المسامرة

كمال الدين محمد بن محمد الشافعي [ ابن أبي شريف المقدسي ]

المسامرة

المؤلف:

كمال الدين محمد بن محمد الشافعي [ ابن أبي شريف المقدسي ]


المحقق: كمال الدين القاري و عزّ الدين معميش
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-34-292-X
الصفحات: ٣٦٠

أخلاق لا تليق بالعبدية) أي : لا يليق الاتصاف بها لقبح آثارها بمن هو عبد ؛ من الحسد والكبر والبطر والقسوة وغيرها ، فإنها تقتضي التعدي بإيذاء أبناء النوع فيصب على المتعدي الألم الحسي في بدنه والمعنوي بقبض الرزق وشدة الفقد (ليتضرع) لمولاه سبحانه في رفع تلك الأخلاق والتوبة عليه من آثارها (فيتحقق بوصف العبودية) أي : يثبت له الاتصاف بالخضوع والذل (لعز الربوبية) كما ينبه على ذلك قوله تعالى : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) (سورة الشورى : ٢٧) أي : لتكبروا وأفسدوا فيها بطرا ، أو لبغي بعضهم على بعض استيلاء واستقلالا ، والبغي كما في «الصحاح» : التعدي والاستطالة ، وفي «المحكم» : إنه العلو والظلم (إلى قوله : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) (سورة الشورى : ٢٧)) يعلم خفايا أمرهم وجلايا حالهم ، فيقدر لهم بحسب مشيئته ما يناسب شأنهم.

ولما كان هذا المحل مظنة سؤال أشار المصنف إليه وذكر جوابه ، أما السؤال فهو أن يقال : إنه (١) قادر على رفع تلك الأمور المبعدة للعبد عن حضرة القدس دون إدخال مشقة على العبد ، فهل في إدخال المشقة من حكمه؟ والإشارة إليه بقوله : (والله تعالى وإن كان قادرا على رفع تلك المبعدات) عن حضرة القدس (والرذائل النفسية) من الكبر والبطر ونحوهما من الأمور التي تنشأ عنها تلك المبعدات (دون كلفة) أي : مشقة على العبد.

وأما الجواب فبقوله : (لكن حكمة الربوبية اقتضت حسن السعي) من العبد في طلب رضا مولاه ، وإزالة تلك المبعدات وأسبابها (و) اقتضت (ولوج) العبد لتلك (المشتقات) بأن يتحملها ، أو ولوج المشقات على العبد ليتحملها (في رضا المالك) له (على التحقيق) سبحانه. (وهذا) السعي وتحمل المشقات في رضا المالك (مما يستحسنه العقل السليم ويراه زيادة إحسان) من العبد (فيما ينبغي للعبد) أن يفعله (مع سيده ومالك رقّه).

ولله در القائل :

وأهنتني فأهنت نفسي جاهدا

ما من يهون عليك ممن أكرم

(ولهذا فضل) من تحمل ألم مخالفة النفس والهوى من العبيد في رضا

__________________

(١) ساقطة في (ط) : تعالى.

١٨١

مولاه فصبر على الملاذ المحرمة عليه (على من لم يكن أحسّ ألم مخالفة النفس في رضا الرب) سبحانه ، بأن لم تمل نفسه إلى شيء منها ، (وعن هذا) الأصل (ذهبنا) معشر الأشعرية والحنفية (إلى أن الأنبياء) جمع تقي بالتاء والقاف (من بني آدم ؛ كالرسل وغيرهم أفضل من الملائكة ؛ خواصّهم) أي : خواص البشر (كالأنبياء) رسلا كانوا أو غيرهم (أفضل من خواصّهم) أي : خواص الملائكة كجبريل وميكائيل (وعوامهم) أي : عوام البشر (كالصلحاء أفضل من عوامهم ، وبناته) أي : بنات آدم (أفضل من الحور) العنى ، (بل) قد (روي أنهن) يعني بنات آدم (يتهن عليهن) أي : يفخرن على الحور العين بتحمل المشقة في طاعة الرب سبحانه (فيقلن : صمنا ولم تصمن ... الخبر) بالنصب ، أي : اذكر الخبر الذي ورد فيه ذلك ... الخ. ولم أقف على تخريج له حين هذه الكتابة. وقد ورد ما هو أوضح دلالة على المقصود :

كحديث أبي هريرة عند أبي يعلى والبيهقي ، قال : حدثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديث الصور ، وهو في طائفة من أصحابه فذكر حديث الصور بطوله ، إلى أن قال : «فأقول : يا رب وعدتني الشفاعة فشفعني في أهل الجنة» ... الحديث ، وفيه : «فيدخل رجل منهم على اثنتين وسبعين زوجة مما ينشئ الله في الجنة (١) ، واثنتين من ولد آدم لهما فضل على من أنشأ الله بعبادتهما في الدنيا» الحديث (٢).

وكحديث أم سلمة عند الطبراني في «الأوسط» و «الكبير» وفيه : «قلت : يا رسول الله أنساء الدنيا أفضل أم الحور العين؟ قال : «نساء الدنيا أفضل من الحور العين ، كفضل الظهارة على البطانة» ، قلت : يا رسول الله وبم ذلك؟ قال : «بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن لله عزوجل» (٣).

وجملة قوله : (ويكون أيضا) استئناف لبيان نوع آخر من الحكمة ، ولذا غيّر فيه الأسلوب أي : ويكون الإيلام في الدنيا (ابتلاء للغير بالغير) أي : لأحد المتغايرين بالآخر (إن كان) المبتلى به (مكلّفا فيترتب في حقه أحكام ، كظلم إنسان) إنسانا آخر (مثله ، أو) ظلم إنسان (بهيمة ، قال مشايخ الحنفية : خصومة

__________________

(١) سقطت في (م).

(٢) أخرجه المنذري في الترغيب والترهيب ، ٤ / ٢٩٨ ، رقم (٥٧١٤) ، وقال : رواه أبو يعلى والبيهقي.

(٣) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير رقم ٨٧٠ ، وفي المعجم الأوسط برقم ٣١٦٥.

١٨٢

البهيمة أشد من خصومة المسلم يوم القيامة ، كخصومة الذمي) فإنها أشد من خصومة المسلم يوم القيامة.

ويشهد لهذا حديث أبي داود : «من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة» (١) ، ومن كان أبلغ الخلق صلى‌الله‌عليه‌وسلم حجيجه فخصومته أشد.

وورد الوعيد الشديد في البهيمة ، ففي صحيح البخاري وغيره : «دخلت امرأة النار في هرة ؛ ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض» (٢) وخشاش الأرض : بتثليث الخاء المعجمة وبشينين معجمتين هو حشرات الأرض والعصافير ونحوها (٣).

