المسامرة

كمال الدين محمد بن محمد الشافعي [ ابن أبي شريف المقدسي ]

المسامرة

المؤلف:

كمال الدين محمد بن محمد الشافعي [ ابن أبي شريف المقدسي ]


المحقق: كمال الدين القاري و عزّ الدين معميش
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-34-292-X
الصفحات: ٣٦٠

ثم اختلفوا ؛ فقال العلاف وعبد الجبار : الشرط الطاعات فرضا كانت أو نفلا ، والجبائي وابنه وأكثر معتزلة البصرة : الشرط هو الطاعات المفترضة من الأفعال والتروك دون النوافل (١).

وقوله : (أو باللسان) عطف على قوله : «بالقلب» ، وهو حكاية للقول الثالث ، وهو أن الإيمان التصديق باللسان (فقط) أي : الإقرار بحقية ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بأن يأتي بكلمتي الشهادة.

(و) هذا (هو قول الكرّامية) قالوا : (فإن طابق) تصديق اللسان (تصديق القلب فهو مؤمن ناج ، وإلا) أي : وإن لم يطابقه (فهو مؤمن مخلد في النار) فليس للكرامية كبير خلاف في المعنى.

وقوله : (أو بالقلب واللسان) حكاية للقول الرابع ، وهو أن الإيمان تصديق بالقلب واللسان معا (٢) ، ويعبر عنه بأنه تصديق بالجنان وإقرار باللسان.

(وهو منقول عن أبي حنيفة) رحمه‌الله ، (ومشهور عن أصحابه ، و) عن (بعض المحققين من الأشاعرة) (٣).

(قالوا : لمّا كان الإيمان) لغة (هو التصديق ، والتصديق كما يكون بالقلب) بمعنى إذعانه وقبوله لما انكشف له (يكون باللسان) بأن يقر بالوحدانية وحقية الرسالة ، وإذا كان مفهوم الإيمان مركبا من التصديقين (فيكون كل منهما) أي : من التصديق القلبي والتصديق اللساني (ركنا في الباب) أي : في مفهوم الإيمان ، (فلا يثبت الإيمان إلا بهما ، إلا عند العجز) عن النطق باللسان ، فإن الإيمان يثبت بتصديق القلب فقط في حقه ، فالتصديق ركن لا يحتمل السقوط (أصلا ، والإقرار قد يحتمله ، وذلك في حق العاجز عن النطق والمكره (وكذا) أي : وكما هو منقول عن أبي حنيفة ومشهور عمن ذكر (الاحتياط واقع عليه) فيصدق أن يقال : أن جعل الإقرار بالشهادتين ركنا من الإيمان هو الاحتياط ، بالنسبة إلى جعله شرطا خارجا عن حقيقة الإيمان.

(والنصوص دالة عليه) أي : على كونه ركنا (وذكروا) أي : ذكر هؤلاء القائلون بكون الاقرار ركنا من النصوص (ما تعلقت به الكرامية) لقولهم السابق

__________________

(١) انظر : مقالات الإسلاميين ، ص ٢٦٦ ـ ٢٧٠.

(٢) ليست في (ط).

(٣) من أمثال الآمدي الذي حقق المسألة في غاية المرام ، انظر : ص ٣٠٩.

٢٨١

ذكره ، (من نحو قوله عليه) الصلاة و (السلام : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فمن قال لا إله إلا الله ، فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقه ، وحسابه على الله») أخرجه الشيخان (١) ، وفي رواية لهما : «حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به ، فإذا فعلوا ذلك عصموا ...» (٢) الحديث ، وفي رواية أبي داود والترمذي : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله» (٣) ، إلا أن أبا داود قال : «منعوا» بدل «عصموا».

(و) من نحو (قوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) (سورة النحل : ١٠٦) (الآية ، جعل المتكلم كافرا مع أن قلبه مطمئن بالإيمان ، ولكن عفى عنه) للإكراه ، (وإذا كان كافرا باعتبار اللسان) حيث نطق بالكفر (يكون مؤمنا باعتباره) أي : اللسان أيضا (لاتحاد مورد الإيمان والكفر) أي : محل ورودهما ، إذ لا قائل بتغاير موردهما.

(وصرح في الآية) السابق ذكرها (بإثبات الإيمان للقلب ، و) بإثبات (الكفر أيضا) له (بقوله) في إثبات الإيمان : ((وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) (سورة النحل : ١٠٦)) ، وبقوله في إثبات الكفر له : ((وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) (سورة النحل : ١٠٦)) فإن الصدر محل القلب ، والقلب هو المراد منه (وهو) أي : إثبات كل من الإيمان والكفر للقلب (محل اتفاق بين الفريقين) الأشاعرة والحنفية ، (فوجب كون الإيمان بهما) أي : بالقلب واللسان ، لما مر من الدلالة على كون كل منهما موردا له ، (وهو الاحتياط) كما سبق بيانه.

ويجاب من طرف جمهور الأشاعرة عن الحديث بأن معناه : إن قول لا إله إلا الله شرط لإجراء أحكام الإسلام ، حيث رتب فيه على القول الكف عن الدم والمال ، لا النجاة في الآخرة الذي هو محل النزاع.

وعن الآية بأنها دالة عن أنه لا أثر للسان في النجاة في الآخرة ، كما يشهد

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان ، باب فإن تابوا وأقاموا ، برقم ٢٥ ، وأخرجه أيضا برقم ٣٨٥ و ١٣٣٥ ، وأخرجه مسلم في الفضائل برقم ٢٣٩٠.

(٢) الحديث أخرجه البخاري عن ابن عمر في الإيمان ، باب (فَإِنْ تابُوا ...) رقم (٢٥) ، ومسلم برقم ٢١.

(٣) أخرجه أبو داود برقم (٢٦٤٠) بلفظ «منعوا» والترمذي برقم (٢٧٣٣) ، والبزار في مسنده بلفظ يقارب لفظ أبي داود برقم (٧٥) ، من رواية أبي هريرة.

٢٨٢

له قوله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) (سورة النساء : ١٤٥) ، حيث وصفهم بأقبح أنواع الكفر مع تصديقهم باللسان.

على أن من محققي الحنفية من وافق الأشاعرة كما نبه عليه المصنف بقوله : (إلا أن قول صاحب «العمدة») وهو كما مرّ أبو البركات عبد الله بن محمد بن محمود النسفي (منهم) أي : من الحنفية («الإيمان هو التصديق ، فمن صدق الرسول) صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فيما جاء به) عن الله (فهو مؤمن فيما بينه وبين الله تعالى ، والإقرار شرط إجراء الأحكام» (١) ، هو) أي : قول صاحب «العمدة» (بعينه القول المختار عند الأشاعرة) تبع فيه صاحب «العمدة» أبا منصور الماتريدي (٢).

(والمراد) بالأحكام في قولهم : «إجراء الأحكام» هي (أحكام الدنيا ، من الصلاة خلفه ،) والصلاة عليه ، (ودفنه في مقابر المسلمين ، وغير ذلك) كعصمة الدم والمال ، ونكاح المسلمة ، ونحوها.

قال في «شرح المقاصد» (٣) : ولا يخفى أن الإقرار لهذا الغرض ، أي : لإجراء الأحكام ، لا بدّ أن يكون على وجه الإعلان والإظهار للإمام وغيره من أهل الإسلام ، بخلاف ما إذا كان لإتمام الإيمان فإنه يكفي مجرد التكلم ، وإن لم يظهر على غيره.

