المسامرة

كمال الدين محمد بن محمد الشافعي [ ابن أبي شريف المقدسي ]

المسامرة

المؤلف:

كمال الدين محمد بن محمد الشافعي [ ابن أبي شريف المقدسي ]


المحقق: كمال الدين القاري و عزّ الدين معميش
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-34-292-X
الصفحات: ٣٦٠

(واعترف الكلّ بأنّ خلق السماوات والأرض والألوهية الأصلية لله تعالى ، قال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَ) (سورة الزمر : ٣٨) فهذا) أي : الاعتراف بما ذكر (كان) ثابتا (في فطرهم) من مبدإ خلقهم ، قد جبلت عليه عقولهم ، قال الله تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (سورة الروم : ٣٠) (ولذا) أي : لكون الاعتراف بما ذكر ثابتا في فطرهم (كان المسموع من الأنبياء) المبعوثين عليهم أفضل الصلاة والسلام (دعوة الخلق إلى التوحيد) والمراد به هنا : اعتقاد عدم الشريك في الألوهية وخواصها ؛ كتدبير العالم ، واستحقاق العبادة ، وخلق الأجسام ، بدليل أنه بيّن التوحيد بقوله : (شهادة أنّ لا إله إلّا الله دون أن يشهدوا أنّ للخلق إلها) لما مرّ من أن ذلك كان ثابتا في فطرهم ، ففي فطرة الإنسان وشهادة آيات القرآن ما يغني عن إقامة البرهان.

(و) لكن (قد رتّب العلماء النظّار) على سبيل الاستظهار (لإثباته) أي :

لإثبات وجود الباري تعالى بدليل العقل (مقدّمتين) فاقتفاهم حجة الاسلام ، ثم شيخنا المصنف.

والمقدمتان هما : قولهم : (العالم) أي : ما سوى الله تعالى من الموجودات (حادث ، والحادث) وهو ما كان معدوما ثم وجد أي : الممكن (لا يستغني عن سبب يحدثه) أي : يرجح وجوده على عدمه.

(أمّا) المقدمة (الثانية) وهي قولهم : «الحادث لا يستغني عن سبب يحدثه» (فضروريّة) ومعلوم أن الضروري لا يستدل لإثباته ولكن ينبّه عليه (١) ، (و) قد (نبّه عليها بأنّ اختصاص حدوث الحادث بوقت دون ما قبله) أي : ما قبل ذلك الوقت من الأوقات ، (و) دون (ما بعده) منها (مفتقر بالضرورة إلى مخصّص) لأن كلّا من تقدّمه على ذلك الوقت وتأخّره عنه ووقوعه فيه أمر ممكن ، فلا بدّ من مرجّح

__________________

صورا للعظماء ودعا للسجود لها هو : نينوس بن نمرود بن نوح. انظر : اعتقادات فرق المسلمين والمشركين. ص ١٤٣.

(١) الضروري هو الذي لا يحتاج الذهن فيه إلى طلب الدليل ، وإنما يلتقطه بالبداهة ، ويشترك في معرفته الخاص والعام ، كإدراك وجود ذواتنا ، وإدراكنا للحرارة والبرودة ...

٤١

لوقوعه في ذلك الوقت على تقدمه عليه وتأخره عنه ؛ لأن «الترجّح من غير مرجّح محال».

(وأمّا) المقدمة (الأولى) وهي قولهم : «العالم حادث» فاعلم أولا أن العالم كما سيأتي جواهر وأعراض.

فالجوهر : «ما له قيام بذاته» بمعنى أنه لا يفتقر إلى محل يقوم به ، والعرض : «ما يفتقر إلى محل يقوم به» وقد يعبّر بعضهم بدل «الجواهر» ب «الأجسام» ، وعليه جرى المصنف ، وهما في اللغة بمعنى ، وإن كان الجسم أخص من الجوهر اصطلاحا ؛ لأنه المؤلّف (من جوهرين أو أكثر ؛ على الخلاف في أقل ما يتركب منه الجسم ، على ما بيّن في المطوّلات ، والجوهر يصدق بغير المؤلّف وبالمؤلف) ، إذا تقرر ذلك فاعلم أنّ المصنّف قد استدلّ كغيره لإثبات المقدمة الأولى بحدوث الأعراض.

واستدل على حدوثها بوجهين :

نبّه على الأول منهما بقوله : (فالأعراض ظاهرة الافتقار) ، أي : إلى المخصّص بوقت حدوثها دون ما قبله وما بعده كما مر.

ونبّه على الثاني منهما مع تضمينه حدوث الأجسام بقوله : (وهي أيضا قائمة بالجسم) مفتقرة في تحققها إليه ، (فإذا ثبت حدوثه ثبت حدوثها) لتوقف وجودها على وجوده (ويدلّ على حدوث الأجسام أنّها لا تخلو عن الحركة والسكون ، وهما حادثان ، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث)

فهذه ثلاث دعاوى :

(أمّا الأولى): وهي أن الأجسام لا تخلو عن الحركة والسكون (فظاهرة.) لأن من عقل جسما لا ساكنا ولا متحركا كان عن نهج العقل ناكبا ، ولمتن الجهل راكبا ، هذه عبارة حجة الإسلام المأخوذ معناها من «الرسالة النظامية» لشيخه إمام الحرمين (١).

(وأمّا) الدعوى (الثانية): وهي أن الحركة والسكون حادثان فقد استدل عليها المصنف بطريقين :

أشار إلى الأول منهما بقوله : (فما شوهد من تعاقبهما) أي : كون كل منهما

__________________

(١) انظر : الرسالة النظامية ، للجويني ، ص ١٦.

٤٢

يعقب الآخر ، أي : يخلفه في محله عند ذهابه (و) من (انقضائهما) أي : ذهابهما ، والمراد ذهاب كل منهما عند وجود الآخر (مشاهد فيه) أي : في ذلك التعاقب والانقضاء (حدوث كلّ منهما بعد عدمه ، وما لم يشاهد) من الأجسام (إلّا ساكنا ؛ كالجبال مثلا ، يجوز عليه الحركة بزلزلة مثلا وغيرها). وقوله : «وغيرها» يغني عن قوله : «مثلا» والعكس. (وكذا) يجوز عقلا (قلبه) أي : قلب الجبل المدلول عليه بقوله : «الجبال» (ذهبا ونحوه) كفضة أو نحاس أو حديد (وتجويزه) أي : تجويز ما ذكر من الحركة والقلب (تجويز عروض الحوادث) على محلها (ومحلّ الحوادث حادث ، على ما نبيّن) في إثبات الدعوى الثالثة.

