المسامرة

كمال الدين محمد بن محمد الشافعي [ ابن أبي شريف المقدسي ]

المسامرة

المؤلف:

كمال الدين محمد بن محمد الشافعي [ ابن أبي شريف المقدسي ]


المحقق: كمال الدين القاري و عزّ الدين معميش
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-34-292-X
الصفحات: ٣٦٠

وقتاله) بالرفع على أنه مبتدأ ، حذف خبره للعلم به من معنى الكلام وسياقه ، أي : وقتاله (مانعي الزكاة) ... الخ : دليل شجاعته ، (و) قتاله (مسيلمة مع بني حنيفة ، و) الحال أنه (قد وصفهم الله) تعالى (بأنهم أولو بأس شديد في قوله تعالى : (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) (سورة الفتح : ١٦) (كما هو قول جماعة من المفسرين) في تفسير الآية ؛ منهم الزهري والكلبي (١). ولو عبر بقوله : «وقاتل مانعي الزكاة ومسيلمة» بدل قوله : «وقتاله» لأفاد المقصود مع الوضوح.

(وثباته) بالرفع مبتدأ خبره : «كما كان» أي : وثباته (عند مصادمة المصائب المدهشة) التي تقتضي لعظمها أن يذهل الحليم عند مصادمتها ويغيب عنه رأيه (كما كان) أي : مثل ثباته الذي كان (منه حين دهش الناس ، لما خرج إليهم موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم) أي : خبر موته (فذهلوا ، وجزم عمر رضي الله عنه) وهو من هو في الثبات (أنه عليه) الصلاة و (السلام لم يمت ، وقال) رضي الله عنه : (من قال ذلك) أي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مات (ضربت عنقه ، حتى قدم أبو بكر من السنح) بضم السين المهملة وسكون النون وبحاء مهملة : موضع معروف في عوالي المدينة ، (فدخل الحجرة الكريمة ،) فكشف عن وجهه الشريف صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فعرف أنه قد مات ، فأكب عليه يقبله (ثم خرج) إلى الناس ، (فاستسكت عمر) رضي الله عنهما ، أي : طلب منه أن يسكت ليتكلم هو ، (فأبى) عمر رضي الله عنه (أن يسكت) لما هو فيه من الدهش ، (فتركه) أبو بكر (وتكلم ، فانحاز الناس إليه) لعلمهم بعلو شأنه (فخطبهم وقال) في خطبته : (أما بعد ، فمن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ، ثم تلا قوله تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ* أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) (سورة آل عمران : ١٤٤) الآية) إلى قوله : (الشَّاكِرِينَ) (سورة آل عمران : ١٤٤) (فآمن الناس) أي : صدقوا بوفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قال أبو بكر ما قال وتلا عليهم الآية ، (وخرجوا يلهجون بتلاوتها) أي : يكررونها ، (كأنهم لم يسمعوها قبل ذلك) لعظم ما حصل لهم من الذهول عند سماع خبر وفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومعنى ذلك كله وارد في الصحيح (٢).

__________________

(١) انظر : تفسير الطبري ، جامع البيان ، ١٣ / ٨٣.

(٢) جزء من حديث طويل أخرجه البخاري في فضائل الصحابة ، باب : لو كنت متخذا خليلا ، رقم ٣٤٦٧.

٢٦١

(وأما الثاني :) وهو تقدير عدم النص على أبي بكر ، أي تعيينه للإمامة (ففي إجماع الصحابة) رضي الله عنهم على إمامته (غنى) عن النص ، (إذ هو) أي : الإجماع (في ثبوت مقتضاه) وهو الأمر الذي أجمع عليه (أقوى من خبر الواحد) في ثبوت ما تضمنه ، (وقد أجمعوا عليه) أي : على إمامته ، (غير أن عليا والعباس وبعضا) كالزبير والمقداد (لم يبايعوا في ذلك الوقت) الذي عقدت فيه البيعة ، (فأرسل) أبو بكر رضي الله عنه (إليهم) بعد ذلك (فجاءوا فقال :) لمن حضر من الصحابة (هذا علي بن أبي طالب ولا بيعة لي في عنقه ، وهو بالخيار في أمره ، ((١) ألا فأنتم بالخيار جميعا في بيعتكم إياي (١)) ، فإن رأيتم لها غيري فأنا أول من يبايعه ، فقال علي رضي الله عنه : لا نرى لها أحدا غيرك ، فبايعه هو وسائر المتخلفين (٢)) فتم بذلك إجماع الصحابة على بيعته.

وقد ذكر موسى بن عقبة في «مغازيه» أن عليا والزبير رضي الله عنهما قالا : ما غضبنا إلا لأنا أخّرنا عن المشورة ، وإنا لنرى أن أبا بكر أحق الناس بها بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنه لصاحب الغار وثاني اثنين ، وإنا لنعرف له شرفه وسنه ، ولقد أمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يصلي بالناس وهو حي» انتهى ما نقله ابن عقبة (٣).

وتخلف علي رضي الله عنه ومن تخلف عن البيعة ثم مبايعتهم ليس قادحا في الإجماع (وغاية الأمر أنه راجع رأيه فظهر له الحق فبايعه) ومن تخلف معه كذلك رضي الله عنهم أجمعين.

__________________

(١) ليست في (م).

(٢) بيعة علي لأبي بكر ذكرها الذهبي في تاريخ الإسلام (وفيات ١١ ـ ٤٠) ، ص ١٣ ، وانظر : كنز العمال ، ٥ / ٦٥٦ ، ومجمع الزوائد ، ٥ / ١٨٣.

(٣) المغازي ، لموسى بن عقبة ، كتاب جمع فيه مغازي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو مفقود ، وقد ذكره حاجي خليفة في كشف الظنون ، ٢ / ١٧٤٧.