(واتفق القائلون بعدم اعتبار الإقرار على) أنه يلزم المصدق (أن يعتقد أنه متى طولب به أتى به ، فإن طولب به فلم يقر فهو) أي : كفه عن الإقرار (كفر عناد ، وهذا ما قالوا : إن ترك العناد شرط ، وفسروه به) أي : فسروا ترك العناد بأن يعتقد أنه متى طولب بالإقرار أتى به.

هذا كلام تفصيلي في ضم الإقرار إلى التصديق ركنا أو شرطا ، وأما ضم غيره مما هو شرط جزما فقد نبه عليه بقوله : (وبالجملة فقد ضم إلى التصديق بالقلب) على القول بأنه مسمى الإيمان ، (أو) إلى التصديق (بهما) أي : بالقلب واللسان ، (في تحقق الإيمان وإثباته أمور) رفع بقوله : «ضم» نائبا عن الفاعل (الإخلال بها) أي : بتلك الأمور (إخلال بالإيمان اتفاقا ، كترك السجود للصنم ، وكقتل نبي) كذا في نسخ المتن وهو سهو ، واللائق حذف الكاف ، بأن يقال :

__________________

(١) العمدة ، ص ٢٣.

(٢) انظر : التوحيد ، ص ٣٨٠.

(٣) شرح المقاصد ، ٥ / ١٧٨.

٢٨٣

وكقتل نبي) كذا في نسخ المتن وهو سهو ، واللائق حذف الكاف ، بأن يقال : «وقتل نبي» عطفا على السجود ، أي : وكترك قتل نبي ، (أو الاستخفاف به ، أو) الاستخفاف (بالمصحف ، والكعبة ،) ولو عطف الجميع بالواو ، وأعاد الباء في «الكعبة» ليكون المعنى : «وترك الاستخفاف به (١) ، وترك الاستخفاف بالمصحف (٢) ، ((٣) وترك الاستخفاف بالكعبة» (٣)) فيشعر باستقلال ترك الاستخفاف بكل منها بالحكم ، لكان أولى.

(وكذا) أي : وكما مر من أن ارتكاب أحد الأمور مخل بالإيمان ، ومرتكبه كافر (مخالفة ما أجمع عليه) من أمور الدين ، بعد العلم بأنه مجمع عليه (وإنكاره) أي : إنكار ما أجمع عليه (بعد العلم به) أي : بأنه مجمع عليه ، فقوله : «بعد العلم به» متعلق بكلّ من المخالفة والإنكار.

وقيد الإمام النووي إنكار المجمع عليه بما إذا كان فيه نص ويشترك في معرفته الخاص والعام ، لا كإنكار أن لبنت الابن السدس مع بنت الصلب حيث لا عاصب ، فإنه مجمع عليه ، وفيه نص ((٤) هو ما رواه البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه (٤)) (٥) ، لكنه مما يخفى على العوام.

(قال الإمام أبو القاسم الأسفرايني بعد ذكرها) أي : ذكر الإخلالات السابق ذكرها (إذا وجد ذلك) الإخلال (دلنا على أن التصديق الذي هو الإيمان مفقود من قلبه ، إلى أن قال) يعني الإمام أبا القاسم المشار إليه (لاستحالة أن يقضي السمع بكفر من معه الإيمان ،) لأنه جمع للضدين (ولا يخفى على متأمل أن بعض هذه) الأمور التي تعمّدها كفر (قد يثبت) أي : يؤخذ ويتحقق (وصاحبها مصدق) بالقلب ، وإنما يصدر عنه (لغلبة الهوى) (٦) ، فتعريف الإيمان بتصديق

__________________

(١) في (م) : الاستخفاف بالكعبة.

(٢) في (م) : الاستخفاف بالمصحف.

(٣) سقط من (م).

(٤) سقط من (م).

(٥) الحديث أخرجه البخاري في الفرائض ، باب ميراث ابنة ابن مع ابنة ، رقم ٦٣٥٥ ، وأخرجه كذلك برقم ٦٣٢١.

(٦) الهوى : ميل النفس إلى ما تستلذه من الشهوات من غير داعية الشرع ، سواء على مستوى العقل أو البدن.

٢٨٤

القلب فقط غير مانع ، لصدق التعريف مع انتفاء الإيمان.

(والمقطوع به) في تحقيق معنى الإيمان أمور :

الأول : (أن الإيمان وضع) أي : موضوع (إلهي) من عقائد وأعمال (أمر) الله سبحانه (به (١) عباده) أي : أمرهم بالتلبس به اعتقادا وعملا ، (ورتب على فعله) أي : التلبس به (لازما) لا يتخلف عنه ، وذلك اللازم (وهو ما شاء) سبحانه (من خير بلا انقضاء) وهو سعادة الأبد ، (و) رتب سبحانه (على تركه) أي : ترك التلبس بذلك الموضوع (ضده) وهو ما شاء من شر (بلا انقضاء ، وهذا) الضد وهو شقاوة الأبد (لازم الكفر شرعا).

(و) الأمر الثاني : (أن التصديق بما أخبر به النبي) صلى‌الله‌عليه‌وسلم (من انفراد الله تعالى بالألوهية ، وغيره) مما أخبر به كالحشر والجزاء والجنة والنار (إنما (٢) كان) ذلك التصديق (على سبيل القطع) فهو بعض (من مفهومه) أي : مفهوم الإيمان ، فقوله : «من مفهومه» خبر «إن» في عبارته.

(و) الأمر الثالث : (أنه) قد (اعتبر في ترتيب لازم الفعل) أي : التلبس بذلك الموضوع الذي أمر به العباد ، يعني الإيمان (وجود أمور ، عدمها) أي : عدم تلك الأمور (مترتّب ضده) و «مترتب» بصيغة اسم المفعول ، والمعنى : أنه يترتب الضد الذي هو شر بلا انقضاء على عدم تلك الأمور ، وتلك الأمور التي اعتبر وجودها لترتب ذلك اللازم ويترتب على عدمها ضده : (كتعظيم الله تعالى ، و) تعظيم (أنبيائه ، وكتبه ، وبيته ،) المحرم ، (وترك) عطف على «تعظيم» أي : وكترك (السجود للصنم ونحوه ،) أي : نحو السجود للصنم من الأفعال المكفرة ، (والانقياد) عطف أيضا على «تعظيم» أي : «وكالانقياد» (وهو الاستسلام إلى قبول أوامره ونواهيه) سبحانه وتعالى ، (الذي هو) أي : ذلك الاستسلام (معنى الإسلام).

(وقد اتفق أهل الحق ، وهم فريقا الأشاعرة والحنفية على) تلازم الإيمان والإسلام ، بمعنى (أنه لا إيمان) يعتبر (بلا إسلام ، وعكسه ،) أي : لا إسلام يعتبر بدون إيمان ، فلا ينفك أحدهما عن الآخر ، (فيمكن اعتبار هذه الأمور) أي :

__________________

(١) ليست في (م).

(٢) في (م) : إذا.

