المسامرة

كمال الدين محمد بن محمد الشافعي [ ابن أبي شريف المقدسي ]

المسامرة

المؤلف:

كمال الدين محمد بن محمد الشافعي [ ابن أبي شريف المقدسي ]


المحقق: كمال الدين القاري و عزّ الدين معميش
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-34-292-X
الصفحات: ٣٦٠

وقوله : «كل» مبتدأ مؤخر ، وتقديم الخبر للحصر ، أي : على نحو ما ذكرنا لا على غيره.

وقوله : «يجب الإيمان به» استئناف لبيان ((١) ذلك النحو الذي تجري عليه الألفاظ المذكورة ، كأنه قيل : ما النحو الذي تجري عليه الألفاظ المذكورة؟ فأجيب : بأنه نحو وجوب الإيمان بها ، وهو كون الإيمان مصحوبا بالتنزيه عما لا يليق دون تأويل إلا عند الحاجة إليه لفهم العامة.

كما يوضح ذلك قوله : (١)) (فإن اليد وكذا الأصبع وغيره) كالنزول ، يقال في كل منها (صفة له تعالى لا بمعنى الجارحة ، بل على وجه يليق به ، وهو سبحانه أعلم به ، وقد تؤول اليد والأصبع) في بعض المواضع ((٢) عند الحاجة (٢)) (بالقدرة والقهر) كقوله تعالى : (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) (سورة يس : ٨٣) أي : هو قادر على كل شيء ، وكل شيء تحت قهره.

ويؤول الحديثان السابقان في اليد وفي الأصبع بأنهما من باب التمثيل المذكور في علم البيان :

فيؤول الأول بأنه تعالى يقبل التوبة بالليل والنهار إلى طلوع الشمس من مغربها ، فلا يردّ تائبا ، كما يبسط الواحد من عباده يده للعطاء أي : لأخذه فلا يردّ معطيا.

ويؤول الثاني بأن قلوب العباد كلها بالنسبة إلى قدرته تعالى شيء يسير يصرفه كيف شاء ، كما يقلب الواحد من عباده الشيء اليسير بين إصبعين من أصابعه.

ويؤول القدم بمعنى المتقدم ، أي : خلق يقدّمون للنار يخلقهم الله في الآخرة لذلك. وتؤول العين بالبصر. والنزول بنزول أمره تعالى ... وغيره مما بسطه في «الاقتصاد» (٣).

(واليمين في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحجر) أي : الأسود (يمين الله في الأرض» (٤) على

__________________

(١) في (م) : استئناف لبيان إجراء الألفاظ المذكورة على نحو ما ذكره ، وجوب الإيمان به مع التنزيه عما لا يليق.

(٢) سقط من (م).

(٣) انظر : الاقتصاد في الاعتقاد ، ص ٨٤ ـ ٩١.

(٤) الحديث بهذا اللفظ أخرجه ابن حبان الأنصاري في «طبقات المحدثين بأصبهان» ، ٢ / ٣٦٦ وتمام الحديث : «الحجر يمين الله في الأرض يصافح بها عباده». رواه جابر.

٦١

التشريف والإكرام) والمعنى : أنه وضع في الأرض للتقبيل والاستلام ، تشريفا له كما شرفت اليمين وأكرمت بوضعها للتقبيل دون اليسار في العادة ، فاستعير لفظ اليمين للحجر لذلك ، أو لأن من قبّله أو استلمه فقد فعل ما يقتضي الإقبال عليه والرضا عنه ، وهما لازمان عادة لتقبيل اليمين.

والحاصل أن لفظ اليمين استعير للحجر للمعنيين أو لأحدهما ، ثم أضيف إضافة تشريف وإكرام.

وهذا الحديث أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلّام (١) بلفظه ، وروى ابن ماجة (٢) نحوا من معناه من حديث أبي هريرة مرفوعا ، ولفظ : «من فاوض الحجر الأسود فإنما يفاوض يد الرحمن».

وهذا التأويل لهذه الألفاظ (لما ذكرنا من صرف فهم العامة عن الجسمية ، وهو ممكن أن يراد ولا يجزم بإرادته خصوصا ، على قول أصحابنا) يعني الماتريدية (أنها) أي : الألفاظ المذكورة (من المتشابهات ، وحكم المتشابه انقطاع رجاء معرفة المراد منه في هذه الدار) دار التكليف (وإلا) أي : وإن لا يكن ذلك بأن كان معرفته في هذه الدار موجودة (٣) مرجوة (لكان قد علم) لمن حصلت له من العباد ، وذلك ينافي القول بأن الوقف في الآية على قوله : (إِلَّا اللهُ) (سورة آل عمران : ٧) وهو قول الجمهور.

واعلم أن كلام إمام الحرمين في «الإرشاد» (٤) يميل إلى طريق التأويل ، ولكنه في «الرسالة النظامية» (٥) اختار طريق التفويض ، حيث قال : «والذي نرتضيه رأيا وندين الله به عقدا اتّباع سلف الأمة ، فإنهم درجوا على ترك التعرّض لمعانيها» وكأنه رجع إلى اختيار التفويض لتأخر الرسالة.

__________________

(١) أبو عبيد القاسم بن سلام بن عبد الله ، الإمام المجتهد الحافظ ، كان أبوه مملوكا روميّا لرجل هروي ، ولد أبو عبيد سنة ١٥٧ ه‍ ، سمع من كثيرين ؛ من إسماعيل بن جعفر وشريك بن عبد الله وهشيما وسفيان بن عيينة وغيرهم. له تصانيف كثيرة ، سارت بها الركبان ، وحدث عنه كثيرون. توفي بمكة سنة ٢٢٤ ه‍. [سير أعلام النبلاء ، ١٥ / ٤٩٢].

(٣) ليست في (ط).

(٢) أخرجه ابن ماجه برقم ٢٩٥٧ ، في سنده حميد بن أبي سوية ، قال فيه الذهبي : مجهول ، وقال فيه ابن عدي في الكامل ٢ / ٢٧٤ : أحاديثه غير محفوظة ، والحديث انفرد به ابن ماجه.

(٤) انظر : الإرشاد ، ص ١٥٥ ـ ١٦٤.

(٥) انظر : الرسالة النظامية ، ص ٣٢.

٦٢

ومال الشيخ عز الدين بن عبد السلام إلى التأويل فقال في بعض فتاويه : «طريقة التأويل بشرطها أقربها إلى الحق» (١) ويعني بشرطها أن يكون على مقتضى لسان العرب.

