المسامرة

كمال الدين محمد بن محمد الشافعي [ ابن أبي شريف المقدسي ]

المسامرة

المؤلف:

كمال الدين محمد بن محمد الشافعي [ ابن أبي شريف المقدسي ]


المحقق: كمال الدين القاري و عزّ الدين معميش
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-34-292-X
الصفحات: ٣٦٠

(الأصل الخامس

الصراط وهو جسر ممدود على متن النار)

أي : ظهرها (أدق من الشعر وأحد من السيف)

أما أنه جسر ممدود على متن جهنم ؛ فلأنه قد ورد في الصحيح في حديث طويل عن أبي هريرة رضي الله عنه : «ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم» (١) ، وفي الصحيحين في حديث طويل عن أبي سعيد : «ثم يضرب الجسر على جهنم» (٢).

و (٣) أما أنه أدق من الشعر وأحدّ من السيف ، ففي مسلم عن أبي سعيد الخدري : «بلغني أنه أدق من الشعر وأحد من السيف» (٤) ، ومثله لا يقال من قبل الرأي فله حكم المرفوع.

وروى الحاكم من حديث سلمان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يوضع الميزان يوم القيامة فلو وزن فيه السموات والأرض لوضعت ، فتقول الملائكة : يا رب لمن يزن هذا؟ فيقول : لمن شئت من خلقي ، فتقول الملائكة : سبحانك ما عبدناك حق عبادتك ، ويوضع الصراط مثل حدّ الموسى» الحديث (٥) ، قال الحاكم : على شرط مسلم.

__________________

(١) جزء من حديث طويل أخرجه البخاري في صفة الصلاة باب فضل السجود رقم ٧٧٣ ، وأخرجه مسلم في الإيمان ، رقم ١٨٢.

(٢) أخرجه البخاري بلفظ : «ويضرب جسر جهنم» في كتاب الرقاق ، باب الصراط جسر جهنم ، رقم ٦٢٠٤.

(٣) ليست في (م).

(٤) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان ، باب معرفة طريق الرؤية ، رقم ١٨٢.

(٥) قال الحاكم في المستدرك ، ٤ / ٥٨٦ : هذا صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه.

٢٤١

وروى الطبراني من حديث ابن مسعود موقوفا قال : «يوضع الصراط على سواء جهنم مثل حد السيف المرهف» (١).

وفي الصحيحين وغيرهما وصف الصراط بأنه «دحض مزلة» ، و «الدحض» بسكون الحاء المهملة : الزلق ، و «المزلة» هو المكان الذي لا تثبت عليه القدم إلا زلّت (٢).

(يرده كل الخلائق و) ورود الصراط (هو ورود النار لكل أحد المذكور في قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) (سورة مريم : ٧١)) بذلك فسر الآية ابن مسعود والحسن وقتادة (ثم قال) تعالى : ((ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) (سورة مريم : ٧٢) ، أي (٣) : يسقطون) وفسر بعضهم الورود بالدخول ، لقول جابر رضي الله عنه لما سئل عن الورود : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «الورود الدخول ، لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها ، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم ، حتى إن للنار ـ أو قال لجهنم ـ لضجيجا من بردها ، ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين» (٤) ، رواه أحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو يعلى والنسائي في «الكنى» والبيهقي ، واقتصر المنذري على عزوه لأحمد والبيهقي ، وقال في إسناد أحمد : رواته ثقات ، وفي إسناد البيهقي إنه حسن.

(و) قد (وردت به) أي : الصراط (الأخبار كثيرا) وقدمنا بعضها (قال تعالى) خطابا للملائكة : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) (سورة الصافات : ٢٣)).

(وكثير من المعتزلة ينكرونه) أي : الصراط ، كعبد الجبار والجبائي وابنه في إحدى الروايتين عنهما وغيرهم ، (ويحملون الآية : على طريق جهنم ،) وإنكارهم إياه (لما فيه من تعذيب الصلحاء (٥) ، و) الحال أنه (لا عذاب عليهم).

__________________

(١) الحديث أخرجه مسلم في كتاب الإيمان ، باب معرفة طريق الرؤية ، رقم ١٨٢.

(٢) انظر : مختار الصحاح ، ص ١٩٩ وص ٢٧٤.

(٣) ليست في (م).

(٤) تقدم تخريج الحديث ، وهو حديث «ثم يضرب الجسر على جهنم». ودحض مزلة ، أي : فوق جهنم من خسر زل في قعرها.

(٥) تعذيب الصلحاء : المستحقين للثواب عند المعتزلة قبيح عقلا ، بناء على مبدأ الوعد والوعيد ، الوعد بثواب المؤمنين ، والوعيد بتعذيب الكافرين ، فلا يصح عندهم عقلا تعريض المؤمنين

٢٤٢

(قلنا) : جوابا عن ذلك (هو) أي : وضع الصراط على الصفة المذكورة وورود الخلائق إياه أمر (ممكن ، وارد على وجه الصحة) في الأخبار التي قدمنا بعضها ، (فرده ضلالة) لأنه رد لما صح ورود السنة به.

وقوله : (وهذا لأن القادر) ... الخ جواب سؤال هو أن يقال : كيف يمكن المرور عليه وهو كما ذكرتم أدق من الشعر وأحدّ من السيف؟ والجواب هو : أن القادر (على أن يسير الطير في الهواء قادر على أن يسير الإنسان على الصراط) بل هو سبحانه قادر على أن يخلق للإنسان قدرة المشي في الهواء ، ولا يخلق في ذاته هويا إلى أسفل ولا في الهواء انخراقا ، وليس المشي على الصراط بأعجب من هذا.

(كما ورد أنه قيل له عليه) الصلاة و (السلام ، لما ذكر أن الكافر يحشر على وجهه : ((١) كيف يمشي على وجهه؟ (١))) والحديث في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه ولفظه : إن رجلا قال : يا نبي الله كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ (قال : «أليس الذي أمشاه على رجليه) ولفظ الحديث : «على الرجلين في الدنيا» (قادرا على أن يمشيه على وجهه) يوم القيامة (فيمر ناس عليه) أي : على الصراط (كالبرق و) ناس (كالريح و) ناس (كالجواد وآخرون يسقطون) في النار (٢)» (على ما) ورد (في الصحاح من الأخبار) ، ومنها :

في الصحيحين وغيرهما عن أبي سعيد الخدري في حديثه في الحشر : «ثم يضرب الجسر على جهنم» إلى أن قال : «فيمر المؤمنون كطرف العين ، وكالبرق ، وكالريح ، وكأجاويد الخيل والركاب ، فناج مسلّم ، ومخدوش مرسل ، ومكدوس في نار جهنم» (٣).

__________________

للعذاب أو ألوانه ، بل الأصلح لهم إدخالهم الجنة ، وفي ذلك تقديم العقل على النصوص الصريحة في إثبات الصراط ، وما أدرى المعتزلة لعل في ذلك تنعيم للمؤمنين.

(١) سقط من (م).

(٢) البخاري في الرقاق ، باب الحشر. رقم : (٦١٥٨) ، ومسلم برقم : (٢٨٠٦).