وقوله : (وقد لا تدرك) قسيم لقوله فيما سبق : «فقد تدرك» ، أي : وقد لا تدرك الحكمة في الإيلام (كما في) إيلام (البهائم ونحوها) من الأطفال الذين لا تمييز لهم بالأمراض ونحوها ، (فيحكم بحسنه قطعا) إذ لا قبح بالنسبة إليه وفاقا (ويعتقد فيه) أي : في ذلك الإيلام (قطعا) دون تردد (حكمة) لله سبحانه ، (قصرنا) أي : قصرت عقولنا (عن دركها ، فيجب التسليم له) تعالى فيما يفعله ، (و) يجب (اعتقاد الحقية في فعله) أي : أنه حق أي مستحق له سبحانه إذ هو تصرف فيما يملك ، (و) يجب (ترك الاعتراض) لقصور العقول عن إدراك الحكم الإلهية (له الحكم) كما قال تعالى : (لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (سورة القصص : ٧٠) ، (و) له (الأمر) كما قال تعالى : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) (سورة الأعراف : ٥٤) لا شريك له في إيجاد شيء من المخلوقات ، ولا في إمداده بالبقاء ، ولا في إعدامه بالفناء ، ولا في استحقاق امتثال أمره ونهيه سبحانه (لا يسأل عما يفعل بحكم ربوبيته) أي : ملكه لكل شيء ، الملك الحقيقي (وكمال علمه) القديم المحيط بكل شيء أزلا وأبدا (وحكمته الباهرة التي قد يقصر عن دركها عقول الكمّل) من عباده ، جمع «كامل» ، كما قال تعالى : ((وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (سورة البقرة : ٢١٦) وهم) أي : العباد (يسألون بحكم العبودية والمملوكية) لاقتضائها أن العبد

__________________

(١) رواه أبو داود برقم : (٣٠٥٢) بلفظ : «ألا من ظلم» ، وفي إسناده مجاهيل ، عن صفوان بن سليم.

(٢) رواه البخاري في بدء الخلق ، باب خمس من الدواب ... رقم : (٣٣١٨) ، ومسلم رقم : (٢٢٤٢).

(٣) انظر : مختار الصحاح ، ص ١٧٦.

١٨٣

المملوك لا استقلال له بتصرف (١).

ولما كان هذا المقام بحيث قد يتوهم متوهم فيه أن الحكمة بمعنى الغرض تعرض المصنف للفرق بينهما فقال : (واعلم أن قولنا : له) سبحانه وتعالى (في كل فعل حكمة ، ظهرت) تلك الحكمة (أو خفيت) فلم تظهر ، (ليس هو) أي : الحكمة (بمعنى الغرض ،) وتذكير الضمير باعتبار أن الحكمة معنى ، ويصح أن يكون الضمير ل «قولنا» ، أي : ليس قولنا : إن له حكمة بمعنى أن له غرضا ، هذا (إن فسّر) الغرض (بفائدة ترجع إلى الفاعل ، فإن فعله تعالى وخلقه العالم لا يعلّل بالأغراض) بهذا التفسير للغرض ؛ (لأنه) أي : الفعل لغرض بهذا التفسير يقتضي استكمال الفاعل بذلك الغرض ، لأن حصوله للفاعل أولى من عدمه ، وذلك (ينافي كمال الغنى عن كل شيء) ، وقد قال تعالى : ((إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (سورة العنكبوت : ٦)) وقال تعالى : (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) (سورة محمد : ٣٨).

(وإن فسّر) الغرض (بفائدة ترجع إلى غيره) تعالى ، بأن يدرك رجوعها إلى ذلك الغير كما نقل عن الفقهاء من أن أفعاله تعالى لمصالح ترجع إلى العباد تفضلا منه (فقد تنفي أيضا إرادته من الفعل) نظرا إلى تفسير الغرض بالعلة الغائية (٢) التي تحمل الفاعل على الفعل ، لأنه يقتضي أن يكون حصوله بالنسبة إليه تعالى أولى من لا حصوله ، فيلزم الاستكمال المحذور ، (وقد تجوز) إرادته من الفعل نظرا إلى أنه منفعة مترتبة على الفعل لا علة غائية حاملة على الفعل ، حتى يلزم الاستكمال المحذور (والحكمة على هذا) التفسير (أعم منه) أي : من الغرض ، لأنها إذا نفيت إرادتها من الفعل سميت غرضا ، وإذا جوّزت كانت حكمة لا غرضا.

(وأما أحكامه) سبحانه وتعالى (فمعلّلة بالمصالح ودرء المفاسد عند الفقهاء ،

__________________

(١) في هذا قياس للغائب على الشاهد ، فإننا نشاهد أن العبد تحت ولاية سيده ، لا يملك حق التصرف المستقل ، بل الأمر عائد إلى سيده إن شاء أذن له وإن شاء أمسك ، وهذا القياس جائز مع نفي المماثلة بين المستويين (الإلهي والبشري).

(٢) العلة الغائية : عند الأصوليين : هي الباعث على الحكم ، وعند المتكلمين والمناطقة : هي ما لأجله يتحرك نحو الشيء ويوجده ، كصناعة الكرسي للجلوس عليه ، فهي باعثة على الغرض والمقصد ، وهذه العلة منتفية عن أفعال الله تعالى ، لأن إرادة الله مطلقة لا يشوبها أي معنى من معاني الحمل والجبر ، والعلة الموجودة في القرآن في مثل قوله تعالى (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) ... وغيرها إنما هي علة جعلية وضعها الله تعالى كرابط من محض المشيئة. لكن لا بدّ من ملاحظة أن أفعال الله سبحانه ليست عبثية ، بل ترمي إلى مصالح وحكم يعلمها دون أن تكون عللا غائية دافعة.

١٨٤

على ما يعرف في أصول الفقه) في أبواب القياس (١) ، واعلم أن تعليلها بها عند فقهاء الأشاعرة بمعنى أنها معرّفة للأحكام من حيث إنها ثمرات تترتب على شرعيتها ، وفوائد لها ، وغايات تنتهي إليها ، متعلقاتها من أفعال المكلفين ، لا بمعنى أنها علل غائية تحمل على شرعيتها. وبالله التوفيق.

وقد علمت مما مر أن الأصول الثلاثة ؛ الخامس والسادس والثامن ، في ترتيب حجة الإسلام مندرجة في الأصل الخامس في كلام المصنف ، فلذا قال هنا : الأصل التاسع.

__________________

(١) وهي الوصف الظاهر المنضبط ، المناسب للحكم أي : تحقق ما قصده الشارع من المصالح وتدفع المفاسد دون تأثير.

١٨٥

(الأصل التاسع) : يعني في ترتيب حجة الإسلام

(في بعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام)

وسيأتي تعريف النبي والكلام فيه في آخر هذا الأصل.

(لا يستحيل بعثة الأنبياء) بل هي عندنا معشر أهل الحق أمر ممكن واقع قطعا ، إلا أن بعض حنفية ما وراء النهر قالوا : إنه واجب الوقوع ، كما سيأتي عنهم وعن صاحب «العمدة» (١) ، (خلافا للبراهمة) طائفة من الهند يعبدون صنما يسمونه «برهم» ، وقيل هم أصحاب «برهام» من حكماء الهند ، (قالوا : لا فائدة في بعثتهم ، إذ في العقل مندوحة عنهم) أي : سعة وغنية ، من ندحت الشيء : وسّعته.