وأشار إلى الطريق الثاني بقوله : (ولأنّ السابق) فقوله : «ولأن» : عطف على قوله : «فما شوهد» إذ التقدير : وأما الثانية وهي حدوث الحركة والسكون فلأن ما شوهد .. الخ ، ولأن السابق أي : من الحركة والسكون (لو ثبت قدمه استحال عدمه ، على ما نبيّن في بيان وجوب بقاء الباري ـ جلّ ذكره ـ) في الأصل الثالث من أن وجود القديم مقتضى ذاته ، فلا يتخلف عنها (وتجويز طريان الضّدّ) ((١) على محلّ هو (٢)) (تجويز العدم) على ضده الذي كان بذلك المحل أولا ، ضرورة أن الضدين يمتنع عقلا اجتماعهما بمحل ، فالتجويز المذكور باعتبار النظر إلى الضد الطارئ تجويز الطريان ، وبالنظر إلى ضده هو تجويز العدم على هذا الضد ، والأولى أن تجويز الطريان يستلزم تجويز العدم لا أنه هو.

(وأمّا) الدعوى (الثالثة) وهي : «أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث» (فلو لم يكن) أي : فبرهانها أنه لو لم يكن (كذلك لكان قبل كلّ حادث حوادث ، لا أوّل لها ، مترتبة كما تقول الفلاسفة في دورات الأفلاك) أي : حركاتها اليومية (٣) (فما لم ينقض ما لا أوّل له من الحوادث لم تنته النوبة إلى وجود الحادث الحاضر) لأن الحركة اليومية المعيّنة مشروط وجودها بانقضاء ما قبلها ، وكذلك الحركة التي قبلها مشروطة بمثل ذلك ، وهلمّ جرا (وانقضاء ما لا أوّل له محال ؛ لأنّك إذا لاحظت الحادث الحاضر ثمّ انتقلت إلى ما قبله) فلاحظته (وهلمّ جرّا

__________________

(١) سقط من (م).

(٢) سقط من (م).

(٣) وهو تعريف الزمان عندهم ، وأحيانا يعبرون بأنه حركة الأجرام السماوية ، وأحيانا بمقدار الفلك الأعظم كما هو عند أرسطو أو مقدار حركة الفلك كما عند الجرجاني ، أما المتكلمون فإنهم يعرفون الزمان بأنه عبارة عن متجدد معلوم يقدر فيه متجدد آخر موهوم.

٤٣

على الترتيب لم تفض إلى نهاية) ودخول ما لا نهاية له من الحوادث في الوجود محال (وإلّا) أي : وإن لم يكن ما ذكرنا من عدم إفضائك إلى نهاية (لكان لها) أي : لتلك الحوادث (أوّل ، وهو خلاف المفروض ، فوجود الحاضر محال) على هذا التقدير ؛ لأنه لازم للمحال ، وهو وجود حوادث لا أول لها (لكنّه) أي : الحادث الحاضر (ثابت) ضرورة (فانتفى ملزومه وهو وجود حوادث لا أوّل لها فانتفى) أي : فلانتفاء وجود حوادث لا أول لها انتفى (ملزومه ، وهو كون ما لا يخلو عن الحوادث قديما) فثبت نقيضه ، كما أشار إليه بقوله : (فما لا يخلو عن الحوادث حادث).

(و) بعد ثبوت ذلك نقول في إثبات حدوث العالم : (هذا العالم لا يخلو عن الحوادث) وما لا يخلو عن الحوادث حادث ، (فهذا العالم حادث).

(وإذا ثبت حدوثه كان افتقاره إلى الموجد معلوما بالضّرورة) كما قدّمه في صدر الاستدلال (وذلك الموجد هو سبحانه المعنيّ) أي : المقصود (بالاسم الذي هو : الله) فكلمة الجلالة : اسم الذات الواجب الوجود ، المستجمع لجميع صفات الكمال ، الذي يستند إليه إيجاد كل موجود.

ولهم في مسمّى كلمة الجلالة عبارة أخرى وهي : «أنه اسم للحقيقة العظمى ، والعين القيومية المستلزمة لكل سبّوحية وقدّوسية ، في كلّ جلال وكمال ، استلزاما لا يقبل الانفكاك بوجه (١).

وما في الأركان الثلاثة الأولى من هذا الكتاب وأصله كالشرح لهذه العبارة.

__________________

(١) هذه عبارة الصوفية ، قارن مع فصوص الحكم ، الفص الأول ، لابن عربي.

٤٤

(الأصل الثاني)

(أنّه) أي : أن الباري (تعالى قديم ، لا أوّل له)

(أي : لم يسبق وجوده عدمه) وهذا التفسير للقديم (١) ينبه على أن القدم في حقه (٢) تعالى بمعنى الأزلية التي هي كون وجوده غير مستفتح ، لا بمعنى تطاول الزمن ، فإن ذلك وصف للحادثات (٣) ، كما في قوله تعالى : (كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) (سورة يس : ٣٩) ، وليس القدم معنى زائدا على الذات.

قال حجة الإسلام في «الاقتصاد» : «ليس تحت لفظ القديم ـ يعني في حق الله تعالى ـ سوى إثبات موجود ونفي عدم سابق ، فلا تظنّنّ أن القدم معنى زائد على ذات القديم ، فيلزمك أن تقول ذلك المعنى أيضا قديم بقدم زائد عليه ، ويتسلسل إلى غير نهاية» (٤) اه.

