المسامرة

كمال الدين محمد بن محمد الشافعي [ ابن أبي شريف المقدسي ]

المسامرة

المؤلف:

كمال الدين محمد بن محمد الشافعي [ ابن أبي شريف المقدسي ]


المحقق: كمال الدين القاري و عزّ الدين معميش
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-34-292-X
الصفحات: ٣٦٠

كالعيسوية من اليهود ، وهم أتباع أبي عيسى الأصبهاني اليهودي (١) يقول إنه أرسل إلى العرب خاصة دون بني إسرائيل ، فلا يكتفي في إسلام من يعتقد ذلك بالإتيان بالشهادتين فقط ، بل لا بدّ أن يأتي بما يدل على براءته من كل دين يخالف الإسلام ، بأن يأتي بلفظ البراءة أو (٢) يقول : محمد رسول الله إلى جميع الخلق.

واعلم أن اعتقاد العيسوية ونحوهم يتضمن ما يستلزم بطلانه ؛ لأن اعتقادهم نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتضمن اعتقاد عصمته من الكذب في إخباره ، وقد تواتر إخباره بأنه رسول الله إلى الناس كافة ؛ العرب وغيرهم ، فإخراج البعض من عموم رسالته إبطال لما يتضمنه اعتقادهم من عصمته ، فيكون إبطالا لاعتقادهم.

وفي معنى العيسوية بعض من النصارى يقولون : إنه يبعث في آخر الزمان كما صرح به النووي في كتاب الظهار من «التنقيح شرح الوسيط» (٣).

هذا وقول المصنف : «إن هذا التبري إنما يشترطه بعضهم في حق بعض أهل الكتاب» يؤذن بأن الاكتفاء في حق غيرهم مطلقا بالشهادتين محل وفاق وليس كذلك.

فالمعتمد عند الشافعية أن من كان كفره باعتقاد إباحة أمر علم تحريمه من الدين ضرورة ، أو تحريمه أمر علم حلّه من الدين ضرورة لا يصح إسلامه حتى يأتي بالشهادتين ، ويبرأ مما اعتقده ، وإن اليهودي المشبه لا يصح إسلامه حتى يشهد أن محمدا رسول الله جاء بنفي التشبيه.

وهذا كله بالنسبة لإجراء أحكام الإسلام ، (لا) بالنسبة (لثبوت الإيمان) له واتصافه به فيما بينه وبين الله تعالى ، (فإنه لو اعتقد عموم الرسالة وتشهّد) أي : أتى بالشهادتين (فقط كان مؤمنا عند الله ، إذ يلزم اعتقاده ذلك التبري) بالرفع على الفاعلية ، و «اعتقاده» مفعول مقدم ، ووجه اللزوم أن اعتقاد عموم الرسالة مع اعتقاد التوحيد بالألوهية يستلزم اعتقاد انتفاء كل ما ينافي ذلك ، وهو معنى التبري المذكور هنا.

__________________

(١) العيسوية أتباع أبي عيسى الأصبهاني اليهودي : وهم الذين يزعمون أن محمدا وعيسى عليهما‌السلام إنما بعثا إلى قومهما ولم يبعثا بنسخ شريعة موسى عليه‌السلام.

(٢) في (م) : و.

(٣) ذكره النووي في التنقيح شرح الوسيط ، في كتاب الصلاة ، عند الكلام عن صفات المؤذن ، ٢ / ٥٤ ، وليس في كتاب الظهار كما قال الشارح ، اعتمادا منا على النسخة المحققة المطبوعة.

٣٠١

(ولم يشترطه بعضهم) أي : بعض العلماء ومنهم بعض الشافعية لم يشترطوه في حق هذا أيضا ، كما لا يشترط في حق غيره كالثنوي والوثني (١) ، إذ يكتفي من كل منهما بالشهادتين (لأنه عليه الصلاة والسلام كان يكتفي بالتشهد منهم) أي : من أهل الكتاب مطلقا ، (وقد نقل إسلام عبد الله بن سلام في صحيح البخاري (٢) ، وليس فيه) أي : في إسلامه المنقول في البخاري (زيادة على التشهد) أي : الإتيان بالشهادتين ، (و) نقل أيضا (غير ذلك) أي : غير إسلام عبد الله بن سلام من وقائع كثيرة في هذا المعنى (٣) (ما يكاد إنكاره أن يكون إنكارا للضرورة).

(ويجاب) عن هذا (بأن كل من كان بحضرته) صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كتابي أو مشرك فقد (سمع منه ادعاء عموم الرسالة) لكل واحد ، (فإذا شهد أنه رسول الله لزم تصديقه) إجمالا (في كل ما يدعيه) وتفصيلا فيما علمه من ذلك تفصيلا ، لدلالة المعجزة على صدقه في كل ما أخبر به عن الله عزوجل ، ومما يدعيه عموم الرسالة ، وقد علمه.

وهذا (بخلاف الغائب) عن حضرته صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فإنه لم يسمع منه) ادعاء عموم الرسالة ، (فتمكنت الشبهة في إسلامه) أي : دخوله في الإسلام (بمجرد التشهد ، لجواز أن ينسب إلى الناس الافتراء في ادعاء العموم) أي : عموم الرسالة (جهلا) منه (بثبوت التواتر عنه) صلى‌الله‌عليه‌وسلم (به (٤)) أي : بالعموم.

(هذا وفي تلك التفاصيل) المتقدم ذكرها المندرجة تحت الشهادتين (تفاصيل اختلف فيها) هل التصديق بها داخل في مسمى الإيمان ، حتى يكون إنكارها كفرا؟ أو ليس بداخل فلا يكون إنكارها كفرا؟ وهذه مسألة شهيرة (و) هي أنه (قد اختلف) أي : اختلف أهل السنة (في تكفير المخالف) في بعض العقائد (بعد الاتفاق) منهم (على أن ما كان من أصول الدين وضرورياته) وهذا العطف

__________________

(١) الوثنيون : هم عبدة التماثيل والأصنام ؛ ما يصنع ويصور مشبها ، اشتهر ظهورهم في الجزيرة العربية ، وقد جاء الإسلام وقضى على العبادة في الجزيرة العربية ، ولكنها لا زالت في كثير من أصقاع العالم ، ولو بأشكال مختلفة.

(٢) الحديث طويل وموجود في صحيح البخاري كتاب فضائل الصحابة باب كيف آخى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أصحابه رقم ٣٧٢٣ ، وهو مروي عن أنس بن مالك : «أن عبد الله بن سلام بلغه مقدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة فأتاه يسأله عن أشياء ... إلى أن قال : أشهد ألا إله إلا الله وأنك رسول الله» ... إلى آخر الحديث.

(٣) وهي وقائع كثيرة جدا ، لا يحصرها كتاب.

(٤) ليست في (ط).

٣٠٢

كالتفسير ، أي : من الأصول المعلومة من الدين ضرورة (يكفر المخالف فيه) أي : يحكم بكفره بمخالفته فيه ، (كالقول بقدم العالم ، ونفي حشر الأجساد ، ونفي العلم) أي : علمه تعالى (بالجزئيات ،) وكلها من ضلالات الفلاسفة ، (ومن هذا المهيع) أي : الطريق الواضح البين في تكفير من قال به (إثبات الإيجاب) بالذات (١) الذي هو نفي الفعل بالاختيار والمشيئة (لنفيه) أي : القائل به ، وهم الفلاسفة الضلال ، (اختاره) سبحانه ، وعدم الاختيار نقص ، (تعالى) الله (عما يقول الجاهلون علوا كبيرا).

(وما ليس من ذلك) أي : من الأصول المعلومة من الدين ضرورة ، وما في قوله : «وما ليس من ذلك» مبتدأ خبره قوله : (كنفي مبادئ الصفات) مع إثباتها كقول المعتزلة : عالم قادر ونحوهما ، فإنهم أثبتوا هذه الصفات مع نفيهم مباديها التي هي العلم والقدرة ونحوهما ، (و) نفي (عموم الإرادة) لكل كائن من خير وشر ، كما تقول المعتزلة إن الشر غير مراد الله تعالى ، (والقول بخلق القرآن) كما يقولونه أيضا.

