المسامرة

كمال الدين محمد بن محمد الشافعي [ ابن أبي شريف المقدسي ]

المسامرة

المؤلف:

كمال الدين محمد بن محمد الشافعي [ ابن أبي شريف المقدسي ]


المحقق: كمال الدين القاري و عزّ الدين معميش
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-34-292-X
الصفحات: ٣٦٠

قوم) بحضرة الملك (يدّعى أنه رسول) ذلك (الملك إليهم ، فإنه) أي : ذلك المدّعي للرسالة عن الملك (إذا قال للملك :) المرسل له (إن كنت صادقا فيما نقلت عنك) من الرسالة إلى هؤلاء (فقم على سريرك على خلاف عادتك ، ففعل حصل للحاضرين علم قطعي بأنه صدقه ، بمنزلة قوله :) أي : الملك (صدقت).

واقتصر المصنف على قوله : «قم على خلاف عادتك» لأن القصد من العلم بتصديقه حاصل بالاقتصار عليه. وقول حجة الإسلام : «فقم على سريرك ثلاثا واقعد على خلاف عادتك» (١) لمزيد الاستظهار فيما يحصل به العلم. وقول «المواقف» : «فقم من الموضع المعتاد لك في السرير واجلس مكانا لا تعتاده» (٢) تصوير آخر لمخالفة العادة.

((٣) ويؤخذ من جملة ما سبق أنه لا بدّ في المعجزة من تعذر معارضتها ؛ لأن ذلك حقيقة الإعجاز.

وأن توافق الدعوى لتكون حجة لصدقها ، فلو قال مدعي الرسالة : معجزتي أن أحيي ميتا ثم أتى بخارق آخر كنتق جبل لم يدل ذلك على صدقه.

ومن شرائطها : أن لا يكون ذلك الخارق مكذبا لدعواه ، فلو قال : معجزتي أن ينطق هذا الضب فنطق فقال : إنه كاذب ، لم يعلم أنه صادق ، بل (٤)) ((٥) يتأكد اعتقاد كذبه بذلك.

ولا يجب تعيين المعجزة ، بل لو قال : أنا آتي بخارق من الخوارق ، ولا يقدر غيري على الإتيان بشيء منها كفى. وفي كلام الآمدي أن هذا متفق عليه (٦)).

(والذي أظهره الله تعالى) لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المعجزات (ثلاثة أمور : أعظمها القرآن).

(ثم) الأمر الثاني (حاله في نفسه التي استمر عليها) من عظيم الأخلاق وشريف الأوصاف التي سيأتي تفصيل بعضها ، ومن الكمالات العلمية والعملية ، (مع ضميمة أنه لم يصحب معلما أدّبه ولا حكيما هذّبه).

(ثم) الأمر الثالث (ما ظهر على يديه من الخوارق) للعادات (كانشقاق القمر)

__________________

(١) إحياء علوم الدين ، ١ / ١٦٨.

(٢) المواقف ، ص ٣٤١.

(٣) سقط من (م).

(٤) سقط من (م).

(٥) سقط من (م).

(٦) سقط من (م).

٢٠١

له فرقتين (١) ، (وتسليم الحجر) عليه قبل النبوة وبعدها (٢) ، وما قبل النبوة من الخوارق يسمى عندهم إرهاصا ، أي : تأسيسا للنبوة وتمهيدا ، من : أرهصت الحائط : إذا أسسته ، ولا يسمى معجزة ، (وسعي الشجر إليه (٣) ، وحنين الجذع الذي كان يخطب إليه لمّا انتقل إلى المنبر عنه (٤) ، ونبع الماء من بين أصابعه بالمشاهدة (٥)) ممن حضره ، سواء قلنا : إنه نابع من الأصابع نفسها ، أو أنها تكثير للماء القليل بخلق ماء آخر معه ببركة وضع الأصابع فيه.

(وشرب القوم والإبل الكثير) عددهم وعددها (من الماء القليل الذي مج فيه بعد ما نزحت البئر في الحديبية (٦)) بتخفيف الياء الأخيرة وتشديدها وهي مكان

__________________

(١) حديث انشقاق القمر : أخرجه البخاري عن عبد الله بن مسعود ، في كتاب : المناقب باب سؤال المشركين أن يريهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية ، قال : انشق القمر على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شقتين ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اشهدوا» صحيح البخاري ، رقم ٣٤٣٧ و ٣٦٥٦. وأخرجه مسلم ، رقم ٢٨٠٠.

(٢) في أحاديث منها : عن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن بمكة حجرا كان يسلم عليّ ليالي بعثت ، إني لأعرفه الآن». رواه مسلم برقم : (٢٢٧٧). والترمذي برقم : (٣٦٢٨).

(٣) في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : جاء أعرابي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : بم أعرف أنك رسول الله؟ قال : «إن دعوت هذا العذق من النخلة ، تشهد أني رسول الله؟» فدعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجعل العذق ينزل من النخلة حتى سقط إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : السلام عليك يا رسول الله ، ثم قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ارجع إلى موضعك» فعاد إلى موضعه والتأم ، فأسلم الأعرابي عند ذلك. رواه الترمذي برقم : (٣٦٣٢). وفي الحديث كلام ، وأصح منه ما رواه البخاري برقم : (٣٦٤٦) في فضائل أصحاب النبي باب ذكر الجن ، ومسلم برقم : (٤٥٠) عن معن بن عبد الرحمن قال سمعت أبي يعني عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قال : سألت مسروقا : من آذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجن ليلة استمعوا القرآن؟ فقال : حدثني أبوك يعني عبد الله بن مسعود أنه قال : آذنت بهم شجرة.

(٤) روى البخاري برقم : (٣٣٩١ ـ ٣٣٩٢) في الجمعة باب الخطبة على المنبر ، والنسائي برقم :

(١٣٩٦) في الجمعة وغيرهما ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : كان في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جذع في قبلته يقوم إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خطبته ، فلما وضع المنبر سمعنا للجذع مثل أصوات العشار أي : النوق ، حتى نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوضع يده عليه.

(٥) كما في البخاري من حديث أنس قال : أتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإناء ، وهو بالزوراء ، فوضع يده في الإناء ، فجعل الماء ينبع من بين أصابعه ، فتوضأ القوم». صحيح البخاري ، كتاب المناقب ، باب علامات النبوة ، رقم ٣٣٧٩ ـ ٣٣٨٢.