٢٨٥

التصديق والإقرار وعدم الإخلال بما ذكر (أجزاء لمفهوم الإيمان ، فيكون انتفاء ذلك اللازم) الذي هو ما شاء الله تعالى من خير بلا انقضاء (عند انتفائها ، لانتفاء الإيمان) بانتفاء جزئه ، (وإن وجد) جزؤه الذي هو (التصديق ، وغاية ما فيه أنه نقل عن مفهومه اللغوي الذي هو مجرد التصديق إلى مجموع) أي : أمور اعتبرت جملتها ، ووضع بإزائها لفظ الإيمان ، (هو) أي : التصديق جزء (منها) أي : من تلك الأمور التي عبر عنها بقوله : «مجموع» ، (ولا بأس به) أي : بالقول بأن الإيمان نقل إلى مجموع الأمور المذكورة ، وإن كان المختار خلافه كما سيأتي.

(فطنا قاطعون بأنه لم يبق على حاله الأول ، إذ قد اعتبر الإيمان شرعا) أي : من جهة الشرع وبالاصطلاح المفهوم منه (تصديقا خاصا) بعد كونه لغة لمطلق التصديق ، كما سيأتي.

(وهو) أي : التصديق الخاص (ما يكون) تصديقا (بأمور خاصة) كالوحدانية والبعث والجزاء والرسل والملائكة والكتب ، وغيرها من ضروريات الدين بالنسبة إلى الإيمان.

(و) اعتبر فيه شرعا أيضا (أن يكون بالغا إلى حد العلم أن منعنا إيمان المقلد) أي : منعنا صحته ، (وإلا) أي : وإن لم نمنع صحة إيمان المقلد (فالجزم) أي : فالمعتبر حينئذ في الإيمان الجزم ، (الذي لا يجوز معه ثبوت النقيض) ، سواء كان لموجب من حس أو عقل أو عادة ، وهو العلم أولا لموجب كاعتقاد المقلد (١).

(وهو) أي : الإيمان (في اللغة أعم من ذلك) لأنه التصديق القلبي مطلقا ، نحو : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) (سورة العنكبوت : ٢٦) ، أي : صدق ، (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) (سورة يوسف : ١٧) ، أي : بمصدق ، وقوله : (ويمكن اعتبارها) مقابل لقوله فيما سبق : «فيمكن اعتبار هذه» معطوفا عطف جملة على جملة ، أي : ويمكن اعتبار الأمور المضمونة إلى التصديق المعتبرة معه أجزاء للإيمان على هذا القول

__________________

(١) اعتقاد المقلد لموجب اعتقاد صحيح عند المتكلمين ؛ لأن الموجب هو الدليل القوي المصاحب لهذا الاعتقاد ؛ سواء مشاهدة عيانية أو طمأنينة قلبية مترتبة على علم يقيني أو غيرها مما يفرعه المتكلمون ؛ وبه حكم على صدق إيمان الفتاة الخرساء ، في الحديث المشهور ، وإيمان كثير من الأعراب والعوام.

٢٨٦

(شروطا لاعتباره) أي : الإيمان (شرعا) ، وهو القول المقابل له ، (فينتفي أيضا لانتفائها الإيمان مع وجود التصديق بمحليه) القلب واللسان ، إذ الشرط يلزم من عدمه عدم المشروط (ولا يمكن اعتبارها) شرعا (شروطا لثبوت اللازم الشرعي فقط (١)) أي : دون ملزومه وهو الإيمان ، (فينتفي) أي : فيتفرع على اعتبارها شروطا للازم دون الملزوم انتفاء ذلك اللازم (عند انتفائها ، مع قيام الإيمان) الملزوم ؛ (لأن الفرض أن عند انتفائها) أي : انتفاء تلك الأمور (يثبت ضد لازم الإيمان وهو لازم الكفر على ما ذكرناه) فيما سبق ، (فيثبت ملزومه وهو الكفر) إذ الملزومان إذا تضادا ولم يكن بينهما واسطة يلزم من ثبوت كل منهما ثبوت لازمه ومن انتفاء كل منهما ثبوت ضده المستلزم لثبوت لازم ذلك الضد (٢).

(واعلم أن الاستدلال) الذي به يكتسب التصديق القلبي (ليس شرطا لصحة الإيمان على المذهب المختار) الذي عليه الفقهاء وكثير من العلماء ، (حتى صححوا إيمان المقلد ، ومنعه كثير) وهم المعتزلة ، كذا في «العمدة» و «البداية» (٣) وغيرهما ، ونقل المنع عن الشيخ أبي الحسن الأشعري ، فقال الأستاذ أبو القاسم القشيري : إنه افتراء عليه (٤).

وقد أشار المصنف إلى تحرير محل النزاع بقوله : (وقلّ أن يرى مقلد في الإيمان بالله تعالى ، إذ كلام العوام في الأسواق محشو بالاستدلال بالحوادث) أي : بحدوثها (عليه) أي : على وجوده تعالى ، (وعلى صفاته) من العلم والإرادة والقدرة وغيرها ، (والتقليد مثلا هو أن يسمع الناس يقولون : إن للخلق ربا خلقهم وخلق كل شيء ويستحق العبادة عليهم وحده لا شريك له فيجزم بذلك ، لجزمه بصحة إدراك هؤلاء تحسينا لظنه بهم ، وتكبيرا) بالموحدة أي تعظيما ، (لشأنهم عن الخطأ) لكثرتهم وتوافقهم على ذلك مع رصانة عقولهم.

(فإذا حصل عن ذلك جزم لا يجوز معه كون الواقع النقيض) أي : نقيض ما أخبروا به ، (فقد قام) المكلف الذي حصل له ذلك الجزم (بالواجب من الإيمان)

__________________

(١) في (م) : فسقط.

(٢) الملزومان إذا تضادّا ولم يكن بينهما واسطة ، وجب وجود أحدهما وانتفاء الآخر ، كالتلازم بين وجود النهار في مكان وعدم وجود الليل ، وكالتلازم بين وجود الشك وانتفاء نقيضه.

(٣) انظر : العمدة ، ص ٢٣ ، والبداية ، للصابوني ، ص ١٥٤.

(٤) انظر : أصول الدين ، للبغدادي ، ص ٢٥٥ ، وتبيين كذب المفتري ، لابن عساكر ، ص ٣٥٧.

٢٨٧

«من» : بيانية ، أي : الذي هو الإيمان ، (إذ لم يبق) بعد حصول الجزم المذكور (سوى الاستدلال ، ومقصود الاستدلال هو حصول ذلك الجزم ، فإذا حصل) المكلف (ما هو المقصود منه) أي : من الاستدلال فقد (تم قيامه بالواجب).

(ومقتضى هذا التعليل أن لا يكون عاصيا بعدم الاستدلال) أي : بتركه ؛ (لأن وجوبه) أي : الاستدلال (إنما كان ليحصل ذلك) الجزم ، (فإذا حصل سقط هو) أي : وجوب الاستدلال الذي هو وسيلة ، إذ لا معنى لاستحصال المقصود بالوسيلة بعد حصوله دونها.

(غير أن بعضهم ذكر الإجماع على عصيانه) بترك الاستدلال ، (فإن صح) ما نقله هذا البعض من الإجماع (١) (فبسبب) أي فعصيانه بسبب (أن التقليد عرضة) أي : معرض (لعروض التردد) للمقلد بعد جزمه ، وذلك (بعروض) أي : بسبب عروض (شبهة) له ، (بخلاف الاستدلال) المحصل للجزم (فإن فيه) أي : في الاستدلال (حفظه) أي : حفظ الجزم عن عروض التردد بعده.