٢٦٢

(الأصل الثامن

فضل الصحابة الأربعة)

الخلفاء (على حسب ترتيبهم في الخلافة) أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم ، (إذ حقيقة الفضل ما هو فضل عند الله تعالى ، وذلك لا يطلع عليه إلا رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم) باطلاع الله سبحانه ، (وقد ورد عنه ثناؤه عليهم كلهم ، ولا يتحقق إدراك حقيقة تفضيله عليه) الصلاة و (السلام لبعضهم على بعض إن لم يكن) دليل (سمعي يصل إلينا ، قطعي في دلالته) وسنده ، (إلا الشاهدون لذلك الزمان) يعني زمان الوحي والتنزيل وأحوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معهم وأحوالهم معه ، (لظهور قرائن الأحوال) الدالة على التفضيل (لهم) دون من لم يشهد ذلك ، (و) لكن (قد) وصل إلينا سمعيات (ثبت ذلك) التفضيل بها.

(لنا صريحا): من بعضها (ودلالة) واستنباطا من بعضها ، (كما في صحيح البخاري) بل في الصحيحين (من حديث عمرو بن العاص) رضي الله عنه (حين سأله) أي حين سأل عمرو النبي (عليه) الصلاة و (السلام) فقال : (من أحب الناس إليك من الرجال ، فقال : «أبوها» يعني عائشة رضي الله عنها) وهذا اختصار للحديث ، ولفظه في الصحيح : قلت : أي الناس أحب إليك؟ قال : «عائشة» فقلت : من الرجال؟ فقال : «أبوها» ، قلت : ثم من؟ قال : «عمر بن الخطاب» (١) ، فعد رجالا ، وفي رواية : لست أسألك عن أهلك إنما أسألك أصحابك.

(وتقديمه في الصلاة على ما قدمناه ، مع أن الاتفاق) واقع (على أن السنة

__________________

(١) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة ، باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو كنت متخذا خليلا ، رقم ٣٤٦٢ ، وأخرجه برقم ٤١٠٠.

٢٦٣

أن يقدم على القوم أفضلهم علما وقراءة وخلقا وورعا ، فثبت) بمجموع ما ذكر (أنه كان أفضل الصحابة) رضي الله عنهم.

(وصح من حديث ابن عمر في صحيح البخاري قال : «كنا في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا نعدل بأبي بكر أحدا ثم عمر ثم عثمان ، ثم نترك أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا نفاضل بينهم» (١)).

وفي رواية للبخاري : «كنا نخير بين الناس في زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، نخير أبا بكر ثم عمر ثم عثمان» ، وفي رواية لأبي داود : «كنا نقول ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حي : أفضل أمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان» ، زاد الطبراني : «فيبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا ينكره» (٢).

(وصح فيه) أي : في صحيح البخاري أيضا (من حديث محمد بن الحنفية ، قلت لأبي :) يعني : عليا رضي الله عنه (أي الناس خير بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : أبو بكر ، قلت : ثم من؟ ، قال : ثم عمر ، وخشيت أن يقول : عثمان ، قلت : ثم أنت؟ قال : «ما أنا إلا واحد من المسلمين (٣) ، فهذا على نفسه) رضي الله عنه (مصرح بأن أبا بكر أفضل الناس) أي بعد النبيين.

(وأفاد بعض ما ذكرنا) وهو الأول والثاني (تفضيل أبي بكر وحده على الكل ، وفي بعضه) وهو الثالث والرابع (ترتيب الثلاثة) في الفضل.

(ولما أجمعوا) يعني الصحابة رضي الله عنهم (على تقديم علي بعدهم) أي : بعد الثلاثة ؛ أبي بكر وعمر وعثمان ، (دلّ) إجماعهم (على أنه كان أفضل من بحضرته) من الصحابة ، أي : من كان موجودا منهم وقت تقديمه ، (وكان منهم) أي : من الذين بحضرته (الزبير ، وطلحة) من العشرة المبشرين بالجنة ، وإنما لم يذكر سعد بن أبي وقاص ولا سعيد بن زيد مع وجودهما إذ ذاك ؛ لأن طلحة والزبير كان لهما من التقدم على غيرهما ما اقتضى أن عرضت عليهما المبايعة بعد مقتل عثمان رضي الله عنهم أجمعين ، (فثبت) بذلك (أنه كان أفضل الخلق بعد

__________________

(١) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة ، باب مناقب عثمان ، رقم ٣٤٩٤.

(٢) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة ، باب فضل أبي بكر ، رقم ٣٤٥٥ ، وأخرجه أبو داود في السنة برقم ٤٦٢٧ ـ ٤٦٢٨ ، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير برقم ١٣١٣١ ، والحديث مروي عن ابن عمر.

(٣) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة ، باب : لو كنت متخذا خليلا برقم ٣٤٦٨.

٢٦٤

الثلاثة) و «الخلق» عام أريد به خاص ، وهو من عدا النبيين كما لا يخفى ، وينبه عليه قوله : «بعد الثلاثة».

وفي الاستدلال بعد هذا بحث من وجهين :

أحدهما : أنه لا يلزم من مجرد إجماعهم على تقديمه في عقد الإمامة أن يكون أفضل الخلق ، لجواز عقد الإمامة للمفضول مع وجود الفاضل لمصلحة تقتضيه.

الثاني : أنه لا يلزم من كونه أفضل من بحضرته كونه أفضل الخلق ممن بحضرته ومن غاب عنه أو تقدمت وفاته على الإجماع المذكور ، كأبي عبيدة بن الجراح ، وحمزة ، والعباس ، وفاطمة ، نعم إذا ضم إلى ذلك الإجماع على أنه أفضل ممن عدا الثلاثة من الخلق ثبت ذلك ، وثبت أفضلية الثلاثة عليه بأدلة السمع.

(هذا) كما ذكرنا (واعتقاد أهل السنة) والجماعة (تزكية جميع الصحابة) رضي الله عنهم وجوبا ، بإثبات العدالة لكل منهم ، والكف عن الطعن فيهم ، (والثناء عليهم كما أثنى الله سبحانه وتعالى (١) عليهم ، إذ قال : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (سورة آل عمران : ١١)) وقال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) (سورة البقرة : ١٤٣) ، «وسطا» أي : عدولا خيارا ، والصحابة ((٢) رضي الله عنهم (٢)) هم المشافهون بهذا الخطاب على لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حقيقة ، وقال تعالى : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) (سورة التحريم : ٨) ، وقال تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) (سورة الفتح : ٢٩) ، وقال تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) (سورة الفتح : ١٨).