(٣) رواه البخاري في كتاب التوحيد ، باب (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) برقم : (٧٤٣٩) ، ومسلم برقم : (١٨٣) ، والنسائي برقم : (٥٠١١) ٨ / ١١٢ كتاب الإيمان.

في بعض نسخ مسلم مكدوش ، وهو من الكدش بمعنى الخدش ، ومكدوس من الكدس وهو إسراع الثقل في السير ، فيجوز أن يكون منه ، كأنه مثقل بذنوبه. جامع الأصول ١٠ / ٤٥٥.

٢٤٣

(الأصل السادس

الجنة والنار مخلوقتان الآن)

وعليه جمهور المسلمين ومنهم بعض المعتزلة كأبي علي الجبائي وأبي الحسين البصري وبشر بن المعتمر (وقال بعض المعتزلة :) كأبي هاشم وعبد الجبار وآخرين (إنما يخلقان يوم القيامة ،) قالوا : (لأن خلقهما قبل يوم الجزاء) عبث (لا فائدة فيه ،) فلا يليق بالحكيم.

وضعفه ظاهر (١) ، لما تقرر من بطلان القول بتعليل أفعاله تعالى بالفوائد (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) (سورة الأنبياء : ٢٣) سبحانه.

قالوا : (ولأنهما لو خلقتا لهلكتا ، لقوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (سورة القصص : ٨٨)) واللازم باطل ، للإجماع على دوامهما ، وللنصوص الشاهدة ببقاء أكل الجنة وظلها ، (والجواب : تخصيصهما من) عموم (آية الهلاك) المذكورة (جمعا بين الأدلة) أي : الآية المذكورة وما يدل على وجودها الآن (كقوله تعالى في الجنة : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (سورة آل عمران : ١٣٣) وفي النار (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (سورة البقرة : ٢٤ وآل عمران : ٣١) في آي كثيرة ، ظاهرة في وجودهما الآن ، كقصة آدم وحواء ، وقوله تعالى له (٢) : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما) (سورة الأعراف : ١٩) (إلى أن قال : (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) (سورة الأعراف : ٢٢ ، وطه : ١٢١)).

(وحمل مثله على بستان من بساتين الدنيا) كما زعمه بعض المعتزلة (يشبه التلاعب أو العناد ، إذ المتبادر المفهوم من لفظ الجنة باللام) العهدية (في إطلاق الشارع ليس إلا) الجنة (الموعودة بالسنة ، وكثرة) بالجر أي : في كثرة (من

__________________

(١) في (م) : طاهر.

(٢) ليست في (م).

٢٤٤

الظواهر) أي : ظواهر كثيرة من الكتاب (١) والسنة ، فيكون على هذا من عطف العام على الخاص (لا تكاد تحصى للمستقرئ ، تفيد ذلك) أي : تفيد تلك الكثرة أن الجنة هي المعهودة التي هي دار الثواب (وتصيّرها) أي : تصير تلك الكثرة الظواهر المذكورة (قطعية) في إرادة ذلك باعتبار دلالة مجموعها ، وإن كانت دلالة آحادها أو مجموع العدد اليسير منها لا يتجاوز الظهور.

ومن الظواهر قوله تعالى : (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) (سورة الحديد : ٢١) ، وقوله تعالى : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) (سورة النجم : ١٣ إلى ١٥) ، وكحديث الإسراء (٢) ، وكحديث الكسوف (٣) ، (والإجماع من الصحابة رضي الله عنهم) فإنهم أجمعوا (على فهم ذلك) من الكتاب والسنة ، (وطريقه التتبع) أي : طريق معرفة إجماع الصحابة على فهم ذلك تتبع ما نقل من كلامهم في تفسير الآيات المذكورة والأحاديث الواردة ، فإن ذلك يفيد اتفاقهم على فهمهم من الجنة ما ذكرناه (٤).

(وقال تعالى : (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً) (سورة البقرة : ٣٨)) وجه الاستدلال أنه تعالى (أمر بالنزول) من الجنة (إلى) الدار (الدنيا) أي : الأرض (ولو كانت) الجنة (فيها) أي : في الدنيا (لم يقل إلا : اخرجوا) منها ؛ (وقوله تعالى) لإبليس : ((اخْرُجْ مِنْها) (سورة الأعراف : ١٨) لا يستلزم نفيه) أي : نفي كونها الجنة الموعودة التي هي دار الثواب ؛ (لأنه) أي : الخروج (يجامع الهبوط).

(ونفي الفائدة) في خلق الجنة الآن (ممنوع ؛ إذ هي دار نعيم أسكنها ((٥) الله سبحانه و (٥))) تعالى (من يوحّده ويسبحه بلا فترة) عن التوحيد والتسبيح (من الحور

__________________

(١) في (ط) : أو من الكتاب.

(٢) والحديث طويل بروايات منها : ما رواه البخاري في بدء الخلق برقم : (٣٦٧٣) ، ومسلم برقم :

(١٦٤) ، والترمذي برقم : (٣٣٤٣) وغيرهم.

(٣) حديث الكسوف رواه مسلم رقم : (٩٠٤) ، وأبو داود (١١٧٨ و ١١٧٩) ، والنسائي في الكسوف رقم : (١٤٧٨) كلهم عن جابر وفيه : «ما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه ، ولقد جيء بالنار وذلك حين رأيتموني تأخّرت ، مخافة أن يصيبني من لفحها ، ... ثم جيء بالحنة وذلك حين رأيتموني تقدّمت حتى قمت في مقامي ، ولقد مددت يدي ، فأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه ، ثم بدا لي أن لا أفعل ، فما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه».

(٤) من ذلك ما نقله القرطبي في تفسيره «الجامع لأحكام القرآن» ٩ / ٨٩ ـ ٩٠.

(٥) سقط من (ط).

٢٤٥

والولدان والطير) وهذا رد لقولهم المحكى عنهم فيما مر أن خلقها قبل يوم الجزاء عبث لا فائدة فيه.

(وقد ذهب بعض أهل السنة كأبي حنيفة (١) إلى أن الحور) العين (لا يمتن) وأنهن ممن استثنى الله تعالى بقوله : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (سورة الزمر : ٦٨) ويشهد له ما رواه الترمذي والبيهقي من حديث علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن في الجنة لمجتمعا للحور العين يرفعن بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها يقلن : نحن الخالدات فلا نبيد» (٢) الحديث ، وروى نحوه أبو نعيم في صفة الجنة من حديث ابن أبي أوفى.

(فهذه فائدة ترجع إلى غيره تعالى ، على أن نفي الفائدة في تعقلك) أي : أيّها الزاعم أن لا فائدة في خلق الجنة والنار الآن (لا ينفي وجود الحكمة) في نفس الأمر ، (وإن لم تحط) أنت (بها) علما وهو سبحانه ((لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) (سورة الأنبياء : ٢٣)).

__________________

(١) انظر : الفقه الأكبر للإمام أبي حنيفة مع شرحه للملا علي القاري الحنفي ، ص ١٤٦.