(فذهب جماعة) تفصيل لاجمال قوله : «وقد اختلف في تكفير المخالفين فيما ليس من ضروريات الدين» ببيان أن جماعة من أهل السنة ذهبوا (إلى تكفيرهم) بذلك لأن نافي مبادئ الصفات وعموم الإرادة جاهل بالله والجاهل بالله كافر ، والقائل بخلق القرآن قد نطق الحديث بأنه كافر ، وهو ما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قال : القرآن مخلوق فهو كافر» (٢).

والجواب من طرف القائلين بعدم التكفير ، وهو المختار الآتي ذكره : أما على الأول والثاني فهو أن الجهل بالله من بعض الوجوه ليس بكفر ، وليس أحد من أهل القبلة يجهله (٣) تعالى إلا كذلك ، فإنهم على اختلاف مذاهبهم اعترفوا بأنه تعالى قديم أزلي عالم قادر خالق السموات والأرض.

__________________

(١) الإيجاب بالذات : الإيجاب لغة الإثبات ، واصطلاحا عند المتكلمين : صرف الممكن من الإمكان إلى الوجوب. والفلاسفة متفقون على أن مبدأ العالم موجب بالذات ، ومرادهم أنه قادر على أن يفعل ويصح منه الترك إلا أنه لا يترك البتة ، ولا ينفك عن ذاته الفعل ، لا لاقتضاء ذاته إياه ، بل لاقتضاء الحكمة إيجاده ، فكان فاعلا بالمشيئة والاختيار.

(٢) الحديث أخرجه ابن عدي في «الكامل في الضعفاء» ١ / ٢٠٣ ، وفي إسناده أحمد بن محمد بن حرب ؛ كذاب وضاع.

(٣) في (م) : يجهل.

٣٠٣

وأما على الثالث فهو أن الحديث غير ثابت ، ولو ثبت لكان آحادا لا يفيد علما ، فلا يكفر منكره ، أو يقال : المراد بالمخلوق المختلق ، أي المفترى وليس محل نزاع لأن قائله كافر قطعا.

(وذهب الأستاذ أبو إسحاق الأسفرايني إلى تكفير من كفّرنا منهم) أي : اعتقد كفرنا دون من لم يكفرنا (أخذا بقوله عليه الصلاة والسلام) فيما رواه الشيخان («من قال لأخيه يا كافر فقد باء) أي : رجع (به) أي : بالكفر (أحدهما») وفي لفظ لهما : «إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها» ، أي : بصفة الكفر ، «أحدهما ، إن كان كما قال وإلا رجعت عليه» (١).

قال الإمام أبو الفتح القشيري في شرح «العمدة» في اللعان : كأنه ـ يعني : الأستاذ ـ يقول الحديث دل على أنه يحصل الكفر لأحد الشخصين ، إما المكفّر أو المكفّر ، فإذا كفرني بعض الناس فالكفر واقع بأحدنا ، وأنا قاطع بأني لست بكافر فالكفر راجع إليه (٢). اه.

(وقيل :) إنما يكفر المخالف في عقيدة (إذا خالف إجماع السلف) على تلك العقيدة ، (وظاهر قولي الشافعي وأبي حنيفة) رحمهما‌الله تعالى (أنه لا يكفر أحد منهم) أي : لا يحكم بكفر أحد من المخالفين ، فيما ليس من الأصول المعلومة من الدين ضرورة ، وهذا هو المنقول عن جمهور المتكلمين والفقهاء ، فإن الشيخ أبا الحسن الأشعري قال في أول كتاب «مقالات الإسلاميين» : اختلف المسلمون بعد نبيهم عليه الصلاة والسلام في أشياء ، ضلل بعضهم بعضا وتبرأ بعضهم عن بعض ، فصاروا فرقا متباينين ، إلا أن الإسلام يجمعهم ويعمهم (٣). اه.

وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه : أقبل شهادة أهل الأهواء ، إلا الخطابية (٤) ؛ لأنهم يشهدون بالزور لموافقيهم (٥).

__________________

(١) الحديث أخرجه البخاري في كتاب الأدب باب من أكفر أخاه بغير تأويل ، رقم ٥٧٥٢ ، وأخرجه مسلم في الإيمان برقم ٦٠ بلفظ : «أيما رجل قال ...».

(٢) شرح العمدة ، لأبي الفتح القشيري وهو ابن دقيق العيد ، ٤ / ٧٧.

(٣) مقالات الإسلاميين ، ص ١.

(٤) الخطابية : نسبة إلى أبي الخطاب الأسدي ، المكنى أبو إسماعيل ، واسمه محمد بن أبي زينب ، كان مولى لبني أسد. فرقة من فرق الشيعة وقد انقسمت إلى خمس فرق. ومن أقوالهم : إن الأئمة كانوا آلهة. وإن أولاد الحسن والحسين كانوا أبناء الله وأحباؤه. (الملل والنحل ، ص ١٧٩).

(٥) الأم ، ٦ / ٢٠٥ و ٨ / ٣١٠.

٣٠٤

وما ذكر المصنف أنه ظاهر قول أبي حنيفة جزم بحكايته عنه الحاكم (١) صاحب «المختصر» في كتاب «المنتقى» (٢) وهو المعتمد ، (وإن روي عن أبي حنيفة) رحمه‌الله ما ظاهره خلافه من (أنه قال لجهم :) هو ابن صفوان رأس الفرقة المعروفة بالجهمية (أخرج عني يا كافر) فليس تكفير الجهم (حملا) لقول أبي حنيفة : «يا كافر» (على التشبيه) لجهم بالكافر ، بجامع المخالفة في أصل من أصول العقائد ، وإن اختلف الأصلان في العلم من الدين ضرورة.

(وهو) أي : القول بعدم تكفير أحد من المخالفين المذكورين (مختار) الشيخ أبي بكر (الرازي) ونقله عن الكرخي (٣) وغيره من أئمتهم.

(ولكنه) أي : المخالف فيما ذكر (يبدع) بمخالفته (ويفسق) أيضا (في بعضها) أي : يحكم بأنه مبتدع لإحداثه ما لم يقل به السلف من الصحابة وتابعيهم ، وبأنه فاسق ببعض مخالفاته ؛ كأن يقام عليه البرهان فيصير لاحتمال دليل فيحكم بفسقه ، (بناء على وجوب إصابة الحق فيها) أي : في مواضع الاختلاف في أصول الدين (عينا ، وعدم تسويغ الاجتهاد في مقابلته (٤)) أي : في مقابلة ما هو الحق عينا ، (بخلاف الفروع التي لم يجمع عليها) فإن الاجتهاد فيها سائغ ، وإن قلنا بالمرجح إن الحق فيها معين والمصيب فيها واحد.

(وهاهنا تفاصيل) لما قيل بالتكفير بالمخالفة فيه (واختلافات) في مسائل منه (لا تليق بهذا المختصر) لطولها ؛ ومنها :

أن المعتزلة أنكروا إيجاد الباري تعالى فعل العبد ، فجعله بعضهم كالجبّائية غير قادر على عينه ، وجعله بعضهم غير قادر على مثله ، كالبلخي (٥) وأتباعه ، وجعلوا العبد قادرا على فعله ، فهو إثبات للشريك كقول المجوس. فالإيمان والكفر عندهم من فعل العبد لا من فعل الرب سبحانه ، وهو خرق لإجماع متقدمي الأمة على الابتهال إلى الرب تعالى أن يرزقهم الإيمان ويجنبهم الكفر ، والجواب عنه مسطور في المطولات. وبالله التوفيق.

__________________

(١) الحاكم الشهيد سبقت ترجمته في ص ١٣١.

(٢) المنتقى كتاب مفقود.