(٦) حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما : قال عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين يديه ركوة ، فتوضأ منها ، ثم أقبل الناس نحوه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما لكم؟» قالوا : يا رسول الله ليس عندنا ماء نتوضأ به ولا نشرب ، إلا ما في ركوتك ، قال : فوضع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده في الركوة ، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون ، قال : فشربنا وتوضأنا. قال جابر : لو كنا مائة ألف لكفانا ، كنا خمس عشرة مائة. رواه البخاري برقم : (٣٣٨٣) في الأنبياء باب علامات النبوة. ومسلم برقم : (١٨٥٦).

٢٠٢

على مرحلة من مكة (وكانوا ألفا وأربعمائة ،) وفي رواية ألفا وخمسمائة ، واقتصر المصنف على الأولى لأن عددها محقق باتفاق الروايتين. (وأكل الجم الغفير) أي : العدد الكثير جدا (كما في حديث أبي طلحة ، وكانوا ألفا ، من أقراص يأكلها إنسان واحد).

والظاهر أن المصنف ركب ما ذكره من واقعتين سهوا ؛ واقعة أبي طلحة ، وواقعة جابر في إطعام أهل الخندق ، فإن الذي في الصحيحين أن القوم في واقعة أبي طلحة كانوا سبعين أو ثمانين رجلا (١) ، وفي واقعة جابر كانوا ألفا (٢) ، وكان جابر قد أمر بصاع شعير عنده فطحن ، وذبح بهيمة (٣) ، أي : شاة صغيرة فطبخها ، ثم أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك وقال : تعال أنت ونفر معك ، فدعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل الخندق كلهم وأمر أن لا يخبز العجين ولا تنزل البرمة ((٤) وأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٥)) حضر وبصق في العجين والبرمة وبارك ، ثم أمر امرأة جابر أن تدعو خابزة تخبز (٦) معها ، وأن تقدح ، أي : تغرف الطعام بحضرته ، قال جابر كما في الصحيحين : وهم ألف ، فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوا وانحرفوا ، وإن برمتنا لتغط ، أي : تفور كما هي ، وإن عجيننا ليخبز كما هو (٧). وفي رواية للبخاري : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لامرأة جابر «كلي هذا» يعني : البقية ، «وأهدي فإن الناس أصابتهم مجاعة» (٨)

(وإخبار الشاة المشوية) له صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بأنها مسمومة (٩) ، و) قد (صح في

__________________

(١) صحيح البخاري ، كتاب المناقب ، باب علامات النبوة في الإسلام ، رقم ٣٣٨٥ ، وعند مسلم في الأشربة ، برقم ٢٠٤٠.

(٢) صحيح البخاري ، كتاب المغازي ، باب غزوة الخندق ، رقم ٣٨٧٦ ، وعند مسلم في الأشربة ، برقم ٢٠٣٩.

(٣) في (م) : بهمة.

(٤) ليست في (ط).

(٥) ليست في (ط).

(٦) ليست في (م).

(٧) تقدم تخريج الحديث.

(٨) أخرجه البخاري في كتاب المغازي ، باب غزوة الخندق ، رقم ٣٨٧٦ ، وأخرجه مسلم في الأشربة رقم ٢٠٣٩.

(٩) أخرجه البخاري عن أبي هريرة في حديث طويل : «لما فتحت خيبر أهديت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاة فيها سم ...» ثم قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟» قالوا : نعم يا أبا القاسم ، فقال : «هل جعلتم في هذه الشاة سما؟» قالوا : نعم ، قال : «ما حملكم على ذلك؟» قالوا : أردنا إن كنت كاذبا نستريح ، وإن كنت نبيا لم يضرك». صحيح البخاري ، كتاب الجزية ، باب إذا غدر المشركون بالمسلمين ، رقم ٢٩٩٨.

٢٠٣

البخاري أنهم كانوا يسمعون تسبيح الطعام وهو يؤكل (١) ، وغير ذلك) عطف على قوله : «انشقاق القمر» أي : وكغير ذلك من المعجزات (مما أفرد) لكثرته (بالتصنيف).

ومن أجلّ ما صنف فيه كتاب «دلائل النبوة (٢) للحافظ أبي بكر البيهقي ، وهذا النوع أحد ما عقد له في كتاب «الشفاء» (٣) باب ، وقد تضمن الباب المعقود له ثلاثين فصلا ، وفي كل من الكتب الستة التي هي دواوين الإسلام وغيرها من مطولات كتب الحديث أبواب مفردة لذلك ، والوارد في كل من هذه الخوارق ، وإن كان خبر واحد لا يفيد العلم فالقدر المشترك بينها ، وهو ظهور الخارق على يده متواتر بلا شك.

(وقول السهيلي (٤) في بعض هذه) الخوارق (أنها علامة) للنبوة (لا معجزة) أي : لا تسمى بذلك (بناء على عدم اقترانها بدعوى النبوة ليس بذاك ،) أي : ليس بمقبول (٥) ؛ لأن المقبول لعلو رتبته (٦) يشار إليه بما يشار به إلى البعيد ، (فإنه) صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما ادّعى النبوة انسحب عليه ذلك ، فهو (منسحب عليه دعوى النبوة من حين ابتدائها) أي : الدعوى (إلى أن توفاه الله تعالى ، كأنه في كل ساعة) أي : في كل وقت (يستأنفها) أي : الدعوى ، (فكل ما وقع له) من الخوارق (كان معجزة) لاقترانه بدعوى النبوة حكما ، (وكأنه يقول في كل ساعة :) أي : كل وقت (إني رسول الله) إلى الخلق (و :) كأنه يقول في كل وقت وقع فيه خارق للعادة (هذا دليل صدقي). هذا تمام الكلام في الأمر الثالث.

__________________

(١) أخرجه البخاري عن عبد الله بن مسعود ، «... ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل» كتاب المناقب ، باب علامات النبوة في الإسلام ، رقم ٣٣٨٦.

(٢) دلائل النبوة للبيهقي : كتاب جليل في السيرة والشمائل ، وشاهد يقين على نبوة سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال فيه تاج الدين السبكي : أما كتاب «دلائل النبوة» وكتاب «شعب الإيمان» وكتاب «مناقب الشافعي» فأقسم ما لواحد منها نظير ، وقال الحافظ ابن كثير : «دلائل النبوة لأبي بكر البيهقي من عيون ما صنف في السيرة والشمائل».