(٢) تتمته : «... ونحن الناعمات فلا نبأس ، ونحن الراضيات فلا نسخط ، طوبى لمن كان وكنا له» الترمذي برقم : (٢٥٦٧) وإسناده ضعيف ، وقال الترمذي : وفي الباب عن أبي هريرة وأبي سعيد وأنس ، وذكرها المنذري في الترغيب والترهيب ، في فضل غناء الحور العين ، قال الأرناءوط : يمكن أن يرتقي بها ، ولذلك قال الترمذي : وفي باب ... حاشية جامع الأصول ١٠ / ٥٠٩.

٢٤٦

(الأصل السابع

في الإمامة)

وقد قدم المصنف أول الرسالة أن مباحثها ليست من علم الكلام ، بل من متمماته ، وبيّنا وجهه هناك ووجه القول بأنها منه.

(و) بدأ المصنف هنا بتعريفها فقال : (هي) أي : الإمامة (استحقاق تصرف عام على المسلمين) وقوله : «على المسلمين» متعلق بقوله : «تصرف» لا بقوله : «استحقاق» ، إذ المستحق عليهم طاعة الإمام لا تصرفه ، ولا بقوله : «عام» ، إذ المتعارف أن يقال : عام لكذا ، لا : عام على كذا.

وقد عرّف صاحب «المواقف» (١) و «شرحه» (٢) الإمامة بأنها : خلافة الرسول في إقامة الدين وحفظ حوزة الملة ، بحيث يجب اتباعه على كافة الأمة. وفي «المقاصد» (٣) نحوه ، فإنه قال : هي رئاسة عامة في الدين والدنيا ، خلافة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وبهذا القيد خرجت النبوة ، وبقيد «العموم» خرج مثل القضاء والإمارة في بعض النواحي ، ولما كانت الرئاسة والخلافة عند التحقيق ليستا إلا استحقاق التصرف ، إذ معنى نصب أهل الحل والعقد الإمام ليس إلا إثبات هذا الاستحقاق له عبّر المصنف بالاستحقاق.

فإن قيل : التعريف صادق بالنبوة ؛ لأن النبي يملك هذا التصرف العام.

قلنا : النبوة في الحقيقة بعثة بشرع ، كما علم من تعريف النبي ، واستحقاق

__________________

(١) المواقف ، ص ٣٩٥.

(٢) شرح المواقف ، ٨ / ٣٤٥.

(٣) المقاصد ، للتفتازاني ، ضمن شرح المقاصد ، ٥ / ٢٣٢.

٢٤٧

النبي هذا التصرف العام إمامة مترتبة على النبوة ، فهي داخلة في التعريف دون ما ترتبت عليه ، أعني النبوة ،

(ونصب الإمام) بعد انقراض زمن النبوة (واجب) على الأمة عندنا مطلقا ، (سمعا لا عقلا) أي : واجب من جهة السمع لا من جهة العقل (خلافا للمعتزلة) حيث قال بعضهم : واجب عقلا ، وبعضهم كالكعبي وأبي الحسين : عقلا وسمعا (١).

وأما أصل الوجوب فقد خالف فيه الخوارج فقالوا : هو جائز ، ومنهم من فصّل ، فقال فريق من هؤلاء : يجب عند الأمن دون الفتنة ، وقال فريق : بالعكس ، أي : يجب عند الفتنة دون الأمن (٢).

وأما كون الوجوب على الأمة فخالف فيه الإمامية والإسماعيلية فقالوا : لا يجب علينا ، بل يجب (٣) على الله ، تعالى عما يقولون علوا كبيرا ، إلا أن الإمامية أوجبوه عليه تعالى لحفظ قوانين الشرع عن التغيير بالزيادة والنقصان ، والإسماعيلية أوجبوه ليكون معرّفا لله وصفاته (٤).

أما عدم وجوبه عندنا على الله تعالى ، وعدم وجوبه علينا عقلا ، فقد استغنى المصنف عن الاستدلال له بما قدمه مع دليله ، من أنه لا يجب عليه تعالى شيء ، ومن أنه لا حكم للعقل في مثل ذلك.

وأما وجوبه علينا سمعا فلأنه قد تواتر إجماع المسلمين في الصدر الأول عليه ، حتى جعلوه أهم الواجبات ، وبدءوا به قبل دفن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واختلافهم في التعيين لا يقدح في ذلك الاتفاق. وهذا يؤخذ من كلام المصنف الآتي ، فلعله استغنى به عن الاستدلال هنا لذلك.

(والإمام الحق بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم) عندنا وعند المعتزلة وأكثر الفرق هو (أبو بكر) بإجماع الصحابة على مبايعته ، (ثم عمر) باستخلاف أبي بكر له ، (ثم عثمان)

__________________

(١) انظر : معالم أصول الدين ، للرازي ، ص ١٥٤ ، والمغني ، لعبد الجبار ، ٢٠ / ١٧.

(٢) انظر : المواقف ، للإيجي ، ص ٣٩٥ ، ولكن ابن حزم نص في الفصل على أنه اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع المعتزلة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة ، ما عدا النجدات من الخوارج فإنهم قالوا : لا يلزم الناس فرض الإمامة وإنما عليهم أن يتعاطوا الحق فيما بينهم ، (انظر : الفصل في الملل والأهواء والنحل ، ٤ / ١٤٩)

(٣) ليست في (م).

(٤) انظر : الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم ، ٤ / ١٦٠.

٢٤٨

بالبيعة بعد اتفاق أصحاب الشورى ، (ثم علي رضي الله عنهم) أجمعين ، وانعقدت إمامته بمبايعة أهل الحل والعقد ، (ثم قيل) أي : قد اختلف هل نص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أحد فقيل : (نص على) إمامة (١) (أبي بكر) رضي الله عنه نصا خفيا ، وهو تقديمه إياه في إمامة الصلاة (٢) ، وعزي هذا إلى الحسن البصري ، وزعم بعض أصحاب الحديث أنه نص على إمامة أبي بكر نصا جليا (٣).

(وقال الشيعة : نص) صلى‌الله‌عليه‌وسلم (على) إمامة (علي) رضي الله عنه.

(والأكثر) وهم جمهور أصحابنا والمعتزلة والخوارج (على أنه لم يكن صلى‌الله‌عليه‌وسلم نص على إمامة أحد) بعده ، (يعني :) لم يكن (أمر بها ، ولكن كان يعلمها) أي : يعلم لمن هي بعده ، (بإعلام الله تعالى إياه) دون أن يؤمر بتبليغ الأمة النص على الإمام بعينه ، إنما وردت (٤) عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظواهر تدل على أنه علم بإعلام الله تعالى أنها لأبي بكر رضي الله عنه ، (فقد قال) صلى‌الله‌عليه‌وسلم (للمرأة السائلة : «إن لم تجديني فأتي أبا بكر» في جواب قولها حين أمرها أن ترجع (٥) إليه : أرأيت إن جئت فلم أجدك؟ ، تريد الموت) وهو (مخرج في صحيح البخاري) عن جبير بن مطعم ، قال : أتت امرأة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمرها أن ترجع إليه ، قالت : أرأيت إن جئت فلم أجدك؟ كأنها تقول الموت ، قال : «إن لم تجديني فأتي أبا بكر» (٦).