وقوله : (ولأن) عطف على التعليل السابق بقوله : «إذ لم يبق» ، وهو تعليل ثان لقيام المقلد بالواجب من الإيمان ، وهو أن (الصحابة) رضي الله عنهم (كانوا يقبلون إيمان عوام الأمصار التي فتحوها من العجم) بيان لقوله : عوام حال كون إيمانهم صادرا (تحت السيف) ولات حين استدلال ، (أو لموافقة بعضهم بعضا) بأن يسلم زعيم منهم مثلا فيوافقه غيره.

(وتجويز حملهم إياهم) أي : حمل الصحابة عوام الأمصار أو حمل البعض السابق بالإيمان البعض الموافق له (على الاستدلال بعيد في بعض الأحوال ، التي

__________________

(١) الإجماع على عصيان تارك الاستدلال جزم به الجويني في كتابه الإرشاد إلى قواطع الأدلة من الاعتقاد ، عند ما قال : إن أول واجب يجب على الإنسان لما يبلغ النظر المؤدي إلى العلم بحدوث العالم وغيره ، ولكن البعض قال : إن النظر محل ظن الوقوع في احتمالات موجبة لشكوك وأوهام مخلة بالتصديق الإيماني الذي قد يحصل دفعيا ؛ فهذا القول خرق الإجماع ، وطعن في صحة وقوعه. لكن البعض رد بأن مقصودهم من النظر الموجب للشكوك : النظر غير الصحيح ، بينما الإجماع والاتفاق على النظر الصحيح المبني على الأدلة القطعية. (انظر : تيسير التحرير لأمير باد شاه ، ٤ / ٢٤٥) ، لكن علي القاري أشار إلى أن أبا حنيفة يصحح إيمان المقلد ، وأضاف معه سفيان الثوري ومالك والأوزاعي والشافعي وأحمد ، وقال : ولكنه عاص بترك الاستدلال ، بل نقل بعضهم الإجماع على ذلك. انظر : شرح الفقه الأكبر ، ص ٢١٦.

٢٨٨

إذا نقلت يكاد يجزم العقل بعدم الاستدلال معها).

(ثم بعد هذا) الخلاف في ماهية الإيمان (اختلفوا في التصديق) القائم (بالقلب الذي هو جزء مفهوم الإيمان) على قول ، (أو تمامه (١)) أي : تمام مفهومه على قول آخر كما سبق ؛ (أهو) أي : التصديق (من باب العلوم والمعارف؟ أو) هو (من باب الكلام النفسي؟)

(فقيل بالأول) وهو أنه من باب العلوم والمعارف (ودفع بالقطع بكفر كثير من أهل الكتاب مع علمهم بحقية رسالته عليه) الصلاة و (السلام ، و) حقية (ما جاء به كما أخبر عنهم تعالى بقوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦)) (سورة البقرة : ١٤٦) في آي كثيرة) كقوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) (سورة البقرة : ٨٩) وقوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) (سورة آل عمران : ٧٠) ، (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١)) (سورة آل عمران ٧١).

وقوله : (وبأن) عطف على قوله : «بالقطع» ، أي : ودفع أيضا بأن (الإيمان مكلف به ، والتكليف إنما يتعلق بالأفعال الاختيارية ، والعلم مما يثبت بلا اختيار ، كمن ونعت (٢) مشاهدته على من ادعى النبوة وأظهر المعجزة) بأن شاهد كلا من الدعوى وظهور المعجزة ، (فلزم نفسه عند ذلك) أي : عند وقوع مشاهدته (العلم بصدقه) و «نفسه» : مفعول مقدم ل «لزم» ، والفاعل : «العلم».

(وذهب إمام الحرمين وغيره إلى أنه من قبيل الكلام النفسي) وعبارته في «الإرشاد» : ثم التصديق على التحقيق كلام النفس ، ولكن لا يثبت إلا مع العلم ، فإنا أوضحنا أن كلام النفس يثبت على حسب الاعتقاد (٣) اه.

(قال صاحب «الغنية» (٤) (٥) : اختلف جواب) الشيخ (أبي الحسن) الأشعري (في

__________________

(١) في (م) : تمام.

(٢) في (م) : وقعت.

(٣) الإرشاد ، ص ٣٩٧.

(٤) وهو محمد بن عبد الكريم الشهرستاني ، أبو الفتح ، من عمالقة الأشاعرة ، من أهل شهرستانة ، كان إماما أصوليا عارفا بالأدب والعلوم المهجورة ، توفي سنة ٥٤٨ ه‍. (السير ، ٢٠ / ٢٨٦).

(٥) في (م) : إلا هيتة.

٢٨٩

معنى التصديق) الذي هو تمام حقيقة الإيمان عنده ، (فقال مرة : هو المعرفة بوجوده) تعالى ، (والهيئة (١) ، وقدمه ، وقال مرة : التصديق قول في النفس ، غير أنه يتضمن المعرفة ولا يصح دونها ، و) هذا الثاني قد (ارتضاه القاضي) أبو بكر الباقلاني ، (فإن التصديق والتكذيب والصدق والكذب بالأقوال أجدر) منه بالعلوم والمعارف (ثم يعبر عن تصديق القلب باللسان (٢). اه).

(وظاهر عبارة الشيخ أبي الحسن) المنقولة عنه آنفا (أنه) أي : التصديق (كلام النفس مشروط بالمعرفة) يلزم من عدمها عدمه ؛ لأن الاستسلام الباطن إنما يحصل بعد حصول المعرفة ، أعني : إدراك مطابقة دعوى النبي للواقع ، أي : تجليها للقلب وانكشافها ، (ويحتمل أنه) أي : التصديق (٣) هو (المجموع) المركب (من المعرفة و) من (ذلك الكلام النفسي) فيكون كل منهما ركنا من الإيمان ، (فلا بد في تحقق الإيمان) على كلا الاحتمالين في عبارة الشيخ أبي الحسن (من المعرفة ، أعني : إدراك مطابقة دعوى النبي للواقع ، ومن) أمر (آخر هو الاستسلام) الباطن (والانقياد لقبول الأوامر والنواهي ، المستلزمة) ذلك الاستسلام والانقياد (للإجلال) أي : لإجلال الإله تعالى ، (وعدم الاستخفاف) بأوامره ونواهيه.

وهذا الاستسلام الباطن ـ وبه عبر الحجة في كلامه على الإيمان والإسلام ٤ ـ هو المراد ب «كلام النفس» ، وإنما قلنا إنه لا بدّ مع المعرفة من الأمر الآخر وهو الاستسلام الباطن (لما ذكرنا) فيما مر (من ثبوت مجرد تلك المعرفة) أي : الاتصاف بها (مع قيام الكفر) بمن اتصف بها كما مر بيانه ، (و) من ثبوت مجرد المعرفة (بلا كسب واختيار فيه ، و) بلا (قصد إليه) كما مر تمثيله بمن وقعت مشاهدته على من ادعى النبوة وأظهر المعجزة.

(ومع هذا) أي : مع كونه يثبت بلا كسب واختيار فيه وبلا قصد إليه (يتعلق ظاهر التكليف به ، نحو) قوله تعالى : ((فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) (سورة محمد : ١٩) ، والمراد : اكتسبه بفعل أسبابه) من القصد إلى النظر في آثار القدرة الدالة على الوجود والوحدانية ، وتوجيه الحواس إليها ، وترتيب المقدمات المأخوذة من ذلك على الوجه المؤدي إلى المقصود ، (حتى لو وقع العلم) لإنسان (دفعيا) من

__________________

(١) انظر : نهاية الإقدام في علم الكلام ، للشهرستاني ، ص ٤٧٢.