(ومن المحققين من جعل القول باستحالتها) أي : البعثة (قسيما لقول البراهمة) وهو المولى سعد الدين (قال) في «شرح المقاصد» : («المنكرون للنبوة ؛ منهم من قال باستحالتها ولا اعتداد بهم ، ومنهم من قال بعدم الاحتياج) إليها (كالبراهمة» (٢) ، وهو) أي : ما قاله هذا المحقق (مخالف لقول الإمام الحجة) أبي حامد ، وهو الذي قدمه المصنف (و) لقول (كثير ممن رأيت) كلامه كإمام الحرمين ، والآمدي ، والنسفي في «العمدة» ، والصابوني في «البداية» ، وغيرهم ، إلا أن كلام الآمدي في «غاية المرام» يقتضي أن القائل بذلك بعض البراهمة ، فإنه بعد أن نقل عن البراهمة والصابئة القول بامتناع البعثة قال : إلا أن من البراهمة من اعترف برسالة آدم لا غير ، ومنهم من لم يعترف بغير إبراهيم (٣). ا ه.

__________________

(١) أبو البركات النسفي ، وقد تقدمت ترجمته ١٧٨.

(٢) شرح المقاصد ، ٥ / ٩.

(٣) غاية المرام ، ص ٣٣٩.

١٨٦

وقد حاول المصنف مستند النقل المحقق فقال : (وكأنه لما كان حاصل دليلهم) أي : البراهمة المنقول عنهم استحالة البعثة (نفي الفائدة) في البعثة بزعمهم الباطل قالوا : (لأن ما جاء به) الرسول (إما موافق لمقتضى العقل) بأن يدرك العقل حسنه (فلا حاجة إليه) إذ العقل مغن عنه ، (أو مخالف) لمقتضى العقل (١) بأن يدرك قبحه (فيترك) عملا بالعقل ، إذ هو حجة الله على خلقه ، (ظن عدم الاستحالة) جواب ل «ما» ، أي : لمّا كان حاصل دليل البراهمة ما ذكر ظن الناظر فيه أن البعثة ليست مستحيلة عندهم ، وأنهم إنما يقولون بعدم الاحتياج إلى البعثة لا باستحالتها (لكن يبعد أن يخفى عليه) أي : على هذا المحقق (أن نفيهم الفائدة في أفعال الله تعالى يوجب القول بالاستحالة عند هؤلاء وأضرابهم) ممن يعتبر تحسين العقل وتقبيحه (لاستحالة العبث) في أفعاله تعالى ، (وهو ما لا فائدة فيه).

(والجواب) عن استدلالهم من وجوه : الأول : (إن العقل لا يهتدي إلى الأفعال المنجية في الآخرة) ليأتي بها ، (كما لا يهتدي) أي : العقل (إلى تمييز الأدوية المفيدة للصحة من السمومات) المهلكة (إلا بالطبيب) العارف بها لتمييزها ويوقف عليها ، (فالحاجة إليه) أي : إلى الرسول (كالحاجة إليه) أي : إلى الطبيب ، إذ الرسالة سفارة بين الحق تعالى وبين عباده ليزيح بها عللهم فيما قصرت عنه عقولهم.

وقوله : (ولأن) عطف باعتبار التوهم ، إذ المعنى : البعثة جائزة واقعة لا غنى عنها أبدا سرمدا لا في الدنيا ولا في الآخرة لأن العقل لا يهتدي ... الخ ، ولأن (العقل) وهو الوجه الثاني من أوجه الجواب ، ولو قال : «وأن» لما احتاج إلى التأويل ، إذ المراد : والوجه الثاني أن العقل (لا يستقل بالكل) أي : بإدراك كل الأمور ، بل يدرك البعض استقلالا ويقصر عن إدراك البعض ، فلا يهتدي إليه بوجه ، (ويتردد في البعض : فما استقل) العقل (به) أي : بإدراكه ؛ كوجود الباري تعالى وعلمه وقدرته (عضده) ما جاء به النبي (وأكده ،) فكان بذلك بمنزلة تعاضد الأدلة العقلية إلزاما بالنقلية ، (وما قصر) العقل (عنه) أي : عن إدراكه كالرؤية والمعاد الجسماني و (كقبح الصوم في يوم كذا) كأول شوال وعاشر ذي الحجة ، (وحسنه في يوم كذا) كآخر رمضان (بيّنه) النبي ، إذ العقل يقصر عن إدراك الرؤية والمعاد الجسماني وإدراك حسن صوم آخر يوم من رمضان وقبح صوم أول يوم من

__________________

(١) في (م) : الفعل.

١٨٧

شوال (١) ، (وما تردد فيه) العقل دون رجحان لأحد الطرفين عنده (رفع عنه الاحتمال فيه) كشكر المنعم قبل ورود الشرع ، إذ يحتمل أن يمنع من الإتيان به لأنه تصرف في ملك الله سبحانه بغير إذن منه ، ويحتمل أن يمنع من تركه لكونه ترك طاعة ، (وإن غلب ظن حسنه) فكان قبحه متوهما (قطع) ما جاء به النبيّ (مزاحمة الوهم فيه للعقل) (٢).

وقوله : (ولأن) هذا هو الوجه الثالث ، والعطف فيه على المنوال السابق ، وتقريره : أن (العقول تتفاوت) فقد يستحسن جماعة فعلا ويستقبحه آخرون ، (فالتفويض إليها) أي : العقول (يؤدي إلى فساد التقاتل) أي : القتال ، (و) فساد (الخراب) للتنازع المؤدي إليهما ، (والنهي) عن الإقدام على الفعل المتنازع فيه (المخبر به النبيّ) أي : نهي الإله الذي يخبر به عنه النبي (يحسم هذه المادة) أي : مادة الفساد الذي يؤدي إليه التنازع. (وما قيل) من قبل المنكرين للنبوة (أنه) أي : البعث (يتوقف على علم المبعوث) أي : النبي (بأن الباعث له هو الله تعالى ولا سبيل) له (إليه) إذ لعله من إلقاء الجن ، فإنكم معشر المليّين على القول بوجود الجن وعلى جواز إلقائهم الكلام إلى النبي (فممنوع ،) خبر «ما قيل» ، وقد ذكر سند المنع لوجهين : الأول : بقوله : (إذ قد ينصب) الباعث تعالى (له) أي : للمبعوث (دليلا) يعلم به أن الباعث له هو الله سبحانه وتعالى ، بأن يظهر له آيات ومعجزات ليس مثلها من شأن مخلوق تفيده هذا العلم.

والثاني : بقوله : (أو يخلق) بالبناء للمفعول (له) أي : للمبعوث (علم ضروري) بأن الباعث له هو الله سبحانه وتعالى.

واعلم أن الفلاسفة يثبتون النبوة لكن على وجه مخالف لطريق أهل الحق ، لم يخرجوا به عن كفرهم ، فإنهم يرون أن النبوة لازمة في حفظ نظام العالم المؤدي إلى صلاح النوع الإنساني على العموم ، لكونها سببا للخير العام المستحيل

__________________

(١) وهو بحث معقول المعنى وغير معقول المعنى : فالعبادة المحضة غير معقولة المعنى ؛ أي غير مفهومة ، وهي دائما مفتقرة إلى نية ؛ كالصلاة وغيرها ، مما أمرنا بالتعبد بها دون البحث عن القصد ، أما المعقول فهو مفهوم المعنى كغسل النجاسة فإنها غير مفتقرة إلى نية. انظر : بداية المجتهد ، ص ٨.