(وفيه) أي : في صحيح البخاري (أيضا) بل وصحيح مسلم (حديث

__________________

(١) ليست في (م).

(٢) في حديث عائشة في مرضه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيه قالت : «فأرسل رسول الله صلّى الله وسلّم إلى أبي بكر أن يصلي بالناس ...» البخاري في الجماعة برقم (٦٥٥) ، ومسلم برقم : (٤١٨) ، وفي حديث أبي موسى الأشعري : «مروا أبا بكر فليصل بالناس» ، وابن عمر وعائشة وأنس ... وغيرهما.

(٣) في مثل حديث حذيفة عند الترمذي برقم : (٣٨٠٤) ، وأحمد ٥ / ٣٨٥ ، ٣٩٩ ، والحاكم ٣ / ٧٥ ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني لا أدري ما قدر بقائي فيكم ، فاقتدوا باللذين من بعدي وأشار إلى أبي بكر وعمر». وحديث جابر عند أبي داود سند فيه انقطاع رقم : (٤٦٣) عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أري الليلة رجل صالح ، كأن أبا بكر نيط برسول الله ونيط عمر بأبي بكر ، ونيط عثمان بعمر» قال جابر : «... أما الرجل الصالح فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأما نوط بعضهم ببعض ، فهم ولاة الأمر الذي بعث الله به نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

(٤) في (م) : روي.

(٥) في (م) : ترجع.

(٦) البخاري في الأحكام ، برقم : (٣٤٥٩) ، ومسلم رقم : (٢٣٨٦) ، والترمذي رقم : (٣٦٧٧).

٢٤٩

رؤياه) صلى‌الله‌عليه‌وسلم (البئر والنزع منها) أي : الاستقاء بالدلو ، وهو حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أريت كأني أنزع بدلو بكرة على قليب فجاء أبو بكر فنزع ذنوبا أو ذنوبين نزعا ضعيفا ، والله يغفر له ، ثم جاء عمر فاستقى فاستحالت غربا فلم أر عبقريا من الناس يفري فريه حتى روي الناس وضربوا بعطن» (١) ، و «البكرة» بسكون الكاف ، و «القليب» البئر قبل أن تطوي ، أي : يبنى عليها ، و «الذنوب» بفتح الذال المعجمة الدلو إذا كانت مملوءة ، و «الغرب» بفتح الغين المعجمة وسكون الراء المهملة آخره موحدة : الدلو العظيم ، و «العبقري» الرجل القوي الشديد ، و «يفري فريه» معناه : يعمل عمله ، والفري بوزن فعيل ، تقول العرب : فلان يفري الفري ، إذا كان يعمل العمل ويجيده ، تعظيما لإجادته ، و «العطن» الموضع الذي تناخ فيه الإبل إذا رويت (٢).

ومن الظواهر المذكورة استخلافه في إمامة الصلاة كما سيأتي ، وقد استدل المصنف على عدم النص بقوله : (وإذا علمها) أي : وإذا علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإمامة بعده ، فإما أن يعلمها أمرا (واقعا موافقا للحق) في نفس الأمر ، (أو) أمرا واقعا (مخالفا له) أي : للحق (وكيف كان) أي : على أي حالة كانت من الحالتين ، (لو كان المفترض) على الأمة (مبايعة غيره) أي : غير أبي بكر الصديق (لبالغ) صلى‌الله‌عليه‌وسلم (في تبليغه) أي : في تبليغ ذلك المفترض إلى الأمة ، بأن ينص عليه نصا ينقل مثله على سبيل الإعلان والتشهير ، كما سيأتي ، لتوقف تعلق الافتراض على الأمة على بلوغه إليهم ، ولما لم ينقل كذلك مع توفر الدواعي على نقله دل ذلك على أنه لا نص كما سيأتي.

ولما كان قد يقال هنا تعنّتا : إنما لم يبلغه لأنه علم أنهم لا يأتمرون بأمره فيه ، فلم تكن في تبليغهم إياه فائدة ، أشار إلى دفعه بأن ذلك غير مسقط لوجوب التبليغ عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (كما بلّغ سائر التكاليف للآحاد الذين علم منهم أنهم لا يأتمرون ، ولم يكن علمه بعدم ايتمارهم مسقطا عنه التبليغ).

فإن قيل : قد بلغه سرا لواحد واثنين ، ونقل سرا كذلك.

قلنا : جوابه ما نبه عليه المصنف بقوله : (وتبليغ مثله سبيله الإعلان

__________________

(١) البخاري في التعبير ، باب نزع الذنوب / برقم : (٦٦١٧) ، ومسلم رقم : (٢٣٩٢)

(٢) انظر : القاموس المحيط ، ص ٨٥ ، ١١٨ ، ١٢٧ ، ٣٥٤ ، ٤٣٥ ، ١٢١٦ ، ١٣٢٠.

٢٥٠

والتشهير) أي : تصييره بتعدد التبليغ وكثرة المبلغين أمرا مشهورا (دون اختصاص الواحد به أو الاثنين ؛ لأنه أعني أمر الإمامة من أهم الأمور العالية) الشأن (لما يتعلق به من المصالح الدينية والدنيوية ، العامة للرجال والنساء ، الصغير والكبير) فالدينية : كتنفيذ الأحكام وإقامة الحدود وسد الثغور والجهاد لإعلاء كلمة الحق ، والدنيوية : كدفع المتغلب وتقويم الغوي (١) والأخذ للضعيف من القوي وإنكاح الأيامى والنظر في حال اليتامى وتولية القضاة والأمراء بحيث ينتظم أمر المعاش. (مع ما فيه) أي : في أمر الإمامة (من دفع ما قد يتوهم من إثارة فتنته).

فإن قيل : يحتمل أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلّغه على وجه الإعلان والتشهير ، ولكن لم ينقل أو نقل ولم يشتهر فيما بعد عصره.

قلنا : الجواب ما نبه عليه بقوله : (ولو وقع كذلك) أي : لو بلغه على وجه الإعلان والتشهير (لاشتهر ، وكان سبيله أن ينقل نقل الفرائض ، لتوفر الدواعي على مثله في استمرار العادة (٢)) المطردة ، من نقل مهمات الدين المطلوب فيها الإعلان والتشهير ، فالظهور والاشتهار لازم لوجود النص (٣) ، (وإذ لم يظهر) أي : لكونه لم يظهر نص (كذلك) أي : كما هو سبيل مثله (فلا نص) لانتفاء لازمه من الظهور ، (فلا وجوب لعليّ) أي : لإمامة علي (رضي الله عنه بعده) أي : عقب وفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم (على التعيين ، ولزم) من ذلك (بطلان ما نقلوه) يعني الشيعة من الأكاذيب ، (وسوّدوا به أوراقهم من نحو قوله) صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لعليّ (٤) «أنت الخليفة بعدي» وكثير) مما اختلقوه ، نحو : «سلموا على علي بإمرة المؤمنين» ، وأنه قال : «هذا خليفتي عليكم» ، وأنه قال له : «أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي وقاضي ديني ـ بكسر الدال ـ كذا ضبطه شارح «المواقف» (٥) الشريف ، والوجه فتحها بدليل ما رواه

__________________

(١) في (م) : السوي.