(٣) الشفاء ، للقاضي عياض ، ١ / ٣٤١ ـ ٥٣٣.

(٤) السهيلي : عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد الجثعمي السهيلي ، حافظ ، عالم باللغة والسير ، ضرير ، ولد في مالقة وعمي وعمره ١٧ سنة ، له : نتائج الفكر وغيره ، توفي سنة ٥٨١ ه‍ ، (الأعلام ، ٣ / ٣١٣)

(٥) انظر قول السهيلي في الروض الأنف ، ١٢ / ٢٦٧.

(٦) في (ط) : مرتبته.

٢٠٤

(وأما) الأول وهو (القرآن فهو : المعجزة العقلية) (١) أي : التي يهدي إلى إعجازها العقل لمن كان عارفا بطريق البلاغة أو كانت البلاغة له سليقة ، ومع كون المعجزة عنه معقولا فهو منقول أيضا عمن قصد المعارضة ، ممن سولت له نفسه ذلك ، فأقر بالعجز مع كونه من فرسان البلاغة ، ومنهم من أتى بما فضح به نفسه عند أبناء جنسه ، كما لا يخفى على من ألمّ بالتواريخ (٢).

(الباقية) نعت ثان ل «المعجزة» فإن كون القرآن معجزا وصف له باق (على طول الزمان ، الذي) خبر ثان عن ضمير القرآن ، فإن من أوصافه أنه الذي (أعيا كل بليغ بجزالته وغرابة أسلوبه وبلاغته) و «الجزالة» يقابلها «الركة» فليس في نظمه لفظ ركيك.

و «غرابة أسلوبه» هو أنه يخالف المعهود من أساليب كلام العرب ، إذ لم يعهد في كلامهم كون المقاطع على مثل (يَعْمَلُونَ) (المائدة : ٦٨) و (يَفْعَلُونَ) (المائدة : ٧٩) ، والمطالع على مثل : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) (البقرة : ٢١ ، ١٦٨ وغيرها) ، (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) (١) (سورة المزمل : ١) ، (الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ) (٢) (سورة الحاقة : ١ ـ ٢) ، (عَمَّ يَتَساءَلُونَ (١)) (سورة النبأ : ١).

وأما «بلاغته» فنظمه بالغ فيها الحد الخارج عن طوق البشر ، وإن أمكن بالنسبة إلى قدرة الباري سبحانه ما هو فوق ذلك كما صرح به في «شرح المقاصد» ؛ لأن مقدوراته تعالى لا تتناهى.

واكتفى المصنف بوصفه بالبلاغة عن وصفه بالفصاحة معها لاندراج مفهومها في مفهوم البلاغة اصطلاحا.

(لا بالأولين) أي : وليس إعجازه بالجزالة وغرابة الأسلوب (فقط ،) دون البلاغة (كقول القاضي) أبي بكر بن الطيب الباقلاني ، (ولا) إعجازه (بالصرف) أي : صرف همم المتحدّين (عن التوجه إلى معارضته وسلبهم القدرة) على مثله (عند قصد ذلك ، خلافا للمرتضى) من الشيعة (وغيره) كالنّظام وكثير من المعتزلة ،

__________________

(١) عبر بالمعجزة العقلية ؛ لأنها تواجه العقل بكل ما فيه من قوى الإدراك والاستبصار ، وتنقسم إلى المعجز المناسب الذي يبطل القول بالصرفة ، ويوجه إلى كل قوم منسجم مع حالهم ، والمعجز العام الذي يتحدى به جميع الخلائق وفي كل الدهور.

(٢) كمسيلمة الكذاب الذي حاول تقليد القرآن ، فأتى بتفاهات ، قال : «الفيل والفيل وما أدراك ما الفيل ، له ذنب طويل وخرطوم وثيل» إلى آخر ذلك من الترهات ، انظر : التمهيد ، للباقلاني ، ص ١٢٨ ، ويورد الباقلاني نصا آخر عن الضفدعة ، وانظر : الاقتصاد ، ص ١١٩.

٢٠٥

(وإلا) أي : وإن لا يكن ما ذكرنا بأن كان ما ذكره من أن إعجازه بالصرف (كان الأنسب) على قولهم (ترك بلاغته ، فإنه إذا كان غير بليغ ولم يقدروا على معارضته كان أظهر في خرق العادة به) ولأن القول بالصرف ينافي المنقول عمن كان يسمعه من البلغاء من طربهم لبلاغته وحسن نظمه وتعجبهم من سلاسته مع جزالته ومن وصفهم إياه بما يدل على ذلك ، وقد فصل صاحب الشفاء بعض ذلك (١).

(وأما) الأمر الثاني وهو (حاله) صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (فما) أي : فهو ما (استمر عليه من الآداب الكريمة ، والأخلاق الشريفة التي لو أفني العمر) بالبناء للمفعول (في تهذيب النفس لم تحصل) لمن أفنى عمره في التهذيب (كذلك ،) أي : كما حصلت له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتلك الأخلاق هي ما ورد من سماته الشريفة بالأسانيد الصحيحة التي هي في كل منها أخبار آحاد متعددة ، يفيد مجموعها تواتر القدر المشترك بينها ، وهو ثبوت ذلك الخلق له صلى‌الله‌عليه‌وسلم (كالحلم) وهو كما في «الشفاء» : حالة توقير وثبات عند الأسباب المحركات (٢) ، (وتمام التواضع) منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (للضعفاء بعد تمام رفعته ، و) تمام (انقياد الخلق له ، والصبر ،) وهو : حبس النفس عند حلول ما تكره (والعفو ،) وهو : ترك المؤاخذة بالذنب (مع الاقتدار) وقوله : (عن المسيء إليه ،) متعلق بالعفو ، (ومقابلة السيئة بالحسنة ، والجود ،) وقد مر تفسيره في صحيح البخاري عن ابن عباس : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان» الحديث (٣) ، وفيه عن جابر : «ما سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا قط فقال لا» (٤) (وتمام الزهد في الدنيا ، و) شدة (الخوف من الله تعالى ، حتى أنه ليظهر عليه) أثر (ذلك) الخوف الشديد (إذا عصفت الريح ونحوه) أي : نحو وقت عصف الريح ، من الأوقات التي تعرض فيها (٥) عوارض سماوية من الكسوف وغيره (٦) ، أو نحو ما ذكر من هذه الأخلاق الشريفة ، كالوفاء بالوعد ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، والحياء ، وما ينتظم في هذا المسلك ، فقد كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعلى الخلق مقاما في كل

__________________

(١) انظر : الشفاء ، ١ / ٥٢٩.