(٢) الوهم : هو إدراك أمر غير محسوس ، يتعلق غالبا بالأمور الكاذبة المخالفة للواقع ، ويكون دائما في سير معاكس لاتجاه العقل ، فربما يحكم العقل بإثبات شيء ويقوم الوهم بخلافه ، ويتحدد دائما في صورة طرف المرجوح وترك الراجح ، لذا عبر المصنف ابن الهمام (بمزاحمة الوهم فيه للعقل).

١٨٨

تركه في الحكمة والعناية الإلهية ؛ لكنها عندهم بمعنى مخالف لمعناها عند أهل الحق ، فإنهم يرون أنها مكتسبة ، وينكرون صدور البعثة عن الباري تعالى بالاختيار ، لإنكارهم كونه تعالى مختارا ، وينكرون كونها بنزول الملك من السماء بالوحي لإنكارهم نزول الملك لاستحالة خرق الأفلاك عندهم ، وينكرون كثيرا مما علم بالضرورة مما جاء به الأنبياء به كحشر الأجساد ، والجنة والنار ، وذلك الإنكار مما كفروا به (١).

وطريق المعتزلة بيّنها المصنف بقوله : (وقد قالت المعتزلة بوجوب البعثة) على الله تعالى (لما عرف من أصلهم) الفاسد (في وجوب الأصلح) عليه تعالى ، كذا نقل في «المقاصد» و «شرحه» (٢) الوجوب عن المعتزلة مطلقا ، والذي في «المواقف» (٣) أن بعض المعتزلة قال : تجب البعثة على الله تعالى ، وفصّل بعضهم فقال : إذا علم الله من أمة أنهم يؤمنون وجب الإرسال إليهم ، لما فيه من استصلاحهم ، وإن علم أنهم لا يؤمنون لم يجب ، ولكن يحسن قطعا لإعذارهم ، وهو أيضا مبني على أصلهم الفاسد وهو التحسين والتقبيح عقلا.

(وقول جمع من متكلمي الحنفية مما وراء النهر أن إرسالهم) أي : الأنبياء (من مقتضيات حكمة الباري) أي : من الأمور التي اقتضتها حكمته (جلّ ذكره ، فيستحيل أن لا يكون) أي : أن لا يوجد الإرسال ، هذا المقول (عند تفهم معنى وجوب الأصلح مما قدمناه) في الأصل الرابع من هذا الركن (هو معناه) أي : مقول قول الجمع المذكورين هو معنى قول المعتزلة بوجوب البعثة أو بوجوب الأصلح ، ف «قول» مبتدأ والظرف وهو قوله : «عند» حال من «القول» ، و «هو» ضمير الفصل ، والخبر قوله : «معناه». وما قدمه في الأصل الرابع في معنى الوجوب هو قوله هناك : «واعلم أنهم يريدون بالواجب ... الخ» (٤).

__________________

(١) وقد تتبع الإمام أبو حامد الغزالي ما تهافتوا فيه ، ونقض إنكاراتهم في كتابه القيم (تهافت الفلاسفة) ، وعلى رغم رد ابن رشد عليه في تهافت التهافت فإن تأثير الغزالي بكتابه كان قويا ، وانكمشت بعده رقعة الإنكار.

(٢) انظر : شرح المقاصد ، ٥ / ٥ ، ٧.

(٣) انظر : المواقف ، ص ٣٤٢.

(٤) الواجب عند المعتزلة : هو الذي يشتمل تركه على مفسدة ، وعلى ذلك أوجبوا على الله أمورا منها : اللطف ، الثواب على الطاعة لاستحقاق العبد ، العقاب على المعصية لاستحقاقها أيضا ، الأصلح للعبد في الدنيا ، بناء على أن تركها يؤدي إلى مفاسد.

١٨٩

(وقوله في «عمدة النسفي») : أي : قول أبي البركات النسفي في «عمدته» (في البعثة) أنها (في حيّز الإمكان ، بل في حيز الوجوب تصريح به) أي : بالوجوب ، وعبارته : «إرسال الرسل مبشرين ومنذرين في حيز الإمكان بل في حيز الوجوب» (١) ، وظاهره استحالة تخلفه (لكنه) أي : صاحب «العمدة» (أراد به) أي : بالوجوب (خلاف ظاهره) ويمكن حمله على إرادة وجوب الوقوع لتعلق العلم القديم بوقوعه ، فإن ذلك لا ينافي إمكانه في نفسه ، (إذ الحق أن إرسالهم لطف من الله) تعالى (ورحمة) منّ بها (على عباده ، ومحض فضل وجود) والجمع بين هذه الألفاظ المتقاربة المعنى لتوفية مقام الإطناب حقه من تقرير المعنى وتأكيده ، إذ «اللطف» هنا : إيصال البر على وجه الرفق دون العنف ، و «الرحمة» : إرادة إيصال البر أو إيصاله ، و «الجود» : إفادة ما ينبغي لا لعوض ، والكمال في كل منها ليس إلا له (لا إله إلا هو أرحم الراحمين). وقد تحصل لك مما قدمه أن من فوائد بعثة الأنبياء الاهتداء إلى ما ينجي في الآخرة ، لقصور العقل عن إدراكه ، وبيان ما يقصر العقل عن إدراكه سوى ذلك ، وتعاضد الشرع والعقل فيما أدركه العقل ، ورفع الاحتمال فيما تردد فيه العقل (وفي تفصيل محاسن إرسالهم) أي : الأنبياء (وفوائده) المترتبة عليه (طول) لا يليق بمثل هذا التأليف اللطيف الحجم (وفي تأمل اللبيب ما يستخرجها) أي : تلك الفوائد فيغني عن ذكرها ، ونحن نذكر منها بعضا كما هو وظيفة الشرح : فمنها : بيان منافع الأغذية والأدوية ومضارها التي لا تفي بها التجربة إلا بعد أدوار وأطوار ، مع ما فيها من الخطر.

ومنها : تعليم الصنائع الخفية من الحاجيات والضروريات. ومنها : تكميل النفوس البشرية بحسب استعداداتها المختلفة في العلميات والعمليات. ومنها : تعليم الأخلاق الفاضلة المتعلقة بصلاح الأشخاص ، والعادات (٢) الكاملة المتعلقة بصلاح الجماعات من أهل المنازل والمدن. (هذا) تمام الكلام في البعثة وفوائدها.

وأما المبعوثون فالإيمان بهم واجب ، من ثبت شرعا تعيينه منهم وجب الايمان بعينه ، ومن لم يثبت تعيينه كفى الإيمان به إجمالا (ولا ينبغي في الإيمان بالأنبياء القطع بحصرهم في عدد) ، إذ لم يرد بحصرهم دليل قطعي ؛ (لأن)

__________________

(١) العمدة ، ص ١٥.

(٢) في (م) : السّيادات.