(٢) في (م) : الدواعي.

(٣) الظهور والاشتهار لازم لوجود نص وهو ما يسميه الأصوليون بعموم البلوى ، إذ كل مسألة من ضروريات الدين ؛ إلا ويتحقق فيها الظهور والاشتهار بما يعطيها صفة القطعية في الثبوت والدلالة. ومسائل الإمامة منها ؛ فلو جاء نص بتعيين إمام لاشتهر ولما اختلف فيه الصحابة.

(٤) ليست في (م).

(٥) شرح المواقف ، ٨ / ٣٦٣ ، والظاهر من عرض الشريف للحديث أن سياق كلامه يدل على تمسك المدعين وليس تمسكه ، فإيراده ليبين حجة الخصم ولم يكن ضبطه ، والحديث بهذا اللفظ في كنز العمال ١٣ / ١٤ قال : وفيه عبد الغفار بن القاسم وهو متروك.

٢٥١

البزار عن أنس مرفوعا : «علي يقضي ديني» (١) ، والطبراني من حديث سلمان بلفظ : «يقضي ديني» (٢) كذلك ، وأنه قال فيه : «إنه إمام المتقين وقائد الغر المحجلين» (٣) ، فكله مخالف لدليل العقل الذي قدمه (حيث لم يبلغ) شيء مما نقوله (هذا المبلغ) من الشهرة.

(ثم يقول : بل لم يبلغ مبلغ الآحاد المطعون فيها ، إذ لم يتصل علمه لأئمة الحديث المثابرين) أي : المواظبين (على التنقيب عنه ، كما اتصل بهم كثير مما ضعفوه ، وكيف يجوز في العادة أن يصح) ما نقلوه (آحادا) موصوفا بأنه (يعلمه من لم يتصف قط برواية حديث ولا صحبه (٤) محدث ، و) الحال أنه (يخفى) ما هو بهذه الصفة (على علماء الحديث المهرة) جمع ماهر ، أي : تام الحذق (الذين أفنوا أعمارهم في الرحلات) جمع رحلة ـ بكسر الراء ـ أي : الأسفار البعيدة (مشمرين) أي : باذلين جهدهم (في طلبه و) في (السعي إلى كل من حسبوا عنده صبابة) أي : قليلا (منه) وأصل «الصبابة» وهي بضم الصاد المهملة : البقية اليسيرة مما في الإناء (٥). وقوله : (في كل صوب وأوب) متعلق ب «طلبه» أو ب «الرحلات» أي : الرحلات الكائنة في كل صوب وأوب ، و «الصوب» الناحية ، و «الأوب» هنا المرجع ، وأصله : الرجوع ، فهو من إطلاق المصدر وإرادة اسم المكان.

(هذا) الذي زعموه من نص صح آحادا عند من لم يتصف برواية حديث ولا صحبة محدث وقد خفي عن علماء الحديث (مما تقضي العادة بأنه افتراء) أي : كذب مختلق (وهراء) بضم الهاء وراء مهملة فألف ممدودة فهمزة ، أي : كلام فاسد ، قال الأزهري في «التهذيب» (٦) قال أبو عبيد : الهراء ممدود مهموز : المنطق الفاسد ، وفي «الصحاح» عن ابن السكيت أنه الكلام الكثير في خطأ (٧).

__________________

(١) الحديث أخرجه ابن حجر في المجمع ، ٩ / ١١٣ ، وقال : رواه البزار وفيه ضرار بن صرد وهو ضعيف.

(٢) أخرجه الطبراني في الكبير ، برقم ٦٠٦٣.

(٣) الحديث أخرجه الطبراني في المعجم الصغير ، برقم ١٠١٢.

(٤) ليست في (ط).

(٥) انظر : القاموس المحيط ، ص ١٠٤.

(٦) تهذيب اللغة ، ٦ / ٤٠٢.

(٧) انظر : الصحاح ، ١ / ٨٣.

٢٥٢

(نعم ، روي آحادا قوله عليه) الصلاة و (السلام لعلي رضي الله عنه : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبيّ بعدي») وهو في الصحيحين وهذا اللفظ لمسلم (١) ، ولو عبر المصنف بقوله : «صح» بدل «روي» لجرى على اصطلاح المحدثين ، فإن روي عندهم من صيغ التمريض ، (وهو) أي : حديث المنزلة (مع أنه لا يكفي في) إثبات (المطلوب) أي : مطلوبهم وهو دعوى النص على إمامة علي لعدم صراحته في ذلك ، (و) مع أنه (لا يقاوم إجماع الصحابة) على إمامة أبي بكر (غير مفيد لمطلوبهم ، إذ لم يرد) بصيغة المبني للمفعول (بعد المستثنى) وهو قوله : «لا نبي بعدي» (العموم في جميع المنازل الكائنة لهارون من موسى عليه) وعلى هارون الصلاة و (السلام ، لانتفاء نسب الأخوة) الثابت لهارون ، (فبقي المراد البعض) أي : بعض المنازل الكائنة لهارون ، (من موسى (٢) والسياق يبينه) أي : يبين ذلك البعض ، (وذلك أنه) صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قاله) أي : القول المذكور (له) أي : لعلي (حين استخلفه عند منصرفه إلى تبوك ، فقال علي رضي الله تعالى عنه : أتتركني في المتخلفين) وفي لفظ في الصحيح : «تخلفني في النساء والصبيان» (كأنه استنقص تركه وراءه فقال له عليه الصلاة والسلام : «ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى» (٣) يعني : حين (٤) استخلفه عند توجهه إلى الطور ، إذ قال له : (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ) (٥) (سورة الأعراف : ١٤٢) وهو) أي : استخلافه على المدينة (لا يستلزم كونه أولى بالخلافة) العامة (بعده من كل معاصريه ، افتراضا ولا ندبا ، بل) يستلزم (كونه أهلا لها في الجملة ، وبه نقول).

(وقد استخلف عليه) الصلاة و (السلام في مرار أخرى غير علي رضي الله عنه ، كابن أم مكتوم ، ولم يلزم فيه ذلك) أي : كونه أولى بالخلافة بعده ، (بذلك) أي : باستخلافه على المدينة عند سفره.

(وأما ما روي آحادا) في جامع الترمذي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : («من كنت مولاه فعليّ

__________________

(١) أخرجه البخاري في فضائل أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، باب مناقب سيدنا علي ، رقم ٣٧٠٢ ، والمغازي برقم (٤٤١٦) ، ومسلم برقم (٢٤٠٤).

(٢) ليست في (ط).

(٣) الحديث أخرجه البخاري في فضائل الصحابة ، باب مناقب علي بن أبي طالب ، رقم ٣٥٠٣ ، وأخرجه مسلم في فضائل الصحابة ، رقم ٢٤٠٤.

