المسامرة

كمال الدين محمد بن محمد الشافعي [ ابن أبي شريف المقدسي ]

المسامرة

المؤلف:

كمال الدين محمد بن محمد الشافعي [ ابن أبي شريف المقدسي ]


المحقق: كمال الدين القاري و عزّ الدين معميش
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-34-292-X
الصفحات: ٣٦٠

إنما كان على وفق تعلق العلم به) أي : بوجوده ، (والفرض أنها) أي : الموجودات (أيضا بعد طريان العدم) عليها (ثابتة في العلم) حال كونه (متعلقا) في الأزل (بإيجادها) لوقت وجودها ، إذ المعدومات التي برزت إلى الوجود إنما وجدت على حسب تعلق العلم بوجودها ، قبل بروزها إلى الوجود وبعده ، والموجودات التي طرأ عليها العدم إنما عدمت على حسب تعلق العلم في الأزل ، وإذا وجدت ثانيا فعلى حسب تعلق العلم في الأزل بإيجادها (١).

قال المصنف رحمه‌الله : (وعندي) أنه (يجب حمل قول المعتزلة بثبوت الجواهر في العدم وتقررها فيه على هذا ، أعني : الثبوت والتقرر العلمي ، إذ يبعد من العقلاء ذوي الخوض في الدقائق التكلم بما لا معنى له ولا وجه) فإن المعتزلة يقولون : المعدوم شيء وثابت ، فإذا عدم الموجود بقي ذاته المخصوصة ، فأمكن لذلك أن يعاد (٢).

قولهم : «المعدوم ثابت» إذا لم يحمل على ما قاله المصنف لا يتحصل منه معنى ، ولا يتجه له وجه يحمل عليه ، إذ ليس للثبوت معنى إلا الوجود والتحقق. ولو قيل : المعدوم موجود لكان كلاما متناقضا لا يصدر عن عاقل ، ثم على ما أوّله عليه المصنف يصح ويرتفع النزاع بيننا وبينهم.

(وكذا) أي : وكما أقول بوجوب حمل قول المعتزلة بثبوت الجواهر في العدم على ما ذكر (لا أجزم) بقول من الأقوال التي اختلف فيها القائلون بصحة الفناء على الجواهر ، فلا أجزم (بأن الإفناء) أي : إفناء الجوهر (بكلمة «افن» كإيجاده بكلمة «كن») كما ذهب إليه أبو الهذيل من المعتزلة (أو) إن إفناء الجوهر (بواسطة إحداث ضد (٣)) له (هو الفناء الواحد للكل) أي : كل أجزاء البدن كما قاله ابن الإخشيد (٤) من المعتزلة ، فإنه ذهب إلى أن الفناء وإن لم يكن متحيزا لكنه

__________________

(١) فعلم الله في كل التعلقات كاشف غير مؤثر ، وإنما تؤثر القدرة والإرادة وفق تعلقات العلم.

(٢) في شيئية المعدوم : لما صار المعتزلة إلى تعريف المعدوم بأنه : المعلوم الذي ليس بموجود ؛ قالوا بشيئيته بناء على أنه حقيقة لشيء. وأول من أحدث القول بذلك الشحام ، والراجح كما قال الجويني ما صار إليه أهل الحق أن المعدوم منتف من كل الوجوه ، فليس بشيء. (انظر : الشامل للجويني ص ١٢٤).

(٣) في (م) : صفة.

(٤) ابن الإخشيد : أحمد بن علي بن بيغجور ، أبو بكر ، من رؤساء المعتزلة ، توفي سنة ٣٢٦ ه‍. من مؤلفاته «الإجماع». (الأعلام ١ / ١٦٥)

٢٢١

يكون حاصلا في جهة معينة ، فإذا أحدثه الله تعالى فيها عدمت الجواهر بأسرها.

(أو) أن إفناء الجوهر بواسطة إحداث أضداد متعددة (بعدد كل جزء) من أجزاء الجسم ، وهي الجواهر التي تألف منها الجسم ، في كل جوهر فناء ، ثم ذلك الفناء يقتضي عدم الجوهر في الزمان الثاني ، كما ذهب إليه ابن شبيب (١) منهم أيضا.

(أو) أن الإفناء (بنفي) أي : بسبب نفي (شرط هو البقاء الذي يخلقه الله تعالى حالا فحالا في الجوهر ، فإذا لم يخلقه انتفى) الجوهر كما ذهب إليه الأكثرون من أصحابنا ، والكعبي من المعتزلة.

(بل الكل) أي : كل هذه الأقوال (في حيز الجواز ، والحكم بأخذها عينا لا يقوى فيه موجب) أي : دليل يوجب القول به (غير أنا لا نقول بخلق الإفناء) أي : بأن الضد الذي بسبب حدوثه يحصل الفناء هو خلق فناء واحد (لا في محل) فتفنى به الجواهر بأسرها كما ذهب إليه أبو هاشم وأتباعه من المعتزلة ، وفي تعبير المصنف ب «خلق الإفناء تسامح (٢).

(ونحوه) أي : ولا نقول بنحو هذا القول من الأقوال الظاهر بطلانها كقول أبي علي الجبّائي وأتباعه بأنه تعالى يخلق بعدد كل جوهر فناء لا في محل فيفنى الجوهر ، وقول النّظام أن الجسم ليس بباق ، بل يخلق حالا فحالا فمتى لم يخلق فني.

(وكذا يجوز ((٣) كونه) أي : الحشر (٣)) (جسمانيا فقط بناء على القول بأن الروح جسم لطيف سار في البدن كماء الورد) أي : كسريان ماء الورد (في الورد ، والنار في الفحم ،) فالمعاد ، وهو كل من الروح والبدن جسم ، فلا معاد إلا لجسم ، و «أو» في قوله : (أو روحانيا) بمعنى «الواو» أي : ويجوز كون الحشر روحانيا (جسمانيا ، بناء على القول بأنها) أي : الروح (جوهر مجرد) ليس بجسم ولا قوة حالة في الجسم ، بل تتعلق به تعلق التدبير والتصرف ، (لا تفنى بفناء البدن ، ترجع إلى البدن أي إلى تعلقها به) أي : بما كانت متعلقة به من الأبدان ، فالمعاد شيئان جسم وروح تعاد إليه ، وهي ليست بجسم ، وهذا رأي كثير من

__________________

(١) ابن شبيب : المعتزلي ، وكنيته أبو بكر ، وافق المعتزلة في بعض أصولهم ، وقال بالإرجاء ، من طبقة الجاحظ عمرو بن بحر. (طبقات المعتزلة ، للمرتضى ، ص ٧١)

(٢) ووجه تسامحه أن مدلول الإفناء كاف في الدلالة ، وكذا كاف في تحقيق التعلق ، أي الفناء ، ولكنه ساير القائلين بالمصطلح لنقض ادّعائهم.

(٣) في (م) : كون الحشر.