وتوسّط ابن دقيق العيد فقال : «يقبل التأويل إذا كان المعنى الذي أوّل به قريبا مفهوما من تخاطب العرب ، ويتوقف فيه إذا كان بعيدا» (٢).

وجرى شيخنا المصنف على التوسط بين أن تدعو الحاجة إليه لخلل في فهم العوام وبين أن لا تدعو الحاجة لذلك (٣).

__________________

(١) لم نجد هذا النص لابن عبد السلام ، ولكن معناه موجود في «العقائد» من مؤلفاته ، ص ١٥ ١٨.

(٢) وفي اشتراطه هذا موافقة لرأي ابن رشد الحفيد الذي ضمّن هذا الشرط في قانون التأويل الذي وضعه. قارن مع مناهج الأدلة ، ص ٢٤٩.

(٣) وقد وضع لذلك ضوابط صارمة للتعامل مع النصوص المتشابهة ؛ أي ضوابط التأويل وهي : ١ ـ ألا تحمل معاني النصوص في صنف واحد فيكون القياس فيهما مع الفارق ، ٢ ـ ألا يطمع في الاطّلاع على جميع المعاني ، بل يراعى التأويل القريب في المعنى الذي يمكن فيه التبيين. ٣ ـ ألا يكذّب برهان العقل أصلا ، إذ بالعقل عرفنا الشرع وهو مناط التكليف. ٤ ـ الكفّ عن تعيين التأويل عند تعارض الاحتمالات ؛ لأن الحكم على مراد الله ورسوله بالظن والتخمين خطر.

٦٣

(الأصل التاسع

أنه تعالى مرئي بالأبصار في دار القرار)

ووجه نظم المصنف ـ تبعا لحجة الإسلام ـ هذا الأصل في سلك أصول الركن المعقود لمعرفة الذات : أن نفي الجهة يتوهم أنه مقتض لانتفاء الرؤية ، فاقتضى المقام دفع هذا التوهم ببيان جواز الرؤية عقلا ووقوعها سمعا ، فهو كالتتمة للكلام في نفي الجهة والمكان.

والكلام في الرؤية في مقامات ثلاثة :

الأول : في تحقيق معناها

تحريرا لمحل النزاع بيننا وبين المعتزلة ، فنقول : إذا نظرنا إلى الشمس مثلا فرأيناها ثم أغمضنا العين فإنا نعلم الشمس عند التغميض علما جليا ، لكن في الحالة الأولى علم (١) أمر زائد ، وكذا إذا علمنا شيئا علما تامّا جليا ثم رأيناه ، فإنا ندرك بالبديهة تفرقة بين الحالتين ، وهذا الإدراك المشتمل على الزيادة نسميه الرؤية ، ولا يتعلق في الدنيا إلا بمقابلة لما هو في جهة ومكان ، فهل يصح أن يقع بدون المقابلة والجهة والمكان ليصح تعلقه بذات الله تعالى مع التنزه عن الجهة والمكان؟

المقام الثاني : في جوازها عقلا والثالث : في وقوعها سمعا.

أما المقام الثاني :

فقال الآمدي : «أجمع الأئمة من أصحابنا على أن رؤيته تعالى في الدنيا

__________________

(١) ليست في (ط).

٦٤

والآخرة جائزة عقلا ، واختلفوا في جوازها سمعا في الدنيا ؛ فأثبته قوم ونفاه آخرون» (١).

وهل يجوز أن يرى في المنام؟ فقيل : لا ، وقيل : نعم ، والحق أنه لا مانع من هذه الرؤيا وإن لم تكن رؤيا حقيقة (٢).

ولا خلاف عندنا أنه تعالى يرى ذاته المقدسة.

والمعتزلة حكموا بامتناع رؤيته عقلا لذي الحواس ، واختلفوا في رؤيته لذاته.

وأما المقام الثالث :

فقد أطبق أهل السنة على وقوع الرؤية في الآخرة ، واختلفوا في وقوعها في الدنيا.

ومقصود المصنف ـ كحجة الإسلام ـ في هذا المقام الاستدلال على وقوعها في الآخرة ، فقدّما الاستدلال عليه بالنقل أيضا (٣) ، ثم استدلا بالنقل على الجواز على أنه يلزم من ثبوت الوقوع في الآخرة بدليله ثبوت الجواز ، ثم استدلا بالعقل على الجواز.

(أما) الحكم بالوقوع في الآخرة (نقلا) أي : من جهة النقل (فلقوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) (٢٢)) أي : ذات نضرة ؛ وهي تهلّل الوجه وبهاؤه ((إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (٢٣) (سورة القيامة : ٢٣) تراه مستغرقة في مطالعة جماله بحيث تغفل عما سواه. فتقديم المعمول على هذا للحصر ادعاء ، ويصح كونه لمجرد الاهتمام ورعاية الفاصلة دون الحصر ، ويكون المعنى : مكرمة بالنظر إلى ربها.

(وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هل تضامون في رؤية القمر ليلة البدر ليس بينكم وبينه سحاب؟ كذلك ترون ربّكم» (٤)) والحديث في الصحيحين بألفاظ منها :

__________________

(١) انظر : غاية المرام في علم الكلام ، ص ١٥٩.

(٢) في جواز رؤية الله في المنام خلاف مشهور مبني على أن الرؤية المنامية لا تكون بالحاسة البصرية وإنما هي تمثّلات خيالية وتصورات مثالية ، مستندة إلى عالم الشهود والمعاينة ، فهي ليست حقيقة ، إلا أن البعض قال إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى ربه بفؤاده ، وفي رؤية الله في الدنيا اتفاق على أنه لا يجوز لغير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاختلف في ذلك على أساس حديث المعراج ، والصحيح أنه لم يره بعينه. انظر : شرح الفقه الأكبر ، ص ١٨٤.

(٣) ليست في (ط).

(٤) ورد في هذا المعنى وليس بلفظه عند البخاري في مواقيت الصلاة فضل صلاة العصر برقم : (٥٢٩) ، ومسلم برقم (٦٣٣) ، وأبو داود (٤٧٢٩ ـ ٤٧٣٠) ، والترمذي (٢٥٥٤ ـ ٢٥٥٧).

٦٥

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الناس قالوا : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هل تضارّون في القمر ليلة البدر؟» قالوا : لا يا رسول الله ، قال : «فهل تضارّون في الشمس ليس دونها سحاب؟» قالوا : لا يا رسول الله ، قال : «فإنكم ترونه كذلك ... الحديث» (١).