(٢) المرجع السابق ، ١ / ١٣٥.

(٣) الحديث أخرجه البخاري في كتاب الصوم ، باب أجود ما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكون في رمضان ، رقم ١٨٠٣ ، وفي كتاب المناقب ، باب صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رقم ٣٣٦١.

(٤) الحديث أخرجه مسلم برقم ١٨٠٥ ، وأخرجه القاضي عياض في الشفاء ، ١ / ١٤٥.

(٥) سقطت في (م).

(٦) في (م) : ودوام فكره.

٢٠٦

منها ، (١) (ودوام فكره) (١) كما وصفه بذلك ابن أبي هالة فيما أورده القاضي أبو الفضل عياض في «الشفاء» بقوله : كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم متواصل الأحزان ، دائم الفكرة ، ليست له راحة ، ومن أراد تعرف شيء مما صدر من آثار هذه الأوصاف الشريفة منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعليه بكتاب «الشفاء» وما في معناه من التآليف ، (وتجديد التوبة والإنابة في اليوم سبعين مرة ،) بل أكثر.

ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة (٢) : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» (٣).

وفي صحيح مسلم عن الأغرّ بن يسار المزني قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة» (٤).

وروى أبو داود والترمذي وصححه وابن ماجه عن ابن عمر قال : «كنا نعدّ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المجلس الواحد مائة مرة : «رب اغفر لي وتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم» (٥).

ولما كانت التوبة والاستغفار يقتضيان الذنب وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الرتبة العليا من العصمة بيّن المصنف معنى التوبة والاستغفار في حقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما حاصله أنهما ليسا عن ذنب ، وإنما توبته : الرجوع إلى مولاه في ستر ما استقصره من الشكر بالنسبة إلى ما ارتقى إليه من المقامات الأكملية ، فإنه عليه أفضل الصلاة والسلام (كلّما بدا له من جلال الله وكبريائه قدر) كان مرتقيا ذلك من كمال إلى أكمل (فيستقصر بنظره إليه) أي : إلى ما بدا له (ما هو فيه من القيام بشكره) تعالى على تلك الإنعامات العظيمة (وطاعته) فيرجع إلى الاعتصام به تعالى ويطلب الستر لما ظهر له من قصور الشكر.

وقوله : (والفراغ) بالجر عطفا على «الحلم» كالمعطوفات قبله ، فمن أوصافه

__________________

(١) سقط من (م).

(٢) في (ط) : قال.

(٣) أخرجه البخاري في الدعوات ، باب استغفار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في اليوم والليلة ، رقم ٥٩٤٨.

(٤) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار ، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه ، رقم ٢٧٠٢.

(٥) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة برقم ١٥١٦ ، والترمذي في كتاب الدعوات برقم ٣٤٣٤ ، وابن ماجه في الأدب برقم ٣٨١٤ ، وعنده بلفظ : «التواب الغفور».

٢٠٧

الشريفة الفراغ (عن هوى النفس) أي : ميلها إلى مشتهياتها (و) عن (حظوظها) المنعوت ذلك الفراغ بأنه (مما لا يقع إلا لمن استولت عليه معرفة الله تعالى حتى زهد في نفسه ، حتى إنه) صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ما انتصر لنفسه قط ، إلا أن تنتهك حرم الله) تعالى ، جمع «حرمة» أي : الأمور التي أثبت لها الاحترام ، (وما خيّر بين شيئين إلا اختار أيسرهما) أي : على من صدر منه التخيير ، وإن كان الأحظ له صلى‌الله‌عليه‌وسلم الشيء الآخر ، فقد ساق صاحب «الشفاء» بإسناده من الموطأ رواية يحي بن يحي إلى عائشة رضي الله عنها قالت : «ما خيّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أمرين قط إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما ، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه ، وما انتقم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله تعالى فينتقم لله بها» (١) ، وهو في الصحيحين وسنن أبي داود بمعناه وغالب ألفاظه.

وفي موضع آخر من «الشفاء» قالت عائشة رضي الله عنها : «ما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منتصرا من مظلمة ظلمها قط ما لم تكن حرمة من محارم الله تعالى» (٢) وهو عند مسلم وأبي داود بلفظ : «ما ضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا قط بيده ، ولا خادما ، ولا امرأة ، إلا أن يجاهد في سبيل الله ، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه ، إلا أن ينتهك شيء من محارم الله تعالى فينتقم لله» (٣) وهذان الحديثان دالان على زهده صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كل ما فيه حظ للنفس.

(ولعمري) وأصله : القسم بحياة المتكلم (أن من رآه) حال كون ذلك الرائي (طالبا للحق لم يحتج عند مشاهدة وجهه الكريم إلى غيره ، لظهور شهادة طلعته المباركة بصدق لهجته) أي : كلامه ؛ لأن المتكلم يلهج بالكلام أي يصدر منه متكررا (وصفاء سريرته ، كما قال المرتاد للحق : فما هو إلا أن رأيت وجهه علمت أنه ليس بوجه كذاب) والمرتاد للحق هو الطالب له ، والمراد به هنا عبد الله بن سلام رضي الله عنه ، فقد روى الترمذي وابن قانع وغيرهما بأسانيدهم عنه أنه قال : «لمّا قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة جئت لأنظر إليه ، فلما استنبت

__________________

(١) الشفاء للقاضي عياض ، ١ / ١٣٧ ، والحديث في الموطأ برقم ٩٠٣ ، وفي صحيح البخاري برقم ٢٣٠ ، وصحيح مسلم برقم ١٨١٣.

(٢) الشفاء للقاضي عياض ، ١ / ١٤٠.

(٣) أخرجه مسلم برقم ٢٣٢٨ ، وأبو داود برقم ٤٧٨٦ ، والرواية عندهم : «ما ضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا قط بيده ولا خادما ولا امرأة» دون ذكر بقية الحديث.