٢٢٢

الصوفية والشيعة ، والفرق بينه وبين مذهب التناسخية (١) كما قال الإمام الرازي في «نهاية العقول» أن التناسخية ، يقولون بقدم الأرواح ، وردّها إلى الأبدان في هذا العالم ، وينكرون الآخرة والجنة والنار ، والمسلمين القائلين بالمعاد الروحاني يقولون بحدوث الأرواح وردّها إلى أبدانها ، لا في هذا العالم بل في الآخرة ، والقول بالنفوس المجردة لا يرفع بانفراده أصلا من أصول الدين ، بل ربما يؤيده (٢). اه ملخصا.

(وأكثر المتكلمين على الأول) وهو أن الروح جسم لطيف سار كما مر (لقوله تعالى : (فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩)) (سورة الفجر : ٢٩) والتجرد ينافيه) أي : ينافي الدخول في العباد بمعنى الدخول في أبدانهم ؛ لأن المجرد لا يكون داخلا في البدن لا بكونه جزء منه ولا قوة حالة فيه ، إذ المجرد كما مر عبارة عما ليس بجسم ولا قوة حالة في الجسم ، بل هو لا مكاني ، فلا يقبل إشارة حسية ، وإنما يتعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف ، كتدبير الملك أمور إقليم وليس حالا به ، (وكذا ما ورد) في الحديث (من أن أرواح بعض المؤمنين في أجواف طيور خضر ترتع في الجنة وتأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش ، وأرواح الكفار في) أجواف (طيور سود في سجين) كل ذلك ينافي التجرد كما مر.

والوارد في أرواح بعض المؤمنين ، هو ما في صحيح مسلم من حديث مسروق قال : سألنا عبد الله ، يعني : ابن مسعود ، عن تفسير هذه الآية (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩)) (سورة آل عمران : ١٦٩) ، فقال : أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «أرواحهم في أجواف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش ، تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل» (٣).

وفي جامع الترمذي من حديث كعب بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن

__________________

(١) التناسخية : أصحاب هذا المذهب قسمان : القائلون بتناسخ الأرواح في الأجسام والانتقال من شخص إلى شخص وأن الجنة والنار في الأبدان ، والقائلون بأن الدرجة الأعلى درجة الملائكة والأسفل دركة الشياطين ، وهم الذين يقولون بالخلاص : أي رجوع النور إلى عالمه الشريف وبقاء أجزاء الظلام في عالمه الخسيس. (انظر : الملل والنحل ، ص ٢٥٤).

(٢) تمام عنوانه : نهاية العقول في دراية الأصول. الكتاب لا يزال مخطوطا ، وهو كتاب في أصول الدين مرتب على عشرين أصلا. انظر : كشف الظنون ، ٢ / ١٩٨٨.

(٣) الحديث أخرجه مسلم في كتاب الإمارة ، باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنة ، برقم ١٨٨٧.

٢٢٣

أرواح الشهداء في حواصل طير خضر ، تعلق من ثمر الجنة أو شجر الجنة» (١) ، و «تعلق» بضم اللام معناه تتناول بفمها.

والوارد في أرواح الكفار لم يحضرني حين هذه الكتابة تخريجه (٢) ، وأقرب ما وجدت إلى لفظه ما أخرجه ابن منده عن أم كبشة بنت المعرور قالت : دخل علينا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألناه عن هذه الأرواح فقال : «إن أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر ترعى في الجنة وتأكل من ثمرها وتشرب من مياهها ، وتأوى إلى قناديل من ذهب تحت العرش ، يقولون : ربنا ألحق بنا إخواننا ، وآتنا ما وعدتنا ، وإن أرواح الكفار في حواصل طير سود تأكل من النار وتشرب من النار وتأوي إلى جحر في النار ، يقولون : ربنا لا تلحق بنا إخواننا ولا تأتنا ما وعدتنا» (٣).

وروى البيهقي وابن أبي شيبة من طريق ابن عباس رضي الله عنهما عن كعب موقوفا عليه قال : «جنة المأوى فيها طير خضر ترتع فيها أرواح الشهداء ، تسرح في الجنة ، وأرواح آل فرعون في طير سود تغدو على النار وتروح ، وأرواح أطفال المسلمين في عصافير في الجنة» (٤).

وأخرج هناد بن السري (٥) في «الزهد» عن هذيل ـ هو ابن شرحبيل ـ قال : «إن أرواح آل فرعون في أجواف طير سود تروح وتغدو على النار ، فذلك عرضها ((٦) المذكور في قوله تعالى : (وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا (٤٦)) (٦)) (سورة غافر : ٤٥ ـ ٤٦) ... الحديث (٧).

__________________

(١) الحديث أخرجه الترمذي في كتاب فضائل الجهاد ، باب ما جاء في ثواب الشهداء ، رقم ١٦٤٥.

(٢) في (م) : «ويقوم مقام هذه الأحاديث في مقصود هذا الاستدلال وهو وصف الروح في الأحاديث الصحيحة بأن الملك يعرج بها عند قبضها ، وما في مسند أحمد بإسناد رجاله رجال الصحيح عن البراء يرفعه من أنّ روح الكافر ينتهى بها إلى السماء فلا يفتح لها وإن روحه تطرح طرحا». وسيأتي هذا النص بعد فقرات في (ط) ، ومكانه هناك أولى.

(٣) ذكر الحديث ابن القيم في كتب الروح ، ص ١٣٧ ، وابن رجب في أهوال القبور ، ص ٢٣٨ ، مع نسبته لابن منده.

(٤) أخرجه ابن أبي شيبة ٣ / ١٦٥ في المصنف ، والبيهقي في البعث والنشور ، برقم ٢٠٦.

(٥) هناد بن السّري : هو أبو السّري ، زين العابدين ، هناد بن السّري بن مصعب بن أبي بكر بن بشر ابن صعفوق ، وينتهي نسبه إلى مناة بن تميم ، الوراق ، الدارمي التميمي الكوفي ، تلقى عن عبد الله بن المبارك المروزي ووكيع ويحيى بن معين وسفيان بن عيينة وغيرهم كثير ، له مصنفات كثيرة ، وأحاديث رواها ، توفي سنة ٢٤٣ ه‍. (سير أعلام النبلاء ، ١١ / ٤٦٩).

(٦) سقط من (م).

(٧) الزهد ، لابن السّري ، ١ / ٤٥٤.

٢٢٤

وكعب (١) وهذيل (٢) تابعيان ، فلقولهما هذا حكم المرسل ، لأن مثله لا يقال من جهة الرأي ، ((٣) ويقوم مقام هذه الأحاديث في مقصود هذا الاستدلال وصف الروح في الأحاديث الصحيحة ب «أن الملك يعرج بها عند قبضها» (٤) ، وما في مسند أحمد بإسناد رجاله رجال الصحيح عن البراء يرفعه من «أن روح الكافر ينتهي بها إلى السماء فلا يفتح لها وأن روحه تطرح طرحا» (٥) (٣)).

