأزل بالمعدوم ، والمنكرون لهذا الأصل ينفونها بهذا ((٢) المعنى ، ويفسرونها بالإسماع المذكور.

فقد ظهر أن المكلمية عند الأشعري (٢)) بمعنى سوى الأمرين اللذين ذكرهما المصنف. وبالله التوفيق.

فإن قيل اعتراضا على مذهب الأشعري : التعلق ينقطع بخروج المكلف عن أهلية التكليف بموت ونحوه ، ولو كان قديما لما انقطع.

قلنا : المنقطع التعلق التنجيزي وهو حادث ، أما الأزلي فلا ينقطع ولا يتغير ، لما قدمنا في الكلام على الإخبار القائم بالذات من أن التغيّر في اللفظ الدال عليه لا في نفسه ، وأن التغير في المعلوم لا في العلم ، فإنه يؤخذ من ذلك أن التغير في متعلق الكلام وتعلقه التنجيزي لا في التعلق المعنوي الأزلي.

(وأما قيامه) قسيم لقوله أول هذا الأصل : «أما أنه قديم ...» أي : وأما قيام الكلام (بذاته) سبحانه وتعالى أزلا (فلأنه تعالى وصف نفسه بالكلام) في قوله تعالى : (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً) (سورة البقرة : ٣٨) وقوله : (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) (سورة البقرة : ٣٥) ومواضع أخرى كثيرة (والمتكلم الموصوف بالكلام لغة هو من قام الكلام بنفسه ، لا من أوجد الحروف في غيره كما صرّح الشاعر) وهو الأخطل (فقال :

إن الكلام لفي الفؤاد وإنّما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا) (٣)

__________________

(١) ووجه الإنكار أن المكلمية عند الماتريدية هي إسماع لمعنى ، مثلا : (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) [طه : ١٢] ولا شك في انقضاء هذه الإضافة التي عرضت خاصة للكلام القديم بإسماعه لمخصوص بانقضاء الإسماع ؛ فالخطاب لا يتعلق بالمعدوم أزلا لأنه إسماع ، والإسماع إضافة ولا شك في انقضائها.

(٢) سقط من (م).

(٣) بيت شعر للأخطل ، ولتمام المعنى ، نورد البيت الذي قبله ؛ وهو :

لا يعجبنك من أثير حظه

حتى يكون مع الكلام أصيلا.

وقد أثبت محقق كتاب «شعر الأخطل» ، في طبعة دار الشروق ، بيروت ـ نسبة البيتين إلى الأخطل. انظر : شعر الأخطل ، ص ٨٠٥.

٩٧

فما ذهب إليه المعتزلة من أن التكلم في حقه تعالى إيجاد الأصوات والحروف في محل مخالف للغة من غير ضرورة بهم إلى مخالفتها.

(ثم لا شك في إطلاق الكلام على من قام به الحروف لغة ،) هكذا عبارة المتن ، والمراد إطلاقه في ضمن إطلاق المتكلم ، والأوضح أن يقال : «لا شك في إطلاق الكلام على ما قام بالمتكلم من الحروف لغة» (إما مجازا وإما حقيقة ، وهو) أي : كون الإطلاق حقيقة (أقرب) من كونه مجازا (لأن المتبادر من) قولك : (تكلّم زيد ونحوه) ك «كلام زيد» ، و «زيد متكلم» ، (لغة) أي : من جهة اللغة (هو تلفّظه) بالحروف المنتظمة ، والتبادر علامة الحقيقة (فيكون) الكلام حينئذ (مشتركا لفظيا أو) مشتركا (معنويا مشكّكا) بكسر الكاف لا متواطئا ، وقوله : (بناء) متعلق بقوله : «معنويا» (١) يعني أن القول بأنه مشكك مبني (على أن الكلام مطلقا) هو (أعمّ من) كلّ من الكلام (اللفظيّ ، و) الكلام (النفسيّ) ، وأما كونه مشككا فلأن اللفظي أولى بإطلاق الكلام عليه ؛ لأن فيه أشهر ، (و) كونه مشتركا معنويا مشككا (هو الأوجه ،) لأن الإطلاق في كل من المعنيين يكون حقيقة مع وحدة الوضع ، إذ الوضع للقدر المشترك بينهما وهو متعلق التكلم أعم من كون ذلك المتعلق نفسيا أو لفظيا ، بخلاف الاشتراك اللفظي فإن الوضع فيه متعدد ، والأصل في الوضع عدم التعدد والأصل في الإطلاق الحقيقة.

(وليس في قوله) أي : الشاعر («وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا» ، ما يوجب) أي : يقتضي (أن اسم الكلام عندهم مجاز في اللفظي ، وهذا) النفي (ظاهر بأدنى تأمّل) في علامات الحقيقة والمجاز ، إذ اللفظي يتبادر عند إطلاق لفظ الكلام والتبادر علامة الحقيقة ، ولأنه لا يلزم من كون اللفظي دليلا على النفسي أن يكون إطلاق الكلام على اللفظي مجازا (وكيف كان) إطلاق اسم الكلام على المعنيين سواء كان بالاشتراك المعنوي أو اللفظي أو الحقيقة والمجاز (لا بدّ في مفهوم المتكلم من قيام المعنى الذي هو الطلب والإخبار بنفسه ولو تلفظ ؛ لأن التلفّظ فرع) قيام (ذلك المعنى) بالنفس (و) فرع (العلم به).

والفرق بين قيام ذلك المعنى وبين العلم به وجداني (لأنك تجد الفرق بين طلب نفسك الشيء وعلمك بذلك الطلب ، ثم هو) أي : قيام ذلك المعنى بالنفس (وصف كمال ينافي الآفة) التي هي العجز عن إدارة المعنى في النفس (فوجب

__________________

(١) في (م) : مشككا.

٩٨

اعتقاد أنه) تعالى (متكلم بهذا المعنى) وهو قيام المعنى المسمى بالكلام النفسي بذاته المقدسة تعالى.

(وأما) كونه متكلما (بالمعنى الآخر) أي : اللفظي وهو قيام الحروف بذاته تعالى (على تقدير الأعمّية) أي : كون الكلام مطلقا أعمّ من اللفظي والنفسي (فيجب نفيه) عنه تعالى (لامتناع قيام الحوادث به) تعالى (١).

(والقول بأن الحروف قديمة) كما قاله الحشوية وبعض الحنابلة (مكابرة للحس) لا يلتفت إليه (للإحساس بعدم السين) أي : لأنا ندرك بواسطة الحس عدم «السين» (قبل الباء) أي : قبل تمام التلفظ ب «الباء» (٢) (في «بسم الله) الرحمن الرحيم» (ونحوه) من الألفاظ المنتظمة الحروف يحس فيها بعدم الحرف الثاني من الكلمة قبل تمام التلفظ بالأول. والله ولي التوفيق.

__________________

(١) لأنه لو كان محلا للحوادث فهو حادث ، لاستلزام ذلك الجوهرية والعرضية ومعنى من صفات الحوادث.

(٢) قال الباقلاني في «النقض الكبير» : من زعم أن السين من بسم الله بعد الباء ، والميم بعد السين الواقعة بعد الباء لا أول له ، فقد خرج عن المعقول وجحد الضرورة ، وأنكر البديهة ، فإن اعترف بوقوع شيء بعد شيء فقد اعترف بأوّليته ، فإذا ادعى أنه لا أول له فقد سقطت محاجته وتعين لحوقه بالسفسطة ، وكيف يرجى أن يرشد بالدليل من يتواقح في جحد الضروري. انظر : المقالات للكوثري ، ص ١٢٤.

٩٩
١٠٠