١٩٠

الحديث (الوارد في ذلك) أي : في عددهم (خبر واحد) لم يقترن بما يفيد القطع ((١) فهو (إن صحّ) (٢)) ، (فإن وجدت فيه الشروط) المعتبرة للحكم بصحته (وجب ظن مقتضاه مع تجويز نقيضه) بدله (وإلا) أي : وإن لم يصح (فلا) يجب ظن مقتضاه ، وعلى كل من التقديرين (فيؤدي) أي : فقد يؤدي حصرهم في العدد الذي لا قطع به (إلى أن يعتبر فيهم من ليس منهم) بتقدير كون عددهم في نفس الأمر أقل من الوارد ، (أو يخرج) عنهم (من هو منهم) بتقدير أن يكون عددهم في نفس الأمر أزيد من الوارد. والحديث الذي ورد فيه عددهم هو حديث أبي ذر رضي الله عنه ، وهو حديث طويل يتضمن أنه سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أشياء منها عددهم ، ولفظ رواية أحمد رضي الله عنه في «مسنده» : «قلت : يا نبي الله ، كم عدد الأنبياء؟ قال : «مائة ألف وأربعة وعشرون ؛ الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر ، جما غفيرا» (٣) ورواه الطبراني في «المعجم الكبير» بلفظ : «وأربعة وعشرون ألفا» (٤) ، وهي مصرحة بما أبهم في رواية أحمد. ومدار الحديث على علي بن يزيد وهو ضعيف (٥). ورواه أحمد أيضا من طريق آخر بنحو معناه ، وفيه : «قلت : يا رسول الله كم المرسلون؟ قال : «ثلاثمائة وبضعة عشر جما غفيرا» (٦) رواه الطبراني أيضا في «الأوسط» والبزار بإسناد فيه المسعودي وهو ثقة ، لكنه اختلط (٧). وروى الطبراني في «الأوسط» أيضا من حديث أبي أمامة الباهلي أن رجلا سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ... الحديث ، وفيه : «قال : يا رسول الله كم كانت الرسل؟ قال : «ثلاثمائة وخمسة عشر» (٨) وليس فيه سؤال عن عدد الأنبياء. قال الحافظ أبو الحسن الهيثمي في كتابه «مجمع الزوائد ومنبع الفوائد» : رجاله رجال الصحيح ، غير أحمد بن

__________________

(١ ـ ٢) سقط من (ط).

(٣) المسند ٥ / ٢٦٦ ، واللفظ في المسند : «كم وفى عدة الأنبياء ، قال : مائة وأربعة وعشرون ألفا».

(٤) المعجم الكبير ، للطبراني ، رقم ٧٨٧١.

(٥) علي بن يزيد : الذهلي ، قال عنه ابن حجر : بأنه نقل عن سفيان ابن عيينة بخبر كذب في مناقب علي رضي الله عنه. (لسان الميزان ، لابن حجر ، ٤ / ٢٦٧).

(٦) وقال مرة «خمسة عشر» ، المسند ، ٥ / ١٧٨.

(٧) المسعودي : عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود ، الكوفي المسعودي ، من أهل البصرة ، ثقة ، اختلط آخر عمره. توفي سنة ٦٠ ه‍ وقيل سنة ١٦٥ ه‍. (تقريب التهذيب : ص ٣٤٤)

(٨) الحديث في مسند أحمد ، برقم ٢١٦٠٢ ، وأخرجه الطبراني في الكبير ، رقم (٧٥٤٥) والأوسط رقم (٤٠٥) بلفظ «وخمسة عشر». وقال : لا يروى هذا الحديث عن أبي أمامة إلا بهذا الإسناد.

١٩١

خليل الخليلي وهو ثقة (١) ، والظاهر أن الرجل السائل في حديث أبي أمامة هو أبو ذر (٢).

(تتمة) : للكلام في الأصل التاسع :

[شروط النبوة]

(شرط النبوة : الذكورة) لأن الأنوثة وصف نقص.

(وكونه أكمل أهل زمانه عقلا وخلقا) بفتح الخاء المعجمة وسكون اللام ، حال الإرسال ، وأما عقدة لسان السيد موسى قبل الإرسال فقد أزيلت بدعوته عند الإرسال بقوله : (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي) (سورة طه : ٢٧ ـ ٢٨) كما دل عليه قوله تعالى : (قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) (سورة طه : ٣٦).

(و) أكملهم (فطنة وقوة رأي) كما هو مقتضى كونه سائس الجميع ومرجعهم في المشكلات.

(والسلامة) بالرفع عطفا على «الذكورة» ، أي : وشرط النبوة السلامة (من دناءة الآباء ، و) من (غمز الأمهات) أي : الطعن بذكرهن بما لا يليق من أمر الفروج. (و) السلامة من (القسوة) لأن قسوة القلب موجبة للبعد عن جناب الرب ، إذ هي منبع المعاصي ؛ لأن القلب هو المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ، كما نطق به الحديث الصحيح (٣) ، وفي حديث حسنه الترمذي ورواه البيهقي : «إن أبعد الناس من الله القلب القاسي» (٤).

(و) السلامة من (العيوب) المنفّرة منهم (كالبرص والجذام ، و) من (قلة المروءة ، كالأكل على الطريق (٥) ، و) من (دناءة الصناعة كالحجامة) ، لأن النبوة

__________________

(١) في مجمع الزوائد للهيثمي : (٨ / ٣٨٤) رقم ١٣٨٠٧ : ، قوله : أحمد بن خليد الحلبي.

(٢) هو أبو ذر الغفاري. انظر : المسند : ٥ / ٢٦٦. و ٥ / ١٧٨ ـ ١٧٩.

(٣) رواه البخاري في الإيمان ، باب فضل من استبرأ لدينه رقم : (٥٢) ، ومسلم رقم : (١٥٩٩) ، وأبو داود (٣٣٢٩) ، والترمذي (١٢٠٥) ، النسائي ٧ / ٢٤١.

(٤) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان باب في حفظ اللسان ، رقم ٤٩٥١ ، ٤٩٥٢.

(٥) الأكل على الطريق راجع إلى العرف ، وربما أقر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا العمل أو أنكره ، فإن مثله مما هو راجع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالذات ، وقد جاء شرع الإسلام بالنهي عن الأكل في الطرقات ، ولكن الكلام هنا حول الشروط القطعية.

١٩٢

أشرف مناصب الخلق مقتضية لغاية الإجلال اللائق بالمخلوق ، فيعتبر لها انتفاء ما ينافي ذلك.

(و) شرطها أيضا (العصمة من الكفر) قبل النبوة وبعدها بالإجماع ، (وأما) العصمة (من غيره مما سنذكره) من المعاصي : (فمن) أي : فهو من (موجبات النبوة) بفتح الجيم ، أي : الأمور التي يقتضيها منصب النبوة (متأخر عنها) كما هو شأن الموجب ، فلا يتأتى اشتراطه فيها ، وهذا ما عليه الجمهور ، أما على القول بعصمتهم من الصغائر والكبائر قبل النبوة وبعدها فلا يمتنع الاشتراط (١).

(وقولهم) في الشروط : (أكمل أهل زمانه ، إن حمل على ظاهره) من العموم لجميع أهل الزمان (استلزم) لذلك (عدم جواز) إرسال (نبيّين في عصر واحد ، وهو منتف بنحو يوشع وموسى وهارون) والتمثيل بموسى وهارون أظهر لثبوت إرسالهما معا بنص الكتاب في آيات متعددة ، كقوله : (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣)) (سورة طه : ٤٣) (فَاذْهَبا بِآياتِنا) (سورة الشعراء : ١٥) (فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) (سورة طه : ٤٧) ونحوها (فيجب) في تأويل اشتراطه (أن المراد) كونه أكمل أهل زمانه (ممن ليس نبيا) وحاصله تخصيص العموم.

