المسامرة

كمال الدين محمد بن محمد الشافعي [ ابن أبي شريف المقدسي ]

المسامرة

المؤلف:

كمال الدين محمد بن محمد الشافعي [ ابن أبي شريف المقدسي ]


المحقق: كمال الدين القاري و عزّ الدين معميش
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-34-292-X
الصفحات: ٣٦٠

(فإن أراد الوجود الخطي) أي : في الكتابة (حتى يستلزم) ذلك (حدوث القضاء ؛) لأن الكتابة حادثة (فهو) أي : فالقضاء بهذا التفسير أولى (بعدم التأثير). وإنما قدم المصنف الجار والمجرور على قوله : (أولى) للاهتمام ، (وإن رد) القضاء (إلى العلم فواجب) أي : فذلك الرد واجب ، وهو الذي ارتضيناه آنفا ، ولما كان هذا موضع سؤال فصّله المصنف ب «أما» فقال : (وأما قوله عليه) الصلاة و (السلام : «فحج آدم موسى» (١) لقوله) أي : لقول آدم (لموسى : «أتلومني على أمر كتبه الله عليّ قبل أن أخلق ... الخ» فالمراد) أن آدم (حجّه) أي : ظهر عليه في المحاجة ، (في دفع اللوم) عنه (بعد التوبة).

والحديث في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة بألفاظ ؛ منها للبخاري : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «احتج آدم وموسى ، فقال له موسى : أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة ، فقال له آدم : أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه ثم تلومني على أمر قد قدر علي قبل أن أخلق؟» فقال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فحج آدم موسى».

وقوله : (إذ المراد) بيان للمقصود من الحديث ، واستدلال لكونه المقصود ، فالمقصود («أتلومني بعد التوبة على أمر قد قضي عليّ (٢) قبل أن أخلق؟») وإنما حملناه على ذلك لا على اللوم على المعصية مطلقا قبل التوبة وبعدها (للإجماع على توجّه اللوم على المعصية قبل التوبة ، و) على (انتفائه) أي : اللوم (بعدها) أي : بعد التوبة. (ويكون قوله) أي : قول آدم (كتبه الله ... الخ حكاية للواقع) لا احتجاجا بالقدر ، لدفع اللوم على المعصية مطلقا.

(هذا) الذي ذكرناه من أن هذا حكاية للواقع لا احتجاج بالقدر ، وأن معنى الحديث ما حملناه عليه هو (موجب الدليل) بفتح الجيم ، أي : الذي اقتضاه الدليل ، وهو ما سبق من الإجماع على الأمرين ؛ لأن الاجماع على توجه اللوم بعد المعصية وقبل التوبة يقتضي امتناع إجراء الحديث على ظاهره ؛ من الاحتجاج بالقدر ، والإجماع على انتفاء اللوم بعد التوبة يقتضي صحة حمل الحديث على ما ذكر.

__________________

(١) الحديث في الصحيحين وغيرهما بألفاظ متقاربة ، رواه البخاري / كتاب قدر / باب تحاج آدم وموسى / رقم : (٦٢٤٠) ، ومسلم برقم (٢٦٥٢) ، مالك ٢ / ٨٩٨ ، أبو داود رقم : (٤٧٠١) ، الترمذي رقم : (٢١٣٥).

(٢) سقطت في (م).

١٤١

(فإن قيل :) حاصل ما ذكرتم أن المعاصي واقعة بقضاء الله تعالى وقد تقرر أنه (يجب الرضا) أي : رضا العبد (بالقضاء اتفاقا ، فيجب) حينئذ الرضا (بالمعاصي) التي منها الكفر (وهو باطل إجماعا) ، لأن الرضا بالكفر كفر إجماعا؟.

(قلنا : الملازمة) بين وجوب الرضا بالقضاء وبين وجوب الرضا بالمعاصي (ممنوعة) فلا يستلزم الرضا بالقضاء الرضا بها (بل) يجب (الرضا بالقضاء) أي : حكم الله تعالى الصادر عنه (لا بالمقتضي إذا كان منهيا) عنه ـ هو المعصية ـ (لأن الأول) أي : القضاء (صفته تعالى) وتقدس ، (والثاني) أي : المقضي (متعلقها الذي منع منه) سبحانه ، (ثم وجد على خلاف رضاه تعالى) على ما عرفت من الفرق بين الإرادة والرضا على ما عليه أكثر أهل السنة (من غير تأثير للقضاء في إيجاده ولا سلب مكلف قدرة الامتناع عنه بل وجد على مجرد وجه المطابقة للقضاء) لما قدمناه في تقرير رجع القضاء إلى العلم أو إلى الإرادة هذا تقرير ما في المتن وهو جواب مشهور.

وقد أورد عليه أنه لا معنى للرضا بصفة من صفات الله تعالى ؛ إنما الرضا بمقتضى تلك الصفة وهو المقضي ، وحينئذ فاللائق أن يجاب بأن الرضا بالكفر لا من حيث ذاته بل من حيث هو مقضي.

وقد أوضحه السيد في «شرح المواقف» (١) فقال : إن للكفر نسبة إلى الله تعالى باعتبار فاعليته له وإيجاده إياه ، ونسبة أخرى إلى العبد باعتبار محليته له واتصافه به ، وإنكاره باعتبار النسبة الثانية دون الأولى والرضا به باعتبار النسبة الأولى دون الثانية ، والفرق بينهما ظاهر ؛ لأنه ليس يلزم من وجوب الرضا بشيء باعتبار صدوره عن فاعله وجوب الرضا باعتبار وقوعه صفة لشيء آخر ، إذ لو صح ذلك لوجب الرضا بموت الأنبياء من حيث وقوعه صفة لهم ، وأنه باطل إجماعا. وبالله التوفيق.