(٣) الكرخي : عبيد الله بن الحسن الكرخي ، فقيه حنفي. توفي سنة ٣٤٠ ه‍ ، الأعلام ، ٤ / ٣٤٧.

أبو بكر الرازي : أحمد بن علي الرازي ، أبو بكر الجصاص ، من أهل الري ، انتهت إليه رئاسة الحنفية في بغداد ، توفي سنة (٣٧٠ ه‍) ، (الجواهر المضيئة ، ١ / ٨٤).

(٤) في (م) : مقابلة.

(٥) البلخي : هو الكعبي الذي سبقت ترجمته في ص ٨٩.

٣٠٥

النظر الثالث

في حكم الإيمان ؛ من قبوله الزيادة والنقص

ووصفه بأنه مخلوق ، ودخول الاستثناء فيه

وبقائه مع النوم ونحوه

و (فيه مسائل) أربع لهذه الأحكام :

المسألة (الأولى) : في قبوله الزيادة والنقص

(قال أبو حنيفة وأصحابه) رحمهم‌الله تعالى : (لا يزيد الإيمان ولا ينقص ، و) هذا القول (اختاره من الأشاعرة إمام الحرمين ، و) جمع (كثير).

(وذهب عامتهم) أي : أكثر الأشاعرة (إلى زيادته) أي : الإيمان (ونقصانه).

(قيل (١)) والقائل الإمام فخر الدين الرازي وغيره : (الخلاف مبني على أخذ الطاعات في مفهوم الإيمان وعدمه) أي : عدم أخذ الطاعات في مفهومه :

(فعلى الأول) وهو أخذ الطاعات في مفهومه على وجه الركنية كما تقدم نقله عن الخوارج ، أو على وجه التكميل كما هو مذهب المحدثين (يزيد) الإيمان (بزيادتها) أي : الطاعات ، (وينقص بنقصانها).

(وعلى الثاني) وهو عدم أخذ الطاعات في مفهوم الإيمان (لا) أي : لا يزيد ولا ينقص ؛ (لأنه اسم للتصديق الجازم مع الإذعان) أي : القبول باطنا كما قدمناه (وهذا) المفهوم (لا يتغير بضم الطاعات ، ولا) ضم (المعاصي) إليه.

(وفيه) أي : فيما قيل من هذا البناء (نظر ، بل قال بزيادته ونقصانه كثير ممن

__________________

(١) في (م) : قبل.

٣٠٦

صرح بأنه مجرد التصديق لظواهر من الأدلة (كقوله تعالى : (زادَتْهُمْ إِيماناً) (سورة الأنفال : ٢)) من ((١) قوله تعالى في سورة الأنفال : (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) (١)) (سورة الأنفال : ٢) ، وقوله تعالى في سورة التوبة : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً) (سورة التوبة : ١٢٤) (ونحوه) كقوله تعالى : (وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) (سورة المدثر : ٣١) ، (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧)) (سورة محمد : ١٧) ، (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) (سورة الفتح : ٤) ، (وعن ابن عمر) رضي الله تعالى عنهما (قلنا : يا رسول الله إن الإيمان يزيد وينقص؟ قال : «نعم ؛ يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة ، وينقص حتى يدخل صاحبه النار» (٢)) رواه أبو إسحاق الثعالبي في تفسيره ، من رواية علي بن عبد العزيز عن حبيب بن عيسى بن فروخ عن إسماعيل بن عبد الرحمن عن مالك عن نافع عن ابن عمر.

(وقالوا :) أي : القائلون بأن الإيمان مجرد التصديق (لا مانع) عقلا (من ذلك) أي : من كون الإيمان بمعنى التصديق يزيد وينقص ، قالوا : (بل اليقين الذي هو مضمون التصديق) لكونه أخص من التصديق (يتفاوت قوة) أي : من جهة القوة (في نفسه) وله في القوة مراتب مبتدئة (من أجلى البديهيات) ككون الواحد نصف الاثنين ، منتهية (إلى أخفى النظريات القطعية) التي منها كون العالم حادثا ، (ولذا) أي : لتفاوته (قال) السيد إبراهيم (الخليل) على نبينا و (عليه) الصلاة و (السلام حيث خوطب بقوله) تعالى : ((أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (سورة البقرة : ٢٦٠)) فطلب الترقي في الإيمان ، وسيأتي تأويل قول إبراهيم : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (سورة البقرة : ٢٦٠) بما يزيد المقام وضوحا (٣).

(والحنفية ومعهم إمام الحرمين وغيره) وهم بعض الأشعرية (لا يمنعون الزيادة والنقصان باعتبار جهات هي) أي : تلك الجهات (غير نفس الذات) أي : ذات التصديق (بل بتفاوته) أي : بسبب تفاوت الإيمان باعتبار تلك الجهات (٤) (يتفاوت المؤمنون) عند الحنفية ومن وافقهم ، لا بسبب تفاوت ذات التصديق ،

__________________

(١) سقط من (م).

(٢) الحديث أخرجه الثعالبي في تفسيره ، ١ / ١٩٣ ، وقال بعض أهل العلم إن الحديث بهذا اللفظ كذب ، انظر : الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة ، ص ٣٤٤.

(٣) في ص ٣٧٠.

(٤) وهذه الجهات هي جهات الطاعات والمعاصي ، فالتفاوت فيها لا في أركان الإيمان ؛ لأن الركن جزء من الماهية ، ولا يتصور التكثر في جزء الماهية دونها كمالا يتصور تفاوت في نفس التصديق.

٣٠٧

(وروي عن أبي حنيفة رحمه‌الله تعالى أنه قال : إيماني كإيمان جبريل ولا أقول مثل إيمان جبريل ، لأن المثلية تقتضي المساواة في كل الصفات ، والتشبيه لا يقتضيه) (١) أي : لا يقتضي ما ذكر من المساواة في كل الصفات ، بل يكفي لإطلاقه المساواة في بعضها (فلا أحد يسوي بين إيمان آحاد الناس وإيمان الملائكة والأنبياء) من كل وجه ، (بل يتفاوت) إيمان آحاد الناس وإيمان الملائكة والأنبياء ، (غير أن ذلك التفاوت) هل هو (بزيادة ونقص في نفس الذات) أي : ذات التصديق والإذعان القائم بالقلب ، (أو (٢)) هو تفاوت لا بزيادة ونقص في نفس الذات ، بل (بأمور زائدة عليها؟ فمنعوا) يعني الحنفية وموافقيهم (الأول) وهو التفاوت في نفس الذات (وقالوا : ما يتخايل) أي : يظن (من أن القطع بتفاوت قوة) أي : من حيث القوة في ذاته (إنما هو راجع إلى جلائه) أي : ظهوره وانكشافه ، (فإذا ظهر القطع بحدوث العالم بعد ترتيب مقدماته) المؤدية إليه (كان الجزم الكائن فيه كالجزم في قولنا : الواحد نصف الاثنين) والأولى أن يقال : «كالجزم في حكمنا» بدل : «في قولنا».

(وإنما تفاوتهما باعتبار أنه إذا لوحظ هذا) وهو أن العالم حادث (كان سرعة الجزم فيه ليس كالسرعة التي في الآخر) وهو أن الواحد نصف الاثنين (خصوصا مع عزوب النظر) وهو ترتيب مقدمات حدوث العالم ، أي : غيبته عن الذهن (فيخيّل أنه) أي : الجزم بأن الواحد نصف الاثنين (أقوى ، و) ليس بأقوى في ذاته (إنما هو أجلى عند العقل ، فنحن) معشر الحنفية ومن وافقنا نمنع ثبوت ماهية المشكك ، ونقول : إن الواقع على أشياء متفاوتة فيه (٣) يكون التفاوت عارضا لها خارجا عنها لا ماهية لها ولا جزء ماهية ؛ لامتناع اختلاف الماهية واختلاف جزئها (٤).