(وكذا) أي : وكثناء الله تعالى عليهم أثنى عليهم (رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، روي عنه) صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : («أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم») رواه الدارمي وابن عدي وغيرهما (٣).

__________________

(١) ليست في (ط).

(٢) سقط من (ط).

(٣) الحديث أخرجه ابن عدي في الكامل ، ٢ / ٧٨٥ ، وفي سنده حمزة بن أبي حمزة قيل فيه : كل ما يرويه أو عامته مناكير موضوعة. وقد ذكر الألباني أنه حديث موضوع. في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ، ١ / ٧٨.

٢٦٥

(و) أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : («لو أنفق أحدهم») كذا في نسخ المتن ، والذي في الصحيحين : «لا تسبوا أصحابي ، فلو أن أحدا أنفق (مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه») وفي رواية لهما : «فإن أحدكم» بكاف الخطاب ، وفي رواية الترمذي : «لو أنفق أحدكم» (١) الحديث ، و «النصيف» : بفتح النون لغة في النصف.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم» أخرجه الشيخان (٢) ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الله الله في أصحابي ، لا تتخذوهم غرضا بعدي ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه» (٣) أخرجه الترمذي ، ولنا على هذا الحديث كتابة مختصرة.

(وما جرى بين معاوية وعلي رضي الله عنهما) ((٤) من الحروب (٤)) بسبب طلب تسليم قتلة عثمان رضي الله عنه لمعاوية ومن معه ، لما بينهما من بنوة العمومة (كان مبنيا على الاجتهاد) من كل منهما ، (لا منازعة من معاوية) رضي الله عنه (في الإمامة ، إذ ظن علي) رضي الله عنه (أن تسليم قتلة عثمان) على الفور (مع كثرة عشائرهم واختلاطهم بالعسكر يؤدي إلى اضطراب أمر الإمامة) العظمى ، التي بها انتظام كلمة أهل الإسلام ، (خصوصا في بدايتها) قبل استحكام الأمر فيها ، (فرأى التأخير) أي : تأخير تسليمهم (أصوب ، إلى أن يتحقق التمكن) منه ، (ويلتقطهم) أولا فأولا ، (فإن بعضهم عزم على الخروج على علي وقتله لما نادى يوم الجمل بأن يخرج عنه قتلة عثمان على ما نقل في القصة من كلام الأشتر النخعي ، إن صح) ذلك. (والله أعلم) أصحيح هو أم لا (٥)؟

وقد كان الذين تمالوا على قتل عثمان رضي الله عنه وحصره جموعا ، جمع من أهل مصر ، قيل : إنهم ألف ، وقيل : سبعمائة ، وقيل : خمسمائة ، وجمع من

__________________

(١) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة ، باب «لو كنت متخذا خليلا» رقم ، ٣٤٧٠ ، وأخرجه مسلم في فضائل الصحابة ، رقم ٢٥٤٠.

(٢) أخرجه البخاري في الشهادات ، باب لا يشهد على شهادة جور ، رقم ٢٥٠٨ ، ٢٥٠٩ ، وأخرجه مسلم في فضائل الصحابة رقم ٢٥٣٣ و ٢٥٣٥.

(٣) أخرجه الترمذي في المناقب ، برقم ٣٨٧١ عن زياد بن عبد الله بن مغفل.

(٤) سقط من (م).

(٥) خروج البعض على علي بن أبي طالب ذكره الطبري في تاريخه ، ٥ / ١٩٤ ، وابن كثير في البداية والنهاية ، ٧ / ٢٣٨ ، وحدث هذا سنة ٣٦ ه‍ في مكان يقال له «الخريبة».

٢٦٦

الكوفة ، وجمع من البصرة ، قدموا كلهم المدينة ، وجرى منهم ما جرى ، بل قد ورد إنهم هم وعشائرهم نحو من عشرة آلاف ، فهذا هو الحامل لعلي رضي الله عنه على الكف عن التسليم.

(أو) أمر آخر وهو (أنه) يعني عليا رضي الله عنه (رأى أنهم) أي : قتلة عثمان رضي الله عنه (بغاة) جمع باغ ، (أتوا ما أتوا) من القتل (عن تأويل فاسد ، استحلوا به دم عثمان) رضي الله عنه (لإنكارهم عليه أمورا ، ظنوا أنها مبيحة لما فعلوه خطأ وجهلا) منهم ، كجعله مروان بن الحكم ابن عمه كاتبا له ، ورده إلى المدينة بعد أن طرده النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منها ، وتقديمه أقاربه في ولاية الأعمال ، (والباغي إذا انقاد إلى الإمام العدل لا يؤخذ بما أتلف عن تأويل ، من دم كما هو رأى أبي حنيفة) رضي الله عنه (وغيره ،) وهو المرجح من قول الشافعي ، لكن فيما أتلفوه في حال القتال بسبب القتال دون ما أتلفوه لا في القتال أو في القتال لا بسببه فإنهم ضامنون له ، فهذان توجيهان لما ذهب إليه علي رضي الله عنه ، (والأوجه) منهما (هو الأول لذهاب كثير) من العلماء رحمهم‌الله تعالى (إلى أن قتلة عثمان لم يكونوا بغاة بل) هم (ظلمة وعتاة لعدم الاعتداد بشبهتهم ، ولأنهم أصروا) على الباطل (بعد كشف الشبهة) وإيضاح الحق لهم ، (فليس كل من انتحل شبهة صار مجتهدا) إذ الشبهة تعرض القاصر عن درجة الاجتهاد ، وهذا لا يتمشى على مذهب الإمام الشافعي من (١) أن من لهم شوكة دون تأويل حكمهم حكم البغاة في عدم الضمان ، على التفصيل السابق ، نعم لم يكن قتل السيد عثمان ((٢) رضي الله عنه (٢)) في قتال ، فإنه لم يقاتل بل نهى عن القتال ، فإنه قال لما همّ أبو هريرة بالقتال : عزمت عليك يا أبا هريرة ألا رميت بسيفك ، فإنما تراد نفسي وسأقي المسلمين بنفسي» رواه أبو سعيد المقبري عن أبي هريرة ، كما ذكره صاحب «الاستيعاب» (٣).