(والعصمة) المشترطة معناها : (تخصيص القدرة بالطاعة ، فلا يخلق له) أي : لمن وصف بها (قدرة المعصية ،) وقد لخص المصنف في «التحرير» (٢) هذا التعريف ، وذكر معه تعريفا آخر فقال : وهي ـ أي العصمة ـ عدم قدرة المعصية ، أو خلق مانع منها غير ملجئ ، أي : بل يبقى معه الاختيار ، والتعريف الثاني يلائم قول الإمام أبي منصور الماتريدي : العصمة لا تزيل المحنة ، أي : الابتلاء المقتضي لبقاء الاختيار. قال «صاحب البداية» : ومعناه ـ يعني قول أبي منصور ـ أنها لا تجبره على الطاعة ولا تعجزه عن المعصية ، بل هي لطف من الله تعالى يحمله على فعل الخير ويزجره عن فعل الشر ، مع

__________________

(١) العصمة من الصغائر والكبائر قبل النبوة وبعدها رأي جمهور المسلمين ، فيما قال الحشوية بجواز الإقدام على الكبائر ، وقال المعتزلة : لا يجوز منهم تعمد الكبيرة البتة وأما تعمد الصغيرة فهو جائز بشرط ألا تكون منفرة ، وقال الشيعة : لا يجوز منهم الكبيرة ولا الصغيرة لا بالعمد ولا بالتأويل ، ولا بالسهو والنسيان. وقال الرازي : إن الأنبياء معصومون في زمن النبوة عن الصغائر والكبائر بالعمد ، أما على سبيل السهو فجائز. انظر : عصمة الأنبياء للرازي ، ص ٥.

(٢) انظر : التحرير في أصول الفقه ، ص ٣٠٣.

١٩٣

بقاء الاختيار تحقيقا للابتلاء. ا ه (١).

(وجوّز القاضي) أبو بكر الباقلاني (وقوع الكفر) منهم (قبل البعثة عقلا) لكن لم يقع أصلا ، (قال :) يعني القاضي (وأما الوقوع فالذي صح عند أهل الأخبار والتواريخ أنه لم يبعث من أشرك بالله طرفة عين ، ولا من كان فاسقا فاجرا ظلوما ، وإنما بعث من كان تقيا زكيا أمينا مشهور النسب حسن التربية ، والمرجع في ذلك) كله عندنا (قضية السمع) ، أي : ما تقتضيه الأدلة السمعية وقد اقتضت كل ذلك ، (و) أما (موجب العقل) فهو (التجويز والتوبة ، فالعقل لا يمنع وقوعه) ثم محو أثره بالتوبة قبل النبوة.

فإن قيل : تجويز وقوعه منهم ينافي ما يقتضيه شريف منصبهم من وجوب تصديقهم وتوقيرهم وعدم اتصافهم بما ينفر منهم ، وأي منفر أشد من الكفر؟ ، وكيف يوثق بطهارة الباطن من أثره؟ قلنا : قد أجاب القاضي عن ذلك بقوله : (ثم إظهار المعجزة) أي : بعد وقوعه والتوبة عنه (يدل على صدقهم ، و) على (طهارة سريرتهم ،) أي : نقاء قلوبهم من أدناس المعاصي (فيجب) لذلك (توقيرهم ، ويندفع النفور عنهم) (٢) ولقد كان الإمساك في هذا المختصر عن هذا التجويز أولى (٣).

(وخالف بعض أهل الظواهر والحديث في) اشتراط (الذكورة (٤) ، حتى حكموا بنبوة مريم عليها‌السلام ، وفي كلامهم) أي : كلام المخالفين في اشتراط الذكورة (ما يشعر بأن الفرق بين الرسول والنبي بالدعوة وعدمها) فالنبي على هذا : إنسان أوحي إليه بشرع ، سواء أمر بتبليغه والدعوة إليه أم لا فإن أمر بذلك فهو نبي رسول ، وإلا فهو نبي غير رسول (وعلى هذا لا يبعد) ما ذهبوا إليه من نفي اشتراط الذكورة فيمن هو نبي غير رسول ، (لأن اشتراط الذكورة لكون أمر الرسالة مبنيا على الاشتهار والإعلان والتردد إلى المجامع) أي : مواضع اجتماع الناس (للدعوة) أي : ليدعوهم إلى الإيمان بما جاء به والعمل بمقتضاه ، (و) النسوة (مبني حالهن على التستر والقرار) لا التردد والاشتهار.

__________________

(١) البداية من الكفاية ، للصابوني ، ص ٩٥.

(٢) قارن مع التمهيد ، ص ١١٣.

(٣) تجويز الباقلاني مخالف لما أورده الرازي في كتاب عصمة الأنبياء من أن الأمة أجمعت على أن الأنبياء معصومون عن الكفر والبدعة ، إلا الفضيلة من الخوارج فإنهم يجيزون الكفر على الأنبياء لصدور الذنوب التي تساوي الكفر عندهم ، والروافض يجيزون إظهار الكفر تقية ، انظر : ص ٣٩.

(٤) منهم الإمام الأشعري.

١٩٤

(وأما على ما ذكره المحققون) في معنى النبي والرسول (من أن النبي : إنسان بعثه الله لتبليغ ما أوحى إليه وكذا الرسول فلا فرق) بينهما ، بل هما بمعنى ، (وقد يخص الرسول بمن له شريعة وكتاب) أنزل عليه ، أو أمر بالعمل به ، (أو) له (نسخ لبعض شريعة متقدمة) على بعثته.

وعلى اشتراط الذكورة جرى من حكى الإجماع على عدم نبوة مريم عليها‌السلام كالإمام والبيضاوي وغيرهما ، ولم يبالوا بشذوذ من زعم ثبوتها تمسكا بقوله تعالى : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) (سورة مريم : ١٧) ، وقوله تعالى : (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) (سورة آل عمران : ٤١) ... الآيتين.

ويجاب عنه بأنه ليس وحيا بشرع ، إذ لا دلالة عليه في الآيات المذكورة ، وقد تحصل في معنى النبي والرسول ثلاثة أقوال : الفرق بينهما بالأمر بالتبليغ وعدمه ، وهو الأول المشهور ، والفرق بأن الرسول من له شريعة وكتاب أو نسخ لبعض شريعة متقدمة على بعثته ، وكونهما بمعنى واحد ، وهو الذي عزاه للمحققين (١).

وهو يقتضي اتحاد عدد الأنبياء والرسل ، ولا يخفى مخالفة ذلك للوارد في حديث أبي ذر الذي قدمناه.

هذا كلام في معنى النبي شرعا ، وأما أصله لغة : فلفظه بالهمز ، وبه قرأ نافع : من النبأ ، وهو الخبر ، فعيل بمعنى اسم الفاعل ، أي : منبئ عن الله ، أو بمعنى اسم المفعول ، أي : منبأ ؛ لأن الملك ينبئه عن الله بالوحي.

وبلا همز ، وبه قرأ الجمهور ، وهو : إما مخفف المهموز ، بقلب الهمزة واوا ثم إدغام الياء فيها ، وإما من النبوة أو النباوة بفتح النون فيهما ، أي : الارتفاع ، فهو أيضا فعيل بمعنى اسم الفاعل ، أو بمعنى اسم المفعول ؛ لأن النبي مرتفع الرتبة على غيره أو مرفوعها (٢). وسيأتي تلخيص لهذا أواخر الكتاب (٣).