__________________

(١) المثلية : من لفظ المثل وهي أعم الألفاظ الموضوعة للمشابهة ، وقد يطلق ويراد به الذات ، وأحيانا يراد به نفي التماثل عن المثل ، وقد يأتي بمعنى الصفة ، والمثل المطلق للشيء هو ما يساويه في جميع أوصافه ، وأما التشبيه فهو في اللغة التمثيل مطلقا ، واصطلاحا : الدلالة على اشتراك شيئين في وصف من أوصاف الشيء الواحد في نفسه وهو مراد المصنف.

(٢) في (م) : و.

(٣) في (م) : فبه.

(٤) اختلاف الماهية واختلاف جزئها : لا يمكن ذلك لأن الجزء من مكونات الماهية وهو متقدم عليها في دور التركيب ، كما أن عدمه متقدم على عدم الماهية ، فالتركيب الذي هو أخص خصائص الماهية مفتقر إلى أجزائه ، وهو المشكل لحقيقة الماهية ، فعند انعدامه أو تغيره تنعدم الماهية تبعا.

٣٠٨

و (لو سلمنا ثبوت ماهية المشكك) فلا يلزم كون التفاوت في إفراده بالشدة ، فقد يكون بالأولوية وبالتقديم والتأخر ، (و) لو سلمنا (((١) أن ما (١)) به التفاوت) في إفراد المشكك (شدة كشدة البياض الكائن في الثلج بالنسبة إلى) البياض (الكائن في العاج) وقوله : (مأخوذ) خبر ثان ل «أن» أي : ولو سلمنا أن ما به التفاوت في البياض مأخوذ (في ماهية البياض بالنسبة إلى خصوص محل) كالثلج ، (لا نسلم أن ماهية اليقين منه) أي : من المشكك الموصوف بما ذكر ، (لعدم ما) أي : دليل (يوجبه) أي : يلزم عنه القول به.

(ولو سلمنا أن ماهية اليقين تتفاوت لا نسلم أنه) يتفاوت (بمقومات الماهية) أي : أجزائها (بل بغيرها) من الأمور الخارجة عنها العارضة لها ، كالألف للتكرار ، ونحوه.

(وقد ذكروا :) يعني الحنفية وموافقيهم في الجواب عن الظواهر الدالة على قبول الزيادة (أنه) أي : الإيمان (يتفاوت بإشراق نوره) أي : بزيادة إشراقه في القلب ، (و) زيادة (ثمراته ، فإن كان زيادة إشراق نوره هو زيادة القوة والشدة) فيه (فلا خلاف في المعنى) بين القائلين بقبوله الزيادة والنقصان والنافين لذلك ، (إذ يرجع النزاع إلى أن الشدة والقوة التي اتفقنا على ثبوت التفاوت بها زيادة ونقصانا هل هي داخلة في مقومات) حقيقة (اليقين أو خارجه) عنها (٢)؟

(فقد اتفقنا) معشر المثبتين لتفاوت الإيمان والنافين له (على ثبوت التفاوت) في الإيمان (بأمر معين والخلاف في) خصوص (نسبته) أي : نسبة ذلك الأمر المعين (إلى تلك الماهية) بدخوله في مقوماتها أو خروجه عنها (لا عبرة به) لأنه ليس خلافا في نفس التفاوت ، (وإن كان زيادة إشراقه) في القلب (غير زيادة القوة ، فالخلاف ثابت ، ومن الخوارج) أي : الأمور الخارجة عن ماهية الإيمان (التي يثبت بها) أي : بتلك الأمور الخارجة (التفاوت) في الإيمان (ما ذكره إمام الحرمين حيث قال) في «الإرشاد» (٣) في جواب سؤال : (النبي) من الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يفضل من عداه) في الإيمان (باستمرار تصديقه) وعصمة الله تعالى إياه من مخامرة الشكوك ، (يعني) الإمام : باستمر تصديقه (توالى أشخاصه) لأنه عرض لا

__________________

(١) في (م) : إنما.

(٢) ليست في (م).

(٣) الإرشاد إلى قواطع الأدلة من الاعتقاد ، ص ٣٩٩.

٣٠٩

يبقى زمانين ، وتوالي أشخاصه (لاستمرار مشاهدة) الدليل (الموجب) للتصديق ، (و) استمرار مشاهدة (الجلال والكمال) بعين البصيرة ، (بخلاف غيره) أي : غير النبي (حيث يعزب) أي : يغيب (عنه) ذلك تارة فلا يشهده ، (ويحضر) أخرى فيشهده ، (فيثبت للنبي وأكابر المؤمنين أعداد من الإيمان لا يثبت لغيرهم إلا بعضها) فيكون إيمانهم لذلك أكثر (١) ، (فاستمرار حضور الجزم قد يخال) أي : يظن (زيادة قوة في ذاته) أي : ذات الجزم (وليس إياه) أي : وليس ذلك الاستمرار زيادة قوة ، (أو إياه) أي : أو يكون زيادة قوة ، (و) لكن (ليس داخلا) في حقيقة الإيمان (على ما رددناه) أي : أتينا به من الترديد الذي ذكرناه (آنفا) أي : قريبا ، بقولنا : هو زيادة ونقص في نفس الذات أو بأمور زائدة عليها مع الكلام على ذلك.

(وإلى هذا) الذي ذكرناه من تأويل الزيادة (ترد الظواهر) الناطقة بالزيادة (من الآي) التي سردنا عددا منها فيما مر ، (و) من (الحديث) الذي قدمناه ، (وقول) سيدنا (علي رضي الله تعالى عنه : «لو كشف الغطاء) أي : عن الأمور المغيبة من الحشر والنشر والحساب ونحوها ، بأن مشاهدتها واقعة ، (ما ازددت) بسبب وقوعها (يقينا) (٢) بها ، (الظاهر) بالرفع نعت ل «قول» أي : قول علي ، الذي هو ظاهر (في تصور زيادته) أي : اليقين ، لأن قوله : «ما ازددت يقينا» يؤذن بأن اليقين يقبل الزيادة ، يرد (إلى الزيادة) والمراد : رد ما تضمنه من الزيادة إلى الزيادة (بما قلنا) أي : بالمعنى الذي قلنا ، وهو ما تحصل بأمور خارجة عن مقومات الماهية ، منها ما ذكره إمام الحرمين.

فقوله : «وقول» مبتدأ ، خبره : «يرد» ، مقدرا قبل قوله : «إلى الزيادة» دل عليه «يردّ» المذكور (هذا) الذي ذكرناه كما ذكرنا.

ولكن هاهنا سؤال وجواب أشار إليهما المصنف بقوله : (ولما كان ظاهر قول الخليل) ... الخ حاصل السؤال أنه : قد تقرر أن الإيمان لا يتحقق بدون القطع وعدم التردد ، وظاهر قول السيد إبراهيم حين قيل له : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (سورة البقرة : ٢٦٠)) يقتضي (عدم الاطمئنان) قبل ذلك ، (وهو ينافي القطع وعدم التردد) والخليل عليه الصلاة والسلام من أعلى الخلق مرتبة في الإيمان ، فكيف طلب ما يطمئن به قلبه بالإيمان؟ هذا تقرير السؤال.

__________________

(١) في (ط) : فقولنا هو زيادة ونقص في نفس الذات أو بأمور زائدة عليها مع الكلام على ذلك.

(٢) ذكره أبو يعلى في مسائل الإيمان ص ٤١٦.

٣١٠

وأما الجواب فأشار إليه بقوله : (احتيج) وهو جواب «لما» أي : لما كان الظاهر لا يصح أن يراد احتيج (إلى تأويله ، فقيل) في تأويله : (الخطاب) أي : بقوله : (بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (سورة البقرة : ٢٦٠) (مع الملك) حين قال له الملك : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) (سورة البقرة : ٢٦٠) فقال ما قال : (ليطمئن قلبه بأنه) أي : الملك المخاطب له (جبريل).

