المسامرة

كمال الدين محمد بن محمد الشافعي [ ابن أبي شريف المقدسي ]

المسامرة

المؤلف:

كمال الدين محمد بن محمد الشافعي [ ابن أبي شريف المقدسي ]


المحقق: كمال الدين القاري و عزّ الدين معميش
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-34-292-X
الصفحات: ٣٦٠

خاصة ، فلذلك كان أولى من تقدير : أبتدئ.

و «الله» : علم للذات الواجب الوجود المستوجب لصفات الكمال (١).

ومحلّ الكلام على كلمة الجلالة باعتبار الارتجال والاشتقاق ، ومم هو ، وعلى اشتقاق الاسم ومباحثه شروح الأسماء (٢) الحسنى ومطولات كتب التفسير والكلام.

و «الرّحمن الرّحيم» : اسمان عربيان بنيا للمبالغة من الرحمة ، وأصل معنى الرحمة رقة في القلب وانعطاف يقتضي التفضل والإحسان على من رقّ له ، وهذا في حق الله تعالى محال.

ورحمته للعباد إما إرادة الإنعام عليهم ودفع الضر عنهم ، فيكون من الصفات المعنوية ، وإما نفس الإنعام والدفع فيكون من صفات الأفعال.

و «حمد الله تعالى» : هو الثناء عليه بصفاته وأفعاله.

وأما تعريف مطلق الحمد بأنه : الوصف بالجميل الاختياري ، أو بأنه الثناء باللسان على الجميل الاختياري فإنه لا يتناول الثناء على الله تعالى بصفات ذاته ، لتعاليه عن وصفها بالصدور عن اختيار ، فإنه معنى الحدوث.

وما ذكر في الجواب عن ذلك في بعض حواشي «الكشاف» تعسف ظاهر (٣).

واللام في «الحمد» يصح كونها للجنس وعليه صاحب «الكشاف» ، وكونها للاستغراق ، وإليه ذهب الجمهور.

واللام في «الله» يصح كونها للاختصاص وكونها للاستحقاق ، فالتقادير أربعة ؛ وعلى كل منها فالعبارة دالة على اختصاصه تعالى بجميع المحامد ، أما على الاستغراق فبالمطابقة ، وهو ظاهر ، إذ المعنى : كل حمد مختص به تعالى أو مستحق له ، وأما على الجنس فبالالتزام ؛ لأن المعنى : إن جنس المحامد مختص به تعالى أو مستحق له ، ويلزمه أن لا يثبت فرد منها لغيره ، إذ لو ثبت فرد منها

__________________

(١) وصفات الكمال تتمثل أساسا في الجمع بين التنزيه ونفي التعطيل. التنزيه من مشابهة المخلوقات التي تتميز بالنقص والدون ، ونفي تعطيل الصفات الوارد إثباتها في القرآن والسنة على خلاف المعتزلة والجهمية.

(٢) في (م) : أسماء الله.

(٣) انظر : حاشية الجرجانى على الكشاف ، ١ / ٤٦ ، حيث ذكر الجرجاني أن الحمد إذا خص بالأفعال الاختيارية يلزم ألّا يحمد الله تعالى على صفاته الذاتية ، كالعلم والقدرة ، سواء جعلت عين ذاته أو زائدة عليها ، بل على إنعاماته الصادرة عنه باختياره.

٢١

لغيره لكان الجنسي ثابتا له في ضمنه ، فلم يكن الجنس مختصا ولا مستحقا ، وذلك مناف لمدلول «الحمد لله».

ثم جملة «الحمد لله» إخبارية لفظا ومعنى ، وكونها إنشائية بمعنى أن قائل : «الحمد لله» منشئ للثناء على الله سبحانه بمعناها ، وهو أن كل حمد مختص به أو مستحق له تعالى معنى لغوي لا ينافي كونها إخبارية اصطلاحا ، إذ ليس هو معنى الإنشاء المقابل للخبر اصطلاحا.

وقد راعى المصنف رحمه‌الله براعة الاستهلال بالإشارة إلى معظم العقائد من الذات الواجب الوجود بقوله : «لله» ، وإلى صفات الألوهية والمعاد والنبوات بقوله : (بارئ الأمم .. إلخ (١)).

و «البارئ» : المنشئ ، وقيل : الخالق خلقا بريئا من التفاوت والتنافر ، أي منشئ أنواع الحيوان أو خالقها قال تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) (سورة الأنعام ، ٣٨) ، أو منشئ نوع الإنسان أمة بعد أمة ، أو خالقهم كذلك خلقا بريئا مما ذكر.