٢٠٨

وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب» (١) وفي «الشفاء» عن أبي رمثة ـ وهو بكسر الراء وسكون الميم وفتح الثاء المثلثة ـ التيمي رضي الله عنه قال : «أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعي ابن لي فأريته ((٢) فلمّا رأيته (٢)) ، قلت : هذا نبي الله حقا» (٣) ، قال المصنف ناظما لهذا المعنى : (و) قد (قلت في قصيدة أمتدحه بها :

(إذا لحظت لحاظك منه وجها

ونازلت الهوى) أي : المحبة (بعض النزال)

أي : كنت أهلا لمحبته غير محجوب بحجبان الحرمان.

(شهدت الصدق والإخلاص طرا

أي : جملة (ومجموع الفضائل في مثال)

أي : في ذات مشخصة هي ذاته الشريفة.

قال : (وفي) قصيدة (أخرى قلت أيضا :) أي : ناظما لهذا المعنى وللذي قبله وهو الفراغ من حظوظ النفس :

(إذا لحظت لحاظك منه وجها

شهدت الحق يسطع منه فجرا)

وفاعل «يسطع» ضمير يعود إلى الحق ، و «فجرا» حال منه ، لأنه مؤول بالمشتق أي : يسطع منه منيرا.

(خليا عن حظوظ النفس ما إن

أرقت منه يوما قط ظفرا)

يعني أن هوى النفس وحظوظها التي من شأنها أن تسترق من اتصف بشيء منها لم تصل إلى الاستيلاء على قدر قلامة ظفر من جنابه الشريف صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وتفاصيل شيمة الكريمة تستدعي مجلدات) تؤلف فيها ولا تستوفيها ، (هذا) الذي اتصف به من كريم الشيم وعظيم الأخلاق (كله مع العلم بأنه إنما نشأ بين قوم لا يعلمون علما ولا أدبا ؛ يرون الفخر) رأيا يذهبون إليه (ويتهالكون عليه) وهو أن يفتخر بعضهم على بعض يذكر ما فيه تعظيم لنفسه ولقومه ، واحتقار لمن يفاخره. و «التهالك على الشيء» : الازدحام على أخذه ، بحيث يهلك بعض القوم بعضا بسببه ، (و) يرون (الإعجاب) أي : الخيلاء والكبر رأيا ، (ويتغالون فيه) أي : يبالغون بحيث يقصد كل منهم غلبة صاحبه فيه ، وأصل «المغالاة» : من غلوة

__________________

(١) أخرجه الترمذي في كتاب الزهد ، برقم ٤٤٧٥ ، وأخرجه ابن ماجه في الصلاة برقم ١٣٣١ ، وفي الأطعمة برقم ٣٢٥١.

(٢) سقط من (ط).

(٣) سقط من (ط).

(٤) الشفاء ، ١ / ٣٤٣.

٢٠٩

السهم ، أي : المسافة التي يقطعها إذا رمي به ، أي : المراماة (١) ، لينظر ، أي غلوة أبعد مسافة ، أو من الغلاء ضد الرخص ، بأن ينادي على السلعة فيمن يزيد فيحاول كل أخذها بأغلى مما دفع صاحبه ، ثم توسع بإطلاقه على كل مبالغة فيها مغالبة.

(معبوداتهم حظوظ النفس) كما قال تعالى : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) (سورة الفرقان : ٤٣) وفي قوله : «معبوداتهم ... الخ» مبالغة في التشبيه ، فالتركيب على المختار تشبيه بليغ ، وعلى رأي : استعارة.

وقد حاز صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه المناقب العظيمة مع أنه (لم يؤثر) أي : لم ينقل (عنه أنه خرج عنهم إلى حبر) أي : عالم (من أهل الكتاب تردد إليه) ليتعلم منه (ولا) إلى (حكيم عوّل عليه) ليتهذب به ، (بل استمر بين أظهرهم إلى أن ظهر بمظهر علم واسع وحكمة بالغة) ذلك المظهر هو ذاته الشريفة ، إذ هي موضع ظهور العلم والحكمة ، ففي الكلام شبه التجريد ، (مع مقامه) صلى‌الله‌عليه‌وسلم (على أمّيّته لا يكتب ولا يقرأ) وذلك أبهر لشأنه وأظهر لبرهانه ، (وأخبر) صلى‌الله‌عليه‌وسلم (عن مغيبات ماضية) من أخبار قرون سالفة (و) أحوال (أمم خالية ، لا يطلع عليها إلا من مارس الكتب واختلف إلى أفراد يشار إليهم في ذلك الزمان) بالعلم ، (لندرة سعة المعرفة في أولئك الكائنين من أهل الكتاب مع ضنة أحدهم) أي : بخله (باليسير الكائن عنده) من ذلك ، فلا يسمح بتعليم شيء منه لأحد ، بل قد كان أهل الكتاب كثيرا ما يسأله الواحد أو العدد منهم عن شيء فينزل عليه من القرآن ما يبين ذلك ، كقصة موسى والخضر ، ويوسف وإخوته ، وأصحاب الكهف ، ولقمان وابنه ، وأشباه ذلك ، وما في التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى مما صدقه فيه العلماء بها ، ولم يقدروا على تكذيبه (٢).

(و) أخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم (عن أمور مستقبلة) فوقعت كما أخبر (مثل قوله تعالى) في الروم لما غلبتهم فارس : (الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ) (سورة الروم : ١ ـ ٢)) ، وقوله : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) (سورة الفتح : ٢٧) ، وقوله : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ

__________________

(١) انظر : مختار الصحاح ، للرازي ، ص ٤٨٠.

(٢) وهذا مما ورد في القرآن الكريم.

٢١٠

آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ ...) (سورة النور : ٥٤) الآية. فكان جميع هذا كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وإذا ثبتت نبوّته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثبتت نبوة سائر الأنبياء ، لثبوت كل ما أخبر به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونبوتهم من جملته (و) ما أخبر به (هو المراد بالسمعيات) في كتب أصول الدين.