(والتأمل اليسير ينفيه) أي : ينفي هذا التأويل ، أي : يتبين به بطلانه ؛ لأن الآية مصرحة بأن الخطاب للرب تعالى ، وأنه المخاطب لإبراهيم.

(وقيل) في تأويله : المراد في الآية بقوله : (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (سورة البقرة : ٢٦٠) (زيادة الاطمئنان) أي : ليزداد قلبي طمأنينة ، (ويرجع الكلام في معنى زيادته ، ويجيء فيه ما تقدم) من أن الزيادة في ذات الإيمان أو بأمور خارجة على ما عرفت تقريره.

(وقيل) في تأويله : (طلب) السيد إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم (حصول القطع بالإحياء بطريق آخر وهو البديهي) الذي بداهته (سبب وقوع الإحساس به) أي : بالإحياء ، (وهذا) تأويل (حسن ، و) لكنه (لا يفيد في محل النزاع لأحد من الفريقين ؛) لأن محل النزاع : هل يزيد الإيمان وينقص أو لا يزيد ولا ينقص؟ والآية على هذا التأويل لا تفيد إثبات ذلك ولا نفيه ، (وحاصله) أي : حاصل هذا التأويل (أنه لما قطع) السيد إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بذلك) أي : بالقدرة على إحياء الموتى (عن موجبه) بكسر الجيم ، أي : الدليل الموجب للقطع (اشتاق إلى مشاهدة) كيفية (هذا الأمر العجيب الذي جزم بثبوته ،) وضرب لذلك المصنف مثلا بقوله : (كمن قطع بوجود دمشق وما فيها من أجنة) جمع جنان جمع جنة ، أي : من بساتين كثيرة (١) (يانعة) أي : ذات ثمار نضيجة (وأنهار جارية ، فنازعته نفسه في رؤيتها والابتهاج بمشاهدتها) أي : طلبت منه ذلك ، (فإنها) أي : النفس (لا تسكن) عن ذلك الطلب (وتطمئن حتى يحصل مناها) أي : ما تمنته من المشاهدة ، (وكذا شأنها) أي : النفس (في كل مطلوب) لها (مع العلم بوجوده ، فليس تلك المنازعة والتطلب (٢) ليحصل القطع بوجود دمشق ، إذ الفرض ثبوته) وهذا التأويل يشير إلى أن المطلوب بقول إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (سورة البقرة : ٢٦٠) هو سكون قلبه عن المنازعة إلى رؤية

__________________

(١) انظر : القاموس المحيط ، ص ١١٨٧.

(٢) ليست في (م).

٣١١

الكيفية المطلوب رؤيتها ، وهو الذي اقتصر عليه ابن عبد السلام في جواب السؤال (١) ، أو المطلوب سكونه بحصول متمنّاه من المشاهدة المحصلة للعلم البديهي بعد العلم النظري. والله سبحانه أعلم.

(المسألة الثانية) : في وصف الإيمان بأنه مخلوق

(لمشايخ الحنفية خلاف في أن الإيمان مخلوق أو غير مخلوق ، والأول) وهو القول بأن الإيمان مخلوق محكي (عن أهل سمرقند) من مشايخ الحنفية ، (والثاني) وهو القول بأن الإيمان غير مخلوق محكي (عن البخاريين) منهم ، وهذا الخلاف صدر (بعد اتفاقهم) يعني الفريقين (على أن أفعال العباد كلها مخلوقة لله تعالى ، وبالغ بعض مشايخ بخارى) المدينة المعروفة بما وراء النهر (كابن الفضل (٢) والشيخ إسماعيل بن الحسين الزاهد (٣) وتبعهم أئمة فرغانة) بفتح الفاء وسكون الراء وغين معجمة وبعد الألف نون ، ولاية وراء الشاش ، والشاش مدينة وراء سيحون وجيحون من أعمال سمرقند ، (فكفّروا) أي : حكموا بكفر (من قال بخلق الإيمان) أي : بأن الإيمان مخلوق ، (وألزموا عليه) أي : على القول بخلق الإيمان (خلق كلام الله تعالى ورووه) أي : القول بأن الإيمان غير مخلوق (عن نوح بن أبي مريم عن أبي حنيفة) ونوح عند أهل الحديث غير معتمد (٤).

وقال هؤلاء في توجيه كون الإيمان غير مخلوق : الإيمان أمر حاصل من الله تعالى للعبد ، (لأنه قال تعالى بكلامه الذي ليس بمخلوق : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) (سورة محمد : ١٩) وقال تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) (سورة الفتح : ٢٩) فيكون المتكلم به) أي : بالإيمان وهو لا إله إلا الله محمد رسول الله (قد قام به ما ليس

__________________

(١) انظر : الفوائد في مشكل القرآن لابن عبد السلام ، ص ١٩٢.

(٢) ابن الفضل : محمد ، أبو بكر الفضلي الكماري البخاري ، من أئمة العلم في الرواية ، توفي سنة ٣٨١ ه‍ ، من مؤلفاته : الفوائد في الفقه. (الفوائد البهية ، ص ١٨٤).

(٣) إسماعيل بن الحسين الزاهد : إسماعيل بن الحسين بن علي بن هارون أبو محمد ، الفقيه ، الزاهد البخاري ، ورد بغداد حاجا مرات عديدة ، وحدث عن علمائها ، وروى عنه الكثير ، توفي سنة ٤٠٢ ه‍. (الطبقات السنية في تراجم الحنفية ، للغزي ، ٢ / ١٨٢).

(٤) نوح بن أبي مريم : أبو عصمة المروزي ، القرشي ، مشهور بكنيته ، يلقب بالجامع ، توفي سنة ١٣٣ ه‍ ، تكلم عن الذهبي في ميزان الاعتدال باسم : نوح بن جعونة وقال : أجوّز أن يكون نوح بن أبي مريم ، أتى بخبر منكر عن ابن عباس في عمل أهل الجنة. (ميزان الاعتدال ، ٧ / ٥١ ، الأعلام ، ٩ / ٢٨).

٣١٢

بمخلوق ، كما أن من قرأ القرآن قرأ كلام الله الذي ليس بمخلوق ؛ لأنه) أي : الشأن (بقراءة ما نظمه الغير) أي : ألف نظمه الخاص من خطبة أو شعر (لا تنقطع) بتلك القراءة (النسبة) أي : نسبه ذلك النظم المقروء (إليه) أي : إلى الناظم ، خطبة كان أو غيرها (بل يقال : قال) فلان (خطبة فلان ، و) قال : (شعره) فتنسب الخطبة إلى منشئها والشعر إلى ناظمه ، (و) يقال (لمن تكلم بكلام) جيد مثلا ولم ينسبه لقائله (هذا ليس كلامه وإنما هو كلام فلان) أي : الذي تكلم به أولا ، (مع أنه) أي : قائله الثاني هو (المتكلم به الآن).

(قال بعضهم) أي : بعض من تمسك بما ذكر للقول بأن الإيمان غير مخلوق (يقال : فلان تلا كلام فلان إذا قرأ منظومه الدال على كلامه ، فمن قرأ هذا المنظوم الدال على كلام الله تعالى يصير قارئا لكلام الله تعالى حقيقة لا مجازا ؛ لأن تلاوة الكلام لا تكون إلا هكذا) أي : بأن يقرأ المنظوم الدال على كلامه.

(هذا) الذي ذكرناه في توجيه القول بأن الإيمان غير مخلوق هو (غاية متمسكهم وجهلهم مشايخ سمرقند) أي : نسب مشايخ سمرقند مخالفيهم البخاريين ومن تبعهم إلى الجهل ، إذ الإيمان بالوفاق من فريقهم هو التصديق بالجنان والإقرار باللسان ، وكل منهما فعل من أفعال العباد ، وأفعال العباد مخلوقة لله تعالى بالوفاق من أهل السنة.