__________________

(١) القديم : عبارة عما ليس قبله زمانا ، أو الموجود الذي ليس وجوده مسبوقا بالعدم أو الموجود الذي لا يكون وجوده من الغير ، وهو القديم بالذات ، وهو الله سبحانه ، ويقابله الحادث بالذات ، وقال الإمام الأشعري : القديم هو المتقدم في الوجود على شرط المبالغة ، والقدم صفة سلبية ، فهي ليست بمعنى أنها موجودة في نفسها كالعلم مثلا ، وإنما هي عبارة عن سلب العدم السابق للوجود أو عدم افتتاح الوجود. وقد اتّفق على وصف ذات الله بالقدم ، لكن اختلف في كونه اسما من الأسماء الحسنى ، ومن أثبته استدل بوروده في حديث أبي هريرة الذي عد فيه أسماء الله تعالى التسعة والتسعين ، والحديث رواه الترمذي وأصله في الصحيح بدون زيادة النص على الأسماء ، أما الزيادة فضعيفة. أما النافون لهذا الاسم فلعدم ورود نصوص صحيحة به ، وورد بدله «الأول».

(٢) في (م) : حق الله.

(٣) في (م) : المحدثات.

(٤) الاقتصاد في الاعتقاد ، ص ٦٩.

٤٥

واستدل على إثبات صفة القدم (١) بقوله : (لأنّه لو كان حادثا افتقر إلى محدث ، فينتقل الكلام إلى ذلك المحدث ، فإن كان قديما فهو المراد بالله) أي : فهو مسمى كلمة الجلالة (وإلّا) أي : وإن لم يكن قديما كان حادثا و (نقلنا الكلام إلى محدثه وهكذا ، فإن تسلسل) لا إلى نهاية (لزم عدم حصول حادث منها أصلا) كما ذكرناه في الأصل السابق من أن المحال الذي هو وجود حوادث لا أول لها يستلزم استحالة وجود الحادث الحاضر ، وهو خلاف المعلوم ضرورة ، بل اللزوم هنا (بأولى) أي : بطريق هو أولى (مما ذكرناه) أي : من الطريق الذي ذكرناه (في) استلزام (حوادث لا أول لها) استحالة وجود الحادث الحاضر (لأن هذا الترتيب علّيّ ،) أي : ترتيب معلول على علة ، فكل مرتبة من مراتبه علة لوجود ما يليها (غير أن إيجاد كل للآخر) الذي يليه (بالاختيار) كما ينبه عليه قولهم : «افتقر إلى محدث».

وهذا الاستدراك للتنبيه على أن قولنا : «عليّ» ليس على طريقة الفلاسفة ، وهي أن العلة توجب المعلول (٢).

(وذلك) الطريق المذكور في حوادث لا أول لها (لم يفرض فيه غير مجرّد ترتب تلك الحوادث ،) في الوجود دون تعرّض لكون كل منها علة لوجود ما يليه (لكن حصول الحوادث ثابت) ضرورة بالحس والعقل (فيجب أن ينتهي) حصولها في الوجود (إلى موجد لا أوّل له ، ولا يراد بالاسم الذي هو الله إلا ذلك) الموجد الذي لا أول له (تعالى وتقدّس عن كل نقيصة) سبحانه.

قال إمام الحرمين رحمه‌الله تعالى في «الإرشاد» : «فإن قيل في إثبات موجود لا أول له إثبات أوقات متعاقبة لا نهاية (٣) لها إذ لا يعقل استمرار وجود إلا في أوقات ، وذلك يؤدي إلى إثبات حوادث لا أول لها (٤) ، أي : وقد تبين بطلانه.

__________________

(١) في (ط) : القديم.

(٢) العلة توجب المعلول عند الفلاسفة : وهو الذي يسمى بالإيجاب بالذات ، وسيأتي تعريفه.

(٣) في (ط) : أول.

(٤) أي التسلسل : وهو أن يستند وجود الممكن إلى علة مؤثرة فيه ، وتستند هذه العلة إلى علّة مؤثرة فيها ، وهي إلى علّة ثالثة مؤثرة فيها ، وهكذا تسلسلا مع العلل دون نهاية ، والبداهة تثبت استحالة التسلسل ، وقد أضيف إلى البداهة أدلة أخرى أهمها وأوضحها برهان التطبيق ، وقد صيغ على الشكل التالي : لو كان هذا التسلسل جائزا عقلا ، لكان العدد الأقل مساويا للعدد الأكثر ، لكنّ العدد لا يكون بحال من الأحوال مساويا للعدد الأكثر إذن فالتسلسل غير جائز عقلا.

٤٦

قلنا : هذا زلل ممن ظنه ، فإن الأوقات يعبر بها عن موجودات تقارن موجودا ((١) هذا تعريف الأشاعرة (١)) ، وكل موجود أضيف إلى مقارنة موجود فهو وقته ، والمستمر في العادات التعبير بالأوقات عن حركات الفلك وتعاقب الجديدين هذا تعريف الفلاسفة (٢).

((٣) أي ذلك الموجود مجهول ، والموجودات المقارنة له معلومة يؤقت بها المجهول فهي زمانه ، وذلك يختلف باختلاف حال السامع ، تقول : «ولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الفيل» لمن يعلم عام الفيل ولا يعلم وقت مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتقول : «عام الفيل هو عام مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم» لمن يعلم وقت مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يعلم عام الفيل. وبعضهم جعل الزمان نفس المقارنة فقال : هو مقارنة متجدّد معلوم لمتجدّد مبهم إزالة للإبهام ، وهو واضح في كون الزمان اعتباريا لا حقيقيا ، فإنه على كلّ من التفسيرين كذلك ، لكن في التعبير الأول «بالموجودات» ما يوهم خلاف ذلك (٣)) فإذا تبين ذلك في معنى الوقت فليس من شرط وجود الشيء أن يقارنه موجود آخر ، إذ (٤) لم يتعلق أحدهما بالثاني في قضية عقلية ، ولو افتقر كل موجود إلى وقت ، وقدرت الأوقات موجودة ، لافتقرت ((٥) تلك الأوقات (٥)) إلى أوقات أخر ، وذلك يجرّ إلى جهالات لا ينتحلها عاقل ، فالباري سبحانه وتعالى قبل حدوث الحوادث متفرد بوجوده وصفاته ، لا يقارنه حادث». انتهى كلام «الإرشاد» (٦).