٢١١
٢١٢

وها هو :

(الركن الرابع)

(في السمعيات) (١)

أي : ما يتوقف على السمع من الاعتقادات التي لا يستقل العقل بإثباتها ؛ كالحشر والنشر وعذاب القبر ونعيمه ، ونحو ذلك مما ينبئ عنه تراجمه ، وأما الإمامة وما يتعلق بها فقد جرى المصنف أول الكتاب على أنه ليس من العقائد الأصلية ، بل من المتممات ؛ لأنها من الفروع المتعلقة بأفعال المكلفين ، إذ نصب الإمامة عندنا واجب على الأمة سمعا ، وإنما نظم في سلك العقائد تأسيا بالمصنفين في أصول الدين ، ولا يخفى أن هذا ، وإن تم في نصب الإمام ، لا يتم في كل مباحث الإمامة ، فإن منها ما هو اعتقادي كاعتقاد أن الإمام الحق بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبو بكر ثم عمر وهكذا ، وترتيب الخلفاء الأربعة في الفضل ونحو ذلك ، فلذا ((٢) والله أعلم (٣)) نظمت في سلك العقائد وأدخلها بعض المصنفين في تعريفه كما قدمناه أول هذا التوضيح.

(و) هذا الركن (مداره) أيضا (على عشرة أصول).

__________________

(١) السمعيات : ويسميها البعض بالغيبيات ، وهي كل ما لا سبيل إلى الإيمان به إلا عن طريق الوحي ، ولعل مصطلح السمعيات هو الأليق ، لانطباق مفردات التعريف عليه ، بما يحقق الجمع والمنع.

(٢) سقط من (م).

(٣) سقط من (م).

٢١٣
٢١٤

(الأصل الأول

في الحشر والنشر)

والنشر : إحياء الخلق بعد موتهم ، والحشر : سوقهم إلى موقف الحساب ، ثم إلى الجنة والنار (أمّا المليّ) أي : المنسوب إلى ملة ، أي : شريعة جاء بها نبي من جهة تمسكه بها واعتقاده حقيتها (فقاطع بهما ، للقطع بورودهما عن الله ورسوله) ولا خلاف بين الشرائع في الأصول الاعتقادية ، إنما الاختلاف بينها في الفروع ، وكل ما ورد في شريعتنا من أصول العقائد فهو كذلك في كل ملة ، وقد (قال تعالى : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) (سورة الأنبياء : ١٠٤)) وقال تعالى : ((أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (٤٠)) (سورة القيامة : ٤٠)) وقال تعالى : ((ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) (سورة لقمان : ٢٨)) وقال تعالى : ((اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) (سورة النساء : ٨٧)) وقال تعالى : ((ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) (١) (سورة العنكبوت : ٥٧)) وقال تعالى : ((وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) (سورة الروم : ٢٧)) أي : بتقدير تمثيل قدرته بقدركم الحادثة التي تتفاوت المقدورات بالنسبة إليها ، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى : (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) (سورة الروم : ٢٧) ، فإن جميع مقدوراته تعالى بالنسبة إلى قدرته التي هي صفته القديمة سواء ، لا يتصور فيها تفاوت بالأهونية (٢) ، (وتكرر) ذلك الحشر والنشر في كلام الله تعالى ورسوله (كثيرا) كقوله تعالى : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي

__________________

(١) في (ط) تحشرون. وهو خطأ بيّن.

(٢) الأهونية : من فعل أهان : استخف ، أصله : هان يهون : إذا لان وسكن ، والهمزة في «أهان» لسلب صفة اللين والرفق. ومقصود الشارح هنا بالأهونية : المراتب والدرجات ، فالمقدورات كلها في نفس المرتبة في تعلق قدرة الباري بها ، فلا تفاوت في نسبتها إليها.

٢١٥

أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) (سورة يس : ٧٩) ، وقوله تعالى : (فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (١) (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢) (سورة الإسراء : ٥١) ، وقوله تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤)) (سورة القيامة : ٣ ـ ٤) ، وقوله تعالى : (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤)) (سورة ق : ٤٤) ، وقوله تعالى : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) (سورة مريم : ٨٥) ، وقوله تعالى : (أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ) (٩) (سورة العاديات : ٩) إلى غير ذلك من الآيات ، وقد تواتر معناه في الأحاديث النبوية (حتى صار) لكثرة تكراره في الكتاب والسنة وعلى ألسنة علماء الأمة (مما علم بالضرورة) من الدين ، فلا يتوقف على نظر ، (وانعقد الإجماع على كفر من أنكرهما) أي : الحشر والنشر (جوازا أو وقوعهما) أي : أنكر جواز وقوعهما ، أو أنكر وقوعهما وإن جوزه.

وقد أنكرهما معا الفلاسفة الزاعمون أن لا معاد إلا الروحاني لا الجسماني (٣) ، وهذا الإنكار هو أحد الأمور التي كفروا بها.

(وإن لم يجمع على الإكفار بجحد كل فرض) كما ستعرفه في الخاتمة (٤) ، بل قد وقع بين أئمتنا خلاف في إكفار الفرق المخالفة لنا من أهل القبلة ، كالمعتزلة وغيرهم ، والمعتمد عدم تكفيرهم (٥).

(وأوجبه المعتزلة) أي : قالوا بوجوب وقوع ما ذكر من الحشر والنشر (عقلا بناء) منهم (على إيجابهم) على الله تعالى (ثواب المطيع) أي : إثابته (وعقاب العاصي) أي : معاقبته ، (وعندنا : وجوب وقوعه) أي : ما ذكر من الحشر والنشر (لإخباره) تعالى (به فقط) في كتبه وعلى ألسنة رسله ، لا إيجاب العقل وقوعه.

__________________

(١) سقط من (م).

(٢) سقط من (م).

(٣) المعاد الروحاني عند الفلاسفة : قال الفلاسفة باستحالة بعث الأجساد ؛ لأن الدليل العقلي قام على ذلك ، وقدروا عود الروح إلى البدن على ثلاثة أقسام : ١ ـ الروح عرض من أعراض البدن يفارقه ويعود إليه ، وليست الروح جوهرا مفارقا قائما بنفسه. ٢ ـ الروح جوهر قائم بذاته يتصل بالبدن اتصال تدبير وتصريف ، وينقطع عنه بالموت ، والجسم بعد الموت يتفرق ثم يعود هو بعينه. ٣ ـ النفس جوهر مفارق وعوده يكون إلى البدن أي بدن كان ، وقد ادعوا أن هذا التقدير باطل ، ومن ذلك يخلصون إلى أن البعث والمعاد روحاني ؛ لأن الروح لا يمكنها معاودة اتصالها بالمادة. وقد تتبع الغزالي ادعاءهم وأشبعه نقضا ، انظر : تهافت الفلاسفة ، ص ٢٧٣ ـ ٢٩٤.