(٢) في (م) : الإيمان.

(٣) انظر : إحياء علوم الدين ، ١ / ١٧١.

٢٩٠

غير ترتيب مقدمات (احتاج) من وقع له ذلك (إلى تحصيله) أي : ذلك العلم (مرة أخرى كسبا ، على ما هو ظاهر كلام بعضهم) كالمولى سعد الدين في «شرح المقاصد» فإنه قال : إن حصول هذا التصديق قد يكون بالكسب ، أي : مباشرة الأسباب بالاختيار ، كإلقاء الذهن وصرف النظر وتوجيه الحواس وما أشبه ذلك ، وقد يكون بدونه ، كمن وقع عليه الضوء فعلم أن الشمس طالعة ، والمأمور به يجب أن يكون من القسم الأول. ثم قال : لا يفهم من نسبة الصدق إلى المتكلم بالقلب سوى إذعانه وقبوله وإدراكه لهذا المعنى ، أعني : كون المتكلم صادقا من غير أن يتصور هناك فعل وتأثير من القلب ، ونقطع بأن هذا كيفية للنفس قد تحصل بالكسب والاختيار ومباشرة الأسباب ، وقد تحصل بدونها ، فغاية الأمر أن يشترط فيما يعتبر في الإيمان أن يكون تحصيله بالاختيار ، على ما هو قاعدة المأمور به (١). اه.

وظاهره كما قال المؤلف عدم الاكتفاء بحصوله دون كسب ، (وفيه) كما قال المؤلف (نظر ؛) لأن حصول الاستسلام والانقياد بعد حصول العلم الدفعي (٢) (٣) حصول للمقصود مغن عن استحصاله بتعاطي الوسيلة الموصلة إليه ، فلا وجه لعدم الاكتفاء بالعلم الدفعي ، (بل) الوجه أنه (إذا حصل كذلك) أي : دفعيا (كفى ضمّ ذلك الأمر الآخر من الانقياد) الباطن (إليه ، وذلك التكليف الكائن لتعاطي أسباب العلم إنما هو لمن لم يحصل له العلم ، فإذا حصل هو) أي : العلم (سقط ما وجوبه لأجله) أي : لأجل حصوله ؛ لأنه لا معنى لتعاطي وسيلة لأجل مقصود وهو حاصل بدونها. (٤)

(ثم) هذا كلام في مفهوم الإسلام (جعل بعض أهل العلم الاستسلام والانقياد) بالباطن (الذي هو معنى الإسلام) لغة (داخلا في معنى التصديق) وعليه فمفهوم الإسلام جزء من مفهوم الإيمان ، (وأطلق بعضهم) أي : بعض أهل العلم (اسم المرادف على الإيمان والإسلام) وكأنه يعني صاحب «التبصرة» ، فإنه قال :

__________________

(١) شرح المقاصد ، ٥ / ١٨٨ ـ ١٨٩.

(٢) العلم الدفعي : هو البديهي الذي لا يتوقف فيه على النظر الكثير ويحصل دفعة دون ترتيب ، وعبر بالدفعي هنا للجزم دفعة واحدة باطمئنان دون التقيد بدرجات النظر.

(٣) في (م) : كلامه.

(٤) تلازم المفهومين : يعني أن نفي أحدهما يلزم منه نفي الآخر وإثبات أحدهما يلزم منه إثبات الآخر ، فنفي الإيمان يستلزم نفي الإسلام ، ونفي الإسلام يستلزم نفي الإيمان ، والكلام نفسه في الإثبات ، ولكنهما غير متحدين ، فليس كل مسلم مؤمنا بينما يكون كل مؤمن مسلما.

٢٩١

الاسمان من قبيل الأسماء المترادفة ، فكل مؤمن مسلم وكل مسلم مؤمن. ثم فسر صاحب «التبصرة» كلّا (١) بما يدل على تلازم مفهوميهما لا اتحادهما (٢).

وهو عين ما اختاره المصنف بقوله : (والأظهر أنهما) أي : الإيمان والإسلام (متلازما المفهوم ، فلا يكون إيمان في الخارج) معتبرا شرعا (بلا إسلام ، ولا إسلام) معتبرا شرعا (بلا إيمان).

(و) الأظهر (أن التصديق قول للنفس) ناشئ (عن المعرفة) تابع لها ، كذا في بعض النسخ بلفظ «عن» وفي بعضها : «غير المعرفة» ، وهو الملائم ، لتعليله بعده بقوله : (لأن المفهوم منه) أي : من التصديق (لغة) هو (نسبة الصدق) باللسان أو القلب (إلى القائل ، وهو فعل) لساني أو نفساني ، (والمعرفة) ليست فعلا ، إنما هي (من قبيل الكيف المقابل لمقولة الفعل ، فلزم خروج كل من الانقياد الذي هو الاستسلام و) من (المعرفة عن مفهوم التصديق) لغة ، مع ثبوت اعتبارهما شرعا في الإيمان.

(وثبوت اعتبارهما) شرعا (في الإيمان إما على أنهما جزءان لمفهومه شرعا ، أو) على أنهما (شرطان لاعتباره) لإجراء أحكامه (شرعا ،) فلا يعتبر شرعا بدونهما ، (و) هذا الثاني (هو الأوجه ، إذ في الأول) وهو كونهما جزءين ٣ لمفهومه (يلزم النقل) أي : نقل الإيمان من المعنى اللغوي إلى معنى آخر شرعي ، (وهو) أي : النقل (بلا موجب) أي : بلا دليل يقتضي وقوعه (منتف) لأنه خلاف الأصل فلا يصار إليه إلا بدليل ، ولا دليل.

بل قد كثر في الكتاب والسنة طلبه من العرب ، وأجاب من أجاب إليه بدون استفسار عن معناه ، وإن وقع استفسار من بعضهم فإنما هو عن متعلق الإيمان ، بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جواب سؤال جبريل عن الإيمان : «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ... الخ» ٤ ، حيث فسر المتعلقات ولم يفسر لفظ الإيمان بل أعاده بقوله : «أن تؤمن» ؛ لأنه كان معروفا عندهم ، نعم ؛ لا نزاع في أنه لغة لمطلق التصديق ، وشرعا تصديق بأمور خاصة ، فهو تصديق بتلك الأمور الخاصة بالمعنى اللغوي (وعدم تحقق الإيمان بدونهما) أي : بدون المعرفة والاستسلام (ليس

__________________

(١) في (م) : جزءان.

(٢) أخرجه البخاري في الإيمان ، باب سؤال جبريل عليه‌السلام عن الإيمان والإسلام رقم ٥٠ ، وأخرجه مسلم في الإيمان برقم ٩ ـ ١٠. وأخرجه عن عمر في الباب نفسه برقم ٨.

٢٩٢

يستلزم جزئيتهما للمفهوم) أي : مفهوم الإيمان (شرعا ، لجواز الشرطية الشرعية) أي : جواز أن يكونا شرطين للإيمان شرعا وحقيقته التصديق بالأمور الخاصة بالمعنى اللغوي ، وتلك الأمور هي ما علم مجيء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم به ضرورة كما مر.