و «الأمة» : تطلق لمعان ، واللائق منها (٢) هنا الجماعة ، وقد تخصّ (٣) بالجماعة الذين بعث إليهم نبي ، وهم باعتبار البعثة إليهم ودعائهم إلى الله يسمون «أمة الدعوة» ، فإن آمنوا كلهم أو جماعة منهم سمي المؤمنون : «أمة القبول» (٤) (ومولي النعم) أي : مانح الأمور المنعم بها عموما ؛ من الإيجاد والإمداد بالبقاء ومن السمع والبصر وسائر القوى الظاهرة والباطنة وكفاية المهمات ودفع الملمات وخصوصا من سعة الرزق ونفاذ الأمر والنهي والرفعة وغيرها (الذي لا رادّ لما حكم) أي : لحكمه أو لما قضى بوقوعه أو بعدم وقوعه (ولا مانع لما أعطى وقسم) لأن كل شيء في قبضته ، ومصرّف على حسب مشيئته ، إذ هو المالك لكل شيء سبحانه (المتفرّد في وجوده بالقدم) وسيأتي بيان معناه (٥).

__________________

(١) في (م) : إلى آخره. وهكذا نجده في سائر هذه النسخة ، فلا نشير إليه لذلك.

(٢) في (ط) : بها.

(٣) في (ط) : يختص.

(٤) في (م) : أمة الملة وأمة الإجابة.

(٥) في ص ٤٧.

٢٢

واعلم أنه قد كثر استعمال المصنفين في خطبهم لفظ «المتفرد» بصيغة التفعل وكذا «المتوحد» و «المتقدس» ونحوهما ، مع أن الأسماء توقيفية على المرجّح ، وهو قول الأشعري ، ولم يرد بذلك سمع ، وإن ورد أصلها ك «الواحد» و «الأحد» ، أو ما بنحو معناه ك «القدوس» بالنسبة إلى «المتقدس».

وحينئذ فإطلاقها إما على قول القاضي أبي بكر الباقلاني وهو أنه يجوز إطلاق اللفظ عليه تعالى إذا صحّ اتّصافه به ولم يوهم نقصا وإن لم يرد به سمع. أو على مختار حجة الإسلام والإمام الرازي من جواز الإطلاق دون توقيف في الوصف ، حيث لم يوهم نقصا دون الاسم ؛ لأن وضع الاسم له تعالى نوع تصرف ، بخلاف وصفه تعالى بما معناه ثابت له. وقد بسطت الكلام على معنى هذه الصيغة في حقه تعالى بما يتعين مراجعته من «حاشية شرح العقائد» (١).

وفي قوله : (الحاكم على من سواه بالفناء والعدم) تنبيه على أنه مع تفرده بالقدم متفرد بالبقاء أيضا.

وفي قوله : (ثمّ يعيدهم) أي : بعد إفنائهم (لفصل القضاء بينهم ، فيأخذ للمظلوم ممّن ظلم) أي : ممّن ظلمه ، تنبيه على أن من الحكمة في الإعادة فصل القضاء بين المظلوم وظالمه ، وقد ورد في الحديث إعادة البهائم لهذا التناصف.

وفي قوله : (ويجزي كلّ نفس بما عملت حسب ما علم تعالى وجرى به القلم) من عملها وجزائه (ويتدارك بعفوه من شاء ، ومن شاء منه انتقم) جرى على مذهب أهل السنة والجماعة من أن كلا من العمل وجزائه راجع إلى المشيئة الإلهية ، فلو شاء تعالى لما أثاب الطائع ولا أوجد منه طاعة ، وأن العاصي في المشيئة إن شاء عفا عنه وإن شاء عذّبه ، خلافا لأهل الاعتزال فيهما ، وسيأتي ذلك في محلّه (٢) ، (له الأمر كلّه ، لا يسأل عمّا فعل واحتكم) أي : حكم به أو أودعه من الحكم في خلق مخلوقاته وإبداع مصنوعاته ، أو عمّا أحكمه من ذلك ، وفيه إشارة إلى أنه تعالى لا يجب عليه شيء ، نفيا لمذهب الاعتزال (٣).

__________________

(١) انظر : «الحواشي البهية على شرح العقائد النسفية ١١ ؛ ١ / ٥ و ٢ / ٤٢.

(٢) في ص : ٦٣.

(٣) وجوب رعاية الأصلح والصلاح عند المعتزلة يتضمن وجوب الثواب للمطيعين والعقاب للمذنبين ، وابتداء الخلق والتكليف بالرعاية ، لنفي العبث في صنعته وإبداعه وخلقه ، وخرجوا من هذا المبدأ بنتائج تخالف المعقول والمنقول ، كالقول بأن خلود الكفار في النار هو الأصلح لهم والأنفع.