(٤) في ص ٣٥٣.

(٥) انظر : التبصير في الدين للأسفراييني ، ص ١٨٠ ـ ١٨٢.

٢١٦

(و) لا يجب عندنا على الله شيء ، فنحن لذلك (نجوّز العفو عمّن مات مصرّا على الكبائر بشفاعة النبي) صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (أو دونها) بمحض فضل الله سبحانه.

قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (سورة النساء : ٤٨) ؛ وروى أنس بن مالك أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» أخرجه أبو داود والترمذي وابن حبان والبزار والطبراني (١) ، وروى أحمد بإسناد جيد أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «شفاعتي لمن يشهد أن لا إله إلا الله مخلصا وأن محمدا رسول الله يصدق لسانه قلبه وقلبه لسانه» (٢).

(وعندهم) أي : المعتزلة (لا أثر للشفاعة إلا في زيادة الثواب ، للوجوب) أي : لأجل قولهم بالوجوب (الذي ذكرناه) عنهم ، وهو وجوب تعذيب من مات مصرا على المعصية وإثابة من مات على الطاعة بحسب طاعته.

(ولا خلاف في عدم العفو عن الكفر) إنما الخلاف في دليله ، فلا يجوز وقوعه (سمعا عندنا ،) أي : من جهة دلالة السمع ، قال تعالى : ((فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨)) (سورة المدثر : ٤٨)) أي : (لو شفّعوا ، لكن لا يقع ذلك) أي :

إتيانهم بالشفاعة ، قال تعالى : ((مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (سورة البقرة : ٢٥٥).

(و) لا يجوز العفو عن الكفر (عقلا) أي : من جهة دلالة العقل (عندهم) أي : المعتزلة ، (على ما زعموا هم وصاحب «العمدة» من الحنفية بناء) منهم (على أن العفو عنهم) أي : عن الكفار (مخالف للحكمة ، على ما ظنوا) قالوا : قضية الحكمة التفرقة بين المسيء والمحسن ، وفي جواز العفو عن المسيء تسوية بينهما ، (فيمتنع) العفو (عقلا عليه تعالى ، فيجب العقاب) أي : وقوعه منه تعالى ؛ لأنه يثبت بترك العقاب نقص في نظر العقل ، لكونه خلاف قضية الحكمة (كما أسمعناك) في الأصل الرابع من أصول الركن الثالث ، (من معنى الوجوب المنسوب إليه تعالى في كلامهم).

وقد أجيب بعد التنزل إلى تسليم قاعدة الحسن والقبح العقليين بمنع كون

__________________

(١) الحديث أخرجه البخاري في التاريخ الكبير بالإسناد نفسه ، برقم ٥٠٩ ، وأخرجه أبو داود ، برقم ٤٧٣٩ ، والترمذي ، برقم ٢٤٤١ ، وقال : حديث حسن غريب. وأبو داود والترمذي أخرجاه عن جابر.

(٢) الحديث في المسند عن أبي هريرة ، ٢ / ٣٠٧ ، ٥١٨ ، دون لفظ : «وأن محمدا رسول الله».

٢١٧

قضية الحكمة التفرقة ولو سلم ، فيجوز أن تكون التفرقة بوجه آخر غير دوام تعذيب المسيء ، كحرمانه النعيم دون تعذيب بالنار.

(ويشفع الأنبياء) عليهم الصلاة والسلام (والصلحاء) من الشهداء وغيرهم للأحاديث الصحيحة الكثيرة المتواترة المعنى ؛ ومنها :

حديث أبي سعيد في الصحيحين أن ناسا قالوا : «يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ ... الحديث بطوله ، وفيه : «فيقول الله تعالى : شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ، ولم يبق إلا أرحم الراحمين ...» الحديث (١).

وحديث أبي سعيد أيضا عند الترمذي وحسنه : «إن من أمتي من يشفع للفئام ، ومنهم من يشفع للقبيلة ، وللرجل والرجلين على قدر عمله» (٢).

ومنها حديث الترمذي وابن ماجة وابن حبان وغيرهم : «ليدخلن الجنة بشفاعة رجل ومن أمتي أكثر من بني تميم» (٣).

(و) قد (اختلف في كيفية الإعادة) بعد الموت ، ومصير البدن ترابا :

(فذهبت طائفة من الكرّامية) أتباع محمد بن كرّام ـ بتشديد الراء ، وبعضهم يخففها ـ (إلى أن الجواهر) أي : الأجزاء التي منها تأليف البدن لا تنعدم ، بل تتفرق وتختلط بغيرها ، وتتصور بصورة التراب مثلا ، وقد زالت عنها الحياة واللون والرطوبة والهيئة والتركيب ، (ثم يجمعها) الله (سبحانه ويؤلفها على النهج الأول) كما كانت. وأصل «النهج» : سلوك الطريق ، ويطلق مرادا به الطريق ، والحال ، والصفة وهو المراد هنا.

ووجه ما قاله هؤلاء : بأن الأجزاء المتفرقة المذكورة قابلة للجمع بلا ريبة ، والله سبحانه عالم بتلك الأجزاء ، وأنها لأي بدن من الأبدان ، قادر على جمعها وتأليفها ، لما تقرر من عموم علمه تعالى لكل المعلومات ، وشمول قدرته لكل

__________________

(١) أخرجه مسلم برقم (١٨٣) عن أبي سعيد الخدري. وأخرجه الحاكم في المستدرك برقم (٨٧٣) وقال : هذا حديث صحيح الإسناد.

(٢) أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة ، باب ما جاء في الشفاعة ، برقم ٢٤٤٥ ، وقال فيه : حديث حسن. والفئام : الجماعة الكثيرة.

(٣) أخرجه الترمذي في كتاب صفة الصلاة برقم ٢٤٤٣ ، وأخرجه ابن ماجه في الزهد برقم ٤٣١٦ ، وأخرجه ابن حبان برقم ٧٣٧٦.