__________________

(١) سقط من (م).

(٢) ذكرنا تعريف الزمان عند الفلاسفة والمتكلمين في ص ٣٧.

(٣) سقط من (ط).

(٤) في (م) : إذا.

(٥) سقط من (م).

(٦) انظر : الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد ، ص ٣٢.

٤٧

(الأصل الثالث : في البقاء)

وهو : (أن الله تعالى أبديّ ليس لوجوده آخر ، أي يستحيل أن يلحقه عدم) لأنه قد ثبت قدمه تعالى وما ثبت قدمه استحال عدمه (لأنه لو جاز عدمه) لاحتاج انعدامه بعد وجوده إلى علة لما مر من استحالة الترجح بلا مرجح (فإمّا) أن ينعدم (بنفسه) بأن يكون انعدامه أثرا لقدرته (أو) ينعدم (بمعدم يضادّه ،) فيمتنع وجوده معه ، وسكت عن المثل والخلاف (١) لأنه لا يتوهم صلاحيتهما لعلية انعدام المثل والخلاف (والأول) وهو انعدامه بنفسه (باطل ؛ لأنه لمّا ثبت أنه الموجد الذي استندت إليه كل الموجودات ثبت عدم استناد وجوده إلى غيره ، فلزم أن يكون) وجوده له (من نفسه) أي : اقتضته ذاته المقدسة اقتضاء تاما (فإذا ثبت أن وجوده مقتضى ذاته) المقدسة (استحال أن تؤثر) ذاته (عدمها ؛ لأن ما بالذات) أي : ما تقتضيه الذات اقتضاء تاما (لا يتخلف عنها.)

وقد تختصر العبارة عن ذلك فيقال : لأن واجب الوجود لا يقبل الانتفاء بحال ، فيلزم بقاؤه كما يلزم قدمه.

(وكذا الثاني) وهو انعدامه بمعدم يضاده باطل أيضا (لأن ذلك الضد المقتضي نفيه إما قديم أو حادث ، لا يجوز الأول) وهو كونه قديما (وإلّا) لو جاز كون ذلك الضد قديما (لم يوجد معه) أي : لزم انتفاء وجود الباري سبحانه وتعالى مع ذلك الضد (من الابتداء أصلا ؛ لأن التضاد يمنع الاجتماع) بين الشيئين اللذين اتصفا به (وقد ثبت وجوده تعالى) أزلا (ومحال وجوده في القديم ومعه ضده) لما مر آنفا من أن التضاد يمنع الاجتماع (ولا) يجوز (الثاني) أيضا وهو كون ذلك

__________________

(١) الترجيح بلا مرجح : أن يكون الشيء جاريا على نسق معين ، ثم يتغير عن نسقه ويتحول ، دون وجود أي مغير إطلاقا ، ويعبر البعض عنه بحدوث الطفرة ، وهو باطل عقلا ؛ لاحتياج المعلول إلى علة في إيجاده وتغيّره.

٤٨

الضد حادثا (إذ ليس الحادث في مضادّته) أي : باعتبار مضادته (للقديم بحيث يقطع) أي : الحادث (وجوده) أي : وجود ضده القديم (بأولى من القديم في مضادته للحادث حتى (١) يدفع) أي : القديم (وجوده) أي : وجود ضده الحادث (بل القديم أولى بدفع وجود ضده الحادث من الحادث في قطع وجود ضده القديم) ورفعه (لأن الدفع أهون من الرفع والقديم أقوى من الحادث).

__________________

(١) في (م) : بحيث.

٤٩

(الأصل الرابع : أنه تعالى ليس بجوهر يتحيز)

أي : يختص بالكون في الحيز ، خلافا للنصارى (١).

وقوله : «يتحيز» وصف كاشف ؛ لا مخصص ؛ لأن من شأن الجوهر الاختصاص بحيزه ، وحيز الجوهر عند المتكلمين هو الفراغ المتوهم الذي يشغله الجوهر ، (وإلا) أي : وإن لا يكن ذلك بأن كان جوهرا (لكان) إما (متحركا في حيزه أو ساكنا) فيه لأنه لا ينفك عن أحدهما (وهما) أي : الحركة والسكون المدلول عليهما بقوله : «متحركا أو ساكنا» (حادثان) لما عرفته فيما سبق فكان لا يخلو عن الحوادث (وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث).

والحكم بحدوثه ثابت (بما قدمناه) أي : بسبب ما قدمناه في الأصل الأول من الدليل (٢) ، وقد علم من استحالة كونه تعالى جوهرا استحالة لوازم الجوهر عليه تعالى ، من التحيز ولوازمه كالجهة وسيأتي بيان ذلك في الأصل السابع.

(فإن سمّاه أحد جوهرا ثم قال لا كالجواهر في التحيّز ولوازم التحيز) من إثبات الجهة والإحاطة ونحوهما (فإنما خطؤه في التسمية) أي : من حيث إطلاق لفظ الجوهر عليه تعالى لا من حيث المعنى لمثل ما سيأتي في إطلاق الجسم إذ

__________________

(١) يعتقد النصارى بأن الله جوهر ، واستدلوا على ذلك بقولهم : إننا وجدنا الأشياء كلها في الشاهد والوجود لا تخلو من أن تكون جوهرا أو أعراضا ، وقد اتفقنا على أن القديم ليس بعرض فوجب أن يكون جوهرا ، والجوهر هو القائم بنفسه المستغني في الوجود عن غيره ، ومن مستلزمات الجوهر التحيز ، فالله يختص في الكون بحيز ، وقد أبطل الباقلاني ادّعاءهم بقوة منطق وحجة. انظر : التمهيد للباقلاني ، ص ٧٥.

(٢) وهو أنه لو لم يكن ما لا يخلو عن الحوادث حادثا لكان قبل كل حادث حوادث لا أول لها ، مترتبة كما تقول الفلاسفة في دوران الأفلاك ، فما لم ينقص ما لا أول له من الحوادث لم تنته النوبة إلى وجود الحادث الحاضر. كتب بهامش (م).