٢٣

(والصلاة) وهي من الله تعالى الرحمة ، خصّ الأنبياء من بين سائر البشر بالإفراد بالدعاء بالرحمة بلفظ «الصلاة» تعظيما لهم (والسّلام) وهو تحية معناها الدعاء بالسلامة (على عبده ورسوله سيّد العرب والعجم ، المبعوث إلى الجنّ والإنس) ولم يصرح باسمه الشريف تنبيها على الاستغناء بهذا الوصف عن التصريح بالاسم ، لبلوغ شهرة انفراده بهذا الوصف حدّا يغني بلوغه عن التصريح بالاسم ، إذ لا مرية في أنه المخصوص بسيادة ولد آدم ، ولا في أنه المخصوص بالبعثة إلى الإنس والجنّ كافّة (١) (بالشّرع القويم المشتمل على المصالح والحكم) العائد نفعها إلى العباد المترتب ذلك لهم على شرعيتها ترتب ثمرة وفائدة على مثمر ومفيد كما هو مذهب أهل السنة ، لا أنها باعثة على شرعيتها كما يميل إليه كلام بعضهم ، الموافق لقول المعتزلة بأن أفعاله تعالى تعلل بالأغراض ، إذ الغرض ما لأجله إقدام الفاعل على فعله ، وهو متعال عن أن يبعثه شيء على شيء.

(صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه معادن الفخار) ـ بفتح الفاء ـ أي : الصفات التي يفتخر بها (والكرم) أي : الجود ، وهو : إفادة ما ينبغي لا لعوض.

كرر الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن الصلاة الأولى واقعة قبل ذكره بوصفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما مرّ آنفا والثانية واقعة بعد ذكره بوصفه المشار إليه امتثالا لأمره المؤكد بالصلاة عند ذكره ، كما رواه الترمذي وغيره (٢).

و «الآل» : إما أصله : الأهل ، كما اقتصر عليه في «الكشاف» (٣) ، أو هو : من آل إلى كذا يؤول : إذا رجع إليه بقرابة أو رأي أو غيرهما ، كما ذهب إليه الكسائي

__________________

(١) قال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) وقال : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ).

وعن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا سيد ولد آدم ، أول من تنشق عنه الأرض ، وأول مشفع» أخرجه مسلم ، رقم ٢٢٧٨ ، باب : تفضيل نبينا على جميع الخلائق ، وأبو داود في كتاب السنة ، باب في التخيير بين الأنبياء ، رقم ٤٦٧٣ ،

(٢) في الحديث الذي يرويه علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «البخيل الذي ذكرت عنده ولم يصلّ عليّ». رواه الترمذي برقم : (٣٥٤٠). وأحمد ١ / ٢٠١. وفي الحديث الآخر عند الترمذي برقم : (٣٥٣٩) قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ». اللهم صلّ عليه وسلّم وبارك.

(٣) انظر : الكشاف ، ١ / ٢٦٧ ، وقد شرط صاحب الكشاف أن يكون مع لفظ للأشراف والملوك ، كما لا يقال مثلا : آل الكوفة أو آل البصرة ، إنما يقال آل الرجل ، وقد قال بذلك أيضا ابن جرير (انظر : جامع البيان ، ٢ / ٣٧).

٢٤

ورجّحه بعض المتأخرين (١).

وقد خصّ الشرع عند الشافعي رحمه‌الله بلفظ «الآل» مؤمني بني هاشم والمطلب ابني عبد مناف من بين سائر أهله ، أو من بين سائر من يرجع إليه بقرابة ، للدليل المبين في الفقهيات في قسم الفيء والغنيمة (٢).

وقيل : «آله» : أهله الأدنون وعشيرته الأقربون ، وهو بهذا التفسير قد يتناول بني عبد شمس وبني نوفل ابني عبد مناف ؛ لأنهم في رتبة بني المطلب في القرب منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

و «صحبه» : اسم جمع لصاحب بمعنى الصحابي ، وهو : من لقي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مؤمنا ومات على الإسلام وإن تخللت ردة.

وقوله : (ما أضاء نجم وأفل) أي : غاب (وهطل غيث) أي : تتابع نزوله (وانسجم) أي : سال مقصوده به تأبيد الصلاة بمدة بقاء الدنيا ، فإن زواله كل الإضاءة والأفول ونزول الغيث وسيلانه بزوال الدنيا وانقضاء مدتها ، ويحتمل أن يراد هذا التأبيد بقوله : «ما أضاء نجم وأفل» ، ويراد بقوله : «وهطل غيث وانسجم» تكرار الصلاة بتكرر ذلك.

وعقّب الصلاة بالسلام فقال : (وسلّم تسليما) امتثالا لقوله تعالى : (صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (سورة الأحزاب : ٥٦).

(وبعد :)

(فإنّ) هذه الفاء إما على توهم «أما» ، وإما على تقديرها (٣) محذوفة من الكلام والواو عوض عنها. وهذا شروع في بيان سبب تأليف الكتاب وهو أن (بعض الفقراء من الإخوان) في الله تعالى (كان قد شرع في قراءة «الرسالة القدسيّة» للإمام الحجّة) أي : حجة الإسلام (أبي حامد) محمّد بن محمد بن محمد بن أحمد (الغزّالي) الطوسي (تغمّده الله) تعالى (برحمته ، وأسكنه دار كرامته) وهي الرسالة (٤) التي كتبها لأهل القدس مفردة ، ثم أودعها كتاب «قواعد العقائد» وهو الثاني من كتب «الإحياء» الأربعين (فلمّا توسّطها) القارئ المشار إليه (أحبّ أن

__________________

(١) انظر : الجامع لأحكام القرآن ، للقرطبي ، ١ / ٣٥٩ ـ ٣٦٠.