(ومن أهل السنة جماعة على) المذهب (الثاني) وهو أن الحشر روحاني جسماني (كالغزالي) حجة الإسلام (و) الإمام أبي منصور (الماتريدي وغيرهما ،) كالراغب (٦) والحليمي (٧) (ولهم أيضا ظواهر) تمسكوا بها ، (والمسألة ظنية) لا قاطع فيها.

واعلم أن صاحب «شرح المقاصد» قال : قد بالغ الإمام الغزالي في تحقيق المعاد الروحاني وبيان أنواع الثواب والعقاب بالنسبة إلى الأرواح ، حتى سبق إلى كثير من الأوهام ، ووقع في ألسنة بعض العوام أنه ينكر حشر الأجساد افتراء عليه ، كيف ، وقد صرح به في مواضع من كتاب «الإحياء» وغيره (٨). وذهب إلى أن إنكاره كفر (٩).

__________________

(١) كعب : هو كعب بن ماتع الحميري ، المعروف بكعب الأحبار ، من أوعية العلم ، ومن كبار علماء أهل الكتاب. أسلم زمن أبي بكر ، وقدم من اليمن في خلافة عمر ، فأخذ عن الصحابة وأخذوا عنه. توفي في خلافة عثمان. روى عنه جماعة من التابعين مرسلا ، وله شيء في البخاري وغيره. (تذكرة الحفاظ ، ١ / ٥٢).

(٢) هذيل بن شرحبيل : في النسخة المحققة لكتاب الزهد : «هزيل» وكذا هو في التمهيد ١١ / ٣٠ ، وهو هزيل بن شرحبيل الأودي الكوفي الأعمى ، أخو الأرقم بن شرحبيل ، روى عن أخيه وعثمان وعلي وطلحة وسعد وابن مسعود وغيرهم من الصحابة ، ذكره ابن حبان في الثقات ، مات بعد الجماجم. (تهذيب التهذيب ، لابن حجر ١١ / ٣٠).

(٣) سقط من (م).

(٤) الحديث في مسند أحمد ، ٤ / ٢٩٦ ، عن البراء بن عازب.

(٥) مسند أحمد ، ٢ / ٢٩٦.

(٦) الراغب : الحسين بن محمد بن المفضل ، أبو القاسم الأصفهاني ، المشهور بالراغب ، عن أصبهان ، وسكين بغداد. عالم وأديب وحكيم. توفي سنة ٥٠٢ ه‍. من مؤلفاته : الذريعة إلى مكارم الشريعة وجامع التفاسير. (بغية الوعاة ، ص / ٣٩٦).

(٧) الحليمي : الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم ، قال فيه الحاكم : كان شيخ الشافعيين بما وراء النهر ، ولد ببخارى ، ومات سنة ٤٠٣ ه‍. من مؤلفاته : «شعب الإيمان» ، (طبقات الشافعية ، ١ / ١٩٤).

(٨) ليست في (م).

(٩) انظر : إحياء علوم الدين ١ / ١٦٨ ، وصرح بذلك أيضا في التهافت ، انظر : ص ٢٩٤.

٢٢٥

ثم قال عقيب ذلك في «شرح المقاصد» : نعم ؛ ربما يميل كلامه وكلام كثير من القائلين بالمعادين إلى أن معنى ذلك أن يخلق الله تعالى من الأجزاء المتفرقة لذلك البدن بدنا فيعيد إليه نفسه المجردة الباقية بعد خراب البدن ، ولا يضرنا كونه غير البدن الأول بحسب الشخص ، ولا امتناع إعادة المعدوم بعينه (١). اه. كلام «شرح المقاصد».

واعلم أن كلام الغزالي في «الاقتصاد» صريح في أن المعاد عين الأول ، فإنه قال بعد أن ذكر ذلك ، فإن قيل : بم يتميز المعاد عن مثل الأول ، وما معنى قولهم : إن المعاد هو عين الأول؟ ، قلنا : المعدوم منقسم في علم الله تعالى إلى ما سبق له وجود ، وإلى ما لم يسبق له وجود ، كما أن العدم في الأزل انقسم إلى ما سيكون له وجود ، وإلى ما علم الله أنه لا يوجد ، وهذا الانقسام لا سبيل إلى إنكاره ، فالعلم شامل والقدرة واسعة ، ومعنى الإعادة أن يبدل الوجود بالعدم الذي سبق له الوجود ، ومعنى المثل أن يخترع الوجود لعدم لم يسبق له وجود (٢).

ثم قال : وقد ظننّا (٣) في هذه المسألة في كتاب «التهافت» (٤) يعني : مؤلفه الذي سماه «تهافت الفلاسفة» وسلكنا في إبطال مذهبهم ، تقدير بقاء النفس التي هي غير متحيزة عندهم ، وتقدير عود تدبيرها إلى البدن ، سواء كان ذلك البدن هو عين جسم الإنسان أو غيره ، وذلك إلزام لا يوافق ما نعتقده ، فإن ذلك الكتاب مصنّف لإبطال مذهبهم ، لا لإثبات المذهب الحق ، ولكنهم لما قدروا أن الإنسان هو ما هو باعتبار نفسه ، وأن اشتغاله بتدبير البدن كالعارض له والبدن آلة له ، ألزمناهم بعد اعتقادهم بقاء النفس وجوب التصديق بالإعادة ، وذلك برجوع النفس إلى تدبير بدن من الأبدان (٥). اه كلام «الاقتصاد». وفيه من إبعاد حجة الإسلام عما نسب إليه ما لا يخفى.

__________________

(١) شرح المقاصد ، ٥ / ٩٠.

(٢) مراتب الوجود : ١ ـ الموجود بالفعل ، ٢ ـ وممتنع الوجود الذي يدرك على المستوى الذهني كمفهوم ولكنه ممتنع الوجود وترتيبه تسامحا ، ٣ ـ وغير الموجود الخارجي أي : الثابت الذي وجد ثم عدم أو معدوم وسيوجد.

(٣) في النسخة المحققة للكتاب : «وقد أطنبنا» وهو اللائق.

(٤) انظر : تهافت الفلاسفة ، ص ٢٦٠.

(٥) الاقتصاد في الاعتقاد ، ص ٢٣٤.

٢٢٦

ولما ذكر المصنف الخلاف في حقيقة الروح (١) عرّف الحياة الحادثة ليظهر مغايرتها للروح فقال : (والحياة عرض يلازم وجوده في البدن تعلق الروح) بالبدن (عادة) أي : بحسب ما أجرى الله تعالى به عادته ، (فإذا فارقت الروح) البدن (فارقته الحياة أيضا) ، وتقييد المصنف بالعادة للتنبيه على أن اعتدال المزاج ووجود البنية ، أي : البدن المؤلف من العناصر الأربعة ، والروح الحيواني ، وقد عرفوه بأنه جسم لطيف بخاري يتكون من لطافة الأخلاط ، ينبعث من التجويف الأيسر من القلب ، ويسري إلى البدن في عروق نابتة من القلب تسمى بالشرايين ، ليس شيء منها شرطا عندنا في تحقق المعنى المسمى بالحياة ، خلافا للفلاسفة والمعتزلة.