(وقد ذكروا) يعني الحنفية البخاريين وغيرهم (في الفقه) ما هو إلزام لهم ببطلان متمسكهم وهو : (أن مثل : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣)) (سورة الفاتحة : ٢ ـ ٣) إلى آخر الفاتحة إذا لم يقصد به قراءة القرآن جاز للجنب قراءته ، وهو) أي : الجنب (ممنوع من قراءة القرآن (١) ، فظهر) بهذا الذي ذكروه في الفقه (أن ما وافق لفظه لفظ القرآن إذا لم يقصد به القرآن لا يكون قرآنا هو كلام الله تعالى) فبطل ما تمسكوا به.

ولإبطاله وجه آخر : (و) هو أنه يلزم (أيضا كون كل ذاكر) لله (من القائل :

__________________

(١) انظر : بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد ، ١ / ٤٩ ، وهذا الرأي عليه جمهور العلماء ، وذهب قوم إلى إباحته مستدلين بالاحتمال المتطرق إلى حديث علي أنه قال : «كان عليه‌السلام لا يمنعه من قراءة القرآن شيء إلا الجنابة». وقالوا : إن هذا لا يوجب شيئا ، لأنه ظن من الراوي ، والجمهور رأوا أنه لم يكن علي رضي الله عنه ليقول هذا عن توهم ولا ظن ، وإنما قاله عن تحقق. والله أعلم.

٣١٣

«سبحان الله» و «الحمد لله») ونحوهما ، (بل كل متكلم في أي غرض فرض ، وإن لم يوافق) كلامه (نظم القرآن إلا في أجزاء) منه (قد قام به) هذا خبر «كون» أي : يلزم على ما ذكرتم كون كل ذاكر بل كل متكلم قد قام به (ما ليس بمخلوق من معاني كلام الله تعالى) وذلك ما لا يقوله ذو لب ، (إذ منها) أي : من تلك الأجزاء (ما) أي : جزء (يطابق المعنى القائم بذاته تعالى ، إذ قلّ أن لا يشتمل كلام على كلمة مثلها) واقع (في القرآن ، فإن كان قيام ما ليس بمخلوق به) أي : بالمتكلم لغرض من الأغراض (باعتبار موافقة لفظه لفظ القرآن فلا تخصوا الإيمان ، بل كل متكلم) يلزم قيام ما ليس بمخلوق به (كما قلنا ، وإن كان) قيام ما ليس بمخلوق به (باعتبار قصده قراءة القرآن بذلك النظم لم يلزم مدّعاهم) من كون الإيمان غير مخلوق ، (فإن المتلفظ بالشهادتين إقرارا) أي :

لأجل الإقرار (بالتصديق) ((١) أو حال كون تلفظه إقرارا بالتصديق (١)) (لم يقصد قراءة القرآن) إنما قصد الإقرار بالتصديق.

(ونص كلام أبي حنيفة) رحمه‌الله (في «الوصية» صريح في خلق الإيمان) وليس المراد «الوصية» التي كتبها لعثمان البتّى بفتح الباء الموحدة وتشديد المثناة فقيه البصرة في الرد على المبتدعة (٢) ، بل المراد «الوصية» التي كتبها لأصحابه في مرض موته حين سألوه أن يوصيهم وصية على طريق أهل السنة والجماعة ، (حيث قال :) في هذه الوصية (نقرّ بأن العبد مع) جميع (أعماله وإقراره ومعرفته مخلوق) اه.

قال المصنف : (ثم نقول : الذي نعتقده أن القائم بقارئ القرآن كلّه) بالرفع مبتدأ (حادث) خبره ، والجملة خبران ، وإنما حكمنا بأن ما يقوم به حادث ؛ (لأن القائم به إن كان مجرد التلفظ) ((٣) وهو المعنى المصدري (٣)) (والملفوظ) ((٤) وهو المعنى الحاصل بالمصدر (٤)) ، (بأن كان غير متدبر) لما يتلو (أصلا ، وإنما يشرع لسانه في محفوظه) حال كونه أي : القارئ (غير واع لما يقول أصلا ولا متعقل

__________________

(١) سقط من (م).

(٢) عثمان البتي : فقيه البصرة ، أبو عمرو ، بياع البتوت وهي الأكسية الغليظة ، ابن مسلم وقيل أسلم وقيل سليمان ، أصله من الكوفة ، حدّث عن مالك والشعبي وحدث عنه شعبة وسفيان وغيرهم ، وثقه أحمد ، والرسالة التي بينه وبين أبي حنيفة هي رسالة رد فيها أبو حنيفة على البتي لاتهامه إياه بالإرجاء. (السير ، ٦ / ١٤٨ ، وانظر : الوصية ، لأبي حنيفة أو وصية أبي حنيفة ، ص ٤٢).

(٣) في (م) : وهو المعنى الحاصل بالمصدر.

(٤) سقط من (م).

٣١٤

معناه فظاهر) أن ما قام به حادث ، (إذ الأول) وهو التلفظ المراد به معناه المصدري (أمر اعتباري) لا حقيقي ، والاعتباري (١) حادث لأنه مسبوق بما يعتبر به ، (والثاني) وهو الملفوظ (معلوم كون العدم سابقا عليه ولاحقا له) وكل ما سبقه العدم فهو حادث ، وكل ما لحقه العدم كذلك ، لأن ما ثبت قدمه استحال عدمه كما مر أوائل الكتاب ، (وإن كان) القارئ (متدبرا) لما يتلو (فإنما يحدث في نفسه صور معاني النظم) أي : نظم القرآن ، (وغايتها أن تدل على) المعنى (القائم بذات الله تعالى ؛ للقطع بأنها) أي : الصور الحادثة في نفس القارئ المتدبر (ليست عين) المعنى (القائم بذاته) تعالى ، (إذ لا يتصور انفكاك ذلك) المعنى القائم بالذات المقدسة عن الذات ، (ثم شتان) أي : افترق (ما بين الصفتين في النوع) لأن كلا منهما من نوع سوى نوع الآخر ، (فإن القائم بذات الله تعالى الذي هو المدلول لفعل القارئ صفة الكلام النفسي) فقوله : «الذي» في محل نصب نعت ل «القائم» وقوله : «صفة الكلام» خبر لأن (والقائم بنفس القارئ) هو (صفة العلم بتلك المعاني النظمية لا) صفة (الكلام ، أرأيت قارئ : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) (سورة البقرة : ٤٣)) هل (قام بنفسه طلبها؟) أي : الصلاة أو إقامتها ، أي : الإتيان بها قويمة لا خلل في أركانها؟ كلا! لا شك في أنه لم يقم به طلبها (من المكلفين) إنما قام به علم بأن الله تعالى طلبها من المكلفين ، (وكذا كل ناقل كلام الغير من أمره) أي : من أمر ذلك الغير (ونهيه وخبره ، لم يقم بنفسه منه كلام ، بل علم) بأن ذلك الغير أمر أو نهي أو خبر.

(فإن قيل : فكيف قال أهل السنة : القراءة حادثة أعني) بالقراءة (أصوات القارئ المكتسبة) له ، (ولذا) أي : ولكونها حادثة مكتسبة (يؤمر بها) أي : بإيجادها (تارة) كما في الصلاة ؛ أمر إيجاب كقراءة الفاتحة ؛ أو أمر ندب كالسورة معها (وينهى عنها أخرى) كما في حالتي الجنابة والحيض ، (وكذا الكتابة) وهي إيجاد الكاتب صور الحروف وتأليفها حادثة ، ولذا يؤمر بها تارة ؛ كما في كتابة

__________________

(١) الاعتبار : مأخوذ من العبور والمجازة من شيء إلى شيء ، ولهذا سميت العبرة عبرة والمعبر معبرا واللفظ عبارة. والاعتبار اصطلاحا عند المحدثين : أن تأتي إلى حديث لبعض الرواة فتعتبره بروايات غيره من الرواة لسير الحديث ، لتعرف هل شاركه فيه غيره ، وعند النظار : هو التدبر وقياس ما غاب على ما حضر ، أو النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالتها ليعرف بالنظر فيها شيء آخر من جنسها. والاعتبار يطلق تارة ويراد به مقابل الواقع ؛ هذا أمر اعتباري أي : ليس بثابت في الواقع ، وقد يطلق ويراد به ما يقابل الموجود والخارجي أي : اعتبار الشيء الثابت في الواقع ، والاعتبار هنا في مراد الشارح : ما يقابل الموجود الخارجي.