(٢) انظر : الأم ، ٤ / ١٥٤.

(٣) في (ط) : تفسيرها.

(٤) انظر : إحياء علوم الدين ، ١ / ١٥٤.

٢٥

اختصرها ، وأحببت) أنا أيضا (ذلك ، فشرعت على هذا القصد) يعني قصد الاختصار (فلم أستمر عليه إلا نحو ورقتين) من الأصل أو مما كتبته (وتعرّض للخاطر استحسان زيادات) على ما في الرسالة المشار إليها (أراني الذي يريني) أي : يخلق له الرؤية القلبية التي هي الرأي (أنّ ذكرها) أي : تلك الزيادات (مهمّ) لقاصد تحرير العقائد (وأنه تتميم لطالب الغرض.) كذا في النسخ ، ولعله «لغرض الطالب» ، وحصل فيه تقديم وتأخير ، أي : طالب تحرير العقائد أو طالب اختصار الرسالة.

(فلم يزل) هذا الاستحسان أو المستحسن (يزداد حتّى خرج) التأليف (عن القصد الأول) وهو قصد الاختصار المجرّد (فلم يبق إلا كتابا مستقلا) لكثرة زياداته ، (غير أنه يسايره) أي : يساير كتاب الإمام الغزالي المسمى «بالرسالة القدسية» (في تراجمه) لحسن ترتيبها وبديع أسلوبها (وزدت عليها) أي : على التراجم المشار إليها (خاتمة) بعدها (ومقدمة) في صدر الركن الأول ، (وربما أوردت حاصل تراجم عديدة في ترجمة واحدة) كما صنع في تراجم الركن الثاني اختصارا وتقريبا (وبالغت في توضيحه وتسهيله إذ لم أضعه إلا ليسهل) أي : ليكون سهلا (على الأوساط والمبتدءين) ليعمّ نفعه.

(وها هو ذا ، والله سبحانه) لا سواه (أسأل أن ينفعني به) في الآخرة (و) ينفع به (من قرأه في الآخرة) فإن النفع فيها هو المطلب الأعلى والمقصد الأهم (إنه تعالى المولى لكل جميل) المنعم به ، (وهو حسبي) أي : محسبيّ وكافيّ (و) هو (نعم الوكيل) سبحانه.

(وسمّيته : «كتاب المسايرة ، في العقائد المنجية في الآخرة») لأنه ساير تراجم كتاب (١) الإمام الغزالي بمعنى أنه ترجم بها ، وإن خالف ترتيبه في بعضها.

والمسايرة في الأصل : مفاعلة من السير ، وهو أن يسير الراكبان متحاذيين ، أطلق هنا مجازا على محاذاة كتابه لكتاب الإمام الغزالي في تراجمه.

(وينحصر) كتاب المسايرة (بعد المقدمة) أي : ينحصر ما عدا المقدمة منه (في أربعة أركان) معقودة للكلام في معرفة الذات والصفات والأفعال وصدق الرسول (وخاتمة) معقودة للكلام (في الإيمان والإسلام وما يتصل بهما) ووضعها

__________________

(١) ليست في (ط).

٢٦

عقب الأركان الأربعة مأخوذ من الغزالي أيضا ، فإنه عقد في كتاب «الإحياء» فصلا للكلام في الإيمان والإسلام وما يتعلق بهما عقب تمام «الرسالة القدسية».

(الركن الأول) معقود للكلام (في ذات الله تعالى) ، الركن (الثاني) معقود للكلام (في صفاته) ، الركن (الثالث) معقود للكلام (في أفعاله) تعالى ، الركن (الرابع) معقود للكلام (في صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم).

(وينحصر كل ركن منها في عشرة أصول):

الركن (الأول : في معرفة الله تعالى ، وينحصر في عشرة أصول ، وهي : العلم بوجود الله تعالى ، وقدمه ، وبقائه ، وأنه ليس بجوهر ، ولا جسم ، ولا عرض ، ولا مختص بجهة ، ولا مستقر على مكان ، وأنه يرى ، وأنه واحد).

٢٧
٢٨

(المقدمة :)

في (١)

(تعريف الفن)

__________________

(١) ليست في (ط).

٢٩
٣٠

تعريف علم العقائد

أي : فن علم العقائد المعروف بعلم الكلام وبيان موضوعه.

ولمّا كانت مقدمة للكلام التفصيلي في الفن أخّرها إلى هذا المحل ليعقبها الشروع في الكلام التفصيلي ، فهو محلها وما قبلها إنما هو كلام في ترتيب الكتاب.