__________________

(١) الروح : يعرف بعض المتكلمين الروح بأنها الحياة القائمة بالبدن ، وهي جزء من أجزائه. لكن ابن تيمية رد هذا القول واعتبر الروح المفارقة للبدن بالموت ليست جزءا من أجزاء البدن ولا صفة من صفاته. وأطلق البعض على الروح بأنها حقيقة الإنسان أو النفس الناطقة محل المعقولات ،. لكنه توقف في البحث عن كنهها مع الإجماع على وجودها ، (انظر : رسالة في العقل والروح لابن تيمية ، ص ١٠).

٢٢٧

((١) الأصل الثاني والأصل الثالث

سؤال منكر ونكير وعذاب القبر ونعيمه (١))

(الأصل الثاني) والأصل الثالث : (سؤال منكر ونكير وعذاب القبر ونعيمه ورد بهما الأخبار) أي : بكل من السؤال ومن عذاب (٢) القبر ونعيمه بألفاظ مختلفة ، (وتعددت طرقها) تعددا أفاد به مجموعها التواتر المعنوي (٣) ، وإن لم يبلغ آحادها حد التواتر ، فمنها :

(في الصحيح) أي : صحيح البخاري ، بل في الصحيحين وغيرهما حديث ابن عباس أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (مر بقبرين فقال : «إنهما ليعذبان ، وما يعذبان في كبير») ثم قال : «بلى ، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة ، وأما الآخر فكان لا يستبرئ من بوله» (٤) ، وقوله : «وما يعذبان في كبير» أي : عندهما ، وقوله : «بلى» أي : أنه كبير عند الله.

(وفيه) أي : في الصحيح أيضا بل في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة وغيرها (استعاذته) صلى‌الله‌عليه‌وسلم (من عذاب القبر) (٥).

__________________

(١) سقط من (م).

(٢) ليست في (م).

(٣) ـ المتواتر المعنوي : ما يذكره الرواة بألفاظ متغايرة ولكنها تشترك في معنى كلي ، كالإخبار عن كرم حاتم الطائي ؛ إذ بعض الأخبار تفيد أنه أعطى دينارا ، وبعضها أنه أعطى فرسا ، وبعضها أنه أعطى بعيرا ، وهكذا فقد اتفقوا على معنى كلي وهو الإعطاء.

ـ أما المتواتر اللفظي : فهو ما اتفق الجميع في روايته على اللفظ والمعنى ، ومثاله : «من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار».

(٤) أخرجه البخاري في الوضوء ، باب من الكبائر أن لا يستتر من بوله ، رقم ٢١٣ ، و ٢١٥ ، وأخرجه مسلم في الطهارة برقم ٢٩٢.

(٥) أخرجه البخاري في صفة الصلاة ، باب الدعاء قبل السلام ، رقم ٧٩٨ ، وأخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة ، برقم ٥٧٧ ـ ٥٨٩.

٢٢٨

وفي الصحيحين وغيرهما أيضا أن قوله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) (سورة إبراهيم : ٢٧) نزلت في عذاب القبر ، يقال له : من ربك؟ فيقول : ربي الله ونبيّي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

وفي الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه ، حتى إنه ليسمع قرع نعالهم ، إذا انصرفوا أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له : ما كنت تقول في هذا الرجل محمد؟ ، فأما المؤمن فيقول : أشهد أنه عبد الله ورسوله ، فيقال له انظر إلى مقعدك من النار ، قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة» ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فيراهما جميعا ، وأما الكافر أو المنافق فيقول :        لا أدري ، كنت أقول ما يقول الناس فيه ، فيقال له : لا دريت ولا تليت ، ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه ، فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين» (٢) ، وقوله : «ولا تليت» أصله : تلوت ، حولت الواو ياء لمزاوجة «دريت» أي : لا قرأت ، وهو دعاء عليه ، وقيل : معناه : لا تبعت الناس ، من «تلا فلان فلانا» : إذا تبعه ، وقيل في معناه غير ذلك (٣).

وفي رواية للترمذي : «يقال لأحدهما المنكر وللآخر النكير» (٤) ، وفي رواية للبيهقي وغيره «أتاه منكر ونكير».

وأحاديث السؤال في الصحيحين والسنن والمسانيد وغيرها ، قد وردت مطولة ومختصرة من رواية غير واحد من الصحابة.

(وقال) تعالى (حكاية) عن الكفار (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) (سورة غافر : ١١) (الثانية) أي : أنّ الموتة الثانية منهما (هي) الموتة (التي بعد السؤال) على أحد القولين في تفسير الآية (٥).

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجنائز ، باب ما جاء في عذاب القبر ، برقم ١٣٠٣ ، وأخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها ، برقم ٢٨٧١.

(٢) الحديث رواه أنس بن مالك ، وأخرجه البخاري بلفظ قريب في الجنائز ، باب ما جاء في عذاب القبر ، رقم ١٣٧٤ ، ومسلم في كتاب ذكر الموت ، باب سؤال الملكين ، رقم ٢٨٧٠.

(٣) انظر : فتح الباري ، لابن حجر ٣ / ٦٠٨ ، وفيه تفصيل هذه الأقوال.

(٤) رواه الترمذي في الجنائز ، باب ما جاء في عذاب القبر ، رقم ١٠٧٢ ، عن أبي هريرة. وعزاه في تخريج أحاديث الإحياء لابن حبان وصححه.

(٥) انظر : تفسير الطبري : جامع البيان ، ١٢ / ٤٨ ، أما القول الثاني فهو الخلق من العدم ثم الإماتة ثم الإحياء ، أي : كانوا أمواتا فأحياهم الله ثم أماتهم ، ثم أحياهم.

٢٢٩

وقال تعالى : (وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا ...) الآية (سورة غافر : ٤٥ ـ ٤٦).

وفي الصحيحين من حديث ابن عمر : «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي ، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ، يقال له : هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة» (١).

وكل من السؤال في القبر وعذابه ونعيمه أمر (ممكن وردت به هذه الأخبار المتواترة المعنى ، فيجب التصديق به) وقد تمسك المنكرون للسؤال وعذاب القبر ونعيمه ، وهم ضرار بن عمرو وبشر المريسي (٢) وأكثر متأخري المعتزلة ، بأن ذلك يقتضي إعادة الحياة إلى البدن ، لفهم الخطاب وردّ الجواب وإدراك اللذة والألم ، وذلك منتف بالمشاهدة ، وذكر المصنف الجواب عن ذلك ، وتوضيحه : أنّا نمنع اقتضاء ذلك عود الحياة الكاملة إلى جميع البدن ، (وغاية ما يقتضي إعادة الحياة إلى الجزء الذي به فهم الخطاب ورد الجواب ،) والإنسان قبل موته لم يكن يفهم بجميع بدنه ، بل بجزء من باطن قلبه ، وإحياء جزء يفهم الخطاب ويجيب ممكن مقدور عليه ، وأمور البرزخ لا تقاس بأمور الدنيا ، (وبه) أي : بهذا التقرير ، و «الباء» بمعنى : مع ، أي : ومع هذا التقرير (يبعد قول من قال إنه لا يخلق فيه) أي : في هذا الميت (قدرة ولا فعل اختياري ،) و «يبعد» معناه هنا (٣) : يظهر بعده ، إذ كيف يجيب الملكين دون قدرة على الجواب ولا اختيار له ، والقول المذكور منقول في «شرح المقاصد» (٤) عن أهل الحق ، واستشكله مصنفه بجواب الملكين ، ولم يبال المصنف بنسبته إلى أهل الحق ، فبيّن أنه بعيد ، ثم أشار إلى تمسكات المنكرين ودفعها.