٥٠

لم يرد إطلاق لفظ الجوهر عليه تعالى لا لغة ولا شرعا ، وفي إطلاقه إيهام نقص ، تعالى الله سبحانه عن أن يتطرق إلى سرادقات عظمته شائبة نقص ، فإن الجوهر يطلق على الجزء الذي لا يتجزأ وهو أحقر الأشياء مقدارا (١).

__________________

(١) الجوهر : هو المتحيز ، فإن كان حالا فصورة ، وإن كان مركبا فجسم ، وهو إما أن يقبل القسمة وهو الجسم ، أو لا يقبلها وهو الجوهر الفرد ، ولذا عرّف بأنه الجزء الذي لا يتجزأ وهو لا شكل له ولا يشبه شيئا من الأشياء. انظر : المواقف ، ص ١٨٢.

٥١

(الأصل الخامس : أنه تعالى ليس بجسم)

(و) الجسم (هو المؤلف من جواهر) فردة وهي الأجزاء التي (لا تتجزأ وإبطال كونه جوهرا) كما مر في الأصل الرابع (يستقل به) أي : بإبطال كونه جسما ؛ لأنه إذا بطل كونه جوهرا مخصوصا بحيز ، بطل كونه جسما لأن كل جسم فهو مختص بحيز ومركب من جوهر وجوهر (مع) ما في الجسمية من (زيادة لوازم تقتضى الحدوث كالهيئة والمقدار والاجتماع والافتراق) فإن كلا منها ينافي الوجوب الذاتي لاقتضائها الاحتياج على ما قرر في المطولات (١) (فإن سماه أحد جسما وقال لا كالأجسام يعني في نفي لوازم الجسمية) كبعض الكرّامية (٢) فإنهم قالوا : هو جسم بمعنى موجود ، وآخرين منهم قالوا : هو جسم بمعنى أنه قائم بنفسه فأخطئوا بذلك ، ومن أخطأ بذلك (فإنما خطؤه في إطلاق الاسم) لا في المعنى (كالأوّل) أي : كمن قال : «جوهر لا كالجواهر» ، فإن خطأه كذلك كما مر ، هذا أعنى خطأ من أطلق الأول أو الثاني ثابت (بالإجماع) من القائلين بأن الأسماء توقيفية ، والقائلين بجواز إطلاق ما لا يوهم نقصا وإن لم يرد به توقيف ، وظاهر عبارة المتن أن محل الإجماع حصر الخطأ في إطلاق اسم الجسم أو الجوهر دون المعنى وهو حصر إضافيّ ، والأوجه ما شرحنا به العبارة من أن قوله : «بالإجماع» خبر مبتدأ محذوف

__________________

(١) انظر : الحواشي البهية ، ١ / ٧٢ ، وشرح المواقف ، ٦ / ١٨٩.

(٢) نسبة إلى محمد بن كرّام السجستاني ، من سجستان ، نفي منها إلى غرجستان وهناك بايعه قوم على طريقته وخرجوا إلى نيسابور والتف حولهم جماهير كثيرة. كان يسمي معبوده جسما ، ويحدّه بأدوات القياس ، ويقول بأن الله محل للحوادث ، ويقول بالخالقية والرازقية إلى غير ذلك من العقائد ، وتوزعت الكرامية على ثلاث فرق : الحقائقية والطرائقية والإسحاقية. انظر : التبصير في الدين ، للاسفراييني ، ص ١١١.

٥٢

تقديره «هذا» ، فيكون محل الإجماع تخطئة من أطلق واحدا منهما.

وامتناع إطلاق كل منهما ظاهر على قول القائلين بالتوقيف ، وأما على القول بالاشتقاق وهو القول بجواز إطلاق المشتق مما ثبت سمعا اتصافه بمعناه ((١) وما يشعر بالجلال (١)) ولم يوهم نقصا وإن لم يرد به توقيف فبيّنه المصنف بقوله : (فإنه) أي : فإن الشأن (لم يوجد في السمع) أي : الكتاب والسنة (ما يسوّغ إطلاقه) أي : إطلاق اسم الجسم أو الجوهر (ليجوز) إطلاقه (على قول القائلين بالاشتقاق في الأسماء) وهم المعتزلة والقاضي أبو بكر من ((٢) أئمة أصحابنا (٢)) فامتنع إطلاقه عندهم لفقدان هذا الشرط.

وقد نبه على انتفاء الشرط الثاني أيضا معه بقوله : (ولأن شرطه) أي : شرط القول بالاشتقاق في الأسماء عند القائلين به (بعد السمع) أي : بعد اتصافه تعالى سمعا بالمعنى الذي هو مأخذ الاشتقاق (أن لا يوهم) إطلاقه (نقصا) وكل من شرطي الإطلاق منتف.

أما الأول فلأن المعنى الحقيقي لكل من الجسم والجوهر محال على الباري تعالى ولم يرد سمعا اتصافه بمأخذ اشتقاق ((٣) لمعنى مجازي بواحد (٣)) منهما.

وأما الثاني فنبه على انتفائه بقوله : (واسم الجسم يقتضيه) أي : النقص (من حيث اقتضاؤه الافتقار) إلى أجزائه التي يتركب منها (وهو) أي : الافتقار (أعظم مقتض للحدوث) وقد اعتبر على قول القائلين بالتوقيف والقائلين (للحدوث) وقد اعتبر على قول الاشتقاق أيضا أن يكون في اللفظ الذي يطلق إشعار بالإجلال والتعظيم.

وتحرير محل النزاع بين القائلين بالتوقيف والقائلين بالاشتقاق كما في «المقاصد» (٤) هو ما اتصف الباري تعالى بمعناه ولم يرد إذن ((٥) ولا منع به ولا بمرادفه (٥)) وكان مشعرا بالجلال من غير وهم إخلال.

__________________

(١) سقط من (م).

(٢) في (م) : أئمتنا.

(٣) في (ط) : المعنى المجازي لواحد.

(٤) انظر : شرح المقاصد ، للتفتازاني ، ٤ / ٣٤٣ ، ومذاهب العلماء في التوقيف والاشتقاق متعددة ، فالماتريدية لا يجيزون الاشتقاق مطلقا لا في الأسماء ولا في الصفات ، وأجاز القاضي الباقلاني ذلك مطلقا ، والغزالي في الصفات مع التفصيل ، بينما توقف إمام الحرمين الجويني.