(والكلام) أي : الفن المسمى بالكلام هو : (معرفة النفس ما عليها من العقائد المنسوبة إلى دين الإسلام ، عن الأدلة علما) أي : من جهة كون تلك المعرفة علما في أكثر العقائد (وظنّاغعصثقلقث في البعض) منها.

والمراد ب «النفس» هنا الإنسان كما في قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (سورة البقرة : ٢٨٦) وقوله (١) : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) (سورة الزمر : ٦).

و «العلم» : حكم الذهن الجازم المطابق لموجب من حسّ أو عقل أو عادة ، و «الظن» : حكم الذهن الراجح.

وهذا التعريف مأخوذ من قول أبي حنيفة رضى الله عنه : «الفقه معرفة النفس ما لها وما عليها» ، غير أن أبا حنيفة رضى الله عنه عرّف الفقه الشامل للفقه المتعارف ، وهو : علم الأحكام الشرعية الفرعية ، وللفقه الأكبر وهو : العلم بالأحكام الشرعية الأصلية ، أي : الاعتقادية.

والمصنف قصد تعريف الثاني فقط ، فأسقط قوله : «ما لها» ، لأن القصد به إدخال معرفة إباحة المباحات ؛ لأنها للنفس لا عليها ، وهي ليست من مقصود المصنف.

__________________

(١) ليست في (م).

٣١

لكن قوله : «ما عليها» يشمل معرفة وجوب الواجبات الفرعية وتحريم المحرمات الفرعية ، فأخرجها بقوله : «من العقائد المنسوبة إلى دين الإسلام». والإضافة فيه بيانية ، وسيأتي بيان معنى الإسلام في الخاتمة (١).

ثم إن كان المراد ب «ما عليها» : ما طلب طلبا جازما ، أي : ما هو واجب أو محرم عليها ، فيخرج به معرفة ندب المندوبات ، وكراهة المكروهات ، وإن كان المراد به : ما طلب منها فعلا أو تركا طلبا جازما أو غير جازم ، فيخرج معرفة الندب والكراهة أيضا بقوله : «من العقائد».

و «الأدلة» : جمع دليل ، وهو : ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري.

واعتبار «الإمكان» ليتناول التعريف ما قبل النظر ، إذ الدليل دليل قبل أن ينظر فيه. و «الصحيح» وهو النظر من جهة الدلالة ، احتراز عن الفاسد إذ لا عبرة به ، وإن اتفق أن يفضي إلى مطلوب. والتقييد ب «الخبري» احتراز عن «المعرّف» ؛ لأنه إنما يفيد مطلوبا تصوريا (٢).

وقوله : «عن الأدلة» متعلق بقوله : «معرفة» أي : معرفة ما ذكر ، الناشئة عن الأدلة ، وهو صريح في أن التقليد غير كاف في العقائد.

واعلم أن انتقال النفس في المعاني انتقالا بالقصد ، ويسمى الفكر ، قد يكون لطلب علم أو ظن فيسمى نظرا ، وقد لا يكون لذلك ومنه أكثر حديث النفس.

فمعرفة مسائل الاعتقاد كحدوث العالم ووجود الباري وما يجب له وما يمتنع عليه عن أدلتها فرض عين على كل مكلف ، فيجب النظر ، ولا يجوز التقليد ، وهذا هو الذي رجحه الإمام الرازي والآمدي (٣).

والمراد النظر بدليل إجمالي ، أما النظر بدليل تفصيلي يتمكن معه من إزاحة الشبه وإلزام المنكرين ، وإرشاد المسترشدين ، ففرض كفاية في حق المتأهلين له ،

__________________

(١) في ص : ٣٥١.

(٢) المعرّف : هو الطريق الكلامي الموصل إلى تصور شيء عن شيء أو معنى من معاني يسمى أيضا بالقول الشارح ، فمطلوبه يكون حصول صورته في الذهن ولذا سمي مطلوبا تصوريا ، وينقسم المعرف إلى الحد والرسم.

(٣) انظر : محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين للرازي ، ص ٦١ ـ ٦٢. وغاية المرام ، للآمدي ، ص ٣٢٣.

٣٢

وأما غيرهم ممن يخشى عليه من الخوض فيه الوقوع في الشبه والضلال فليس له الخوض فيه ، وهذا محمل نهي الشافعي وغيره من السلف عن الاشتغال بعلم الكلام.

(وتعيين محالّ وجوب العلم : كمعرفته تعالى و) معرفة (صفاته الذاتية ، و) محالّ وجوب (الظنّ : كبعض شروط النبوّة ، وكيفية إعادة المعدوم ، والسؤال في القبر) أو كيفيته ، إنما يستفاد (من خارج) لا من التعريف.

فقوله : «وتعيين» مبتدأ خبره قوله : «من خارج». وقوله (١) : «والظن» عطف على «العلم». وما عدا ذلك أحوال أو نعوت.