(هذا) كما ذكرنا لك (و) اعلم أنه قد (اتفق أهل الحق) وهم أهل السنة والجماعة (٤) رضي الله عنهم (على أن معاوية أيام) خلافة (علي) رضي الله عنه

__________________

(١) ليست في (م).

(٢) سقط من (ط).

(٣) وهو ابن عبد البر القرطبي. انظر : الاستيعاب في معرفة الأصحاب ، ٣ / ١٠٤٦.

(٤) عادة يقصد المؤلف والشارح بأهل السنة والجماعة ، الماتريدية والأشاعرة وأهل الحديث أو الحنابلة.

٢٦٧

(من الملوك لا) من (الخلفاء ، واختلف مشايخنا ((١) رضي الله عنهم (١)) في إمامته) أي : إمامة معاوية (بعد وفاة علي) رضي الله عنهما ، (فقيل : صار إماما) انعقدت له البيعة ، (وقيل : لا) أي : لم يصر إماما ، (لقوله عليه الصلاة والسلام : «الخلافة بعدي ثلاثون سنة (٢) ، ثم تصير ملكا عضوضا») كذا أورده المصنف ، و «العضوض» فسره الأزهري في «تهذيب اللغة» بأنه الذي فيه عسف وظلم ، كأنه يعضّ على الرعايا (٣).

والحديث في السنن رواه أبو داود والترمذي والنسائي ، لكن بغير هذا اللفظ ، وأقرب الألفاظ إليه لفظ رواية الترمذي من حديث سفينة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثم تكون ملكا عضوضا (٤)» (٥).

(وقد انقضت الثلاثون بوفاة الإمام (٦) علي رضي الله عنه) وهذا تقريب ، فإن عليا رضي الله عنه توفي في شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة ، والأكثر على أنه في سابع عشرة ، ووفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سنة إحدى عشرة في ربيع الأول ، والأكثر على أنها في ثاني عشرة ، فبينهما دون الثلاثين بنحو نصف سنة ، وتمت ثلاثين بمدة خلافة الحسن بن علي رضي الله عنهما.

(وينبغي أن يحمل قول من قال بإمامته) أي : إمامة (٧) معاوية (عند وفاة علي على ما بعده) أي : بعد زمن وفاة علي رضي الله عنه (بقليل) هو نحو نصف سنة كما ذكرنا ، وذلك (عند تسليم الحسن) الأمر (له) أي : لمعاوية.

وقصة تسليمه له في صحيح البخاري عن الحسن البصري رضي الله عنه قال : «استقبل والله الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال ، فقال عمرو بن العاص لمعاوية : إني لأرى كتائب لا تولي حتى يقتل أقرانها ، فقال له معاوية : وكان والله خير الرجلين ، أي : عمرو ، إن قتل هؤلاء هؤلاء ، وهؤلاء هؤلاء ، من

__________________

(١) سقط من (ط).

(٢) ليست في (ط).

(٣) انظر : تهذيب اللغة ١ / ٧٥. ونص كلام الجوهري : ملك عضوض : شديد فيه عسف وعنف.

(٤) ليست في (م).

(٥) رواه أبو داود في السنة برقم ٤٦٤٦ و ٤٦٤٧ ، بلفظ «خلافة النبوة ...» ، ورواه الترمذي في كتاب الفتن برقم ٢٢٣١ وقال : حديث حسن.

(٦) في (م) : سيدنا.

(٧) ليست في (ط).

٢٦٨

لي بأمور المسلمين ، من لي بنسائهم ، من لي بضيعتهم ، فبعث إليه رجلين من قريش ، من بني عبد شمس ؛ عبد الرحمن بن سمرة ، وعبد الرحمن بن عامر ، فقال : اذهبا إلى هذا الرجل ، فاعرضا عليه ، وقولا له ، واطلبا إليه ، فدخلا عليه وتكلما وقالا له ، وطلبا إليه ، فقال لهم الحسن بن علي : إنا بنو عبد المطلب ، قد أصبنا من هذا المال ، وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها ، قالا له : فإنه يعرض عليك كذا وكذا ، ويطلب إليك ، ويسألك ، قال : من لي بهذا؟ قالا : نحن لك به ، فما سألهما شيئا إلا قالا : نحن لك به ، فصالحه. قال الحسن ، أي البصري : ولقد سمعت أبا بكرة يقول : «رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المنبر ، والحسن بن علي إلى جنبه وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول : «إن ابني هذا سيد ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» (١).

(ووجه قول المانعين) لإمامة معاوية (بعد تسليمه) أي : بعد تسليم الحسن الأمر له (أن تسليمه) أي : الحسن (ما كان إلا ضرورة عدم تسليمه هو للحسن ، وقصد القتال والسفك إن لم يسلم الحسن ، ولم ير الحسن ذلك) أي : لم يكن رأيه القتال والسفك ، (فترك) الأمر له ، صونا لدماء المسلمين. هذا تمام الكلام في ولاية معاوية رضي الله عنه.

(و) قد (اختلف في إكفار يزيد ابنه ، فقيل (٢) : نعم) لما وقع منه من الاجتراء على الذرية الطاهرة ، كالأمر بقتل الحسين رضي الله عنه ، وما جرى مما ينبو عن سماعه الطبع ويصم لذكره السمع ، (وقيل : لا ، إذ لم يثبت لنا عنه تلك الأسباب الموجبة) للكفر ، (وحقيقة الأمر) أي : الطريقة الثابتة القويمة في شأنه (التوقف فيه ، ورجع أمره إلى الله سبحانه) لأنه عالم الخفيات ، والمطلع على مكنونات السرائر وهواجس الضمائر ، فلا يتعرض لتكفيره أصلا ، وهذا هو الأسلم والله سبحانه أعلم.

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب الصلح ، باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ابني هذا سيد» رقم ٢٥٥٧.

(٢) في (م) : قيل.