(٥) في (م) : بإطلاقه ولا بإطلاق مرادفه ولا منع من ذلك.

٥٣

واحترز بكونه مشعرا بالجلال عن نحو الزارع والرامي ، فإنه لا يجوز إطلاقه مع ورود قوله تعالى : (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤)) (سورة الواقعة : ٦٣) وقوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) (سورة الأنفال : ١٧).

إذا تقرر ذلك وأنه لا يجوز إطلاق لفظ الجسم (١) (فمن أطلقه فهو عاص بذلك) الإطلاق (بل قد كفره بعضهم) يعني «ركن الاسلام» في فتواه فيمن أطلق عليه تعالى اسم السبب والعلة إلى آخر كلامه (٢). (وهو) أي : التكفير لمن أطلقه (أظهر) من عدم التكفير له ، (فإن إطلاقه) إياه حال كونه (مختارا) لإطلاقه غير مكره عليه (بعد علمه بما فيه من اقتضاء النقص استخفاف) بجناب الربوبية ، والاستخفاف به كفر ونفاقا.

(ولما ثبت انتفاء الجسمية بالمعنى المذكور ثبت انتفاء لوازمها) وهي الاتصاف بالكيفيات المحسوسة بالحس الظاهر أو الباطن ؛ من اللون والرائحة والصورة ، والعوارض النفسانية ؛ من اللذة والألم والفرح والغم ونحوها (فليس سبحانه بذي لون ولا رائحة ولا صورة ولا شكل ولا متناه ولا حالّ في شيء ولا محل له) ولا متحد بشيء ولا يعرض له لذة عقلية ولا حسية ولا ألم كذلك ولا فرح ولا غم ولا غضب ولا شيء مما يعرض للأجسام لأنه لا يعقل من هذه الأمور إلا ما يخصّ الأجسام ، وقد ثبت انتفاء الجسمية ، وانتفاء الملزوم يستلزم انتفاء لازمه المساوي ، ولأن هذه الأمور تابعة للمزاج المستلزم للتركيب المنافي للوجوب الذاتي ، ولأن البعض منها تغيرات وانفعالات وهي على الباري تعالى محال ، فما ورد في الكتاب والسنة من ذكر الرضى والغضب والفرح ونحوها يجب التنزيه عن ظاهره على وفق ما سيأتي في الأصل الثامن (٣).

__________________

(١) جاء في الهامش : كذا بخط المصنف ، هذا آخر التحرير.

(٢) ركن الإسلام : عبد الواحد بن عبد الكريم بن هوازن القشيري ، أبو سعيد ، شيخ خراسان ، سمع من كثيرين وحدث عنه كثيرون ، توفي سنة ٤٩٤ ه‍. انظر : طبقات الشافعية ، للأسنوي ، ٢ / ١٥٩.

(٣) في ص ٦٣.

٥٤

(الأصل السادس : أنه تعالى ليس عرضا)

واستدل له من وجهين :

الأول : ما تضمنه قوله (لأن العرض) هو (ما يحتاج إلى الجسم) وفي «الاقتصاد» (١) : أو الجوهر (في تقومه ،) أي : في قيام ذاته وتحققها (فيستحيل وجوده قبله) ضرورة استحالة وجود ما يتوقف وجوده على شيء قبل ذلك الشيء (والله تعالى قبل كل شيء ، وموجده) كما ثبت بالأدلة السابقة.

(و) الثاني : ما تضمنه قوله : (لأنه تعالى موصوف بالحياة والعلم والقدرة وغيرها مما سنبينه) كالإرادة والخلق (وليس العرض كذلك ،) إذ لا تعقل هذه الأوصاف إلا لموجود قائم بنفسه.

(وقد تحصّل) من أول الأصول (إلى هنا أن العالم كله جواهر وأعراض) وقوله : «جواهر» يتناول الأجسام ؛ لأنها كلها جواهر مؤلفة (وأنه تعالى موجود قائم بنفسه ليس جوهرا ولا عرضا) بل ذاته مخالفة لسائر الذوات (فلا يشبه شيئا) ولا يشبهه شيء (كما قال تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (سورة الشورى : ١١)) أي : ليس مثله شيء يناسبه ويزاوجه ، أو المراد من «مثله» : ذاته المقدسة ، كما في قولهم : «مثلك لا يفعل كذا» ، على قصد المبالغة في نفيه بطريق الكناية ، فإنه إذا نفي عمن يناسبه ويسد مسده كان نفيه عنه أولى ، وقيل : «مثله» : صفته ، أي ليس كصفته صفة ، و «المخالفة» بينه وبين سائر الذوات لذاته المخصوصة به تعالى لا لأمر زائد ، هذا مذهب الأشعري ومن وافقه ، وأما الأدلة عليه فإلى المطولات.

__________________

(١) ص ٦١.

٥٥

(الأصل السابع : أنه تعالى ليس مختصا بجهة) (١)

أي : ليست ذاته المقدسة في جهة من الجهات الست ولا في مكان من الأمكنة (لأن الجهات) الست (التي هي الفوق والتحت واليمين إلى آخرها) أي : والشمال والأمام والخلف (حادثة بإحداث الإنسان ونحوه مما يمشي على رجلين) كالطير ، (فإن معنى الفوق ما يحاذي رأسه من فوقه) أي : من جهة العلو وهي جهة السماء (والباقي ظاهر) وهو أن جهة السفل ما يحاذي رجله من جهة الأرض ، واليمين ما يحاذي أقوى يديه غالبا ، والشمال مقابلها ، والأمام ما يحاذي جهة الصدر التي يبصر منها ، ويتحرك إليها والوراء مقابلها (و) معنى الفوق (فيما يمشي على أربع أو على بطنه) أي : بالنسبة إليهما (ما يحاذي ظهره من فوقه) فقبل خلق العالم لم يكن فوق ولا تحت ، إذ لم يكن ثمّ حيوان فلم يكن ثم رأس ولا رجل ولا ظهر ، (ثم هي) أي : الجهات (اعتبارية) لا حقيقية لا تتبدل (فإن النملة إذا مشت على سقف كان الفوق بالنسبة إليها جهة الأرض ؛ لأنه المحاذي لظهرها ، ولو كان كل حادث مستديرا كالكرة لم توجد واحدة من هذه الجهات) لأنه لا رأس ولا رجل ولا يمين ولا شمال ولا ظهر ولا وجه (وقد كان تعالى) موجودا (في الأزل ولم يكن شيء من الموجودات) لأن كل شيء (٢) موجود سواه حادث كما مر دليله (فقد كان) تعالى (لا في جهة) لثبوت حدوث الجهة.