(٤) في (م) : حيث.

(٥) في (ط) : ولا تتبع سبيل المفسدين.

٢٥٣

مولاه» (١) فمشترك الدلالة) لأن لفظ المولى مشترك ، يطلق لمعان هو في كل منها حقيقة ، (إذ يطلق المولى على) كل من (المعتق) بصيغة الفاعل (والمعتق) بصيغة المفعول (والمتصرف في الأمور ، والناصر ، والمحبوب ، ومنه) أي : من إطلاق المولى على المحبوب (قوله تعالى : (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) (سورة المائدة : ٥١) ، يعني : تلقون إليهم بالمودة) كما في الآية الأخرى أول الممتحنة : (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) (سورة الممتحنة : ١).

(وتعيين بعضها) أي : بعض معان المشترك للإرادة (بلا دليل) يقتضيه (غير مقبول ،) لأنه تحكّم (٢) ، (وتعميم) أي : المشترك (٣) (إلزاما) واقعا (على) رأي (من يرى تعميم المشترك في مفاهيمه) أي : معانيه كلها ، حيث لا دليل يعين بعضها ، (لو) لم يكن اشتراكه معنويا بأن وضع وضعا واحدا لقدر مشترك وهو القريب المعنوي ، من الولي بفتح الواو وإسكان اللام ، بمعنى القرب ، إذ كل من المعاني المذكورة موضع قرب معنوي ، كما لا يخفى على المتأمل.

بل (كان) أي : قدر كونه (مشتركا لفظيا) قد وضع وضعا متعددا بحيث تعدد معانيه حتى يجري الخلاف في تعميمه في معانيه ، (مع أنه) أي : القول بتعميمه في معانيه (مذهب ضعيف عندنا) معشر الحنفية ، وعند جمهور الأصوليين وعلماء البيان (على ما يشهد به) أي : بضعف المذهب المذكور (استقراء استعمالات الفصحاء للمشتركات منتف) خبر ، والمبتدأ «تعميمه» أي : القول بتعميم المشترك اللفظي مع ضعفه منتف هنا ، (لامتناع إرادة) كل من (المعتق) بالكسر (والمعتق) بالفتح ، إذ لا يصح إرادة واحد منهما ، (فتعيّن) بعد انتفاءه إرادة الجميع (إرادة البعض).

(والاتفاق) منا ومنهم واقع (على) صحة (إرادة الحب) بالكسر ، أي : المحبوب ، ويصح أن يقرأ الحب بالضم من الدلالة بالمصدر على اسم المفعول ،

__________________

(١) أخرجه الترمذي في المناقب ، رقم (٣٧٩٧) ، وقال : حسن غريب.

(٢) التحكم بدون دليل أو المصادرة على المطلوب ؛ وهي جعل نتيجة الدليل نفس مقدمة من مقدمتيه مع تغيير في اللفظ يوهم فيه المستدل التغاير بينهما في المعنى.

(٣) المشترك اللفظي : أحسن ما قيل في المشترك بأنه اللفظ الموضوع لحقيقتين أو أكثر ، وضعا أولا من حيث هما كذلك ، وقد ذهب الشافعي وجماهير الأصوليين إلى أن اللفظ المشترك يحمل على جميع معانيه ، وإذا امتنع الجمع بين مدلولي المشترك لم يجز استعماله فيهما معا (انظر : إرشاد الفحول ، ص ٢٠).

٢٥٤

(وهو) أي : علي (رضي الله عنه وأرضاه سيدنا وحبيبنا ، على أن كون المولى بمعنى الإمام لم يعهد في اللغة ولا في الشرع ، وإنما جوزناه) في قولنا فيما مر : «والمتصرف في الأمور» (نظرا إلى رواية الحاكم : «من كنت وليه» (١)) إذ ولي الإنسان من يلي أمره وينفذ تصرفه عليه.

(وكونه) أي : الولي أو المولى (بمعنى الأولى بالشيء لا يفيدهم ، لما ذكرنا من عدم) الدليل (المعيّن) أي : الذي يعينه للإرادة من بين المعاني التي تطلق على كل منها.

وأما تعلقهم برواية أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لمن بحضرته من الصحابة : «ألست أولى بكم من أنفسكم؟» قالوا : بلى ، قال : «فمن كنت مولاه فعلي مولاه» (٢) ، فمردود بأنها ضعيفة ، ضعّفها من أئمة الحديث أبو داود وأبو حاتم الرازي وغيرهما ، على أنه لا يعرف في اللغة مفعل بمعنى أفعل التفضيل.

(مع ما يستلزم) حمله على الأولى (من نسبة جميع الصحابة) رضي الله عنهم (إلى الخطأ ، وهو) أي : اللازم أعني : نسبتهم إلى الخطأ (باطل ، بل) نقول : (لما أجمعوا على خلافه) أي : خلاف حمل الحديث على الأولى (قطعنا بأن ذلك المعنى) أي : الأولى (غير مراد) من لفظ المولى والولي ، (فظهر أن ليس أحدهما) أي : أحد المنقولات التي سوّدوا بها أوراقهم (مع كونه آحادا يستلزم مطلوبهم) من النص الدال على أن عليا أولى بالإمامة من جميع من عداه.

(ولو كان هناك) أي في الأدلة على المطلوب (نص غيرها) أي : غير المنقولات التي تبين بطلان دلالتها (يعلمه هو) أي : علي رضي الله عنه ، (أو) يعلمه (أحد من المهاجرين والأنصار لأوردوه) من يعلمه (عليهم) أي : على الصحابة (يوم السقيفة) حين تكلموا في الخلافة (تدينا) ممن يعلم ذلك النص ، (إذ كان) إيراده (فرضا) أي : لكون إيراده فرض عين على من يعلمه.

(وقولهم :) يعني الشيعة (تركه) أي : ترك علي رضي الله عنه إيراد النص الذي يعلمه (تقية) أي : لاتقاء القتل (مع ما فيه من نسبة علي) وهو من أشجع الناس (إلى الجبن باطل) ومن وجهين :

__________________

(١) أخرجه أحمد برقم (٩٥١) ، والطبراني في المعجم الكبير ، ٥ / ١٦٦ ، رقم ٤٩٦٨ ، وعند الحاكم الرواية بلفظ : «من كنت مولاه فعلي مولاه» المستدرك ٣ / ١١٠.

(٢) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ٥ / ١٩٥ ، رقم (٥٠٦٨) ، وابن عاصم في السنة ٢ / ٦٠٦.

٢٥٥

(أما أولا : فمجرد ذكره) أي : ذكر النص عليه (ومنازعته) في الإمامة (به ليس ظاهرا في قتلهم إياه ، وقد نازع غيره فلم يقتل ، فقال بعض الأنصار : منا أمير ومنكم أمير) والقائل هو الحباب ـ بضم الحاء المهملة وتخفيف الموحدة ـ ابن المنذر ، ولم يرجع عن ذلك (إلى أن روى أبو بكر رضي الله عنه قوله عليه) الصلاة و (السلام : «الأئمة من قريش» فرجعوا عن محاجتهم ، بل غاية ما كان يتوهم) لو رواه (عدم الرجوع إليه) ومعاذ الله أن يكون ذلك.