(وقد يقال): إيرادا على اشتراطهم عدم العيوب المنفرة (أن بلاء أيوب عليه) الصلاة و (السلام كان منفرا) أي : منفر كما هو مذكور في كتب التفسير وقصص الأنبياء.

__________________

(١) انظر : دلائل النبوة ، للأصبهاني ، ١ / ٣٣ ـ ٣٤.

(٢) انظر : مختار الصحاح ، للرازي ، ص ٦٤٤.

(٣) في ص ٢٨٥.

١٩٥

(ويجاب) عنه : (بأن الشرط) في حق أيوب (متقدم) على نبوته ، المتقدمة على عروض الابتلاء له.

(وجعل الأكل على الطريق منافيا) للنبوة (هو) مبني (على تقدير أن العرف كذاك) أي : كما ذكرنا آنفا من أنه قلة مروءة (إذ ذاك) أي : في ذلك الوقت الذي هو زمن بعثة ذلك النبي.

(وقد ذكرنا أن عصمتهم من غير الكفر موجب النبوة ، واختلف فيه) أي : في ذلك الغير ، الذي هو متعلق العصمة : (فقيل : تجب عصمتهم من الكبائر مطلقا) ، عمدا وسهوا من غير تقييد بالعمد (دون الصغائر) المأتي بها (عمدا) ، فلا تجب عصمتهم منها عند هذا القائل ، فحالة السهو أولى عنده ، وهذا القول منقول عن إمام الحرمين منا ، وأبي هاشم من المعتزلة.

(والمختار): لجمهور أهل السنة (العصمة) أي : وجوب عصمتهم (عنهما) أي : عن الكبائر مطلقا وعن الصغائر ، (إلا الصغائر غير المنفّرة) حال كون إتيان غير المنفرة (خطأ) في التأويل ، (أو سهوا) مع التنبيه عليه ، أما الصغائر المنفرة كسرقة لقمة أو حبة ، وتسمى صغائر الخسة فهم معصومون عنها مطلقا ، وكذا من غير المنفرة كنظرة لأجنبية عمدا.

(ومن أهل السنة من منع السهو عليه) أي : على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : لا يقع منه سهو في فعل أصلا ، (وصرح بأنّ سلامه على ركعتين في حديث ذي اليدين) في الصحيحين (١) (كان قصدا منه ، وأبيح له ذلك ليبيّن للناس حكم السهو) ومثل ذلك صلاته الظهر خمسا في حديث ابن مسعود في الصحيحين وغيرهما (٢) ، وتركه التشهد الأول في الظهر في حديث ابن بحينة ، صححه الترمذي (٣).

(والأصح : جواز السهو في الأفعال عليه) والمذهب السابق غير مرضي ،

__________________

(١) رواه البخاري في السهو رقم : (١١٧٠ ـ ١١٧١) ، ومسلم برقم : (٥٧٣) ، ومالك ١ / ٩٣ ، وأبو داود برقم : (١٠٠٨) ، والترمذي رقم : (٣٩٤) ، النسائي ٣ / ٣٠.

(٢) رواه البخاري في السهو رقم : (١١٦٨) ، ومسلم برقم : (٥٧٢) ، وأبو داود (١٠١٩) ، والترمذي (٣٩٢) ، والنسائي ٣ / ٣١.

(٣) حديث عبد الله بن مالك بن بحينة ـ في الصحيحين وغيرهما ـ رواه البخاري في الصحيح في السهو برقم : (١١٦٦ ـ ١١٦٧) ، ومسلم برقم : (٥٧٠) ، ومالك ١ / ٩٦ ، وأبو داود (١٠٣٤) ، والترمذي (٣٩١) ، والنسائي ٣ / ١٩.

١٩٦

وإن قال به من أئمة المحققين أبو المظفر الأسفرايني (١) ؛ لأنه مخالف للنص الصريح (قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما أنا بشر أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكّروني») أخرجه الشيخان وغيرهما (٢) (وظاهر قوله) صلى‌الله‌عليه‌وسلم : («إنما أنسّى لأسن» (٣) أنه يورد عليه النسيان) من قبل الله سبحانه وتعالى (فيتصف به ، إلا أنه لا يقرّ عليه فيما هو أمر ديني ، بل ينبه) فيكون ذلك النسيان سببا يترتب عليه بيان حكم شرعي يتعلق بالمنسي ، ف «أنسّى» : بتشديد السين مبني للمفعول ، معناه : يورد علي النسيان. و «لأسن» معناه : لأبين طريقا يسلك في الدين هو سبب لإيراد النسيان ، بمعنى أنه ثمرة يترتب على النسيان ، لا باعث على إيراده.

(ومنع المعتزلة الكبائر) أي : صدورها من نبي (قبل البعثة) له (أيضا للوجه الذي منعنا به الكفر قبلها ، وهو التنفير عنه وعدم الانقياد له).

هذا كلام متعلق بالأفعال التي ليس طريقها الإبلاغ ، وهو منهي عنها ، (وأما فيما طريقه الإبلاغ) أي : إبلاغ الشرع وتقريره من الأقوال وما يجري مجراها من الأفعال ، كتعليم الأمة بالفعل (فهم معصومون فيه من السهو والغلط ، وأما غير ذلك) أي : ما ليس من القسمين السابقين ، كما يختص به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من أمور دينهم وادّكار قلوبهم ونحوها ، مما يفعلونه لا ليتبعوا فيه (فهم فيه كغيرهم من البشر) في جواز السهو والغلط ، هذا الذي عليه أكثر العلماء ، خلافا لجماعة المتصوفة وطائفة من المتكلمين ، حيث منعوا السهو والنسيان والغفلات والفترات جملة في حق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤).

(قال القاضي أبو بكر) : تفريعا على ما عليه الأكثر (فيجوز) أي : عقلا (كونه) أي : النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (غير عالم بشرائع من تقدّمه) من الأنبياء ، (و) كونه (غير

__________________

(١) أبو المظفر الأسفراييني : شهفور أو طيفور بن طاهر بن محمد الأسفراييني ، أبو المظفر. فقيه ، أصولي ، مفسر. من تصانيفه : التبصير في الدين (معجم المؤلفين : ١ / ٨٢١). وفي قوله هذا موافقة للمعتزلة الذين لا يجيزون شيئا من الخطأ والزلل والمعاصي ولا شيئا من المباحات المستخفة عليهم. انظر : أصول الدين ، ص ١٣٨ ، لجمال الدين بن سعيد.

(٢) هو حديث ابن مسعود المشار إليه نفسه.

(٣) رواه مالك في السهو ١ / ١٠٠ ، وهو أحد الأحاديث الأربعة التي بقيت من الموطأ غير موصولة. قال ابن عبد البر : «لا أعلم هذا الحديث روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسندا ولا مقطوعا من غير هذا الوجه» اه وهو حديث ضعيف إسناده معضل.

(٤) انظر : الشفاء ، للقاضي عياض ، ٢ / ٧١٩.

١٩٧

عالم ببعض المسائل التي يفرّعها الفقهاء والمتكلمون) لا مطلقا ، ولكن المسائل (التي لا يخلّ عدم العلم بها بمعرفة التوحيد ، و) يجوز (كونهم) أي : الأنبياء (غير عالمين بلغات كل من بعثوا إليهم إلا لغة قومهم ، وجميع) عطف على «لغات» أي : يجوز عقلا كونهم غير عالمين بجميع (مصالح أمور الدنيا ومفاسدها ، و) جميع (الحرف والصنائع. (١) اه) كلام القاضي أبي بكر.