٣١٥

المصاحب للمتطهر ، وينهى عنها أخرى ؛ كما في حالتي الجنابة والحيض ، (والمقروء) بالألسنة (المكتوب في المصاحف ، المسموع) بالأسماع ، (المحفوظ في الصدور قديم ، وهذا) الذي قاله أهل السنة من أنه محفوظ في الصدور (يقتضي قيامه) أي : المعنى القديم (بنفس الإنسان ، لأن المحفوظ مودع في القلب) الذي هو محل الفهم والتعقل.

(فالجواب : أنه) أي : هذا الذي قاله أهل السنة (ظاهر فيما ذكرت) أيها السائل من القيام المعنى القديم بنفس الإنسان (غير أنهم) لم يريدوا هذا الظاهر ، بل (تساهلوا في) هذا (اللفظ) الذي عبروا به (وصرحوا بتساهلهم) أي : بما يدل على تساهلهم (حيث أعقبوا هذا الكلام) الذي ذكروه أي : أتوا عقبه (بقولهم : ليس) المقروء المكتوب المسموع المحفوظ (حالّا في لسان ولا) في (قلب ولا (١) مصحف ؛ لأن المراد به) أي : بقولهم : «المقروء» (المعلوم بالقراءة ،) وبقولهم : «المكتوب في المصاحف» (المفهوم من الخط ، و) بقولهم : «المسموع» المفهوم من (الألفاظ المسموعة ، وهذا) أي : قولهم : «ليس حالا في لسان ولا قلب ولا مصحف» (تصريح) منهم (بأن) المعنى : (المعلوم) المفهوم (ليس حالا في القلب وإنما الحال فيه نفس فهمه و) نفس (العلم به ، أما ما هو متعلق العلم والفهم فليس حالا فيه ، و) متعلق العلم والفهم (هو القديم ، بل) قد (نقل بعضهم) أي : بعض أهل السنة (٢) (أنهم منعوا من) إطلاق (القول بحلول كلامه) تعالى (في لسان أو قلب أو مصحف (وإن أريد به) حال إطلاقه الكلام (اللفظي رعاية للأدب) لئلا يسبق إلى الوهم إرادة (٣) النفسي القديم. وبالله التوفيق. هذا حل كلام المصنف.

ويتعلق بالمسألة بعد ذلك أمور :

الأول : أن قول : «المشايخ الحنفية خلاف ... الخ» يؤذن بأن الخلاف في المسألة غير معروف لغير الحنفية ، وليس كذلك ، فقد حكى الأشعري الخلاف لغيرهم في مقالة مفردة أملاها في هذه المسألة ، ورويناها عنه بطريق متصلة إليه بما

__________________

(١) في (ط) : في.

(٢) وممّن نقل المنع الغزالي ، وابن تيمية ، والآمدي ، وابن رشد من الفلاسفة المتوسطين. (انظر : الاقتصاد ، ص ٧٣ ، ونهاية الإقدام في علم الكلام ، للشهرستاني ، ص ٣٠٩ ، وغاية المرام للآمدي ، ص ١١١).

(٣) في (ط) : الكلام.

٣١٦

فيها من إجازة ، وعبارته : ممن ذهب إلى أنه ـ يعني الإيمان مخلوق ـ حارث المحاسبي (١) وجعفر بن حرب (٢) وعبد الله بن كلاب (٣) وعبد العزيز المكي (٤) وغيرهم من أهل النظر.

ثم قال (٥) : وذكر عن أحمد بن حنبل وجماعة من أهل الحديث أنهم يقولون : إن الإيمان غير مخلوق (٦).

الأمر الثاني : أن الأشعري مال إلى أن الإيمان غير مخلوق ، ووجهه بما حاصله : أن إطلاق الإيمان في قول من قال : إن الإيمان غير (٧) مخلوق ينطبق على الإيمان الذي هو من صفات الله تعالى ؛ لأن من أسمائه الحسنى «المؤمن» ، كما نطق به الكتاب العزيز ، وإيمانه : هو تصديقه تعالى في الأزل بكلامه القديم إخباره الأزلي بوحدانيته ، كما دل عليه قوله (٨) : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) (سورة طه : ١٤) ، ولا يقال : إن تصديقه تعالى محدث ولا مخلوق ، تعالى أن يقوم به حادث.

الأمر الثالث : أنه لا يتحقق في هذه المسألة عن التأمل محل خلاف ؛ لأن الكلام إن كان في الإيمان المكلف به فهو فعل قلبي يكتسب بمباشرة أسباب يحصّله للمخلوق ، فلا يتجه خلاف في كونه مخلوقا.

وإن أريد الإيمان الذي دل عليه اسمه تعالى «المؤمن» فهو من صفاته تعالى بمعنى أنه المصدق لإخباره بوحدانيته في قوله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ)

__________________

(١) الحارث المحاسبي : أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي ، من الصوفية ، كان عالما بالأصول والمعاملات وواعظا مؤثرا ، له تصانيف في الزهد والرد على المعتزلة ، توفي سنة ٢٣٤ ه‍ (حلية الأولياء ، ١٠ / ٧٣)

(٢) جعفر بن حرب : المعتزلي ، يكنى أبا الفضل ، له كتب كثيرة في علم الكلام ، اعتزل الناس في آخر عمره وترك الكلام في المسائل الدقيقة وأقبل على الواضحة ، وصنف كتبا مثل «الإيضاح ونصيحة العامة. (طبقات المعتزلة ، لابن المرتضى ص ٧٣).

(٣) عبد الله بن كلاب : عبد الله بن سعيد القطان ، أبو محمد ، المعروف بابن كلاب ، مات بعد سنة ٢٤٠ ه‍ بقليل. (انظر : الطبقات الكبرى للسبكي ٢ / ٥١).

(٤) عبد العزيز المكي : هو عبد العزيز بن يحيى بن عبد العزيز الكناني المكي ، صاحب كتاب الحيدة ، فقيه ومتكلم ، روى عن سفيان بن عيينة وتفقه عند الشافعي ، وله كتاب آخر : «الحيرة». توفي سنة ٢٤٠ ه‍. (معجم المؤلفين ، ٢ / ١٧١)

(٥) ليست في (م).

(٦) انظر : الإبانة في أصول الديانة ، للأشعري ، ص ٣٣ ـ ٤٠.

(٧) ليست في (م).

(٨) في (ط) : تعالى.

٣١٧

(سورة آل عمران : ١٨) وقوله تعالى : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) (سورة طه : ١٤) ، فلا يتجه لأهل السنة خلاف في أنه قديم.

وأما إن أريد تصديقه رسله بإظهار المعجزات على أيديهم ، فهو من صفات الأفعال ، وقد علم الخلاف فيها بين الفريقين الأشاعرة والماتريدية ، وإظهارها يدل على أنه صدقهم بكلامه في ادعاء الرسالة ، كما دل عليه قوله تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) (سورة الفتح : ٢٩).

فإن قلت : نفرض الخلاف في إطلاق قول القائل : «الإيمان مخلوق» ، مريدا بالإيمان المعنى اللغوي ، الصادق بالإيمان الذي هو وصف الله سبحانه ، وبالإيمان الذي هو وصف للمخلوق مكلف به ، ويكون القائل بجواز إطلاق أن الإيمان مخلوق إنما ينصرف الإيمان عنده إلى المكلف به خاصة ؛ ((١) لأنه المتبادر من إطلاقه في لسان أهل الشرع ، واحتمال إرادة ما يصدق به وبغيره بعيد جدا (١)) (٢) ، والقائل بعدم جوازه ينظر إلى صدق الإيمان على الإيمان الذي هو وصف الله تعالى ، وإن الإطلاق يوهم القول بأنه مخلوق ، وهو خطأ وضلال ، فقد تحقق ما هو محل للنزاع.