وقوله : «تضارّون» بضم التاء ، والراء مشددة من الضرار ، ومخففة من الضير. و «تضامون» بالميم مخففة بدل الراء كما أورده المصنف من الضيم ، وهو بمعنى الضير ، أي : هل يحصل لكم في ذلك ما تقصر معه الرؤية بحيث تشكون فيها؟

وأحاديث الرؤية متواترة معنى ، فقد وردت بطرق كثيرة عن جمع كثير من الصحابة ، ذكرنا عدة منها في حواشي «شرح العقائد» (٢).

ولم يتعرض المصنف ((٣) ولا أصله (٣)) لوقوع الرؤية في الدنيا ، والقائلون بوقوعها تمسكوا لوقوعها في الجملة برؤيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة المعراج (٤) كما ذهب إليه جمهور من تكلم في المسألة من الصحابة.

وأما الجواز مطلقا فقد استدل له المصنف كأصله نقلا بقوله (ونفس) بالجر عطفا على المجرور باللام ، ((٥) وهو قوله : «أما نقلا فلقوله» (٥)) أي : ولنفس (سؤال موسى عليه‌السلام الرؤية) فإنه يدل على جوازها ، (إذ لا يسأل نبي كريم من أولي

__________________

(١) هذه رواية أبي داود والترمذي ، أبو داود برقم : (٤٧٣٠) ، والترمذي برقم : (٢٥٥٧).

(٢) انظر : الحواشي البهية ، ١ / ١٣٦.

(٣) في (م) : كأصله.

(٤) وهو مما تعارض فيه الأثر ، فعن أبي ذر الغفاري قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل رأيت ربّك؟ قال : «نور أنّى أراه» رواه مسلم برقم : (١٨١) ، والترمذي برقم : (٢٥٥٥) ، وعن مسروق قال : قلت لعائشة : يا أمته هل رأى محمد ربه؟ قالت : لقد قفّ شعري مما قلت ، أين أنت من ثلاث من حدّثكهن فقد كذب ، من حدّثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب ، ثم قرأت : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)) (سورة الأنعام ١٠٣). وهو أثر رواه البخاري في تفسير سورة المائدة باب (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ) ... برقم : (٤٣٣٦) ، ومسلم برقم : (١٧٧) والترمذي برقم : (٣٠٧٠) وفي رواية قال لها : ألم يقل الله عزوجل : (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) (٢٣) (سورة التكوير ٢٣) (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) (١٣) (سورة النجم ١٣) فقالت : أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إنما هو جبريل ، لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين ، ورأيته منهبطا من السماء ، سادّا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض». ولهذا التعارض اختلف الصحابة حول هذا الموضوع ، والجمهور كما قال الشارح ذهبوا إلى وقوعها. ـ والله أعلم ـ

(٥) سقط من (ط).

٦٦

العزم) من الرسل (الربّ جلّ وعلا ما يستحيل عليه ، أرأيت المعتزلي) يا ذا البصيرة (أعلم بالله سبحانه من نبيه موسى؟!) عليه الصلاة والسلام (حيث علم) أي : المعتزلي (ما يجب لله ويستحيل عليه ما لا يعلمه نبيه وكليمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم) مع أن المقصود من بعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الدعوة إلى العقائد الحقّة والأعمال الصالحة.

وفي الإتيان بلفظ «نفس» تنصيص على أن الاستدلال بالآية من جهة سؤال الرؤية ، وهو يشير إلى أن في الآية دلالة من جهة أخرى هي أنها تضمنت تعليق الرؤية باستقرار الجبل وهو أمر ممكن ، فالرؤية المعلقة به أمر ممكن ، فيستدل بالآية من وجهين ، كما قرر في محله.

وقد علمت مما قررناه إلى هنا جملة ما استدل به المصنف كأصله على الوقوع وعلى الجواز نقلا.

(وأما) الاستدلال (عقلا ، فلأنه) أي : النظر إلى الرب تعالى أمر قد دلّ العقل على جوازه ، لأنه (غير مؤدّ إلى محال ، فوجب) لهذه الدلالة (أن لا يعدل عن الظاهر) أي : ظاهر لفظ النظر في قوله تعالى : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣)) (سورة القيامة : ٢٣) ((١) ولفظ الرؤية في الحديث (١)) (إذ العدول عنه) أي : عن الظاهر إنما يجوز (عند عدم إمكانه) لا مع إمكانه (وذلك) أي : كونه غير مؤد إلى محال (أن الرؤية) أي : لأن الرؤية (نوع كشف وعلم للمدرك) بصيغة اسم الفاعل (بالمرئي يخلقه الله تعالى) أي : يخلق هذا النوع من الكشف والعلم (عند مقابلة الحاسّة له) أي : للمرئي (بالعادة) أي : بحسب ما جرت به عادته تعالى (فجاز) عقلا (أن) تخرق هذه العادة ، بأن (يخلق هذا القدر من العلم بعينه من غير أن ينقص منه قدر من الإدراك) ، خلقا كائنا (من غير مقابلة) بين الباصرة والمرئي (بجهة) أي : في جهة (معها) أي : مع تلك المقابلة (مسافة خاصة) بين الحاسّة والمرئي الكائن في تلك الجهة ، (و) من غير (إحاطة بمجموع المرئي).

وقد أشار المصنف بقوله : «من غير أن ينقص منه قدر من الإدراك» إلى أن مسمى الرؤية هو الإدراك المشتمل على الزيادة على الإدراك الذي هو علم جلي كما قدمناه أول هذا الأصل ، إذ هو العلم الذي لا ينقص منه قدر من الإدراك.

__________________

(١) سقط من (م).

٦٧

وأشار بقوله : «من غير مقابلة بجهة» إلى دفع قول المعتزلة كالحكماء : إن من شرائط الرؤية مقابلة المرئي للباصرة في جهة من الجهات.

وبقوله : «معها مسافة خاصة» إلى رد قولهم : إن من شرائط الرؤية عدم غاية البعد ، بحيث ينقطع إدراك الباصرة ، وعدم غاية القرب فإن المبصر إذا التصق بسطح البصر بطل إدراكه بالكلية ، ولذا لا يرى باطن الأجفان.

وأشار بقوله : «وإحاطة بمجموع المرئي» إلى نفي كون الرؤية تستلزم الإحاطة بالمرئي لتكون ممتنعة في حقه تعالى ؛ لأنه لا يحاط به (١) ، قال تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (سورة طه : ١١٠).