(ولا شك أن المراد) أي : مراده مما ذكره (عدم علم بعض المسائل لعدم الخطور) أي : خطور تلك المسائل ببالهم ، (فأما إذا خطرت) لهم (فلا بد من علمهم بها) أي : بأحكامها (وإصابتهم فيها إن اجتهدوا) بناء على الراجح أن للأنبياء أن يجتهدوا مطلقا ، وعليه الأكثر ، أو بعد انتظار الوحي وعليه الحنفية ، واختاره المصنف في «التحرير» (٢) ، فإذا اجتهدوا فلا بد من إصابتهم (ابتداء أو انتهاء) لأن من قال : كل مجتهد مصيب ، أو منع الخطأ في اجتهاد الأنبياء خاصة فهم مصيبون عنده ابتداء ، ومن جوّز الخطأ في اجتهادهم قال : لا يقرّون عليه بل ينبّهون ، فهم مصيبون عنده إما ابتداء حيث لم يتقدم خطأ ، وإما انتهاء حيث نبّهوا على الصواب فرجعوا إليه.

(وكذا علم المغيبات) أي : وكعدم علم بعض المسائل عدم علم المغيبات ، فلا يعلم النبي منها (إلا ما أعلمه الله تعالى به أحيانا وذكر الحنفية) في فروعهم (تصريحا بالتكفير باعتقاد أن النبي يعلم الغيب لمعارضة قوله تعالى : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) (سورة النمل : ٦٥)). والله أعلم.

__________________

(١) قارن مع المواقف بتحقيق عميرة ، ٣ / ٤١٥. حيث نقل عن القاضي الباقلاني جواز السهو عن الأنبياء.

(٢) انظر : التحرير في أصول الفقه ، ص ٥٢٥.

١٩٨

(الأصل العاشر)

في إثبات نبوة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(نشهد أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرسله إلى الخلق أجمعين) بالهدى ودين الحق (خاتما للنبيين ، وناسخا لما قبله من الشرائع ،) و «الخلق» بمعنى المخلوقين ؛ لأن إرساله إلى من يعقل من الإنس والجن ، قال بعض العلماء : وإلى الملائكة. نقل ذلك الشيخ الإمام أبو الحسن السبكي (١) ، وصرح الإمام الرازي في تفسير قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١)) (سورة الفرقان : ١) بعدم دخول الملائكة في عموم من بعث صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم (٢) ، ولنا في ذلك كلام أواخر «الدرر اللوامع في تحرير جمع الجوامع» (٣) فليراجعه من آثر الوقوف عليه.

ولإثبات نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسالك ذكر المصنف المشهور منها بقوله : (لأنه) أي : لأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ادّعى النبوة) أي : الرسالة عن الله (وأظهر المعجزة) تصديقا لدعواه ، وكل من ادّعى النبوة وأظهر المعجزة تصديقا لدعواه فهو نبي فمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبي. وقد تكلم المصنف كغيره على مقدمتي هذا الدليل فقال : (أما دعواه النبوة فقطعي لا يحتمل التشكيك ،) لأنه قد تواتر تواترا ألحقه بالعيان والمشاهدة ، (وأما إظهاره للمعجزة ؛ فلأنه أتى بأمور خارقة للعادة مقرونا) إتيانه بها (بدعوى النبوة) كائنا قرن تلك الأمور بدعوى النبوة ، (بمعنى : جعلها) أي : جعل تلك الأمور

__________________

(١) تقي الدين علي بن عبد الكافي ؛ السبكي الكبير. توفي سنة ٧٥٦ ه‍ بالقاهرة. انظر كلامه في الدرر اللوامع أيضا ، ٢ / ٢١٩.

(٢) انظر : مفاتيح الغيب ، ١٢ / ٤٦ ، وقد نقل الرازي الإجماع على ذلك.

(٣) انظر : الدرر اللوامع في تحرير جمع الجوامع ، ٢ / ٢١٩.

١٩٩

الخارقة من حيث اقترانها بدعواه (بيانا لصدقه فيما يدّعيه عن الله تعالى ،) من أنه أرسله ليدعو الناس إلى الهدى ودين الحق ، (ولا نعني بالمعجزة إلا ذلك) أي : الإتيان بأمر خارق للعادة يقصد به بيان (١) صدق من ادعى أنه رسول الله.

(ووجه دلالتها) أي : المعجزة على الصدق (أنها لمّا كانت مما يعجز عنه الخلق لم تكن إلا فعلا لله) سبحانه.

فإن قيل : المعجزة قد تكون من قبيل الترك دون الفعل ، كما إذا قال الرسول : معجزتي أن أضع يدي على رأسي وأنتم لا تقدرون على ذلك ، ففعل وعجزوا ، فإنه معجز دال على صدقه كما في «المواقف» و «غيره» (٢).

قلنا : قد جرى المصنف على أن كفهم عن ذلك فعل لله سبحانه لا عدم فعل منه سبحانه ، كما يقال : هو عدم تمكينهم فهو غير خارج عن الفعل

وإذ قد تقرر أن المعجزة ليست إلا فعلا لله تعالى (٣) (فمهما) ((٤) أي : ذلك الجعل (٤)) (جعلها) الرسول (بيّنه) أي : دلالة واضحة (على صدقه فيما ينقل عن الله) تعالى (وهو) أي : ذلك الجعل (معنى التحدي) فإن جهة جعله دليل صدقه طلب المعارضة بالمثل متهم ؛ لأن أصل معنى التحدي طلب المباراة في الحداء بالإبل ، ثم توسع فيه فأطلق على طلب المعارضة بالمثل في أي أمر كان ، فإذا ادعى النبوة وجعل المعجزة بينة صدقه ، بأن قال : آية صدقي أن يوجد الله تعالى لي كذا مما تعجزون عنه (فأوجده الله) تعالى موافقا لقوله ، (كان ذلك) الإيجاد على وفق ما قال (تصديقا له من الله تعالى).

وقد تبع المصنف حجة الإسلام في إيراد مثل مشهور في كتب القوم بشأن الرسول ومرسله سبحانه في تصديقه إياه بإيجاد المعجزة على وفق دعواه فقال : (وذلك) التصديق للرسول بإيجاد الخارق على وفق دعوى النبوة (كالقائم) أي : كتصديق القائم (بين يدي الملك) من ملوك الدنيا حال كون ذلك القائم (مقبلا على

__________________

(١) ليست في (م).

(٢) انظر : المواقف ، ص ٣٣٩.

(٣) المعتزلة كذلك ذهبوا إلى أن المعجزة من فعل الله ، بناء على أنها من خوارق العادات ولا قدرة للعبد على ذلك ، ولكن بعض الأشاعرة أجاز أن تكون بعض المعجزات ليست فعلا لله وإنما داخلة في إطار القدرة الإلهية كما سبق أورد المصنف المثال الذي يتحدى به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوضع يده على رأسه. فالمعجزة عند الأشاعرة فعل وقول وترك موافقة للفلاسفة.

(٤) سقط من (ط).

٢٠٠