٢٦٩

(الأصل التاسع

شرط الإمام بعد الإسلام)

أمور (خمسة : الذكورة ، والورع ، والعلم ، والكفاءة) وقد أخل المصنف باشتراط التكليف والحرية ، وكأنه تركه (١) لظهور أنه لا تصح إمامة الصبي والمعتوه ، لقصور كل منهما عن تدبير نفسه ، فكيف تدبير الأمور العامة ، ولا إمامة العبد لأنه مستغرق الأوقات بحقوق السيد ، المحتقر في أعين الناس ، لا يهاب ولا يتمثل أمره.

واشتراط الذكورة : لبيان أن إمامة المرأة لا تصح ، إذ النساء ناقصات عقل ودين ، كما ثبت به الحديث الصحيح (٢) ، ممنوعات من الخروج إلى مشاهد الحكم ومعارك الحرب.

وأما الورع : فقد تبع المصنف في التعبير به حجة الإسلام ، ومراد حجة الإسلام ((٣) به هنا العدالة وبها عبر الأكثر وهي المرتبة الأولى من مراتب الورع لأن حجّة الإسلام (٣)) جعل في «الإحياء» (٤) الورع أربع مراتب : المرتبة الأولى منها : ترك ما يوجب اقتحامه وصف الفسق ، وأما المراتب الثلاث الأخرى ، فليس شيء منها مرادا هنا ، فلا ضرورة بنا إلى سردها ، ومحلها من كتاب «الإحياء» معروف ، والمقصود هنا الاحتراز عن الفاسق ؛ لأنه ربما اتبع هواه في حكمه وصرفه أموال بيت المال بحسب أغراضه ، فتضيع الحقوق.

__________________

(١) ليست في (ط).

(٢) حديث ناقصات عقل ودين في صحيح البخاري كتاب الحيض ، باب ترك الحائض الصوم ، رقم ٢٩٨ ، وأخرجه مسلم في الإيمان برقم ٧٩ ـ ٨٠.

(٣) سقط من (ط).

(٤) انظر : إحياء علوم الدين ، ٢ / ١٣٧.

٢٧٠

وأما العلم : فالمصنف تابع لحجة الإسلام أيضا في التعبير به ، لكن كلامه فيما بعد يدل على الاكتفاء هنا بعلم المقلد في الفروع وأصول الفقه ، وليس ذلك مراد حجة الإسلام ، وإنما مراده علم المجتهد ، كما يدل عليه كلامه في الفقهيات ، وفي كتاب «الاقتصاد» (١) ، وسيأتي توجيهه.

وأما الكفاءة : فالاحتراز بها عن العجز ، (والظاهر أنها أعم من الشجاعة ، إذ) المراد بها القدرة على القيام بأمور الإمامة ، فلذلك (تنتظم) أي : تتناول (كونه ذا رأي) بأن يكون له بصارة بتدبير الحرب والسلم وترتيب الجيوش وحفظ الثغور.

(و) ذا (شجاعة) أي : قوة قلب (كي لا يجبن عن الاقتصاص) من الجناة (وإقامة الحدود) على الزناة والسراق ونحوهم ، (و) لا عن (الحروب الواجبة) وجوب عين أو وجوب كفاية ، (وتجهيز الجيوش) للقاء العدو ، (وهذا) الشرط يعني الشجاعة (مما شرط الجمهور).

(ونسب قريش) هو الشرط الخامس (أي) يشترط (كونه من أولاد النضر بن كنانة) ، لأن النضر جامع أنساب قريش ، إليه تنتهي (خلافا لكثير من المعتزلة) في قولهم بعدم اشتراطه.

لنا : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الأئمة من قريش» رواه النسائي وقدمنا تخريجه (٢) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الناس تبع لقريش» أخرجه الشيخان (٣) ، وفي البخاري من حديث معاوية : «إن هذا الأمر في قريش» (٤).

وتمسك المانعون لاشتراطه بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه البخاري : «اسمع وأطع وإن عبدا حبشيا كأن رأسه زبيبة» (٥).

وأجيب : بحمله على من ينصبه الإمام أميرا على سرية أو غيرها ، دفعا

__________________

(١) انظر : الاقتصاد في الاعتقاد ، ص ٢٥٩ ، ويبدو أن الشارح قد وهم هنا ، لأن الغزالي يكتفي بعلم المقلد (المستفتي من غيره ـ هذه عبارته) ، ويبرر ذلك التسامح ؛ كون اشتراط صفة العلم بمعنى الاجتهاد يبطل عقد الإمامة في عصور كثيرة ، ويعرض إلى الفتن والاضطراب.

(٢) تقدم تخريجه.

(٣) أخرجه البخاري في المناقب ، باب : وما ينهى عن دعوى الجاهلية ، رقم ٣٣٠٥ ، وأخرجه مسلم في الإمارة برقم ١٨١٨.

(٤) أخرجه البخاري في المناقب ، باب مناقب قريش ، برقم ٣٣٠٩ ، وأخرجه برقم ٦٧٢٠.

(٥) أخرجه البخاري في الجماعة والإمامة ، برقم ٦٦١ و ٦٦٤ ، وأخرجه برقم ٦٧٢٣ ، عن أنس بن مالك.

٢٧١

للتعارض بين الأدلة ، ولأن الإمام لا يكون عبدا بالإجماع.

ولم يذكر المصنف رحمه‌الله ولا حجة الإسلام في «عقائده» (١) اشتراط كونه سميعا بصيرا ناطقا ولا بدّ منها.

(ولا يشترط كونه) أي : الإمام (هاشميا) أي : من ولد هاشم بن عبد مناف جد أبي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم ، (ولا) كونه (معصوما خلافا للروافض) في اشتراطهما ، ولا متمسك لهم فيهما.

(وزاد كثير) من العلماء : (الاجتهاد في الأصول) أي : أصول الدين وأصول الفقه ، (و) في (الفروع) ، وهو مراد حجة الإسلام ب «العلم» كما قدمناه ، ليتمكن بذلك من إقامة الحجج وحل الشبه في العقائد الدينية ، ويستقل بالفتوى في النوازل وأحكام الوقائع ، نصا واستنباطا ، لأن أهم مقاصد الإمامة حفظ العقائد وفصل الحكومات ورفع الخصومات.