والحاصل أنه يجوز عقلا أن يخلق القدر المذكور من العلم في الحي على وفق مشيئته تعالى من غير مقابلة لجهة ... إلخ.

وعبّر بقول : «بمجموع» تنبيها على أنه إذا ثبت أن المجموع المركب من أجزاء متناهية يرى دون إحاطة فالذات المنزهة عن التركب والتناهي والحد والجهة أولى بأن تنفك رؤيتها عن الإحاطة.

وقد استدل المصنف لجواز الرؤية من غير مقابلة ، و ((٢) لجوازها من غير (٢)) إحاطة بوقوع أمور ثلاثة : الأول والثالث منها لجوازها دون مقابلة ، والثاني لجوازها من غير إحاطة.

فالأول :

ما تضمنه قوله : (كما قد يخلقه) والجار والمجرور في موضع الحال من المفعول وهو قوله : «هذا القدر من العلم» أي : جاز أن يخلقه دون أن ينقص منه قدر من الإدراك من غير مقابلة مشبها ما قد يخلقه تعالى لمن يشاء (من غير مقابلة لهذه الحاسة) أي : البصر (أصلا ، كما) وقع لنبيه عليه الصلاة والسلام فقد (روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لهم) أي : للصحابة المصلين معه («سوّوا صفوفكم فإني أراكم من وراء ظهري» (٣)) وهو في الصحيحين من حديث أنس بلفظ : «أتموا صفوفكم فإني أراكم من وراء ظهري» ، وللبخاري عن أنس : أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول

__________________

(١) لأن الإحاطة تستلزم التحيز الذي يعتبر من خصائص المحدثات.

(٢) سقط من (م).

(٣) رواه البخاري برقم : (٦٨٦) ، ومسلم برقم : (٤٣٣ ـ ٤٣٤) ، وأبو داود برقم : (٦٦٧ ـ ٦٧١) ، والنسائي في الإمامة (٢ / ٩١) رقم : (٨١٢).

٦٨

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوجهه فقال : «أقيموا صفوفكم وتراصّوا ، فإني أراكم من وراء ظهري» ، وللنسائي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «استووا استووا استووا ، فو الذي نفسي بيده إني لأراكم (١) من خلفي كما أراكم من بين يدي» (٢).

ففي إيراده بلفظ روي الدال على التمريض (٣) عند المحدثين مخالفة لقاعدتهم.

والأمر الثاني :

ما تضمنه قوله : (وكما أنا نرى السماء) أي : ومشبها رؤيتنا السماء ، فإنا نراها (ولا نحيط بها) فالجار والمجرور في محل نصب حال ثانية بناء على تعدد الحال مع واو العطف أو عطفا على الحال.

والأمر الثالث :

ما تضمنه قوله : (وكما يرانا الله) أي : وحال كون ذلك القدر من العلم المسمى بالرؤية مشبها في كونه دون مقابلة رؤية الله إيانا ، فإنه (تعالى يرانا من غير مقابلة في جهة باتفاقنا) نحن وأنتم معشر المعتزلة.

(والرؤية نسبة خاصة بين طرفي راء ومرئي) أي : بين راء ومرئي هما طرفاها أي : متعلقاها (فإن اقتضت (٤)) أي : فإن فرض أن تلك النسبة تقتضي (عقلا) أي : من جهة العقل ، بأن يحكم العقل باقتضائها (كون أحدهما) أي : أحد طرفيها (في جهة) باعتبار تعلقها ، بأن يفرض أن تعلقها لا يصح عقلا إلا كذلك (اقتضت كون) طرفها (الآخر كذلك) أي : في جهة لاشتراكهما في التعلق (فإذا ثبت) بوفاق الخصمين (عدم لزوم ذلك) أي : أنه لا يلزم عقلا توقف صحة التعلق على الكون في الجهة (في أحدهما) أي : أحد طرفيها (لزم في) الطرف (الآخر مثله) لاشتراكهما في التعلق ، فكان الثابت عقلا بوفاقهما نقيض ما فرض ، فثبت انتفاء ما

__________________

(١) في (م) : أراكم.

(٢) هذه رواية للبخاري في المناقب ، باب قصة البيعة ، رقم : (١٣٥٤) ، والنسائي في الإمامة (٢ / ٩١) برقم : (٨١٢).

(٣) التمريض عند المحدثين : هو أن يروي الراوي حديثا بصيغة روي عنه كذا ، أو بلغنا عنه كذا أو ورد أو نقل عنه كذا. وقد قال السيوطي في تدريب الراوي : ويقبح فيه صيغة التمريض ، انظر : منهج ذوي النظر شرح منظومة علم الأثر ، للتّمرسي ، ص ١١٧.

(٤) في (م) : انقضت. وكتب فوقها المصحح : كذا.

٦٩

فرض (وإلا) أي : وإلا يكن ذلك بأن فرض اللزوم في أحد الطرفين وعدمه في الآخر (فتحكم) أي : فهو تحكم (محض).

(و) يقال في الاستدلال على جواز الرؤية أيضا : (كما جاز أن يعلم) الباري (سبحانه من غير كيفية وصورة جاز أن يرى كذلك) أي : من غير كيفية وصورة (لما قلنا) آنفا (أن الرؤية نوع علم خاص) يخلقه الله تعالى في الحي ، غير مشروط بمقابلة ولا غيرها مما ذكر.

وقوله : (وحصول المسافة والمقابلة) إلى آخره جواب سؤال ، تقريره : إن الرؤية في الشاهد لا تنفك عن حصول المقابلة في الجهة والمسافة بين الرائي والمرئي ، (و) حصول (الإحاطة) أي : إحاطة الرائي ببعض المرئيات ، (و) حصول إدراك (الصورة) أي : صورة المرئي ، فليكن في الغائب كذلك وإنه باطل لتنزه الباري تعالى عن ذلك ، فانتفت الرؤية في حقه لانتفاء لازمها.

وتقرير الجواب : منع الملازمة ، وسنده : أن حصول المسافة والمقابلة والإحاطة والصورة (ثمّ) أي : هناك ، يعني في الرؤية في الشاهد (لاتفاق كون بعض المرئيات كذلك) أي : يتصف بالمقابلة على المسافة المخصوصة ، وبالإحاطة به وبالصورة (١) لكونه جسما ، (لا لكونها) أي : الأمور المذكورة (معلولا عقليا لهذا النوع من العلم المسمى رؤية ، لثبوته) أي : ذلك النوع المسمى (رؤية مع انتفائها) أي : مع انتفاء الأمور المذكورة (على ما بيّناه) بالاستدلال السابق ، والمعلول ((٢) لا يثبت مع انتفاء علته (٢)) ، وإلا لم تكن علة له (٣). والله أعلم.