وقوله : «كبعض شروط النبوة» يشير به إلى الذكورة (٢) ، فقد اختلف في اشتراطها ، فاشترطها الجمهور وذهب البعض إلى أنها غير شرط كما سنذكره في محله (٣) إن شاء الله تعالى ، والأدلة من الجانبين ظنية.

وأما «كيفية إعادة المعدوم» فستعرف في محلها أنها ظنية (٤).

وهاهنا بحث وهو أن يقال لك أن يمتنع وجوب اعتقاد اشتراط الذكورة في النبي ، وتفصيل كيفية الإعادة ، حتى لو لقي العبد ربّه سبحانه وتعالى خاليا عن اعتقاد يتعلق بهما وبما أشبههما لم يتوجّه عليه عقاب ؛ لأن الواجب في الإيمان بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام هو أن من ثبت شرعا تعيينه وجب الإيمان بأنه بعينه نبي ، ومن لم يثبت تعيينه وجب الإيمان به إجمالا ، والواجب في الإيمان بالإعادة هو اعتقاد أن الله تعالى يحيي الموتى ويبعثهم للجزاء ، وإن لم يتعلق لنا اعتقاد بتفصيل كيفية إعادتهم.

فهاتان المسألتان وما أشبههما ليس مما يجب على النفس معرفته ، فلا يتجه إدخاله في التعريف بقوله : «وظنا في البعض».

وقد نبّه حجة الإسلام في كتابه «الاقتصاد» (٥) على عدم وجوب الاعتقاد في أشباه هاتين من المسائل ، وبالله التوفيق.

__________________

(١) ليست في (م).

(٢) الراجح أن الإشارة هنا ليست إلى الذكورة ، لكونها لا تدخل في مجال وجوب العلم ، وقصد المصنف يتجه إلى عدم الاتصاف بالكذب مع الإعجاز. (انظر : النبوات للرازي ، ص ١٠٥).

(٣) في ص : ٢٢٦.

(٤) في ص : ٢٥٣.

(٥) انظر : الاقتصاد في الاعتقاد ، ص ٣٨ ـ ٤٤.

٣٣

وأما «السؤال ...» فليس من الظنيات ؛ لأن أدلته متواترة معنى ، والتواتر المعنوي مفيد للقطع.

وبتقدير إرادة «الكيفية» فالقدر المشترك بين الكيفيات متواتر معنى ، وهو أن المسئول عنه الرب سبحانه والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وحينئذ فاللائق ما في «المقاصد» من تعريف علم الكلام بأنه : العلم بالعقائد الدينية عن الأدلة اليقينية (١).

وقوله : (والحاصل منها) إشارة إلى إيراد على التعريف وجواب عنه ، أما الإيراد فهو أنه يرد على عكس التعريف ما حصل من العقائد (معادا) أي : مرة ثانية (من إعادة النظر) في الدليل ، فإنه معدود من علم الكلام مع أنه ليس معرفة ، إنما هو تذكرة لما سبقت معرفته حاصل عن الالتفات إلى الدليل الذي سبق النظر فيه وحصلت المعرفة عنه من قبل ، فالتعريف غير جامع.

وأما الجواب فهو : منع أن الحاصل ثانيا من إعادة النظر معدود من علم الكلام مطلقا ، إنما يعدّ منه باعتبار حصوله أولا إذ هو معرفة ، وأما باعتبار حصوله الثاني فليس منه ، إذ ليس معرفة فهو ليس معرفة فهو (خارج) عن التعريف (من حيث هو كذلك) أي : من حيث إنه معاد (داخل من حيث حصوله الأوّلي) من النظر في الدليل أوّلا (وهي) أي : هذه الحيثية (حيثية ثانية (٢) له) وإن اتصف بكونه معادا ، ولا يخفى بعد معرفة ما قررناه أن الذي يعترض به على التعريف هو المعاد لإعادة النظر دون نسيان.

أما إن كانت إعادة النظر بعد نسيان لما حصل بالنظر الأول ولذلك النظر بحيث احتيج إلى الاكتساب باستئناف نظر جديد ، فالحاصل عن هذا النظر الثاني معرفة ، وهو من علم الكلام من هذه الحيثية أيضا ، ولا اعتراض به على التعريف.

وقد أورد على التعريف أيضا : أنه لا يتناول مباحث الإمامة مع أنها من علم الكلام لذكرها في كتبه.

وأجيب : بمنع كون مباحث الإمامة من علم الكلام ، وقد أشار المصنف إلى

__________________

(١) انظر : شرح المقاصد ، ١ / ١٦٣.

(٢) في (ط) : ثابتة.

٣٤

هذا الإيراد وجوابه بقوله : (ومباحث الإمامة ليست منه بل) هي (من المتمّمات) (١).

وبيان ذلك : أن مباحث الإمامة من الفقه بالمعنى المتعارف ؛ لأن القيام بها من فروض الكفايات ، وذلك من الأحكام العملية دون الاعتقادية ، ومحل بيانها كتب الفروع وهي مسطورة فيها.