فهذا طريق الاستدلال ، وقد نبه على طريق ثان بقوله : (ولأن معنى

__________________

(١) الجهة : هي منتهى الحركة ، وهي والحيّز متلازمان في الوجود ، لأن كلّا منهما مقصد للمتحرك الأيني (أين) ، ولأن كل واحد منهما مقصد الإشارة الحسية ، فما يكون مختصا بجهة يكون مختصا بحيّز ، والجهة قسمان : حقيقة لا تتبدل وهي الفوق والتحت وإنما يتبدلان يتبدل جهة الرأس والرّجل ، وغير حقيقية وهي تتبدل بالعرض.

(٢) ليست في (م).

٥٦

الاختصاص بالجهة اختصاصه بحيّز هو كذا) أي : معين من الأحياز (قد بطل اختصاصه بالحيّز لبطلان الجوهرية والجسمية) في حقه تعالى ، إذ الحيّز (١) مختص بالجوهر والجسم ، وقد مر تنزيهه عنهما سبحانه ، وأما العرض فلا اختصاص له بالحيّز إلا بواسطة كونه حالّا في الجوهر ، فهو تابع لاختصاص الجوهر ، فبطلان الجوهرية والجسميّة كاف في بطلانه ، (فإن أريد بالجهة) معنى (غير هذا مما ليس فيه حلول حيّز ولا جسمية فليبين) أي : فليبينه من أراده (حتى ينظر فيه أيرجع إلى التنزيه) عما لا يليق بجلال الباري سبحانه (فيخطّأ) من أراده (في مجرد التعبير) عنه بالجهة ، لإيهامه ما لا يليق ، ولعدم وروده في اللغة (أو) يرجع (إلى غيره) أي : غير التنزيه (فيبين فساده) لقائله وغيره صونا عن الضلالة ، والله ولي التوفيق.

فإن قيل : فما بال الأيدي ترفع إلى السماء وهي جهة العلو؟ أجيب : بأن السماء قبلة الدعاء تستقبل بالأيدي كما أن البيت قبلة الصلاة تستقبل بالصدر والوجه ، والمعبود بالصلاة والمقصود بالدعاء منزّه عن الحلول بالبيت والسماء ، وقد ذكر حجة الاسلام في «الاقتصاد» (٢) سر الإشارة بالدعاء إلى السماء على وجه فيه طول فليراجعه من أراده.

__________________

(١) الحيز : هو الإطار الذي يشغله الجوهر أو الجسم في الفراغ ، فكل مكان مملوء بحيز من الفراغ ، وقد أنكر الفلاسفة ما قاله المتكلمون ، وقالوا بامتناع الفراغ ، ومثّلوا له : بما لو كانت زجاجة مملوءة بالماء وكان أسفلها ثقب صغير وأمسكنا على فمها لوقف الماء ولم يتحرك ، وإذا فتحنا فم الزجاجة خرج الماء من الثقب ، وما ذاك إلا لأن المحل ممتلئ بالمشاغل ولو كان خاليا لنزل الماء.

(٢) انظر : الاقتصاد في الاعتقاد ، ص ٧٨ ، والسر المشار إليه هو : أن نجاة العبد متوقفة على تواضعه لله في نفسه بعقله وقلبه ، ولما كان من أعظم الأدلة على خسة ابن آدم الموجبة للتواضع لربه أنه مخلوق من تراب ، فكلف أن يضع وجهه على التراب ، ومع التواضع يأتي التعظيم لله باشتراك جوارح العبد ، وتعظيم الجوارح يتحقق بالإشارة إلى جهة العلو ، كما جرى في المجاورات عند الكلام على علو رتبة أمره في السماء السابعة ، وهو إنما ينبه على علو الرتبة.

٥٧

(الأصل الثامن : أنه تعالى استوى على العرش)

وهذا الأصل معقود لبيان أنه تعالى غير مستقر على مكان كما قدمه صريحا في ترجمة أصول الركن الأول ، ونبه عليه هنا بالجواب عن تمسك القائلين بالجهة والمكان ، فإن الكرامية يثبتون جهة العلو من غير استقرار على العرش ، والحشوية (١) وهم المجسّمة يصرحون بالاستقرار على العرش ، وتمسكوا بظواهر منها قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٥) (سورة طه : ٥) وحديث الصحيحين : «ينزل ربّنا كلّ ليلة ...» الحديث (٢).

وأجيب عنه بجواب إجمالي هو كالمقدمة للأجوبة التفصيلية ، وهو أن الشرع إنما ثبت بالعقل ، فإن ثبوته يتوقف على دلالة المعجزة على صدق المبلغ ، وإنما ثبتت (٣) هذه الدلالة بالعقل فلو أتى الشرع بما يكذب العقل وهو شاهده لبطل الشرع والعقل معا.

إذا تقرر هذا فنقول : كل لفظ يرد في الشرع مما يسند إلى الذات المقدسة أو يطلق اسما أو صفة لها وهو مخالف للعقل ويسمى «المتشابه» ، لا يخلو ؛ إما

__________________

(١) الحشوية : هم فرقة من أهل الحديث تمسكوا بظواهر الأحاديث التي تشعر بالتشبيه ، وأبرز من مثّل هذه الفرقة عبد الله بن محمد بن كلاب ، وكان تمسكهم في التشبيه بأحاديث موضوعة ومدسوسة أو ظواهر بعض الآيات ، كحديث : إن الله تعالى لما أراد أن يخلق نفسه خلق الخيل فأجراها حتى عرقت ثم خلق نفسه من ذلك العرق. وكذا حديث : خلق الله الملائكة من شعر ذراعيه وصدره أو من نورهما ، وغيرها من الأحاديث الموضوعة الباطلة ، وتبعهم أقوام في تمسكهم بظواهر الآثار الصحيحة كمشبهة الحنابلة. انظر : اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ، للرازي ص ٩٧ ـ ١٠٠.