__________________

(١) في (م) : الضرورة.

(٢) في (م) : لا ينتفي مع ثبوت علته.

(٣) العلة : عند المعتزلة : المؤثر بذاته في الشيء ، وعند علماء الأصول : وصف ظاهر منضبط يلزم من وجوده وجود الحكم ومن عدمه عدم الحكم ، وعند المتكلمين من أهل السنة : هي ما يراد أن يحصل قبل الإيجاد وما تحقق فعلا بعد الإيجاد ، وتتنوع إلى علة فاعلية وعلة غائية وعلة صورية.

٧٠

(الأصل العاشر)

(العلم بأنه تعالى واحد لا شريك له)

اعلم أن المصنف ذكر أولا أن الركن الأول ينحصر في عشرة أصول هي العلم بأمور عشرة ، ومقتضى التطبيق بين إجماله وتفصيله أن يصدّر كل أصل منها بلفظ «العلم» كما صنع حجة الاسلام ، ولعل اقتصار المصنف على الترجمة بالعلم في الأصل الأول والأصل العاشر دون الثمانية التي بينهما إيثارا للاختصار واعتمادا على التصريح بذلك في محل الإجمال مع الإشعار أولا وآخرا بأن المقصود العلم.

فإن قلت : لم أخّر المصنف ـ كأصله ـ التوحيد مع أنه المقصود الأهم الذي دعا إليه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؟

قلت : لمّا كان التوحيد هو اعتقاد الوحدانية في الذات والصفات والأفعال ، وكان ما تقدم من الوجود والقدم وسائر ما عقد له الأصول السابقة أوصافا للباري سبحانه ، كل منها من متعلقات التوحيد اقتضى ذلك تقديمها ليعلم ما توحدت به ذاته تعالى عن سائر الذوات ؛ من الأزلية والأبدية والتعالي عن الجسمية والجوهرية والعرضية.

فإن قلت : فلم لم يقدم التوحيد على الكلام في الاستواء والرؤية؟

قلت : لأن الكلام (١) في ذلك تتمة للكلام على نفي الجسمية ونحوها.

واعلم أيضا أن الوحدة تطلق بمعنى انتفاء قبول الانقسام وبمعنى انتفاء الشبيه (٢) ، والباري تعالى واحد بكل من المعنيين أيضا ، أما الأول : فلتعاليه عن

__________________

(١) ليست في (ط).

(٢) في (ط) : الشيئية.

٧١

الوصف بالكمية والتركيب من الأجزاء والحد والمقدار ، وأما الثاني : فحاصله انتفاء المشابهة له تعالى بوجه من الوجوه حتى يستحيل أن يوجد واجبان فأكثر ، وهذه الاستحالة هي التي عقد هذا الأصل لإثباتها بالدليل.

(استدل) لإثباتها (الامام الحجة) أي : حجة الإسلام الغزالي (١) (بقوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (سورة الأنبياء : ٢٢)) فقال : وبرهانه ـ فساق الآية ـ ، ثم قال : (وبيانه) أي : بيان البرهان وهو الآية ، فمرجع الضمير في عبارة الحجة البرهان وهو الآية ، وفي عبارة المصنف : هو قوله تعالى ... إلخ وهو الآية ، فالمعنى فيهما واحد ، والمراد على كل منهما بيان وجه دلالتها ، وهو أنه (لو كانا اثنين) يعني لو فرض وجود اثنين كل منهما متصف بصفات الألوهية التي منها الإرادة وتمام القدرة و (أراد أحدهما أمرا ، فالثاني إن كان مضطرا إلى مساعدته كان هذا الثاني مقهورا عاجزا ولم يكن إلها قادرا ، وإن كان الثاني (٢) قادرا على مخالفته ومدافعته كان الثاني قويا قاهرا والأول ضعيفا قاصرا فلم يكن إلها قاهرا» انتهى) وفي نسخ «الإحياء» هنا : «قادرا» بدل «قاهرا».

(وهذا) الذي ذكره حجة الإسلام (ابتداء) لتقرير برهان التوحيد لا للزوم الفساد المذكور في الآية (فليس بيانا للآية ، وإنما بيانها بيان لزوم الفساد على تقدير التعدد) ، ولك أن تقول : بل ما ذكره الحجة بيان للآية وتقرير لدلالتها ببرهان التوحيد المعروف ب «برهان التمانع» بناء على ما في الآية من الإشارة إليه ، كما سيأتي التنبيه عليه في كلام العلّامة العلاء البخاري. (٣)

[وإن كان تقرير «شرح العقائد» لبرهان التمانع على وجه آخر (٤) ، فهو يرجع إليه] وإنما يكون ابتداء التقرير بالنظر إلى عبارة الآية فإن معناها : لزوم الفساد بتقدير التعدد ، وها نحن نقرره فنقول :

الكلام في إثبات التوحيد ((٥) بلزوم الفساد عند التعدد كما نطقت به الآية (٥)) ، إما أن يكون مع الملّيّ أو مع غيره ، وهل المراد بالملي من اتبع ملة نبي من

__________________

(١) انظر : إحياء علوم الدين ، ١ / ١٥٩.

(٢) ليست في (م).

(٣) العلاء البخاري : هو محمد بن محمد بن محمد البخاري الحنفي ، علاء الدين ، من تلامذة التفتازاني ، والتنبيه سيأتي في ص ٥٣.

(٤) شرح العقائد ، ص ٣٣.

(٥) سقط من (م).

٧٢

الأنبياء وهو معناه المشهور (١) ، أو المراد به من اعتقد حقية ملة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ الملائم لكلام المصنف رحمه‌الله هو الثاني (فأما الملّي فيلزمه القطع بوقوع فساد هذا النظام على التقدير) المشار إليه في الآية أي : تقدير تعدد الإله (إذ هو) يعني الملي (قاطع بأن الله تعالى أخبر بوقوعه مع التعدد) وما أخبر تعالى بوقوعه فهو واقع لا محالة لاستحالة الخلف في خبره تعالى. (وأما غيره) أي : غير الملي (فيلزمه ذلك أيضا) أي : يلزمه القطع بوقوع فساد هذا النظام بتقدير التعدد (جبرا) أي : من جهة الجبر أي : القهر له (بمحاجة ثبوت الملة) أي : كونها حقا ، فإن المعجزات الباهرة التي منها القرآن الكريم الباقي إعجازه على وجه الدهر أدلة قائمة على حقية الملة قاهرة للخصم لا يستطيع ردها ، (ثم ذاك) والإشارة إلى إخبار الله تعالى بوقوع الفساد (بتقدير التعدد.) أي : بالمحاجة بمجموع أمرين ثبوت الملة ، ثم إخبار الله تعالى بوقوع الفساد بتقدير التعدد الثابت بالملة.