وإنما كانت متممة في علم الكلام لأنه لمّا شاعت في الإمامة من أهل البدع اعتقادات فاسدة ، مخلة بكثير من القواعد الإسلامية ، مشتملة على قدح في الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم ، أدرجت في علم الكلام لشدة الاعتناء بالمناضلة عن الحق فيها ، تتميما لفائدة علم الكلام.

على أن بعضهم أدخلها في تعريف الكلام فقال : «هو البحث عن أحوال الصانع تعالى والنبوة والإمامة والمعاد ، وما يتصل بذلك» (٢) ، ووجه إدخالها : أن من مباحثها ما هو اعتقادي لا عملي ؛ كاعتقاد أن الإمام الحق بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي ، واعتقاد أنهم في الفضل كذلك ، والخلاف في ذلك ـ كما سنبينه في محله إن شاء الله تعالى ـ.

وفي الإتيان ب «من» في قوله : «من المتممات» تنبيه على أن في علم الكلام من المتممات غيرها كالكلام في التوبة ؛ لأنه من مباحث الفروع أيضا.

(وموضوعه) أي : موضوع علم الكلام الذي يبحث فيه عن أحواله الذاتية ، ومنه تؤخذ جهة وحدته التي باعتبارها يعد علما واحدا ويمتاز عن سائر العلوم هو : (المعلومات التي يحمل عليها ما) أي : شيء (تصير معه عقيدة دينية ، أو مبدأ لذلك) فإنه يبحث فيه عما يجب للباري تعالى ؛ كالقدم ، والوحدة ، والعلم ، والقدرة ، والإرادة ونحوها ، وعما يمتنع عليه ؛ كالحدوث ، والتعدد ، والجسمية ونحوها ، وعن أحوال الجسم والعرض ؛ من الحدوث ، والافتقار ، والتركب من الأجزاء ، وقبول الفناء ونحوها ، وكل ذلك بحث عن أحوال المعلوم ، فإذا قيل : «الباري تعالى قديم» أو : «الباري تعالى واحد» أو : «عليم» أو نحوها ، أو :

__________________

(١) اعتبار الإمامة من المتممات درج عليه المتكلمون منذ بداية القرن الثاني كرد فعل تجاه القائلين ببطلان إمامة الصديق وعمر وعثمان ، فأدرجت ضمن ما يجب اعتقاده ثم تطور الأمر إلى أن أصبحت من متممات علم الكلام.

(٢) انظر نسبة التعريف في شرح المقاصد ، ١ / ١٨٠ ، وقد نسبه التفتازاني إلى الأرموي والسمرقندي.

٣٥

«الجسم حادث» أو : «إعادته بعد فنائه حق» فقد حمل على المعلوم ما صار معه عقيدة دينية.

وإذا قيل : «الجسم مركب من الجواهر الفردة» مثلا .. فقد حمل على المعلوم ما صار معه مبدأ لعقيدة دينية ، فإن تركّب الجسم دليل على افتقاره إلى الموجد له.

وإنما عدل المصنف عن قول «المواقف» و «المقاصد» (١) أن موضوعه : «المعلوم من حيث يتعلق به إثبات العقائد الدينية» ؛ لأنه يتناول محمولات مسائله فإنها معلومات ؛ وحيثية تعلق إثبات العقائد الدينية معتبرة فيها.

واعلم أن اللائق تسمية ما يجب للباري تعالى وما يمتنع في حقه صفات لا أحوالا ؛ لإشعار الحال بالتحول والانتقال وهو على الباري تعالى محال ، ولكنهم توسّعوا بإطلاق الأحوال على ما يعمها في بيان موضوع علم الكلام بعد إطلاقهم ذلك في تعريف الموضوع الشامل لموضوعات العلوم كلها ، فقالوا : «موضوع كل علم ما يبحث في ذلك العلم عن أحواله الذاتية» أي التي تلحقه لذاته أو لجزئه أو لخارج عنه مساو له.

وبينوا أن من موضوع علم الكلام «المحدثات» إذ يبحث فيه عن أحوالها من حيث تعلقها بالعقائد الدينية ـ على ما مر ـ.

وأما مسائله فهي : القضايا النظرية الشرعية (٢) الاعتقادية.

وأما غايته فهي : أن يصير الايمان والتصديق بالأحكام الشرعية محكما.

__________________

(١) انظر : المواقف ، ص ٧ ، وشرح المقاصد ، ١ / ١٦٧ ، مع وجود (العلوم) مكان (المعلوم) في المقاصد في بعض النسخ.

(٢) قيدها بالشرعية ؛ للاحتراز من التسيب والاندفاع مع نظر العقول بدون ضوابط ، فلا بد أن تؤخذ الاستدلالات النظرية من الشرع ، كما قال ابن خلدون : وفق قانون الشرع حتى يعتد بها ، وإلا تحول العلم إلى جدل وسفسطة فيما لا يطيقه العقل.