(وإذا) بالتنوين عوضا عن الشرط المحذوف ، أي : إذا تقرر أن كلا من الانقياد والمعرفة خارج عن مفهوم التصديق لغة ، وإن تحقق عدم الإيمان بدونهما لا يستلزم جزئيتهما لمفهوم الإيمان (ظهر ثبوت التصديق) لغة بدونهما ، فيثبت (مع الكفر) الذي هو ضد الإيمان ، أي : مع الحكم بكفر من قام به ذلك التصديق كما مر التنبيه عليه ؛ (لأنا لا نجد مانعا في العقل) يمنع (من أن يقول جبار عنيد لنبي كريم : صدق ، بلسانه مطابقا) هذا القول (لاعتقاد جنانه ، ثم يقتله لغلبة هوى) أي : هوى نفس لذلك القاتل.

(بل قد وقع) ذلك الفعل (كثيرا على ما يظهر) أي : يطلع (عليه من تتبع القصص ، فإن بعضها) أي : بعض القصص (يفيد قتل بعضهم) أي : الأنبياء (مع العلم) أي : علم القاتلين (بنبوتهم) لظهور المعجزات لهم ، كما وقع في يحي (١) وزكرياء (٢) عليهما الصلاة والسلام.

(وبعضها) أي : القصص (يفيد قصد قتل بعضهم مع ذلك) أي : الاعتراف بنبوة ذلك البعض (غير أن الله سبحانه سلّم) ذلك المقصود بالقتل ، (كما قصد عوج) هو : ابن عنق (٣) هو (والجبار الذي أغراه) بالسيد موسى (مع اعترافهما بنبوة) السيد (موسى عليه) الصلاة و (السلام ، على ما تفيده القصة) المسطورة في قصص الأنبياء وبعض التفاسير (٤).

(فلا يكون وجود نحو هذا) الفعل (دالا على انتفاء التصديق من القلب كما

__________________

(١) انظر قصة قتل يحيى عليه‌السلام في قصص الأنبياء ، لعبد الوهاب النجار ، ص ٤٩٥ ، وقصص الأنبياء ، لابن كثير ، ص ٥٦٧.

(٢) انظر قصة قتل زكريا عليه‌السلام ، في المرجعين السابقين ص ٤٩٤ وص ٥٦٣.

(٣) عوج بن عنق : وهو من الجبارين الساكنين بالأرض المقدسة ، وذكر بعض المفسرين أن عوج بن عنق خرج من عند الجبارين إلى بني إسرائيل ليهلكهم وكان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة ذراع ، قال ابن كثير : هكذا ذكره البغوي وغيره وليس صحيحا. والقصة موجودة عند ابن كثير مع إبطاله لها ، انظر : قصص الأنبياء ، ص ٣٧٥ ، وقال : ونقله ابن جرير عن ابن عباس ، وفي إسناده إليه نظر ، ثم هو مع هذا كله من الإسرائيليات.

(٤) انظر : تفسير الطبري ، ٤ / ١٧٣ ، وقصص الأنبياء لابن كثير ، ص ٣٧٥.

٢٩٣

ظنه الأستاذ) أبو القاسم الأسفرايني (على ما قدمناه عنه) وعبر عنه هناك ب «الإمام» ، (بل) يدل مثل الفعل المذكور كقتل النبي ممن قام به التصديق (على عدم اعتباره) أي : التصديق (منجيا) له (شرعا) من عذاب الكفر المخلد.

(والإيمان) كما مر أنه مقطوع به (وضع إلهي له) أي : للإله سبحانه و (تعالى أن يعتبر ـ في تحقق لازمه الذي قدمناه ـ ما شاء) من الأمور (مع التصديق) وقد مر أنه يكفر من استخف بنبي أو بالمصحف أو بالكعبة ، وهو مقتض لاعتبار تعظيم كل منها ؛ لأن الله جعله في رتبة عليا من التعظيم.

غير أن الحنفية اعتبروا من التعظيم المنافي للاستخفاف بما عظمه الله تعالى ما لم يعتبره غيرهم ، (ولاعتبار التعظيم المنافي للاستخفاف) المذكور (كفّر الحنفية) أي : حكموا بالكفر (بألفاظ كثيرة وأفعال تصدر من المتهتكين) الذين يجترءون بهتك حرمات دينية (لدلالتها) أي : لدلالة تلك الألفاظ والأفعال (على الاستخفاف بالدين ، كالصلاة بلا وضوء عمدا ، بل) قد حكموا بالكفر (بالمواظبة على ترك سنة استخفافا بها ، بسبب أنها إنما فعلها النبي زيادة ، أو استقباحها) بالجر عطفا على «المواظبة» أي : بل قد كفر الحنفية من استقبح سنة ، (كمن استقبح من) إنسان (آخر جعل بعض العمامة تحت حلقه ، أو) استقبح منه (إحفاء شاربه) (١).

(فإن قلت :) قد فسرتم الإسلام بالاستسلام والانقياد ، وهو خلاف ما فسره به الشرع ، (فقد صرح) نبينا (عليه) الصلاة و (السلام في جواب جبريل عن السؤال عن الإسلام بأنه الأعمال حيث قال : «أن تشهد لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ... الخ) وهو : «وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا» (٢) ، فإنه جعل إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج من الإسلام؟

(قلت : لا شك) في (أنه) أي : الإسلام (يطلق على ذلك) أي : ما ذكر من الأعمال شرعا ، (كما يطلق على ما ذكرنا) من الاستسلام والانقياد لغة وشرعا ،

__________________

(١) أخرج البخاري في كتاب اللباس باب تقليم الأظافر ، برقم ٥٥٥٣ ، عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «خالفوا المشركين ، وفروا اللحى وأحفوا الشوارب» وأخرجه البخاري في باب إعفاء اللحى برقم ٥٥٥٤ ، عن ابن عمر أيضا قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «انهكوا الشوارب وأعفوا اللحى».

(٢) أخرجه البخاري في الإيمان ، باب سؤال جبريل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الإيمان والإسلام رقم ٥٠ ، وأخرجه مسلم في الإيمان ، برقم ٩ ـ ١٠ ، وأخرجه عن ابن عمر في الباب نفسه برقم ٨.

٢٩٤

(وما نسبناه له) أي : للإسلام (من ملازمته مع الإيمان) كما قدم أنه الأظهر ، وفي التعبير ب «مع» مع المفاعلة انتقاد ، والأولى أن يقال : «من ملازمته للإيمان» ، (أو الاتحاد به) عند من أطلق أنهما مترادفان (هو) أي : الملازمة والاتحاد (بما) أي :

بالمعنى الذي (ذكرنا) وهو الاستسلام والانقياد ، (وأما بالمفهوم المذكور في قوله عليه) الصلاة و (السلام) : «وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة» وهو الأعمال ، (فلا يلازم) الإسلام بهذا المعنى (الإيمان ، بل ينفك عنه الإيمان ،) إذ قد يوجد التصديق مع الاستسلام الباطن بدون الأعمال ، (وينفرد) عنها ، (أما هو) أي : الإسلام بمعنى الأعمال الشرعية (فلا) ينفك عن الإيمان ، (لاشتراط الإيمان لصحة الأعمال) فلا تنفك هي عنه ، (بلا عكس) إذ لا تشترط الأعمال لصحة الإيمان (خلافا للمعتزلة وأما الخوارج فهي عندهم جزء المفهوم) أي : مفهوم الإيمان (على ما قدمناه) عنهم أول الخاتمة.