وقوله : (أو علما) عطف على قوله : «جبرا» أي : القطع بوقوع الفساد بتقدير التعدد لا من جهة الجبر بل من جهة علم (توجبه العادة ، والعلوم العادية) يحصل بها القطع ، (كالعلم حال الغيبة عن جبل عهدناه حجرا أنه) أي : بأنه (حجر الآن) أي : حال غيبتنا عنه لم ينقلب ذهبا ، مثلا فهي أعني العلوم المستندة إلى العادة (داخلة في) مسمى (العلم المأخوذ فيه عدم احتمال النقيض ،) فقوله : «والعلوم» مبتدأ خبره قوله «داخلة» ، (ولذا) أي : ولدخول العلم العادي في مسمى العلم (أجيب عن إيراد خروجه) عن تعريف العلم بأنه صفة توجب لمحلها تمييزا لا يحتمل متعلمه نقيض ذلك التمييز فإنه قد أورد على تعريفهم العلم بذلك أنه غير منعكس ؛ لأنه يخرج عنه العلوم العادية ، وهي المستندة إلى العادة كالعلم بحجرية الجبل في المثال السابق ، (لاحتماله النقيض) لجواز خرق العادة (مع أنه) أي : العلم العادي (علم) أي : داخل في مسمى العلم ومعدود من أقسامه.

وقوله : (بأن الاحتمال) متعلق بقوله : «أجيب» أي : أجيب عن الإيراد المذكور بأن احتمال النقيض (فيه) أي : في العلم العادي (بمعنى أنه لو فرض

__________________

(١) الملي : من الملة : لغة : الطريقة ، ثم نقلت إلى معنى شرعي ليصبح معناها أصول الشرائع من حيث إن الأنبياء يعلّمونها ويسلكونها ، وبذلك لا تضاف إلا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي تستند إليه ولا تكاد توجد مضافة إلى الله تعالى ، ولا إلى آحاد الأمة ، ولا تستعمل إلا في جملة الشرائع دون آحادها ، فلا يقال : ملة الله ، ولا ملتي ، ولا ملة زيد ، كما يقال دين الله وديني ، ودين زيد ، فالملي من اتبع عقيدة وأصولا شرعية جاء بها نبي الأنبياء.

٧٣

العقل خلافه لم يكن) ذلك الفرض (فرض محال ؛) لأن تلك الأمور العادية ممكنة في ذواتها ، والممكن لا يستلزم في شيء من طرفيه محالا ، (وذلك) الاحتمال بهذا المعنى (لا يوجب عدم الجزم المطابق) للواقع (بأن الواقع الآن خلاف ذلك الممكن فرضه) ؛ لأن الاحتمال المنافي لهذا الجزم هو أن يكون متعلق التمييز محتملا لأن يحكم فيه المميز بنقيضه في الحال ؛ كما في الظن ، أو في المآل ؛ كما في الجهل المركب والتقليد ، ومنشؤه ضعف ذلك التمييز ؛ إما لعدم الجزم أو لعدم المطابقة أو لعدم استناده إلى موجب ، وهذا الاحتمال هو المراد في التعريف لا الاحتمال بالمعنى الأول.

(فأثبتوا فيه) أي : في العلم العادي (ثبوت الجزم والمطابقة) للواقع (والموجب) و (أعني) بالموجب (١) (العادة القاضية التي لم يوجد قط خرمها) وهي أحد أقسام الموجب في قولهم في تعريف العلم : إنه حكم الذهن الجازم المطابق للواقع لموجب إذ الموجب الذي يستند إليه الجزم ؛ إما حس أو عقل أو عادة ، (وذلك) أي : ما ثبت فيه الجزم والمطابقة والموجب (هو معنى العلم القطعيّ بأن الواقع كذا ، فيحصل) أي : فبسبب العادة التي لم يوجد قط خرمها يحصل (لنا العلم القطعيّ بأن الواقع الفساد على تقدير تعدد الآلهة ؛ لأن العادة المستمرة التي لم يعهد قط اختلالها في ملكين مقتدرين في مدينة واحدة عدم الإقامة على موافقة كلّ للآخر في كل جليل وحقير) من الأمور ، (بل تأبى نفس كل) منهما دوام الموافقة ، (وتطلب الانفراد بالمملكة والقهر) للآخر ، (فكيف بالإلهين؟ والإله) أي : والحال أن الإله (يوصف بأقصى غايات التكبر ، كيف لا تطلب نفسه الانفراد بالملك والعلو على الآخر ، كما أخبر الله سبحانه بقوله : (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) (سورة المؤمنون : ٩١) هذا) أمر (إذا تؤمّل لا تكاد النفس تخطر) للمتأمل (نقيضه) أصلا ، (فضلا عن إخطار فرضه) أي : فرض النقيض (مع الجزم بأن الواقع هو) الطرف (الآخر ، وعلى هذا التقدير هو علم قطعيّ) لا تردد فيه بوجه ، (وإنما غلط من قال غير هذا) بأن قال : إن الآية حجة إقناعية (من قبل) أي : من جهة (أنه إذا أخطر) بباله (النقيض ، أعني : دوام اتفاقهما لم يجده مستحيلا في العقل ، وينسى)

__________________

(١) الموجب عند المتكلمين : هو الواجب في ذاته وفي صفاته ؛ أي لا يحتاج فيهما إلى علة ، ولا يقبل العدم ، وهو موجد الممكن الذي يحتاج إلى علة ، أما هنا فالقصد يتجه إلى أن الموجب هو الدليل الذي يتوصل به بصحيح النظر إلى الحقيقة ؛ وهو إما دليل عقلي أو حسي أو عادي.