فأشار إلى التمسكات بقوله : (وما استحيل به) ما ذكر من السؤال وعذاب القبر ونعيمه (من) جهة (أن اللذة والألم والتكلم) كل منها (فرع الحياة والعلم

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجنائز ، باب الميت يعرض عليه بالغداة والعشي ، رقم ١٣١٣ ، وأخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها ، رقم ٢٨٦٦. ومسلم في كتاب ذكر الموت ، رقم ٢٨٦٦.

(٢) ضرار بن عمرو : الغطفاني الضبي ، أبو عمرو ، قاض من كبار المعتزلة ، طمع برئاستهم في بلده فلم يدركها ، فخالفهم فكفّروه وطردوه ، وصنف نحو ثلاثين كتابا بعضها في الرد عليهم وعلى الخوارج ، توفي نحو ١٩٠ ه‍. (الأعلام للزركلي ، ٣ / ٢١٥).

(٣) ليست في (م).

(٤) انظر : شرح المقاصد ، ٥ / ١١٣.

٢٣٠

والقدرة ، ولا حياة بلا بنية) إذ البنية قد فسدت وبطل المزاج ، (و) من جهة (كون الميت ساكتا لا يسمع سؤالنا) إذا سألناه ، (ومنهم) أي : من الموتى (من يحرق ويصير رمادا وتذروه الرياح ، فلا يعقل حياته وسؤاله).

وأشار إلى دفعها بقوله : (فمجرد استبعاد لخلاف المعتاد) وهو لا ينفي الإمكان (فإن ذلك) الأمر الذي يتكلم فيه من سؤال الملكين وعذاب القبر ونعيمه (ممكن ، إذ لا يشترط في الحياة البنية) كما قدمناه ، (ولو سلم) اشتراطها (جاز أن يحفظ الله) تعالى (من الأجزاء ما يتأتى به الإدراك) بأن يصلح بنيته (وإن كان) الميت (في بطون السباع وقعور البحار) وغاية ما في الباب أن يكون بطن السبع ونحوه قبرا له (ولا يمتنع أن لا يشاهد الناظر منه ما يدل على ذلك ، فإن النائم ساكن بظاهره) وهو مع ذلك (يدرك) من الآلام واللذات ما يحس تأثيره عند يقظته ، كألم ضرب رآه بعد استيقاظه من منامه ، وخروج مني من جماع رآه في منامه ، (و) قد (كان) نبينا (عليه) الصلاة (والسلام يسمع كلام جبريل ويشاهده (١) ، ومن) أي : والحال أن من (حوله) من الصحابة (أو) من هو (مزاحمه في مكانه) كعائشة إذ كانت معه بفراش واحد (لا شعور له بذلك).

وإنكار السؤال وما ذكر معه لعدم المشاهدة يؤدي إلى إنكار ما ذكر من مشاهدة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجبريل وسماعه كلامه وسماع جبريل جوابه ، وإنكاره كفر وإلحاد في الدين (٢) (وهذا) أي : ما ذكرناه من سماع سؤال الملكين وفهمه وردّ جوابهما ، وإن لم يشاهد ذلك إنما قلنا به (لأن الإدراك والإسماع) عندنا معشر أهل الحق (بخلق الله تعالى ، فإذا لم يخلقه لبعض الناس لا يكون له) كما يدل عليه قوله تعالى : ((وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) (سورة البقرة : ٢٥٥)).

(وبعد اتفاق أهل الحق على إعادة قدر ما يدرك به) الألم واللذة (من الحياة) إلى جسد الميت (تردد كثير من الأشاعرة والحنفية في إعادة الروح) إليه أيضا ، (فمنعوا تلازم الروح والحياة إلا في العادة) فقالوا : لا تلازم بينهما عقلا ، قالوا :

__________________

(١) حديث سماع كلام جبريل في صحيح البخاري كتاب فضائل القرآن ، باب كيف نزول الوحي ، رقم ٤٦٩٥ ، وأخرجه أيضا برقم ٣٤٣٥.

(٢) لأنه يؤدي إلى إنكار الوحي والقرآن ، وهو ما يعني إنكار الدين كله ، لأن الدين لم يكن إلا عن طريق الوحي والقرآن ، وهذا الإنكار من المحالات البديهية ، لقطعية ثبوت النبوة كما سبق في مباحثها ، وقطعية تلقي الوحي عن طريق جبريل.

٢٣١

فقد تعود الحياة دون عود الروح خرقا للعادة ، وما يتوهم من امتناع الحياة بدون روح ممنوع (١).

(ومن الحنفية القائلين بالمعاد الجسماني من قال بأنه توضع فيه الروح) بحيث يدرك ما ذكرنا من اللذة والألم ، (و) أما (قول من قال : إذا صار ترابا يكون روحه متصلا بترابه فيتألم الروح والتراب جميعا) فهذا القول منه (يحتمل قوله) بالنصب ، أي : يحتمل أن يكون قائلا (بتجرد الروح وجسمانيتها) أي : وأن يكون قائلا بأنها جسم لطيف سار في البدن كما مر.

(وقد ذكرنا أن منهم) أي : من الحنفية (كالماتريدي وأتباعه من يقول بتجردها) أي : الروح ، (لكنه) أي : الماتريدي (نقل أثرا أنه قيل) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (يا رسول الله كيف يوجع اللحم في القبر ولم يكن فيه روح؟ فقال : «كما يوجع سنك وإن لم يكن فيه الروح» (٢)) قال : (فأخبر أن السن يوجع لأنه متصل باللحم ، وإن لم يكن فيه الروح فكذا بعد الموت ، لما كان روحه متصلا بجسده يتوجع الجسد) وإن لم يكن الروح فيه ، وهذا الأثر الذي ساقه لوائح الوضع عليه ظاهرة.

(ولا يخفى أن مراده بالتراب أجزاؤه) أي : أجزاء الجسد (الصغار) وأنه يكفي اتصال الروح بما يحصل به إدراك الألم واللذة منها ، لا بجملتها.