(وقيل : لا) يشترط الاجتهاد (ولا الشجاعة لندرة اجتماع هذه) الأمور (في واحد) ونون «الندرة» مضمومة ، (ويمكن تفويض مقتضيات الشجاعة) أي : الأمور التي تقتضي كون الإمام شجاعا من الاقتصاص وإقامة الحدود وقود الجيوش إلى العدو ، (و) تفويض (الحكم إلى غيره ، أو) أن يحكم هو (بالاستفتاء) للعلماء.

(وعند الحنفية ليست العدالة شرطا للصحة) أي : لصحة الولاية ، (فيصح تقليد الفاسق) الإمامة عندهم (مع الكراهة).

(وإذا قلد) إنسان الإمامة حال كونه (عدلا ثم جار) في الحكم (وفسق) بذلك أو غيره (لا ينعزل ، و) لكن (يستحق العزل إن لم يستلزم) عزله (فتنة ، ويجب أن يدعى له) بالصلاح ونحوه ، (ولا يجب الخروج عليه ، كذا) نقل الحنفية (عن أبي حنيفة ، وكلمتهم قاطبة) متفقة ، (وفي توجيهه) على أن وجهه هو (أن الصحابة) رضي الله عنهم (صلوا خلف بعض بني أمية وقبلوا الولاية عنهم).

فقد صلى غير واحد من الصحابة خلف مروان بن الحكم ، وروى البخاري في «تاريخه» عن عبد الكريم البكّاء قال : أدركت عشرة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلهم يصلي خلف أئمة الجور» (٢).

(و) في هذا التوجيه نظر ظاهر ، إذ (لا يخفى أن أولئك) البعض من بني

__________________

(١) انظر : إحياء علوم الدين ، ١ / ١٧١.

(٢) التاريخ الكبير ، للبخاري ، ٦ / ٩٠.

٢٧٢

أمية (كانوا ملوكا) تغلبوا على الأمر ، (والمتغلب تصح منه هذه الأمور) أي : ولاية القضاء والإمارة والحكم بالاستفتاء ونحوها (للضرورة ، وليس من شرط صحة الصلاة خلف إمام عدالته) فقد روى أبو داود من حديث أبي هريرة يرفعه : «الجهاد واجب عليكم مع كل أمير برا كان أو فاجرا والصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم برا كان أو فاجرا وإن عمل الكبائر» (١).

(وصار) الحال عند التغلب (كما لم يوجد قرشي عدل ، أو وجد) قرشي عدل (ولم يقدر) أي : لم توجد قدرة (على توليته لغلبة الجورة) على الأمر ، إذ يحكم في كل من الصورتين بصحة ولاية من ليس بقرشي ومن ليس بعدل للضرورة ، وإلا لتعطل أمر الأمة في فصل الخصومات ، ونكاح من لا ولي لها ، وجهاد الكفار ، وغير ذلك.

(وإذا وجدت الشروط في جماعة) بحيث يصلح كل منهم للإمامة (فالأولى) بالولاية (أفضلهم ، فإن ولي المفضول مع وجوده) أي : الأفضل (صحت الإمامة ؛ لأن عمر رضي الله عنه) لما حضرته الوفاة (جعل الأمر شورى في الستة) عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم ، (أي يولى) الإمامة (أيهم ، ولم يكونوا سواء في الفضل ، للاتفاق على أن عليا وعثمان أفضل من الأربعة الآخرين).

(واختلف أهل السنة بين علي وعثمان ، فتوقف بعضهم) وروى التوقف عن الإمام مالك ، حكى أبو عبد الله المازري عن «المدونة» أن مالكا رحمه‌الله سئل : «أي الناس أفضل بعد نبيهم؟ فقال : أبو بكر ، ثم قال : أو في ذلك شك؟ قيل له : فعلي وعثمان؟ قال : «ما أدركت أحدا ممن اقتدي به يفضل أحدهما على صاحبه» (٢).

وحكى القاضي عياض قولا أن مالكا رجع عن الوقف إلى تفضيل عثمان ، قال القرطبي : وهو الأصح إن شاء الله تعالى (٣).

وقد مال إلى التوقف بينهما أيضا إمام الحرمين ، فقال : «الغالب على الظن

__________________

(١) الحديث أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد ، باب في الغزو مع أئمة الجور ، رقم ٢٥٣٣.

(٢) الرواية منقولة عن عبد الرحمن بن القاسم عن مالك ، انظر : ترتيب المدارك ، ١ / ١٧٥.

(٣) انظر : ترتيب المدارك ، ١ / ١٧٤

٢٧٣

أن أبا بكر أفضل ، ثم عمر ، وتتعارض الظنون في عثمان وعلي» (١) اه ، وهو ميل منه إلى أن الحكم في التفضيل ظني ، وإليه ذهب القاضي أبو بكر ، لكنه خلاف ما مال إليه الأشعري ، وخلاف ما يقتضيه قول مالك السابق : «أو في ذلك شك؟».

(وجزم آخرون) هم أهل الكوفة ، ومنهم سفيان الثوري (بتفضيل علي) على عثمان ، (والأكثر على تفضيل عثمان) كما حكاه عنهم الخطابي وغيره ، وإليه ذهب الشافعي وأحمد وهو مشهور عن مالك ، (فعلم) من جعل الأمر على التخيير بين ولاية مفضول وفاضل.

ومن القول بالتوقف والقول بتفضيل علي (أن الأفضلية مطلقا ليست إلا شرط الكمال) في من يتولى الإمامة ، لا شرطا لصحة ولايتها ، والتعبير بشرط الكمال إنما هو متعارف للحنفية لا للأشعرية.

(ولا يولى) الإمامة (أكثر من واحد) لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما» رواه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري (٢).

والأمر بقتله محمول كما صرح به العلماء على ما إذا لم يندفع إلا بالقتل ، فإنه إذا أصرّ على الخلاف كان باغيا ، فإذا لم يندفع إلا بالقتل قتل.