٧٤

ما ذكرناه فيما مر آنفا من (أنه لم يؤخذ في مفهوم العلم القطعي استحالة النقيض ، بل) المأخوذ فيه (مجرد الجزم) الكائن (عن موجب بأن) الطرف (الآخر) المقابل للنقيض (هو الواقع ، وإن كان نقيضه لم يستحلّ وقوعه) ، وبهذا يظهر أن الآية حجة برهانية تحقيقية لا إقناعية (والله سبحانه الموفق) للصواب.

(وعن ظهور دخوله في العلم بما ذكرنا) أي : بسبب ما قررناه آنفا نشأ (أن كفّر بعض الناس القائل بأن الملازمة إقناعية أو ظنية ونحوه) فإن بعض معاصري المولى سعد الدين ، وهو الشيخ عبد اللطيف الكرماني (١) قد صدر منه تشنيع بليغ على قوله في «شرح العقائد» (٢) أن الآية حجة إقناعية والملازمة عادية أي : لا عقلية ، والمعتبر في البرهان الملازمة العقلية (٣) ، واستند هذا المعاصر في تشنيعه إلى أن صاحب «التبصرة» (٤) كفّر أبا هاشم (٥) بقدحه في دلالة الآية ، وما تقدم من كلام شيخنا المصنف يفيد منع كون الملازمة العادية غير معتبرة في البرهان ، ودعوى اعتبارها ووجهه أن المقصود من البرهان حصول العلم بالمدلول والملازمة العادية تحصله.

واعلم أن العلّامة المحقق الزاهد علاء الدين محمد بن محمد بن محمد البخاري الحنفي (٦) ، تلميذ المولى سعد الدين قدّس الله تعالى سرهما قد أجاب

__________________

(١) عبد اللطيف الكرماني : بكسر الكاف ؛ الحنفي ، فاضل له تصانيف في دلالة التمانع ، وشرح البيان للطيبي ، من أبناء القرن التاسع الهجري ، وهو معاصر للتفتازاني. (الضوء اللامع ، للسخاوي ، ٤ / ١٤٠ ، ومعجم المؤلفين ، ٢ / ٢١٧)

(٢) انظر : ١ / ٨٩.

(٣) الملازمة العقلية : نوع من أنواع الإدراك المباشر يلاحظ بها الناظر وجود اقتران بين قضيتين اقترانا غير منفك في الوجود أو العدم ، ، وهذا الاقتران يدرك بداهة.

(٤) هو ميمون النسفي : ميمون بن محمد بن محمد بن معبد بن مكحول ، أبو المعين ، عالم بالأصول والكلام ، كان بسمرقند وسكن بخارى ، توفي سنة ٥٠٨ ه‍ ، من مؤلفاته : بحر الكلام ، وتبصرة الأدلة ، وغيرهما.

انظر ترجمته في : الجواهر المضيئة ، ٢ / ١٨٩. ونص التكفير : فلما انتهت نوبة رئاسة المعتزلة إلى أبي هاشم فزعم أن لا دلالة في العقل على وحدانية الصانع ... ومن وصف الله تعالى بالجهل أو السفه فقد كفر به من ساعته. في تبصرة الأدلة ، ص ٨٥ ـ ٨٦.

(٥) أبو هاشم الجبائي : عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي ، من أبناء أبان مولى عثمان بن عفان ، المتكلم المعتزلي المشهور ، كان وأبوه من كبار المعتزلة ، توفي سنة ٣٢١ ه‍ ببغداد ، والجبائي نسبة إلى قرية من قرى البصرة. (وفيات الأعيان ، ٣ / ١٨٣)

(٦) سبقت ترجمته في ص ٧٨.

٧٥

عن الاعتراض والتكفير بما رأيت أن أسوقه بلفظه لاشتماله على فوائد :

قال رحمه‌الله تعالى : «الإفاضة في الجواب على وجه يرشد إلى الصواب يتوقف على ما أورده الإمام حجة الإسلام رحمه‌الله ، مما حاصله أن الأدلة على وجود الصانع وتوحيده تجري مجرى الأدوية التي يعالج بها مرض القلب ، والطبيب إن لم يكن حاذقا مستعملا للأدوية على قدر قوة الطبيعة وضعفها كان إفساده أكثر من إصلاحه ، كذلك الإرشاد بالأدلة إلى الهداية إذا لم يكن على قدر إدراك العقول كان الإفساد للعقائد بالأدلة أكثر من إصلاحها ، وحينئذ يجب أن لا يكون طريق (١) الإرشاد لكل أحد على وتيرة واحدة ، فالمؤمن المصدق سماعا أو تقليدا لا ينبغي أن تحرك عقيدته بتحرير الأدلة ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يطالب العرب في مخاطبته إياهم بأكثر من التصديق ، ولم يفرق بين أن يكون ذلك بإيمان وعقد تقليدي أو بيقين برهاني.

والجافي الغليظ الضعيف العقل الجامد على التقليد المصرّ على الباطل لا تنفع معه الحجة والبرهان ، وإنما ينفع معه السيف والسنان.

والشاكون الذين فيهم نوع ذكاء ولا تصل عقولهم إلى فهم البرهان العقلي المفيد للقطع واليقين ينبغي أن يتلطّف في معالجتهم بما أمكن من الكلام المقنع المقبول عندهم ، لا بالأدلة اليقينية البرهانية ، لقصور عقولهم عن إدراكها ؛ لأن الاهتداء بنور العقل المجرد عن الأمور العادية لا يخص الله تعالى به إلا الآحاد من عباده ، والغالب على الخلق القصور والجهل ، فهم لقصورهم لا يدركون براهين العقول كما لا تدرك نور الشمس أبصار الخفافيش ، بل تضرهم الأدلة القطعية البرهانية كما تضر رياح الورد للجعل (٢) وفي مثل هذا قيل :

فمن منح الجهال علما أضاعه

ومن منع المستوجبين فقد ظلم

وأما الفطن الذي لا يقنعه الكلام الخطابي فتجب المحاجة معه بالدليل القطعي البرهاني.

__________________

(١) ليست في (م).

(٢) في لسان العرب «الجعل» بفتح الجيم وتسكين العين : قصار النخل ، والنخل أيضا ، والجعل بفتح الجيم والعين : القصر مع السّمن ، واللّجاج أيضا ، والجعل بضم الجيم وفتح العين : دابة سوداء من دواب الأرض ، والجعل ، بضم الجيم وتسكين العين ، ما وضع على عمله ، (لسان العرب ، ٢ / ٣٠٠ مادة جعل).