(ومنهم) أي : من الحنفية (من أوجب التصديق بذلك) أي : بعذاب القبر ونعيمه (ومنع من الاشتغال بالكيفية) أي : بكيفية عود الروح والإدراك ، (بل) طريقه هو (التفويض) أي : تفويض علم كيفية ذلك (إلى الخالق عزوجل) كما هو شأن السلف رضي الله عنهم في تفويض علم ما يشكل ظاهره إليه سبحانه وتعالى (٣).

(والأصح أن الأنبياء) عليهم الصلاة والسلام (لا يسألون) في قبورهم ، (ولا أطفال المؤمنين) :

__________________

(١) لأن الاقتران بين الحياة والروح اقتران جعلي ليس ذاتيا ؛ فالله سبحانه هو الذي جعل في مستمر العادة أن تقترن حياة الأكوان بالأرواح ، وهو سبحانه القادر على بعث الحياة بدون أرواح ، طبقا لإرادته وقدرته المطلقتين.

(٢) لم نعثر على سند الحديث رغم استقصاء البحث.

(٣) التفويض : الانقياد لأمر الله تعالى وترك البحث والاعتراض فيما لا يلائم ، ويسمى أحيانا بالتسليم ، وأصله قوله تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا). ومثاله : ما قاله مالك عن الاستواء ما معناه : الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة. وكان هذا شأن السلف.

٢٣٢

أما الأنبياء فلأنه قد ورد أن بعض صالحي الأمة يأمن فتنة القبر بسبب عمل صالح ، كالشهيد ، ففي سنن النسائي أن رجلا قال : يا رسول الله ، ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال : «كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة» (١) ، وكمن رابط يوما وليلة في سبيل الله ، ففي صحيح مسلم : «رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعلمه ، وأجرى عليه رزقه وأمن من الفتان» (٢).

وإذا ثبت ذلك لبعض الأمة فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع علو مقامهم المقطوع لهم بسببه بالسعادة العظمى ، ومع عصمتهم أولى بذلك.

وأما أطفال المؤمنين فلأنهم مؤمنون غير مكلفين (و) قد (اختلف في سؤال أطفال المشركين و) في (دخولهم) هل يدخلون (الجنة أو النار ، فتردد فيهم أبو حنيفة وغيره) فلم يحكموا في حقهم بسؤال ولا بعدمه ، ولا بأنهم من أهل الجنة ولا من أهل النار.

(و) قد (وردت فيهم أخبار متعارضة) بحسب الظاهر ، منها : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن أطفال المشركين فقال : «الله إذ خلقهم أعلم بما كانوا عاملين» (٣).

ومنها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجسانه» الحديث (٤).

ومنها أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن المشركين يبيّتون فيصاب الذراري والأطفال ، فقال : «هم منهم» أو قال : «هم من آبائهم» (٥) ، والجميع في الصحيح.

ولتعارضها حصل التوقف (فالسبيل) أي : الطريق الذي ينبغي أن يسلك في حكمهم (تفويض علم أمرهم إلى الله تعالى) لأن معرفة أحوالهم في الآخرة ليست

__________________

(١) الحديث أخرجه النسائي ، في كتاب الجنائز ، باب الشهيد ، ٤ / ٩٦.

(٢) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة ، باب فضل الرباط في سبيل الله عزوجل ، رقم ١٩١٣ عن سلمان.

(٣) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز ، باب ما قيل في أولاد المشركين ، رقم ١٣١٩ ، وأخرجه مسلم في القدر ، برقم ٢٦٥٨.

(٤) أخرجه البخاري في الجنائز ، باب ما قيل في أولاد المشركين ، رقم ١٣١٩ ، وأخرجه مسلم في القدر ، برقم ٢٦٥٨.

(٥) الحديث أخرجه البخاري في الجهاد ، أهل الدار يبيّتون ، رقم ٢٨٥٠ ، وأخرجه مسلم في الجهاد والسير ، رقم ١٧٤٥ ، وهو مروي عن الصّعب بن جثامة.

٢٣٣

من ضروريات الدين ، وليس فيها دليل قطعي ، وقد نقل الأمر بالإمساك عن الكلام في حكم الأطفال في الآخرة مطلقا عن القاسم بن محمد وعروة بن الزبير من رءوس التابعين وغيرهما ، وقد ضعف أبو البركات النسفي في «الكافي» (١) رواية التوقف عن أبي حنيفة ، وقال : الرواية الصحيحة عنه أن أطفال المشركين في المشيئة (٢) ، لظاهر الحديث الصحيح : «الله أعلم بما كانوا عاملين» (٣).

وقد حكى الإمام النووي فيهم ثلاثة مذاهب (٤) : الأكثر أنهم في النار ، والثاني التوقف ، والثالث الذي صححه أنهم في الجنة ؛ لحديث : «كل مولود يولد على الفطرة» وحديث رؤية إبراهيم ليلة المعراج في الجنة وحوله أولاد الناس (٥).

(وقال محمد بن الحسن : أعلم) بصيغة المضارع (أن الله لا يعذب أحدا بلا ذنب) (٦) وهو ميل إلى ما رجحه النووي ، وفي أطفال المشركين أقوال أخرى ضعيفة لا نطيل بذكرها وبالله التوفيق.

__________________

(١) الكافي ، كتاب في الفروع. ذكره صاحب كشف الظنون ، ٢ / ١٩٩٧.

(٢) ولكن أبا البقاء الكفوي نقل في الكليات أن الرواية الأصح أن أبا حنيفة توقف في جملة مسائل منها محل أطفال المشركين ومصيرهم ، وساق لذلك منظومة أحد الأدباء عند ما قال :

ثمان توقف فيها الإمام

وقد عدّ ذلك دينا مبينا

أوان الختان وسؤر الحمار

وفضل الملائك والمرسلين

ودهر وخنثى وجلالة

وكلب وطفل من المشركين

انظر : الكليات ، ٣٠٤.

(٣) الحديث أخرجه البخاري في القدر ، باب الله أعلم بما كانوا عاملين ، رقم ٦٢٢٤.

(٤) انظر : شرح مسلم ، للنووي ، ١٦ / ١٧٨.

(٥) الحديث أخرجه البخاري في الجنائز ، باب ما قيل في أولاد الناس ، رقم ١٣٢٠ ، وهو مروي عن سمرة بن جندب.

(٦) انظر : شرح مسلم ، للنووي ، ١٦ / ١٧٨.

٢٣٤

(الأصل الرابع

الميزان وهو حق)

ثابت دلت عليه قواطع السمع ، وهو ممكن ، فوجب التصديق به ، (قال) الله (تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) (سورة الأنبياء : ٤١)) الآية ، (وقال تعالى : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) (سورة القارعة : ٦ ـ ٧)) ، وقال تعالى : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) (سورة الأعراف : ٨ ـ ٩).

((٣) هل الموازين في هاتين الآيتين جمع «ميزان» أو جمع «موزون» جرى صاحب «الكشاف» والبيضاوي على الثاني (١) ، وكثير من المفسرين على الأول (٢). وأما الموازين في قوله تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) (سورة الأنبياء : ٤٧) فهي جمع «ميزان» (٣)).