قلنا : ليس هذا خلافا في خلق حقيقة الإيمان ، إنما هو خلاف في إطلاق اللفظ ، وليس كلامهم فيه ، وتحقيقنا لهذا المحل على هذا الوجه من النفائس. والحمد لله.

(المسألة الثالثة : اختلف في جواز إدخال الاستثناء الإيمان)

(بأن يقال : أنا مؤمن إن شاء الله ، فمنعه الأكثرون ؛ منهم أبو حنيفة وأصحابه (٣)) قالوا : (وإنما يقال : أنا مؤمن حقا ، وأجازه كثير) من العلماء (منهم الشافعي وأصحابه) وهذا النقل عن «الأكثر» و «الكثير» تبع فيه المصنف «شرح المقاصد» (٤) ، وهو معارض بأن شيخ الإسلام أبا الحسن السبكي (٥) نقل في كتابة

__________________

(١) سقط من (م).

(٢) في (ط) : لا يحتمل غيره.

(٣) في (م) : رضي الله عنهم.

(٤) انظر : شرح المقاصد ، ٥ / ٢١٥ ، مع الإشارة إلى أن صاحب المقاصد وشرحه لم يقل أجازه الأكثر ، بل قال ذهب كثير من السلف ... ثم أعقب ذلك بقوله : ومنعه الأكثرون ، فقد نقل عن الأكثر المنع.

(٥) تقدمت ترجمته ، ص ١٩٩.

٣١٨

له مفردة على هذه المسألة أن القول بدخول الاستثناء هو قول أكثر السلف ؛ من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، والشافعية والمالكية والحنابلة ، ومن المتكلمين الأشعرية والكلابية ، قال : وهو قول سفيان الثوري (١). اه.

(ولا خلاف بينهم) أي : بين القائلين بدخول الاستثناء والقائلين بمنعه (في أنه لا يقال) «أنا مؤمن إن شاء الله» (للشك في ثبوته) أي : الإيمان (للحال) أي : حال التكلم بالاستثناء المذكور ، (وإلا) أي : وإن لم يكن ذلك ، بأن كان الاستثناء للشك (كان الإيمان منفيا) لأن الشك في ثبوته في الحال كفر ، (بل ثبوته في الحال مجزوم به) دون شك.

(غير أن بقاءه إلى الوفاة) عليه ، (وهو المسمى ب «إيمان الموافاة» (٢)) أي : الذي يوافى العبد عليه ، أي : يأتي متصفا به آخر حياته وأول منازل آخرته (غير معلوم) له ، (ولما كان ذلك) يعني : «إيمان الموافاة» (هو المعتبر في النجاة كان هو الملحوظ عند المتكلم) ((٣) بقوله : «أنا مؤمن إن شاء الله» (٣)) (٤) (في ربطه) ((٥) أي : الإيمان في قوله : «أنا مؤمن» (٥)) (بالمشيئة ، وهو) ((٦) أي : «إيمان الموافاة» (٦)) أمر (مستقبل ، فالاستثناء فيه اتباع لقوله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (سورة الكهف : ٢٣)) فلا وجه لوجوب تركه.

(إلا أنه) أي : الشأن (لما كان ظاهر التركيب) في قول القائل : «أنا مؤمن إن شاء الله» (الإخبار بقيام الإيمان) به (في الحال ، وقران) ((٧) بالنصب عطفا على قوله : «الإخبار» أي : كان ظاهر التركيب أمرين الإخبار المذكور واقتران (٧)) كلمة (الاستثناء به) ((٨) أي : بالإخبار بقيام الإيمان في الحال (٨)) (كان تركه) أي : ترك

__________________

(١) انظر : إتحاف السادة المتقين ، ٢ / ٢٧٨. وفيه يثبت الزبيدي نسبة هذه الكتابة المفردة إلى السبكي ويقول عنها بأنها غريبة في بابها ، ولا توجد عند كل أحد.

(٢) إيمان الموافاة : هو الإتيان والوصول إلى آخر الحياة وأول منازل الآخرة على الإيمان ، عكس الناجز ، فإيمان الموافاة ، هو الباقي إلى النهاية ، وهو مقرون بالثبات ، فهو منج وإن كان مسبوقا بالضد ، ولذا يرى الأشاعرة أن العبرة بإيمان الموافاة.

(٣) سقط من (م).

(٤) في (ط) : بالاستثناء.

(٥) سقط من (م).

(٦) سقط من (م).

(٧) سقط من (م).

(٨) في (م) : أي بكونه مؤمنا في الحال.

٣١٩

الاستثناء (أبعد عن التهمة) بعدم الجزم بالإيمان في الحال الذي هو كفر ، (فكان) تركه (واجبا) لذلك.

ولما كان هذا إنما يتمشى عند إطلاق اللفظ دون قصد إلى إيمان الموافاة المقتضي للتبرك بالمشيئة خوفا من سوء الخاتمة مع الجزم في الحال ، أما من علم قصده بقرائن ظاهرة فلا وجه لمنعه ، أشار إلى الجواب عن هذا بقوله : (((١) وأما من علم (١)) قصده) إيمان الموافاة ، وأنه إنما استثنى تبركا خوفا من سوء الخاتمة ، (فربما تعتاد النفس) أي : نفس من يأتي بالاستثناء المذكور (التردد) في الإيمان في الحال ، (لكثرة إشعارها) أي : إشعار النفس بواسطة (٢) الاستثناء (بترددها) أي : النفس (في ثبوت الإيمان واستمراره ، وهذه) أي : كثرة إشعار النفس بالتردد في ثبوت الإيمان واستمراره (مفسدة ، إذ قد يجر إلى وجوده) أي : التردد في الثبوت والاستمرار (آخر الحياة الاعتياد) فاعل «يجر» (به) أي : بذلك التردد (خصوصا ، والشيطان متبتل (٣)) أي : منقطع مجرد نفسه (بك) أي : بسببك ، ساع في هلاكك يا ابن آدم (لا شغل له سواك ، فيجب) حينئذ (تركه) أي : الاستثناء المؤدي إلى هذه المفسدة.

وأنت خبير بأن إشعار اللفظ في نفسه إنما هو باعتبار التعلّق ، وهو خلاف المفروض ، إذ الفرض قصد التبرك لأجل إيمان الموافاة خوفا من سوء الخاتمة. وبالله التوفيق.

(المسألة الرابعة : الإيمان باق)

حكما (مع النوم ، و) مع (الغفلة ، و) مع (الغشية ،) أي : الإغماء ، (و) مع (الموت ، إن كان كل منها) أي (٤) : هذه الحالات الأربع (يضاد التصديق) مطلقا حقيقة ، فيضاد الإيمان لأنه تصديق خاص (و) يضاد (المعرفة) كذلك ، وهذا بالنظر إلى من يفسّر الإيمان بالمعرفة ، (ولكن الشرع حكم ببقاء حكمهما) أي : التصديق

__________________

(١) سقط من (م).

(٢) في (ط) : كلمة.

(٣) جاء في لسان العرب : (تبتل إلى الله : انقطع وأخلص ، وفي التنزيل : (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) [المزمل : ٨] والتبتل : الانقطاع عن الدنيا إلى الله تعالى وكذلك التبتيل. يقال للعابد إذا ترك كل شيء وأقبل على العبادة : تبتل أي : قطع كل شيء إلا أمر الله وطاعته. فالشيطان منقطع عن كل شيء سوى الإنسان ، فإنه مقبل إليه تاركا كل شيء عداه. (انظر : لسان العرب ، ١ / ٣١١)

(٤) في (ط) : من.

٣٢٠