٧٦

إذا تمهد هذا فنقول : لا يخفى أن التكليف بالتصديق بوجود الصانع وبتوحيده يشمل الكافة من العامة والخاصة ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مأمور بالدعوة للناس أجمعين ، وبالمحاجة مع المشركين الذين عامتهم عن إدراك الأدلة القطعية البرهانية قاصرون ، ولا يجدي معهم إلا الأدلة الخطابية المبنية على الأمور العادية والمقبولة التي ألفوها وحسبوا أنها قطعية ، وأن القرآن العظيم مشتمل على الأدلة العقلية القطعية البرهانية التي لا يعقلها إلا العالمون ، وقليل ما هم بطريق الإشارة على ما بينه الإمام الرازي في عدة آيات من القرآن (١) ، وعلى الأدلة الخطابية النافعة مع العامة لوصول عقولهم إلى إدراكها بطريق العبارة ، تكميلا للحجة البرهانية (٢) على الخاصة والعامة ، على ما يشير بذلك قوله تعالى : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (سورة الأنعام : ٥٩).

وقد اشتمل عليهما عبارة وإشارة قوله تعالى (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (سورة الأنبياء : ٢٢) أما الدليل الخطابي المدلول عليه بطريقة العبارة فهو لزوم فساد السموات والأرض بخروجهما عن النظام المحسوس عند تعدد الآلهة ، ولا يخفى أن لزوم فسادهما إنما يكون على تقدير لزوم الاختلاف ، ومن البين أن الاختلاف ليس بلازم قطعا ؛ لإمكان الاتفاق ، فلزوم الفساد لزوم عادي (٣) ، وقد أشار إليه الإمام الرازي حيث قال : أجرى الله تعالى الممكن مجرى الواقع بناء على الظاهر ، ولا يخفى على ذوي العقول السليمة أن ما لا يكون في نفس الأمر لازما وقطعيا لا يصير بجعل الجاعل ، وتسميته إياه برهانا دليلا قطعيا زعما أن تسميته قطعيا وبرهانا صلابة في الدين ونصرة للاسلام والمسلمين ، هيهات هيهات ، فإن ذلك يكون (٤) مدرجة لطعن الطاعنين. ونصرة الدين لا تحتاج إلى ادعاء ما ليس بقطعيّ قطعيا ؛ لاشتمال القرآن على الأدلة القطعية العقلية التي لا يعقلها إلا العالمون ، بطريق الإشارة

__________________

(١) منها : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠)) [آل عمران ، ١٩٠] ، وقال : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء ، ٢٢].

(٢) ليست في (م)

(٣) اللزوم : عملية عقلية يدرك بها الناظر الباحث واقع اقتران بين قضيتين ، فيصدر بالاستناد إليها حكما شرطيا ، هو إدراك مباشر. واللزوم قد يكون له مقتضى عقلي من الواقع أو البديهيات ، وإما أن يكون اتفاقيا في الواقع وهو اللزوم العادي.

(٤) ليست في (ط).

٧٧

النافعة للخاصة ، وعلى الأدلة الخطابية النافعة للعامة بطريق العبارة.

وأما البرهان العقلي القطعي المدلول عليه بطريق الإشارة فهو برهان التمانع القطعيّ بإجماع المتكلمين المستلزم لكون مقدور بين قادرين ، ولعجزهما أو عجز أحدهما على ما بين في علم الكلام ، وكلاهما محالان عقلا على ما بين فيه أيضا ؛ لا التمانع الذي تدل عليه الآية بطريق العبارة ، بل التمانع قد يكون برهانيا ، وقد يكون خطابيا ، ولا ينبغي أن يتوهم أن كل تمانع عند المتكلمين برهان (١) ، وقطعية لزوم الفساد المدلول عليه بالإشارة لا تنافي خطابية لزوم الفساد المدلول عليه ((٢) بالعبارة ؛ لأن الفساد المدلول عليه (٢)) بالإشارة هو كون مقدور بين قادرين وعجز الإلهين المفروضين أو عجز أحدهما ، والفساد المدلول عليه بالعبارة هو خروج السموات والأرض عن النظام المحسوس ، فأين أحدهما من الآخر؟.

وحينئذ لا ينبغي أن يتوهّم أنه يلزم من انتفاء جواز الاتفاق على تقدير الفساد المدلول عليه بطريق الإشارة بناء على أنه يستلزم امتناع تعدد الآلهة عقلا ، فيلزم من انتفاء جواز الاتفاق ؛ لأنه فرع إمكان التعدد انتفاء جواز الاتفاق على تقدير الفساد المدلول عليه بطريق ((٣) الإشارة ، بناء على أنه يستلزم امتناع تعدد الآلهة عقلا ، فيلزم منه انتفاء جواز الاتفاق ؛ لأنه فرع إمكان التعدد انتفاء جواز الاتفاق على طريق الفساد المدلول عليه بطريق (٣)) العبارة لعدم استلزامه امتناع التعدد عقلا وإنما يستلزمه عادة ، والاستلزام العادي لا ينافي عدم الاستلزام العقلي فليتأمل» (٤) ثم ذكر بقية الجواب وضمنه التعجّب من تكفير صاحب «التبصرة» (٥) لمن قال : إن دلالة الآية ظنية ونحو ذلك ، ولا يخفى بعد معرفة ما قررناه من كلام شيخنا وجه رد قول هذا المجيب : إن الآية دليل خطابي ، أي ظني.

__________________

(١) التمانع عند المتكلمين : هو امتناع وجود موجودين كل واحد منهما واجب لذاته ؛ لأنه لو وجد واجبان فيلزم تركبهما وتعددهما ، ولكانت نسبة المقدورات إليهما سواء ولتعارضت الإرادتان.

(٢) سقط من (م).

(٣) سقط من (ط).

(٤) قارن مع : مفاتيح الغيب ، ١١ / ١٥١.

(٥) انظر : تبصرة الأدلة في أصول الدين ، ص ٨٧ ، لميمون النسفي.

٧٨

واعلم أنه قد وقع للمولى سعد الدين أواخر «شرح العقائد» ما ينافي ظاهره كلامه في أوائله ويوافق كلام شيخنا ، فإنه قال في الكلام على المعجزة ما نصه : «وعند ظهور المعجزة يحصل الجزم بصدقه بطريق جري العادة بأن الله تعالى يخلق العلم بالصدق عقب ظهور المعجزة «(١) ... إلى آخر كلامه ، وهو مبسوط واضح. والله تعالى ولي الهداية والتوفيق.

__________________

(١) شرح العقائد ، ص ١٤٩.

٧٩
٨٠