وهو : ميزان حقيقي له كفتان ولسان كما ذهب إليه كثير من المفسرين عملا بالحقيقة لإمكانها ، ((٤) وقد أسند اللالكائي في كتاب «السنة» له عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال : «يوضع الميزان له كفتان ، لو وضع في إحداهما السموات والأرض ومن فيهن لوسعته» (٥) (٤)).

__________________

(١) انظر : الكشاف ، ٢ / ٤٢٥ ، وحاشية الشهاب على تفسير البيضاوي ، ٤ / ١٥٢.

(٢) انظر : زاد المسير ، لابن الجوزي ، ٣ / ١١٤ ، وتفسير ابن كثير ٣ / ١٤٦.

(٣) سقط من (م).

(٤) سقط من (م).

(٥) شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة ، ٦ / ١٢٤٤ ، رقم ٢٢٠٨.

٢٣٥

((١) وأسند عن الحسن البصري أنه قال في الميزان : «له كفتان ولسان» (٢) (١)).

وفي «حديث البطاقة والسجلات» إثبات الكفتين ، إذ فيه : «فوضعت السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة» رواه الترمذي والحاكم (٣). وورد إثبات الكفتين في غير ما حديث.

وقد أنكر بعض المعتزلة الميزان ذهابا منهم إلى أن الأعمال أعراض لا يمكن وزنها ، فكيف وقد انعدمت وتلاشت؟ قالوا : بل المراد منه العدل الثابت في كل شيء.

((٤) وقد أسند الطبري عن مجاهد قال : «إنما هو مثل ؛ كما يحرر الوزن يحرر الحق» (٥) (٤)).

وقد دفع ((٦) ما تمسك به بعض المعتزلة (٦)) بأن الموزون صحائف الأعمال ، فإن الكرام الكاتبين يكتبون الأعمال في صحائف هي أجسام ، وقيل : بل يجعل الله تعالى الأعراض أجساما فيجعل الحسنات أجساما نورانية والسيئات أجساما ظلمانية.

واقتصر المصنف رحمه‌الله كحجة الإسلام على الأول ؛ لأنه الذي دلت عليه الأحاديث ، كحديث البطاقة ، وقد دل حديث البطاقة أيضا على أن الوزن ليس بحسب مقدار الحجم على ما هو المعهود في الدنيا.

وهل يعم وزن الأعمال كل مكلف؟ نبه القرطبي على أنه لا يعم (٧) ؛ واستشهد له بقوله تعالى : (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١)) (سورة الرحمن : ٤١) ، وقد تواترت الأحاديث بدخول قوم الجنة بغير حساب ، ولا يبعد أن يوزن عمل من لم يصدر منه ذنب قط تنويها بشرفه وسعادته على رءوس الأشهاد ، وأن يوزن عمل من ليس له حسنة إعلانا بخزيه وفضيحته به على رءوس

__________________

(١) سقط من (م).

(٢) شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة ، ٦ / ١٢٤٥ ، رقم ٢٢١٠.

(٣) أخرجه الترمذي في الإيمان ، باب ما جاء فيمن يموت ويشهد ألا إله إلا الله ، رقم ٢٦٤١ ، والحاكم في مستدركه ١ / ٥٢٩. وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

(٤) جامع البيان للطبري ، ١٠ / ٣٣ ، وفيه : «كما يجوز الوزن يجوز الحق» بدل عبارة الشارح ، وقد فسره أيضا مجاهد بالعدل والقضاء ، (انظر : جامع البيان ، ١٢ / ٣١٠)

(٥) سقط من (م).

(٦) سقط من (م).

(٧) انظر : التذكرة للقرطبي ، ٢ / ٣٠٩ ـ ٣١٧.

٢٣٦

الأشهاد. ومن الحكمة في وزن عمل هذين كغيرهما مضاعفة الحسنات وجزاء مثل السيئات كما ستأتي الإشارة إليه في المتن قريبا.

ونبه المصنف على وجه الوزن بقوله (ووجهه) أي : الوجه الذي يقع عليه وزن الأعمال (أنه تعالى يحدث في صحائف الأعمال ثقلا بحسب درجاتها عنده تعالى) وعبارة حجة الإسلام في «عقائده» (١) : يحدث في صحائف الأعمال وزنا ...

الخ ، وعبارته في «الاقتصاد» : فإذا وضعت في الميزان خلق الله تعالى في كفتها ميلا بقدر رتبة الطاعات ، وهو على ما يشاء قدير (٢). انتهت. وهي مصرحة بأن الذي يخلق ميل في الكفة ، وهو لا يستلزم خلق ثقل في جرم الصحيفة ، والله سبحانه أعلم بحقيقة الحال ، وربك يخلق ما يشاء سبحانه وتعالى.

قال في «الاقتصاد» : فإن قيل : فأي فائدة في الوزن؟ وما معنى هذه المحاسبة؟ قلنا : لا يطلب لفعل الله تعالى فائدة ، (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣)) (سورة الأنبياء : ٢٣) ، وقد دللنا على هذا ـ أي : فيما مر من كلامه ـ قال : ثم ، أي : «بعد» ، في أن تكون الفائدة فيه ، أن يشاهد العبد مقدار أعماله ، ويعلم أنه يجزى بعمله بالعدل ، أو متجاوز عنه باللطف (٣).

وقد لخص هذا الجواب في «العقيدة القدسية» (٤) وتبعه المصنف بقوله : (حتى يظهر لهم العدل في العذاب ، والفضل في العفو وتضعيف الثواب) وقوله : «حتى» غاية لقوله : «يحدث في صحائف الأعمال ثقلا ... الخ».

وقال بعض المتأخرين : لا يبعد أن يكون من الحكمة في ذلك ظهور مراتب أرباب الكمال وفضائح أرباب النقصان على رءوس الأشهاد زيادة في سرور أولئك وخزي هؤلاء.

((٥) فائدة :

روى أبو القاسم اللالكائي في كتاب «السنة» عن حذيفة موقوفا أن صاحب الميزان يوم القيامة جبريل (٦) (٥)).

__________________

(١) إحياء علوم الدين ، ١ / ١٦٩.

(٢) الاقتصاد في الاعتقاد ، ص ٢٣٩.

(٣) المرجع السابق ، ص ٢٣٩.

(٤) انظر : إحياء علوم الدين ، ١ / ١٦٩.

(٥) سقط من (م).

(٦) شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة ، ٦ / ١٢٤٥ ، رقم ٢٢٠٩.

٢٣٧

(ومن السمعيات : الكوثر ؛ وهو حوض لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكون له في يوم (١) القيامة ، يرده الأخيار ويذاد عنه) أي : يرد عنه (الأشرار ، وردت به الأخبار الصحاح) التي يبلغ مجموعها التواتر المعنوي ، (فوجب قبوله) أي : قبول الوارد فيه (والإيمان به).