٣٦

((١) الركن الأول

في معرفة الله تعالى (١))

__________________

(١) سقط من (م).

٣٧
٣٨

(الأصل الأول : العلم بوجوده) تعالى

وأولى ما يستضاء به من الأنوار ، ويسلك من طرق الاعتبار ، ما اشتمل عليه القرآن ، فليس بعد بيان الله بيان (وقد أرشد سبحانه إليه) أي : إلى وجوده تعالى (بآيات نحو) (١) :.

قوله تعالى : ((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ...) (سورة البقرة : ١٦٤) (الآية).

(و) نحو (قوله) تعالى : ((أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩)) (سورة الواقعة : ٥٨ ـ ٥٩)).

(و) قوله تعالى : ((أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً) (سورة الواقعة : ٦٣ ـ ٦٥) أي : متحطما ، وهو المتكسر ليبسه.

(و) قوله تعالى : ((أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ)) أي : السحاب (أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً) (سورة الواقعة : ٦٨ ـ ٧٠) أي : شديد الملوحة ، لا يمكن ذوقه.

(و) قوله تعالى : ((أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢)) (سورة الواقعة : ٧١ ـ ٧٢)).

__________________

(١) وقد انتظمت بحسب الاستقراء والتتبع في دلائل كلية ، هي : دليل العناية ، دليل الخبر الصادق ، دليل وحدة الصنع والبناء ، دليل العقل ، دليل الفطرة والوجدان ، دليل الكون.

٣٩

(فمن أدار نظره في عجائب تلك (١) المذكورات) من خلق الأرضين والسماوات ، وبدائع فطرة الحيوان والنبات وسائر ما اشتملت عليه الآيات (اضطرّه) ذلك (إلى الحكم بأنّ هذه الأمور مع هذا الترتيب المحكم الغريب لا يستغني كلّ) منها (عن صانع أوجده) من العدم (وحكيم رتّبه) على قانون أودع فيه فنونا من الحكم.

(وعلى هذا درجت كلّ العقلاء إلّا من لا عبرة بمكابرته) وهم بعض الدهرية (٢) (وإنّما كفروا بالإشراك) حيث دعوا مع الله إلها آخر (ونسبة) أي : وبنسبة (بعض الحوادث إلى غيره تعالى ، وإنكار) أي : وبإنكار (ما جعل الله سبحانه إنكاره كفرا ؛ كالبعث وإحياء الموتى) ومثّل المصنف الذين أشركوا بقوله : (كالمجوس بالنسبة إلى النار) حيث عبدوها فدعوها إلها آخر ، تعالى الله ((٣) عن ذلك (٣)) (والوثنيّين بالأصنام) أي : بسببها ، فإنهم عبدوها (والصابئة بالكواكب) أي : بسبب الكواكب ، حيث عبدوها من دون الله تعالى.

وأما نسبة بعض الحوادث إلى غيره تعالى فالمجوس ينسبون الشر إلى «أهرمن» (٤) ، والوثنيون ينسبون بعض الآثار إلى الأصنام ، كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله : (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) (سورة هود : ٥٤) ، والصابئون (٥) ينسبون بعض الآثار إلى الكواكب ، تعالى الله عما يشركون.

__________________

(١) في (م) : هذه.

(٢) الدهرية : هم صنف من العرب أنكروا الخالق والبعث والإعادة وقالوا بالطبع المحيي والدهر المفني ، هم الذين قال فيهم الله تعالى : (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا) [الجاثية : ٢٤] ، وقال فيهم : (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) [الجاثية : ٢٤] ، وقد نسبوا الخلق إلى الطبائع المحسوسة ، وقصروا الحياة والموت على تركب الأبدان وتحللها ، (الملل والنحل ، ص ٤٩٠).

(٣) سقط من (م).

(٤) أهرمن : إله الشر عند التنوية ؛ الفرقة المنسوبة للقائلين بإلهية النور والظلام وهم المجوس ، والمنسوبون إلى ماني ابن فتق بن بابك وكذا أتباع مزدك ، وقد زعموا أن العالم مركب من أصلين قديمين أحدهما النور والآخر الظلمة ، وسموا ثنوية لقولهم باثنين أزليين. انظر : اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ، للرازي ، ص ١٣٨.

(٥) الصابئة : ويقال لهم الصبائية والصابئون ، والصابي هو التارك لدينه الذي شرع له إلى دين غيره ، وسموا بذلك لأنهم فارقوا دين التوحيد وعبدوا النجوم وعظموها ، ومع هذا فإنهم يقرون بالصانع وبالمعاد وببعض الأنبياء ، وقد سموا أوثانهم بأسماء الكواكب ؛ كالمشتري وزحل والمريخ ... ويزعمون أن نفوس العظماء من الموتى هي واسطة بين الله وبين خلقه ، ويروى أن أول من اتخذ

٤٠