والمعنى في امتناع تعدد الإمام أنه مناف لمقصود الإمامة من اتحاد كلمة أهل الإسلام واندفاع الفتن ، وإن التعدد يقتضي لزوم امتثال أحكام متضادة.

(قال الحجة) حجة الإسلام الغزالي : («فإن ولي عدد موصوفون) وعبارة الحجة وإذا اجتمع عدة من الموصوفين (بهذه الصفات ، فالإمام من انعقدت له البيعة من الأكثر) وعبارته من أكثر الخلق ، (والمخالف) للأكثر (باغ ، يجب رده إلى الانقياد إلى الحق» (٣). اه).

(وكلام غيره من أهل السنة) مقتضاه (اعتبار السبق فقط) فإذا بايع الأقل ذا أهلية أولا ، ثم بايع الأكثر غيره (فالثاني يجب رده) والإمام هو الأول ، ويمكن تأويل كلام الحجة على ما يوافق كلام غيره من أهل السنة ، بأن يراد باجتماع العدة اجتماعهم في الوجود لا في عقد الولاية لكل منهم ، ويكون قوله : «فالإمام

__________________

(١) الإرشاد ، ص ٤٣١.

(٢) الحديث عند مسلم في كتاب الإمارة ، باب إذا بويع لخليفتين ، رقم ١٨٥٣.

(٣) إحياء علوم الدين ، ١ / ١٧٠.

٢٧٤

من انعقدت له البيعة من أكثر الخلق» جريا على ما هو العادة الغالبة ، فلا مفهوم له. وبالله التوفيق.

(ويثبت عقد الإمامة) بأحد أمرين : (إما باستخلاف الخليفة إياه) كما فعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه حيث استخلف عمر رضي الله عنه ، وإجماع الصحابة على خلافته بذلك إجماع على صحة الاستخلاف (وإما ببيعة) من تعتبر بيعته من أهل الحل والعقد ، ولا يشترط بيعة جميعهم ولا عدد محدود ، بل يكفي بيعة (جماعة من العلماء ، أو) جماعة (من أهل الرأي والتدبير).

(وعند) الشيخ (أبي الحسن الأشعري) رحمه‌الله (يكفي الواحد من العلماء المشهورين من أهل الرأي) فإذا بايع انعقدت (١) ، فقد قال عمر لأبي عبيدة : «ابسط يدك أبايعك» ، فقال : «أتقول هذا وأبو بكر حاضر؟» ، فبايع أبا بكر رضي الله تعالى عنهم (٢) ، ولم يتوقف أبو بكر إلى انتشار الأخبار في الأقطار ولم ينكر عليه. وبايع عبد الرحمن بن عوف عثمان فتبعه بقية أهل الشورى وغيرهم (٣).

وإنما يكتفى بالواحد الموصوف بما مر (بشرط كونه) أي : عقد البيعة منه (بمشهد شهود) أي : بحضورهم (لدفع الإنكار) أي : إنكار الانعقاد (إن وقع) بأن ينكر العاقد وقوعه أو بأن ينكر إنسان آخر انعقاده ، ويدعي أنه عقد لغيره سرا عقدا متقدما على هذا العقد. وبهذا الثاني خاصة صور صاحبا «المقاصد» و «المواقف» الإنكار (٤).

(وشرط المعتزلة خمسة) كل منهم أهل للإمامة أخذا من جعل عمر الأمر شورى بين ستة ، يبايع الخمسة منهم السادس.

(وذكر بعض الحنفية اشتراط) مبايعة (جماعة دون عدد مخصوص) فلم يكتف بالواحد.

__________________

(١) قارن مع التمهيد ، ص ١٨٧ ، وغاية المرام للآمدي ، ص ٣٨١.

(٢) حديث بيعة أبي بكر أخرجه البخاري في صحيحه ، برقم ٢٩١ ، وأحمد في مسنده ١ / ٥٥ ، وابن هشام في السيرة ٤ / ٢٦١ ، ٢٦٢ برواية ابن إسحاق.

(٣) حديث بيعة عبد الرحمن بن عوف لعثمان أخرجه البخاري في التاريخ الصغير ، ١ / ٥٠. وانظر : تاريخ الخلفاء ، للسيوطي ، ص ١٥٣. وتاريخ الإسلام للذهبي ، وفيات (١١ ـ ٤٠) ص ٣٠٣.

(٤) انظر : شرح المقاصد ، ٥ / ٢٥٣ ، والمواقف ، ص ٤٠٠.

٢٧٥

(الأصل العاشر

لو تعذر وجود العلم والعدالة فيمن تصدى للإمامة)

بأن تغلب عليها جاهل بالأحكام أو فاسق ، (وكان في صرفه) عنها (إثارة فتنة ((١) لا نطلق (١)) حكمنا بانعقاد إمامته على ما قدمناه في الأصل التاسع ، كي لا نكون) بصرفنا إياه وإثارة الفتنة التي لا تطاق (كمن يبني قصرا ويهدم مصرا ، وإذا قضينا بنفوذ قضايا أهل البغي) أي : أقضية قضائهم (في بلادهم التي غلبوا عليها ، لمسيس الحاجة) أي : حاجتهم إلى تنفيذها (فكيف لا نقضي بصحة الإمامة) مع فقد الشروط (عند لزوم الضرر العام بتقدير عدمها؟!) أي : الإمامة ، بأن لا يحكم بالانعقاد ، فيبقى الناس فوضى لا إمام لهم ، وتكون أقضيتهم فاسدة ، بناء على عدم صحة تولية القضاء.

(وإذا تغلب آخر) فاقد للشروط (على) ذلك (المتغلب) أولا ، (وقعد مكانه) قهرا (انعزل الأول وصار الثاني إماما).

(وتجب طاعة الإمام عادلا كان أو فاجرا (٢) ، إذا لم يخالف الشرع) لحديث مسلم : «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية» (٣) ، وحديث الصحيحين : «من كره من أميره شيئا فليصبر فإنه من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية» (٤) ، وحديث مسلم : «من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله

__________________

(١) في (م) : لا تطاق.

(٢) في (م) : جائرا.

(٣) الحديث أخرجه مسلم في كتاب الإمارة ، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن ، رقم ١٨٤٨ ، من رواية أبي هريرة.