(وبهذا القدر) وهو توهم عدم الرجوع إليه (لم يثبت ضرر يسقط به الفرض) أي : فرض تبليغه ما يعلمه من النص.

والذي في البخاري في قصة سقيفة بني ساعدة حين قال من قال من الأنصار : «منا أمير ومنكم أمير» قول أبي بكر رضي الله عنه : «نحن الأمراء وأنتم الوزراء وإن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش ، هم أوسط العرب نسبا ودارا» (١).

ومتن حديث : «الأئمة من قريش» (٢) رواه النسائي من حديث أنس ، ورواه بمعناه الطبراني في الدعاء ، والبزار والبيهقي ، وأفرده شيخنا الإمام الحافظ أبو الفضل بن حجر بجزء جمع فيه طرقه عن نحو من أربعين صحابيا.

(وأما ثانيا (٣) : مفكونه (٤) بحيث لو ذكره لم يرجع إليه مع علم أحد) من الصحابة (به ممنوع) بل ممتنع عادة من مثلهم (لأنهم كانوا أطوع لله) من غيرهم من الأمة.

واعلم أن قوله : «فكونه ... الخ» ليس وجها ثانيا لبطلان كونه تقية ، كما لا يخفى ، إنما الوجه الثاني ما بعده ، ففي العبارة هنا خلل بتقديم وتأخير ، وحقها أن يقال تلو قوله الفرض : «وكونه بحيث لو ذكره لم يرجع إليه مع علم أحد به ممنوع ، وبتقدير وقوع ذلك فلا يحصل به ضرر يسقط به الفرض ، وأما ثانيا فلأنهم كانوا

__________________

(١) الحديث أخرجه البخاري في فضائل الصحابة ، باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو كنت متخذا خليلا ، رقم ٣٤٦٧.

(٢) الحديث رواه الطبراني ، برقم ٧٢٥ ، والطيالسي ، برقم ٢٥٩٦ ، وأحمد ، ٣ / ١٢٩ و ١٨٣ ، والبيهقي في السنن الكبرى ، ٨ / ١٤٤ ، والبزار برقم ٧٥٩.

(٣) ليست في (ط).

(٤) في (م) : لكونه.

٢٥٦

أطوع لله (وأعمل بحدوده) أي : بالوقوف عندها وعدم تعديها (وأبعد عن اتباع الهوى وحظوظ النفس) كما يشهد لهم بذلك الحديث الصحيح : «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم» (١).

(ومنهم بقية العشرة المبشرة بالجنة) فإن العشرة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة بن عبد الله والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص واسمه مالك وسعيد بن زيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة عامر بن الجراح ، وبقيتهم من عدا أبا بكر وعليا منهم ، (وفيهم) أي : في العشرة المبشرة (الذي نص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث اليهود على أمانته على دين الله حين قال لهم : «لأبعثن معكم أمينا حق أمين» (٢) وبعثه رضي الله عنه ، أعني : أبا عبيدة بن الجراح).

وحديث بشارة العشرة بالجنة رواه أبو داود والترمذي من حديث سعيد بن زيد ، أحد العشرة من طرق بألفاظ منها : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «وإني لغني أن أقول عليه ما لم يقل ، فيسألني عنه غدا إذا لقيته : أبو بكر في الجنة ، وعمر في الجنة ، وعثمان في الجنة ، وعلي في الجنة ، وطلحة في الجنة ، والزبير في الجنة ، وسعد بن مالك في الجنة ، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة ، وأبو عبيدة ابن الجراح في الجنة ، وسكت عن العاشر ، قال : ومن هو العاشر؟ فقال : سعيد بن زيد» (٣).

وحديث بعث أبي عبيدة في الصحيحين من حديث حذيفة قال : جاء أهل نجران إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا رسول الله ابعث إلينا رجلا أمينا (٤) ، فقال : «لأبعثن إليكم رجلا أمينا ، حق أمين ، فاستشرف لها الناس ، فبعث أبا عبيدة بن الجراح» (٥) ، وعند مسلم : «حق أمين حق أمين مرتين» (٦) ، وفي رواية الترمذي قال : جاء العاقب والسيد إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالا : ابعث معنا أمينك ، قال : «فإني أبعث معكم ...» الحديث.

__________________

(١) الحديث أخرجه البخاري في كتاب الأيمان والنذور ، باب إثم من لا يفي بالنذر ، رقم (٦٦٩٥) عن عمران بن الحصين ، وأخرجه مسلم برقم ٢٥٣٣.

(٢) أخرجه البخاري في المغازي باب قصة أهل نجران ، رقم ٤١١٩ ـ ٤١٢٠

(٣) الحديث أخرجه بألفاظ متقاربة أبو داود برقم ٤٦٤٩ ، والترمذي برقم ٣٨٣٢.

(٤) في (ط) : حق أمين فقال : لأبعثن إليكم رجلا أمينا ، حق أمين.

(٥) أخرجه البخاري في المغازي ، باب قصة أهل نجران ، رقم ٤١٢٠ ، وأخرجه مسلم في فضائل الصحابة ، رقم ٢٤٢٠.

(٦) تقدم تخريجه.

٢٥٧

وأهل نجران بنون مفتوحة فجيم ساكنة اسم مكان كانوا نصارى لا يهودا ، فجعلهم يهودا سبق قلم أو وهم ، و «السيد» : مقدم القوم ، و «العاقب» : الذي يعقبه أي يليه فيهم.

وفي الصحيحين أيضا من حديث أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن لكل أمة أمينا ، وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح» (١).

(فكيف يجوز على هؤلاء) الصحابة الذين هم (٢) خير الأمة ومنهم الجماعة المبشرة بالجنة وفي المبشرين من هو موصوف على لسان الصادق المصدوق بأنه أمين على دين الله (أن يعلموا الحق من ذلك) أي : من أمر الإمامة وتعيينه لإنسان (ويتجاهلوا عنه) أي : يتكلفوا إظهار الجهل به معرضين عنه ، حتى يترك من يعلم الحق روايته لهم اتقاء لقتلهم إياه ، أو خوف ضرر منهم (أو يرويه) لهم (أحد يجب قبول روايته فيتركوا العمل به بلا) دليل (راجح) يقولون عليه ، معاذ الله أن يجوز ذلك عليهم شرعا أو عادة لأنه خيانة في الدين.

(ولو جاز عليهم الخيانة) في أمور الدين (وكتمان الحق) مع علمهم به (لارتفع الأمان في كل ما نقلوه من القرآن والأحكام ، وأدى) تجويز ذلك (إلى أن لا يجزم بشيء من الدين ، إذ إنما أخذناه) أي : الدين (بشعبه) أي : بجميع أصوله وفروعه (كلّه عنهم) رضي الله عنهم ، و «كلّه» بالنصب ، تأكيد للضمير المنصوب في «أخذناه» (نعوذ بالله من نزغات الهوى والشيطان) جمع نزغة ، وهي النسخة ، استعيرت لميل النفس إلى ما تهواه من القبائح لوسوسة الشيطان.