٢٩٥

النظر الثاني

متعلقه

إما أن يكون في الكلام حذف ، أي : النظر الثاني في بيان متعلق الإيمان ، حذف المضاف الأول مع حذف حرف الجر ، وأقيم المضاف إليه وهو «متعلق» مقامه ، أو يكون «النظر» بمعنى «المنظور فيه» ، فيكون المعنى : المنظور فيه الثاني متعلق الإيمان ، يعني التصديق.

(متعلق الإيمان) أي : ما يجب الإيمان به (هو (١) ما جاء به محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم) عن الله عزوجل ، (فيجب التصديق بكل ما جاء به) عن الله تعالى (من اعتقادي) أي : أمر المقصود منه اعتقاده ، (و) من (عملي) أي : أمر المقصود منه العمل ، (وأعني) بالتصديق في الثاني (اعتقاد حقية العملي) أي : اعتقاد أنه حق وصدق كما أخبر به صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وتفاصيل هذين) يعني الاعتقادي والعملي شيء (كثير) جدا ، (إذ حاصل ما في الكتب الكلامية و) دواوين (السنة هو تفاصيلهما) لأن المقصود مما تضمنته الكتب الكلامية الاعتقادات ومما وردت به السنة الاعتقاد أو (٢) العمل ، (فأكتفي بالإجمال وهو (٣) :

(أن يقر بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله) إقرارا صادرا (عن مطابقة جنانه واستسلامه) للسانه ، و «الجنان» : القلب ، كما في الصحاح (٤).

(وأما التفاصيل فما وقع) منها (في الملاحظة) أي : ملاحظة المكلف بعين

__________________

(١) ليست في (ط).

(٢) في (م) : و.

(٣) في (م) : الاجماع.

(٤) انظر : مختار الصحاح ، ص ١١٤.

٢٩٦

بصيرته (بأن جذبه) أي : المكلف (جاذب إلى التعقل) أي : تعقل ذلك الأمر التفصيلي (وجب إعطاؤه) أي : إعطاء ذلك الأمر التفصيلي (حكمه) المتعلق به خاصة ، (من وجوب الإيمان) فيجب الإيمان (به) تفصيلا ، (فإن كان) ذلك الأمر التفصيلي (مما ينفي جحده الاستسلام أو يوجب التكذيب) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه (فجحده) المكلف (كفر) أي : حكم بأنه كافر ، (وإلا) أي : وإن لم ينف جحده الاستسلام ولا أوجب التكذيب (فسق) جاحده (وضلل) أي : حكم بأنه فاسق ضال ، (فما) أي : فالذي (ينفي الاستسلام) فهو (كل ما قدمناه عن الحنفية) من الألفاظ والأفعال الدالة على الاستخفاف ، (وما) ذكرناه (قبله من قتل نبي ، إذ الاستخفاف أظهر فيه) أي : في قتل النبي ، يعني : إن قتله أظهر في الاستخفاف بالدين من الألفاظ والأفعال الصادرة من المتهتكين ، كما مر من استقباح إحفاء الشارب والمواظبة على ترك السنة استخفافا بها (١).

(وما) أي : والذي (يوجب التكذيب) هو (جحد كل ما ثبت عن النبي) صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ادعاؤه ضرورة) أي : بحيث صار العلم بكونه ادعاؤه ضروريا ، كالبعث والجزاء والصلوات الخمس ، (ويختلف حال الشاهد للحضرة النبوية ، و) حال (غيره) ممن لم يشهدها ، (في بعض المنقولات دون بعض ، فما كان ثبوته ضرورة عن نقل اشتهر وتواتر فاستوى في معرفته الخاص والعام استويا) أي : الشاهد وغيره (فيه) أي : في وجوب الإيمان به ، (كالإيمان برسالة محمد) صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وما جاء به من وجود الله تعالى) أي : وجوب وجود ذاته المقدسة سبحانه ، (وانفراده) تعالى (باستحقاقه العبودية على العالمين) إذ هو مالكهم حقيقة لأنه الذي أوجدهم من العدم ، (و) هذا الانفراد (هو معنى نفي الشريك) في استحقاق العبودية ، (و) هو معنى (التفرد بالألوهية وما يلزمه) أي : ما يلزم التفرد بالألوهية (من الانفراد) أي : انفراده تعالى (بالقدم ، وما عنه ذلك) أي : وما يعلم عنه الانفراد ، بالقدم (٢) (من الانفراد) أي : انفراده تعالى (بالخلق) أي : إيجاد الممكنات ، لأنه الدليل على وجوب الوجود والانفراد بالقدم ، (وما يلزم الانفراد بالخلق من كونه تعالى حيا عليما قديرا مريدا) (٣) على ما مر في الركن الثاني من أن ثبوت استناد جميع الحوادث إليه

__________________

(١) انظر : حديث إحفاء الشارب ، ص ٣٣٦.

(٢) ليست في (ط).

(٣) وهذا الاستلزام واجب عقلا في حق المتصف بالكمال والانفراد سبحانه.

٢٩٧

تعالى مع مشاهدة كمال الإحسان في خلقها وترتيبها يستلزم قدرته تعالى وعلمه بما يفعله ، والعلم والقدرة بلا حياة محال ، وإن تخصيصه بعض الممكنات دون بعض آخر منها بوقته الذي أوجده فيه دون ما قبله وما بعده ليس إلا لمعنى هو الإرادة ، (و) ما جاء به صلى‌الله‌عليه‌وسلم من (أن القرآن كلام الله ، وما يتضمنه) القرآن (من الإيمان بأنه تعالى متكلم ، سميع ، مرسل لرسل قصهم علينا ورسلا لم يقصصهم) علينا ، (منزل الكتب) على من أنزلها عليه من الرسل ؛ في ألواح ، أو على لسان الملك ، (وله عباد مكرمون وهم الملائكة) جمع «ملأك» ، على الأصل ك «شمائل» و «شمأل» ، وهو مقلوب مألك ، بتقديم الهمزة من الألوكة وهي الرسالة ، أي : موضع الألوكة ، غلب في الأجسام النورانية المبرأة من الكدورات الجسمانية القادرة على التشكل بالأشكال المختلفة (١) ، (وأنه) أي : ومن الإيمان بأنه تعالى (فرض الصلاة والصوم) صوم رمضان ، (و) فرض (باقي الأركان) أي : أركان الإسلام من الزكاة والحج ، (وأنه) تعالى (يحي الموتى ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأنه) تعالى (حرّم الربا ، والخمور ، والقمار وهو الميسر ، ونحو ذلك ، مما جاء مجيء هذا) مما تضمنه القرآن أو تواتر من أمور الدين ، فكل ذلك لا يختلف فيه حال الشاهد للحضرة النبوية وحال غيره ممن لم يشاهدها.