٢١٨

الممكنات ، وصحة القبول من القابل ، والفعل من الفاعل فوجب صحة الوقوع وجوازه قطعا ، وهو المطلوب ، وهؤلاء ينكرون إعادة المعدوم (١).

(والحق أنها) أي : الجواهر التي منها تأليف البدن (تنعدم) كلها (إلا بعضا) منها (منصوصا عليه) في الحديث الصحيح ، وهو : «عجب الذنب» (ثم تعاد بعينها) بعد عدمها.

وإنما قلنا بذلك (لظاهر) قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : («كل ابن آدم يفنى إلا عجب الذنب») والحديث في الصحيحين وغيرهما (٢) بطرق وألفاظ منها :

في الصحيحين : «ليس من الإنسان شيء لا يبلى إلّا عظما واحدا وهو عجب الذنب ، منه يركب الخلق يوم القيامة» ، وفي رواية لمسلم وأبي داود والنسائي : «كل ابن آدم يأكله التراب إلّا عجب الذنب ، منه خلق ومنه يركب» ، وفي أخرى لمسلم أيضا : «إن في الإنسان عظما لا تأكله الأرض أبدا ، منه يركب الخلق يوم القيامة» قالوا : أيّ عظم هو يا رسول الله؟ قال : «عجب الذنب» ، وفي رواية لأحمد وابن حبان قيل : وما هو يا رسول الله؟ قال : «مثل حبة خردل ، منه تنسلون» (٣).

وهو بفتح العين المهملة وسكون الجيم ثم موحدة ، محله أسفل الصلب ، عند رأس العصعص ، يشبه في المحل محل أصل الذنب من ذوات الأربع (٤).

(والمسألة عند المحققين ظنية) يعني مسألة أن الإعادة هل هي جمع الجواهر المتفرقة المختلطة أو إيجادها بعد عدمها؟ وممن صرح بذلك منهم حجة الإسلام في كتاب «الاقتصاد في الاعتقاد» قال : فإن قيل : فما تقولون ؛ أتعدم الجواهر والأعراض ثم تعادان جميعا ، أو تعدم الأعراض دون الجواهر وإنما تعاد

__________________

(١) المعدوم : هو الذي لا يوجد على المستوى الخارجي ، وينقسم إلى المنفي أو ممتنع الوجود ؛ كوجود الشريك مع الله ، وإلى الثابت : وهو المعدوم الممكن ، وفي هذا القسم يدخل الكلام في إعادة الله للمعدوم.

(٢) الحديث في الصحيحين ، عند البخاري في كتاب التفسير باب : ونفخ في الصور رقم ٤٥٣٦ ، وعند مسلم في الفتن وأشراط الساعة ، رقم ٢٩٥٥.

(٣) الحديث بهذه الرواية في المسند ٣ / ٢٨ ، وعند ابن حبان برقم ٣١٤٠ ، وفيه دراج أبو السمح وهو ضعيف في روايته عن أبي الهيثم (سليمان بن عمرو بن عبدة العتواري المصري) ، وباقي رجاله ثقات ، ويشهد له ما قبله ، وذكره الهيثمي في المجمع ، ١٠ / ٣٣٢ ، وقال : رواه أحمد وإسناده حسن.

(٤) انظر : لسان العرب ، ٩ / ٥٣ ، مادة عجب.

٢١٩

الأعراض؟ قلنا : كل ذلك ممكن ، ليس في الشرع دليل قاطع على تعيين أحد هذه الممكنات (١). يعني أن الأدلة الواردة ظنية (٢).

قال المصنف : (والحق) أن في المسألة بحسب ما قامت عليه الأدلة وقوع الكيفيتين : (إعادة ما انعدم بعينه ، وتأليف ما تفرق) من الأجزاء ، (لا الحكم بأنّه) أي : الشأن إنما يكون الوجه الذي يقع عليه الإعادة (كذا) أي : إعادة المعدوم (بعينه أو كذا) أي : جمع المتفرق ، أي : إنما يكون على أحد الوجهين على التعيين دون الآخر ، (للحكم باستحالة خلافه) لأن خلافه ممكن.

وإنما قلنا بوقوع الإعادة على الكيفيتين معا (لشمول القدرة) الإلهية (لكل الممكنات) وكلّ من إعادة ما انعدم وتأليف ما تفرق أمر ممكن ، أما إمكان تأليف ما تفرق فظاهر ، كما مر ، وأما إمكان إعادة ما انعدم فأشار إليه بقوله : (والإعادة إحداث كالإبداع الأول) أي : الإيجاد من عدم لم يسبقه وجود ، (وغاية طريان العدم على المبدع أولا تصييره كأنه لم يحدث ، وقد تعلقت القدرة) الإلهية (بإيجاده من عدمه الأصلي فكذا) أي : كتعليقها بإيجاده من عدمه الأصلي تتعلق بإيجاده (من عدمه الطارئ) كما نبه عليه قوله تعالى : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (سورة الأعراف : ٢٩) ، وقوله تعالى : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (سورة يس : ٧٩).

فالإيجاد الثاني ليس ممتنعا لذاته ، ولا لشيء من لوازم ذاته ، وإلا لم يقع ابتداء وكذلك الوجود الثاني ؛ لأن مقتضى ذات الشيء أو لازمه الذاتي لا يختلف بحسب الأزمنة ، فلا يكون ممتنعا في وقت ممكنا في وقت ، وإذا لم يمتنع لذلك ولا شبهة في انتفاء وجوبه فيكون ممكنا وهو المطلوب ، فمعنى الإعادة أن الموجود ثانيا هو الموجود أولا ، (لا أنّ الموجود ثانيا مثله) أي : مثل الأول ، (بل هو) الموجود أولا وجد (بعد فناء عينه) وجودا ثانيا (وهذا) أي : القول بأن الموجود أولا هو الموجود ثانيا بعينه لا مثله إنما ذهبنا إليه (لأن وجود عينه أولا

__________________

(١) الاقتصاد في الاعتقاد ، ص ٢٣٣.

(٢) أي وصلت بطريق الآحاد ، وخبر الواحد عند العلماء : ما لم يجمع شروط التواتر. (انظر : نزهة النظر ، ص ٢٦) وهناك خلاف في العمل بالخبر الواحد على مستوى العقائد ، وتم الاتفاق على تفسيق المنكر لما ورد بطريق الآحاد إذا ثبت سنده واطمأنت النفوس إليه.

٢٢٠