(٤) أخرجه البخاري في الفتن ، باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سترون بعدي أمورا تنكرونها ، رقم ٦٦٤٥ ، وأخرجه مسلم في الإمارة ، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية ، رقم ١٧٠٩.

٢٧٦

فليكره ما يأتيه من معصية الله ولا ينزعن يدا من طاعة» (١).

وأما إذا خالف الشرع فلا طاعة لمخلوق في معصية الله عزوجل ، كما ورد به الحديث الصحيح (٢) بلفظ : «لا طاعة في معصية ، إنما الطاعة في المعروف» (٣) ، وفي البخاري والسنن الأربعة بلفظ : «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ، ما لم يؤمر بمعصية ، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» (٤).

هذا تمام الأركان الأربعة الحاوية للأصول الأربعين

والله سبحانه ولي التوفيق

__________________

(١) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة ، باب خيار الأمة وشرارهم ، رقم ١٨٥٥ ، من رواية عوف بن مالك الأشجعي.

(٢) في (م) : الصحيحين.

(٣) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد ، باب السمع والطاعة للإمام ، رقم (٧١٤٥) ، من رواية علي بن أبي طالب.

(٤) أخرجه البخاري في الأحكام ، باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية ، رقم ٦٧٢٥ ، وأخرجه مسلم في الإمارة برقم ١٨٤٠.

٢٧٧
٢٧٨

(الخاتمة

في بحث الإيمان)

والنظر فيه في مواضع ثلاثة في : (مفهومه ، و) في (متعلقه ، و) في (حكمه).

(أما النظر الأول) ففي مفهوم الإيمان لغة وشرعا.

أما مفهومه لغة :

فهو التصديق مطلقا ، كما سيذكره المصنف فيما بعد ، وهمزة «آمن» للتعدية ، أو الصيرورة ؛ فعلى الأول كأن المصدق جعل الغير آمنا من تكذيبه ، وعلى الثاني كأن المصدق صار ذا أمن من أن يكون مكذوبا.

وباعتبار تضمنه معنى الإقرار والاعتراف يعدّى بالباء ، كما في قوله تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ) (سورة البقرة : ٢٨٥) ، وباعتبار تضمنه معنى الإذعان والقبول يعدّى باللام ، ومنه (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) (سورة العنكبوت : ٢٦).

والحكم الواحد يقع تعليقه بمتعلقات متعددة باعتبارات مختلفة ، مثل : آمنت بالله ، أي بأنه واحد متصف بكل كمال منزه عن كل وصف لا كمال فيه ، وآمنت بالرسول ، أي بأنه مبعوث من الله صادق فيما أخبر به ، وآمنت بالملائكة أي بأنهم عباد الله المكرمون المعصومون ، وآمنت بكتب الله ، أي بأنها منزلة من عنده وكل ما تضمنته حق وصدق.

وأما مفهومه شرعا :

ففيه أقوال ؛ حكى المصنف منها أربعة :

فالأول : أنه تصديق خاص ، بيّنه بقوله : (فقيل :) الإيمان (هو التصديق بالقلب فقط) أي : قبول القلب وإذعانه لما علم بالضرورة أنه من دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ،

٢٧٩

بحيث تعلمه العامة من غير افتقار إلى نظر و ((١) لا استدلال (١)) ، كالوحدانية والنبوة والبعث والجزاء ووجوب الصلاة والزكاة وحرمة الخمر ونحوها.

ويكفي الإجمال فيما يلاحظ إجمالا ، كالإيمان بالملائكة والكتب والرسل ، ويشترط التفصيل فيما يلاحظ تفصيلا ، كجبريل وميكائيل وموسى وعيسى والتوراة والإنجيل ، حتى إن من لم يصدّق بواحد معين منها كافر.

(و) القول بأن مسمى الإيمان هذا التصديق فقط (هو المختار عند جمهور الأشاعرة) وبه قال الماتريدي.

وقوله : (أو مع الطاعة) هو حكاية للقول الثاني وهو أن مسمى الإيمان تصديق القلب والإقرار باللسان وعمل سائر الجوارح ، فماهيته على هذا مركبة من أمور ثلاثة ؛ إقرار باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالأركان ، فمن أخلّ بشيء منها فهو كافر.

(و) هذا (هو قول الخوارج ، ولذا كفّروا بالذنب) فقالوا : إن مرتكبه مطلقا كافر (لانتفاء جزء الماهية) والذنوب عندهم كبائر كلها ، وتعليلهم بانتفاء جزء الماهية مبني على أنه لا واسطة بين الإيمان والكفر (٢).

أما على ما ذهب إليه المعتزلة من إثبات الواسطة (٣) ، فلا يلزم عندهم من انتفاء الإسلام ثبوت الكفر ، وإن وافقوا الخوارج في اعتبار الأعمال فإنهم يخالفونهم من وجهين :

أحدهما : أن المعتزلة يقسمون الذنوب إلى كبائر وصغائر ، وارتكاب الكبيرة عندهم فسق ، والفاسق عندهم ليس بمؤمن ولا كافر ، بل منزلة بين منزلتين.

والثاني : أن الطاعات عند الخوارج جزء ؛ فرضا كانت أو نفلا ، وعند المعتزلة الطاعات شرط لصحة الإيمان كما سيأتي بعد.

__________________

(١) في (م) : لا.

(٢) على عكس ما ادعاه المعتزلة من إثبات الواسطة ، وموافقة لأهل السنة على مستوى التقسيم النظري ، لكنهم يختلفون عن أهل السنة في تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر ، والكبيرة عندهم تنفي الماهية وهو ما أشار إليه الشارح.

(٣) وقولهم مبني على وجود الحال وهو الواسطة بين الموجود والمعدوم ، فالأصل أن الإسلام والكفر ضدان لا يجتمعان ، فإذا انتفى الإسلام ثبت الكفر والعكس صحيح ، هذا عند أهل السنة الذين ينفون الحال أو الواسطة ؛ بيد أن المعتزلة يرون أنه لا لزوم من انتفاء الإسلام ثبوت الكفر ، وإنما توجد منزلة بين المنزلتين.

٢٨٠