فمن الأخبار الصحاح حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حوضي مسيرة شهر ، ماؤه أبيض من اللبن ، وريحه أطيب من المسك ، وكيزانه كنجوم السماء ، من شرب منه لا يظمأ أبدا» رواه البخاري ومسلم (٢). وفي رواية لهما : «حوضي مسيرة شهر ، وزواياه سواء ، وماؤه أبيض من الورق» (٣) أي : الفضة.

وحديث أنس عندهما أيضا : «ما بين ناحيتي حوضي كما بين صنعاء والمدينة» (٤) وفي رواية لهما : «مثل ما بين المدينة وعمان» ، وفي رواية لمسلم من حديث أبي ذر : «عرضه مثل طوله ما بين عمان إلى أيلة» ، وفي رواية لهما من حديث ابن عمر : «ما بين جنبيه كما بين جرباء وأذرح» ، قال بعض الرواة : هما قريتان بالشام ، بينهما مسيرة ثلاث ليال. و «عمّان» بفتح العين المهملة وتشديد الميم بلدة بالأردن ، و «جرباء» بجيم مفتوحة فراء مهملة فموحدة بعدها مدة ، و «أذرح» بهمزة مفتوحة فذال معجمة ساكنة فراء مهملة مضمومة فحاء مهملة ، والأحاديث فيه في الصحيحين وغيرهما كثيرة جدا ، من رواية جماعة من الصحابة.

وهاهنا تنبيهان :

أحدهما : أن الأحاديث قد اختلفت في تقدير الحوض كما مر ، ويجمع بينها بأنه ليس القصد تقدير تحديد ، إنما القصد الإعلام بسعة الحوض جدا ، وأنه ليس كحياض الدنيا ، وقد تكرر منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفه بذلك ، فخاطب في وصفه لكل فريق بما يعرفه من مسافة بعيدة ، ومنهم من قدّر له المسافة بالزمان لا بالمكان فقال : مسيرة

__________________

(١) ليست في (م).

(٢) أخرجه البخاري في الرقاق ، باب في الحوض ، رقم ٦٢٠٨ ، وأخرجه مسلم في الفضائل ، برقم ٢٢٩٢.

(٣) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق ، باب في الحوض ، رقم ٦٥٧٩ ، وأخرجه مسلم في الفضائل ، رقم ٢٢٩٢.

(٤) أخرجه البخاري في الرقاق ، باب في الحوض ، برقم ٢٢١٩ ، ومسلم في الفضائل برقم ٢٢٩٨ ، وأخرج البخاري برقم ٢٢٠٦ ، ومسلم برقم ٢٢٩٩ الحديث بلفظ «... كما بين جرباء وأذرح».

٢٣٨

شهر ، من غير قصد تحديد كما قدمناه. والله أعلم.

الثاني : قد فسر المصنف الكوثر بالحوض ، وهو قول عطاء من المفسرين ، ويمكن أن يستدل له بحديث الصحيحين عن أنس : بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أظهرنا في المسجد إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما ، فقلنا : ما أضحكك يا رسول الله؟ قال : «نزلت عليّ آنفا سورة ، فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣)) (سورة الكوثر : ٣) ، ثم قال : «تدرون ما الكوثر؟» قلنا : الله ورسوله أعلم؟ قال :

«فإنه نهر وعدنيه ربي عزوجل ، عليه خير كثير ، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة ، آنيته عدد نجوم السماء» الحديث (١).

وإنما يتجه الاستدلال إذا جعلنا قوله : «هو حوض» عائد إلى النهر ، والظاهر أنه خبر عن «الخير الكثير» ، وأن ذلك الخير الكثير هو الحوض ، ففي رواية في الصحيحين : «إن الكوثر نهر في الجنة عليه حوضي» (٢).

وقد نقل عن جمع من المفسرين تفسير الكوثر بنهر في الجنة (٣) ، وفي حديث المعراج (٤) تصريح بذلك ، وكذا في الحديث السابق آنفا وغيره.

وفي الكوثر قول ثالث مال إليه ابن عطية وغيره من المفسرين وهو أن الكوثر الخير البالغ في الكثرة الذي أوتيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٥) من العلم والعمل ، وسائر ما أوتيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من خصال الشرف (٦) ، وقد ورد في صحيح البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الكوثر : «هو الخير الكثير الذي أعطاه الله

__________________

(١) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة ، رقم ٤٠٠ ، وأشار ابن الأثير في جامع الأصول ٢ / ٥١٥ : أن الحديث لم يخرجه البخاري.

(٢) أخرجه البخاري في كتاب الرقاق ، باب في الحوض ، رقم ٦٥٨١ من أنس ، وأخرجه مسلم في الصلاة ، برقم ٤٠٠.

(٣) فقد نقل ذلك الطبري عن ابن عمر وابن عباس وعائشة وأنس وأبي العالية ومجاهد ، انظر : جامع البيان ، للطبري ، ١٥ / ٣٢٠ ـ ٣٢١.

(٤) حديث المعراج أخرجه البخاري في كتاب الصلاة ، باب كيف فرضت الصلوات في الإسراء ، رقم ٣٤٢ ، عن ابن عباس .. وأخرجه في أبواب أخرى متفرقة ، وأخرجه مسلم في الإيمان ، باب الإسراء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم برقم ١٦٣. والتصريح بالكوثر جاء في رواية أنس عند البخاري كتاب التفسير ، باب سورة (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) رقم ٤٦٨٠.

(٥) ليست في (م).

(٦) انظر : المحرر الوجيز لابن عطية ، ١٦ / ٣٧٢.

٢٣٩

تعالى إياه» ، قال أبو بشر الراوي (١) عن سعيد قلت لسعيد : فإن ناسا يزعمون أنه نهر في الجنة؟ فقال سعيد : النهر الذي في الجنة من الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه (٢) ، ومعنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عليه حوضي» أن النهر يمد الحوض ، وإن ماءه منه ، ففي رواية لمسلم في صفة الحوض : «إن ماءه أشد بياضا من اللبن ، وأحلى من العسل ، يغت فيه ميزابان يمدانه من الجنة ، أحدهما من ذهب والآخر من ورق» (٣) ، يقال : غت الماء ـ بغين معجمة فمثناة فوقية ـ يغت بالضم : إذا جرى جريا متتابعا له صوت ، ويقال : إذا تدفق تدفقا متتابعا (٤).

__________________

(١) أبو بشر الراوي : جعفر بن إياس اليشكري ، ثقة ، أحاديثه ثابتة عن سعيد بن جبير ، وضعفه شعبة في حبيب بن سالم ومجاهد. توفي سنة ١٣٤ ه‍. (التاريخ الكبير ، للبخاري ، ٢ / ١٦٨)

(٢) أخرجه البخاري في الرقاق ، باب في الحو ، رقم ٦٢٠٧.

(٣) الحديث أخرجه مسلم في كتاب الفضائل باب إثبات حوض نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفاته ، رقم ٢٣٠١.

(٤) انظر : لسان العرب ، ١٠ / ١٨.

٢٤٠