(وإذا ثبت) بما ذكرناه (عدم النص على علي رضي الله عنه ، فإن أثبتنا نصه على أبي بكر) رضي الله عنه (ثبت حقيّة إمامته) أي : كونها حقا ، (وإن قلنا لم ينص عليه ثبت) حقية إمامته (أيضا :)

(أما الأول :) أي : النص على إمامته (ففيه) من الأخبار الواردة (ما هو صريح) فيها ، (وما هو إشارة) إليها :

(أما الأول :) وهو الصريح (فقوله) عليه الصلاة و (السلام في مرضه الذي توفي فيه على ما ثبت في صحيح مسلم وغيره) من حديث عائشة رضي الله عنها

__________________

(١) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة ، باب مناقب أبي عبيدة بن الجراح ، رقم ٣٥٣٤ ، وأخرجه مسلم في فضائل الصحابة ، رقم ٢٤١٩.

(٢) في (م) : هم.

٢٥٨

ترفعه : («ائتوني بدواة وقرطاس أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه اثنان ، ثم قال : يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر») وهو في البخاري من حديثها بمعناه (١).

(وأما الثاني :) وهو الإشارة (فما خصه به في ذلك المرض من إقامته مقامه في إمامة الصلاة ، ولقد روجع في ذلك على ما في صحيح البخاري : إن عائشة رضي الله عنها قالت له) صلى‌الله‌عليه‌وسلم (حين قال : «مروا أبا بكر فليصل بالناس» : إن أبا بكر رجل أسيف) أي : كثير الأسف ، وهو الحزن (وإنه إن يقم مقامك لا يسمع الناس ، فقال : «مروا أبا بكر ((٢) فليصل بالناس (٢))» ، وفي رواية أخرى : أنها قالت لحفصة : قولي له يأمر عمر ... الحديث ، فأبى حتى غضب وقال : «أنتن صواحبات يوسف ، مروا أبا بكر فليصل بالناس» (٣)) ، والحديث في مسلم أيضا بنحو معنى (٤) ما ساقه المصنف ، وبألفاظ أخرى في بعضها : «إنكن صواحب يوسف» ، وفي بعضها : «لأنتن صواحب يوسف» ، وفي بعضها : «إنكن لأنتن».

وروى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره» (٥).

(و) نشأ (عن هذا) أي : تقديمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياه لإمامة الصلاة أن (قال علي رضي الله عنه ـ حين قال أبو بكر : أقيلوني ـ : «كلا ؛ والله لا نقيلك ولا نستقيلك (٦) ، قد رضيك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأمر ديننا ، أفلا نرضاك لأمر دنيانا؟») ولم أقف عليه من حديث علي ولا عنه ، وإنما وقفت على حديث بمعناه رواه الطبراني ، وآخر يقرب من معناه رواه أبو الخير الطالقاني في كتاب «السنة» ، لكن بسند منقطع ، وهما عن غير علي (٧).

وذكر رزين في «جامعه» أن أبا بكر رضي الله عنه خطب في اليوم الثالث من

__________________

(١) في صحيح البخاري ، كتاب العلم ، باب كتابة العلم ، رقم ١١٤ ، بلفظ : «ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده» وأخرجه مسلم في الوصية برقم ١٦٣٧.

(٢) سقط من (م).

(٣) أخرجه البخاري في الجماعة والإمامة ، باب حد المريض أن يشهد الجماعة ، رقم ٦٣٣ ، وأخرجه مسلم في الصلاة ، برقم ٤١٨.

(٤) ليست في (م).

(٥) أخرجه الترمذي في المناقب ، برقم (٣٧٥) ، وقال : حسن غريب.

(٦) في (م) : نستقيلك.

(٧) الحديث أخرجه صاحب كنز العمال ، ٥ / ٦٥٤ ، ٦٥٦.

٢٥٩

يوم مبايعته فقال بعد أن حمد الله وصلّى على رسوله : «أما بعد ؛ أيها الناس إن الذي رأيتم مني لم يكن حرصا على ولايتكم ، ولكن خفت الفتنة والاختلاف ، وقد رددت أمركم إليكم ، فولوا من شئتم» ، فقالوا : «لا نقيلك» (١).

(وهذا) أي : ما ذكرناه من الإشارة بتقديمه لإمامة الصلاة في مرض الموت إلى الأحقية بالخلافة هو (لأن المقصود من نصب الإمامة) وحذف الهاء ((٢) من لفظ «الإمامة» (٢)) أولى ، (بالذات) والقصد الأول (إقامة أمر الدين) أي : جعله قائم الشعائر على الوجه المأمور به من إخلاص الطاعات وإحياء السنن وإماتة البدع ، ليتوفر العباد على طاعة المولى سبحانه ، (و) أما (النظر في أمور الدنيا وتدبيرها) لاستيفاء الأموال من وجوهها وإيصالها لمستحقيها ودفع الظلم ونحوها فمقصود ثانيا ؛ لأنه (إنما هو ليتفرغ) بالبناء للمفعول ، أي : ليتفرغ العباد (لذلك) أي : لأمر الدين ، فإن أمور المعاش إذا انتظمت فلم يعد أحد على أحد ، وأمن كل على نفسه وماله ، ووصل كل ذي حق في بيت المال أو غيره إلى حقه ، تفرغ الناس لأمر دينهم ، فقاموا بوظائف العبادات المطلوبة منهم ، (فإذا) بالتنوين ، أي : فإذا كان المقصود من نصب الإمام أولا بالذات أمر الدين فقد (رضيه) أي : رضي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصديق رضي الله عنه (لأمر الدين) وهو الإمامة العظمى ، بتقديمه لإمامة الصلاة على الوجه المذكور ، فتقديمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياه في الخلافة ، وتقديم الصحابة له لذلك.

وقوله : (مع العلم) متعلق بقوله : «رضيه» أي : فقد رضيه لأمر الدين رضى مصحوبا بالعلم منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومنهم ، (بشجاعته) أي : بشجاعة الصدّيق رضي الله عنه (وثباته دائما) ، وهما الوصفان الأهمان في أمر الإمامة ، لا سيما في ذلك الوقت المحتاج فيه إلى قتال أهل الردة وغيرهم من الكفار ، (و) يدل على اتصافه بهما قوله وفعله ، (لقد قال لعروة بن مسعود) الثقفي في صلح الحديبية ، كما في الصحيح ، (حين قال) عروة (لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كأني بك وقد فرّ عنك هؤلاء :

«امصص بظر اللات ، أنحن نفر عنه (٣)؟!» (٤)) وندعه (استبعاد أن يقع ذلك ،

__________________

(١) انظر : جامع الأصول ، ٤ / ٤٨١ ، رقم ٢٠٧٨.

(٢) سقط من (م).

(٣) ليست في (م).

(٤) الحديث أخرجه البخاري في كتاب الشروط ، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب ، رقم ٢٧٣١ ـ ٢٧٣٢.

٢٦٠