(وما) مبتدأ أي : الذي (لم يجيء هذا المجيء) أي : مجيء ما تضمنه القرآن أو تواتر من أمور الدين بأن لم يتواتر (بل نقل آحادا) وخبر المبتدأ قوله : (اختلفا فيه) أي : اختلف فيه الشاهد لحضرة النبوة وغيره ، (فيكفر الشاهد) لحضرة النبوة (بجحده ؛ لثبوت التكذيب منه) إذ هو قد علم ضرورة مجيء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم به بسماعه منه ، وإن لم يعلمه من بعده ، وإنما يحكم بكفر الشاهد بما ذكر (ما لم يدّع صارفا) عن حمل ما صدر منه على التكذيب ، (من نسخ ونحوه) بيان للصارف ، (دون الغائب) الذي لم ينقل إليه إلا آحادا ، فلا يكفر به (حتى يكفّر الشاهد) لحضرة النبوة بالبناء للمفعول أي : يحكم بكفره (بإنكاره سؤال الملكين) بعد الموت ، (و) إنكاره (إيجاب صدقه الفطر) لسماعه كلا منهما من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (ويفسّق) بالبناء

__________________

(١) الملائكة : ذوات موجودة قائمة بأنفسها ، أو أجسام نورانية خيرة لا يرون بحس البصر إلا إذا اكتسبوا من الممتزجات الأرضية أو المائية ، فيرون في الأبدان كأبدان الناس وكل ذلك بقدرة الله ، وأصناف الملائكة كثيرة منها حملة العرش والحافون حول العرش ومنها أكابر الملائكة كجبريل وميكائيل ومنها ملائكة الجنة ، وملائكة النار وكتبة الأعمال والموكلون لبني آدم والموكلون بأحوال هذا العالم إلخ. (انظر : كشاف اصطلاحات الفنون ، للتهانوي ، ٢ / ١٦٤١)

٢٩٨

للمفعول (الغائب به) أي : بإنكاره كلا منهما ، (ويضلّل) بالبناء للمفعول ، أي : يحكم بأنه ضال عن طريق السنة.

(وقيل بالتكفير) أي : تكفير الغائب عن حضرة النبوة (في) إنكاره (السؤال أيضا لتواتره) معنى كما قدمنا أول هذا التوضيح ، والمتجه : تكفير من أنكره بعد تواتره عنده ، لا الحكم بتكفير منكره مطلقا.

وقوله : (لأنه) تعليل لعدم تكفير الغائب بجحد السؤال وإيجاب صدقه الفطر ، وهو أن الغائب (لمّا لم يسمعه من فيه) أي : من فم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لم يكن ثبوته من النبي قطعا) أي : على وجه القطع ، (فلم يكن إنكاره تكذيبا له ، بل) كان تكذيبا (للرواة ، أو تغليطا لهم) من غير موجب ، (وهو) أي : ما ذكر من تكذيب رواة الأحاديث الصحيحة الموثوق بعدالتهم وضبطهم لما يروونه وتغليطهم من غير موجب (فسق وضلالة) لا كفر ، (اللهم إلا إن رده استخفافا ، إذ كان) أي : لكونه (إنما قاله النبي) صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم ينزل في القرآن صريحا (فيكفر) لاستخفافه بجناب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وأما ما ثبت قطعا ولم يبلغ حد الضرورة) أي : لم يصل إلى أن يعلم من الدين ضرورة (كاستحقاق بنت الابن السدس مع البنت) الصلبية (بإجماع المسلمين ، فظاهر كلام الحنفية الإكفار بجحده ؛ لأنهم لم يشترطوا) في الإكفار (سوى القطع في الثبوت) أي : ثبوت ذلك الأمر الذي تعلق به الإنكار ، لا بلوغ العلم به حد الضرورة ، (ويجب حمله) أي : حمل الإكفار الذي هو ظاهر كلامهم (على ما إذا علم المنكر ثبوته قطعا) لا على ما يعم علم المنكر ثبوته قطعا وجهله بذلك ؛ (لأن مناط التكفير وهو التكذيب أو الاستخفاف بالدين عند ذلك يكون) أي : إنما يكون عند العلم بثبوت ذلك الأمر قطعا ، (أما إذا لم يعلم) بثبوت ذلك الأمر الذي أنكره قطعا (فلا) يكفر ، إذا لم يتحقق منه تكذيب ولا إنكار ، اللهم (إلا أن يذكر له أهل العلم ذلك) أي : أن ذلك الأمر من الدين قطعا (فيلج) بفتح اللام والجيم ، أي : يتمادى فيما هو فيه عنادا ، فيحكم في هذه الحالة بكفره لظهور التكذيب.

وهذا الحمل وقع لإمام الحرمين فإنه قال : كيف يكفر من خالف الإجماع ونحن لا نكفر من رد أصل الإجماع وإنما نبدعه ونضلّله؟ وأول إطلاق من أطلق من أئمة الشافعية القول بتكفير جاحد المجمع عليه على ما إذا صدق المجمعين

٢٩٩

على أن التحريم ثابت بالشرع ثم حلّله قال : فإنه يكون رادا للشرع (١). اه.

والمعتمد عند الشافعية عدم إطلاق تكفير منكر المجمع عليه ، قال النووي في «الروضة» : ليس تكفير جاحد المجمع عليه على إطلاقه ، بل من جحد مجمعا عليه فيه نص ، وهو من الأمور الظاهرة التي يشترك في معرفتها الخواص والعوام ، كالصلاة وتحريم الخمر ونحوهما فهو كافر ، ومن جحد مجمعا عليه لا يعرفه إلا الخواص ؛ كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب ونحوه ، فليس بكافر. قال : ومن جحد مجمعا عليه ظاهرا لا نص فيه ففي الحكم بتكفيره خلاف (٢). اه.

وقال ابن دقيق العيد في «شرح العمدة» أول كتاب القصاص : أطلق بعضهم أن مخالف الإجماع يكفر ، والحق أن المسائل الإجماعية تارة يصحبها التواتر عن صاحب الشرع ، كوجوب الخمس وقد لا يصحبها ، فالأول يكفر جاحده لمخالفته التواتر ، لا لمخالفة الإجماع ، قال : وقد وقع في هذا المكان من يدعي الحذق في المعقولات ويميل إلى الفلسفة ، فظن أن المخالفة في حدوث العالم من قبيل مخالفة (٣) الإجماع ، وأخذ من قول من قال : إنه لا يكفر مخالف الإجماع أنه لا يكفر المخالف في هذه المسألة ، وهذا كلام ساقط بمرة ، لأن حدوث العالم مما اجتمع فيه الإجماع والتواتر بالنقل عن صاحب الشرع ، فيكفر المخالف بسبب مخالفة النقل المتواتر ، لا بسبب مخالفة الإجماع (٤).

(وأما التبري من كل دين يخالف دين الإسلام فإنما شرطه بعضهم) أي : بعض العلماء ، ومنهم جمهور الشافعية في حق من اعتبروا إتيانه به (لإجراء أحكام الإسلام) عليه (من الصلاة خلفه ودفنه في مقابر المسلمين إلى آخر أحكام المسلمين) كعصمة الدم والمال ونكاح المسلمات وغيرها ، (في حق) متعلق بالمصدر وهو «إجراء» أي : إنما شرطه بعضهم لإجراء أحكام المسلمين في حق (بعض أهل الكتاب الذين يوحدون الله تعالى ، ويقولون : إن محمدا عليه) الصلاة و (السلام إنما أرسل إلى المشركين من العرب أو غيرهم) لا إلى أهل الكتاب ،

__________________

(١) انظر : البرهان في أصول الفقه ، للجويني ، ١ / ٧٢٤.

(٢) الروضة ، للنووي ، ١ / ٦٦٧.

(٣) ليست في (ط).

(٤) شرح العمدة ، ٤ / ٨٤ ـ ٨٥.

٣٠٠