(٢) تمام الحديث : «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا ، حين يبقى ثلث الليل الآخر ، فيقول : من يدعوني فأستجيب له ، ومن يسألني فأعطيه ، ومن يستغفرني فأغفر له» رواه البخاري برقم : ١٠٩٤ ، ومسلم برقم : ٧٥٨ وغيرهما ، عن أبي هريرة.

(٣) في (م) : تثبت.

٥٨

أن يتواتر أو ينقل آحادا ، والآحاد إن كان نصا لا يحتمل التأويل قطعنا بافتراء ناقله أو سهوه أو غلطه ، وإن كان ظاهرا فظاهره غير مراد.

وإن كان متواترا فلا يتصور أن يكون نصا لا يحتمل التأويل ، بل لا بدّ وأن يكون ظاهرا ، وحينئذ نقول : الاحتمال الذي ينفيه العقل ليس مرادا منه ، ثم إن بقي بعد انتفائه احتمال واحد تعين أنه المراد بحكم الحال ، وإن بقي احتمالان فصاعدا فلا يخلو ؛ إما أن يدل قاطع على واحد منهما أو لا ، فإن دل حمل عليه ، وإن لم يدل قاطع على التعيين فهل يعيّن بالنظر والاجتهاد دفعا للخبط عن العقائد أو لا خشية الإلحاد في الأسماء والصفات؟

الأول مذهب الخلف ، والثاني مذهب السلف ، وسيأتي أمثلة للتنزيل عليهما.

وأما الأجوبة التفصيلية فقد أجيب عن آية الاستواء بأنا نؤمن بأنه تعالى استوى على العرش (مع الحكم بأنه ليس كاستواء الأجسام على الأجسام من التمكن والمماسة والمحاذاة) لها لقيام البراهين القطعية على استحالة ذلك في حقه تعالى ، (بل) نؤمن بأن الاستواء ثابت له تعالى (بمعنى يليق به ، هو سبحانه أعلم به) كما جرى عليه السلف رضوان الله تعالى عليهم في المتشابه ، من التنزيه عما لا يليق بجلال الله تعالى مع تفويض علم معناه إليه سبحانه.

(وحاصله) أي : حاصل ما سبق (وجوب الايمان بأنه) تعالى (استوى على العرش مع نفي التشبيه ، فأما كون المراد أنه) أي : الاستواء (استيلاؤه على العرش) كما جرى عليه بعض الخلف ، واقتصر عليه حجة الاسلام في هذا الأصل (فأمر جائز الإرادة) يجوز أن يكون مراد الآية ، ولا يتعين كونه المراد ، خلافا لما دل عليه كلام حجة الاسلام من تعينه (١) (إذ لا دليل على إرادته عينا ، فالواجب عينا ما ذكرنا) من الإيمان به مع نفي التشبيه.

(وإذا خيف على العامة) لقصور أفهامهم (عدم فهم الاستواء إذا لم يكن بمعنى الاستيلاء إلا باتصال ونحوه من لوازم الجسمية) كالمحاذاة (وأن لا ينفوه) أي : لا ينفوا ما ذكر من لوازم الجسمية (فلا بأس بصرف فهمهم إلى الاستيلاء)

__________________

(١) انظر : الرسالة القدسية ضمن إحياء علوم الدين ، ١ / ١٥٩.

٥٩

صيانة لهم عن المحذور ، بأن يذكر لهم أن الاستواء بمعنى الاستيلاء (فإنه قد ثبت إطلاقه وإرادته لغة في قوله) أي : الشاعر :

(قد استوى بشر على العراق)

من غيرِ سيفٍ ودمٍ مهراقِ

(وقوله :

(فلما علونا واستَوَينَا عليهمُ

جعلناهُم مرعى لنسرٍ وطائر)

(و) جار (١) (على نحو ما ذكرناه) في الاستواء على العرش (كل ما ورد) أي : كل لفظ ورد في الكتاب والسنة (مما ظاهره الجسمية في الشاهد) أي : الحاضر الذي ندركه ، ((٢) يجب الايمان به (٢)) (كالأصبع والقدم واليد ((٣) يجب الايمان به (٣))) في نحو قوله تعالى : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (سورة الفتح : ١٠) (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) (سورة ص : ٧٥) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» (٤) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ قلوب بني آدم كلّها بين إصبعين من أصابع الرحمن ، يقلّبها كقلب واحد ، يصرّفه كيف شاء» (٥) ، رواهما مسلم ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الصحيح الطويل : «يقال لجهنّم : هل امتلأت؟ فتقول : هل من مزيد؟ ، حتّى يضع ربّ العزّة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول : قط قط بعزّتك» (٦).

ومثل هذه الألفاظ «العين» في قوله تعالى : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) (سورة طه : ٣٩) ، وقوله تعالى : (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) (سورة الطور : ٤٨) ، وقوله تعالى : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) (سورة القمر : ١٤).

فالجار والمجرور وهو قوله : «على نحو» خبر مقدم متعلق بمحذوف تقديره : جار كما ذكرنا.

__________________

(١) ليست في (م).

(٢) سقط من (م).

(٣) سقط من (م).

(٤) رواه مسلم برقم : (٢٧٦٠) عن أبي موسى الأشعري.

(٥) رواه مسلم برقم (٢٦٥٤) عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وليس فيه لفظ «كلها» ولفظ «يقلبها».

(٦) تتمته : «... بعزّتك وكرمك ، ولا يزال في الجنة فضل ، حتى ينشئ الله لها خلقا فيسكنهم فضل الجنة» رواه البخاري في تفسير سورة ق برقم : (٤٥٦٨ ـ ٤٥٦٩) ، ومسلم برقم : (٢٨٤٨) ، والترمذي برقم : (٣٢٦٨).

٦٠