__________________

(١) شرح المواقف ، ٨ / ١٧٧.

١٤٢

(الأصل الرابع

في بيان أنه لا يجب على الله تعالى فعل (١) شيء)

(قال الإمام الحجة) حجة الإسلام (أنه) سبحانه و (تعالى متفضل بالخلق) وهو الإيجاد مطلقا (والاختراع) وهو الإيجاد لا على مثال سابق ، ونعمة الإيجاد شاملة لكل موجود (و) هو سبحانه (متطوّل (٢) بتكليف العباد) أي : متفضل به عليهم ، حيث جعلهم أهلا لأن يخاطبهم بالأمر والنهي ، والطول الفضل والزيادة ، والمتطول والمتفضل تفنن في العبارة (وليس الخلق والتكليف واجبا عليه) سبحانه. (وقالت المعتزلة : وجب عليه ذلك) أي : كل من الخلق والتكليف (لما فيه من مصلحة العباد. اه) كلام حجة الإسلام (٣).

واعلم أنه قد اشتهر عن المعتزلة أنهم يوجبون أمورا خمسة : اللطف والثواب على الطاعة والعقاب على المعصية ورعاية الأصلح للعباد والعوض عن الآلام ، (وقلّ من يذكر عنهم إيجاب ابتداء الخلق ، بل) الذي اشتهر ذكره عنهم أنه (إذا خلق) العبد (وكلّف) بالبناء للمفعول فيهما (وجب إقداره) على الأفعال التي كلف بها (وإزاحة علله ، وكل ما كان أصلح ما يمكن له في الدنيا والدين أو في الدين فقط مذهبان لهم) الأول للبغداديين والثاني للبصريين ، وهذا هو المعبر عنه بالأصلح من جملة الأمور الخمسة التي قدمنا ذكرها (٤).

(قال إمام الحرمين) في «الإرشاد» (بعد نقل ما ذكرنا عن البصريين) من

__________________

(١) سقطت في (م).

(٢) تطوّل عليه : امتن عليه. مختار الصحاح. ص ٣٠٢.

(٣) إحياء علوم الدين ، ١ / ١٦٤.

(٤) وهي : اللطف والثواب على الطاعة والعقاب على المعصية ورعاية الأصلح للعباد والعوض عن الآلام.

١٤٣

المعتزلة من أن العبد إذا خلق وكلف إلى آخر ما ذكرنا ما نصه : («فقد يتوهم متوهم أنه يجب عليه تعالى الابتداء بإكمال العقل لأجل التكليف وليس هذا مذهبا لهم) يعني البصريين (١) ، ولم يستوف المصنف مقصود كلام الإمام ليظهر منشأ التوهم ، وقد نقل الإمام في «الإرشاد» أولا عن البغداديين من المعتزلة أن ابتداء الخلق واجب على الله وجوب الحكمة ، وأنه إذا خلق الذين علم أنه يكلفهم فيجب إكمال عقولهم وإقدارهم وإزاحة عللهم ، ثم نقل عن البصريين منهم أنهم أنكروا معظم ذلك ، يعني إيجاب ابتداء الخلق وإيجاب إكمال العقل كما دل عليه كلامه ، ونقل إجماع الفئتين البغدادية والبصرية منهم على أن الرب سبحانه إذا خلق عبده وأكمل عقله لا يتركه هملا ؛ بل يجب عليه أن يقدره ويمكنه من نيل المراشد ، ثم قال إمام الحرمين : «ونقل أصحاب المقالات عن هؤلاء مطلقا ـ يعني المعتزلة ـ أنه يجب على الله تعالى فعل الأصلح في الدين ، وإنما الاختلاف في فعل الأصلح في الدنيا» (٢) وهذا النقل فيه تجوز ؛ فظاهره يوهم زللا ، فقد يتوهم المتوهم أنه يجب عند البصريين الابتداء بإكمال العقل لأجل التكليف وليس ذلك مذهبا لذي مذهب منهم (فالذي ينتحله البصريون أنه تعالى متفضل بإكمال العقل ابتداء ، ولا يجب عليه إثبات أسباب التكليف». اه) كلام «الإرشاد» (٣). وبه يظهر أن منشأ التوهم إطلاق أصحاب المقالات النقل عن المعتزلة دون التفصيل الواقع في كلام الإمام أوّلا.

(ثم قال الحجة) حجة الإسلام في «الرسالة» (٤) (ردا عليهم : «المراد بالواجب أحد أمرين ؛ إما الفعل الذي في تركه ضرر إما آجل) أي : في الآخرة عرف بالشرع (كما يقال : تجب طاعة الله تعالى ، أو جاعل) أي : في الدنيا وإن عرف بالعقل (كما يقال : يجب على العطشان الشرب كي لا يموت) ومعنى

__________________

(١) الإرشاد ، ص ٢٨٨.

(٢) الأصلح في الدنيا : لم يورد الأشعري وهو ضليع في فكر المعتزلة أنهم يقولون بالأصلح في الدنيا بل جل مقالاتهم تتجه إلى القول بالأصلح في الدين ، وذهبوا أكثر من هذا عند ما جعلوا فعل العقاب بالعباد زجرا لهم عن المعصية وصلاحا واستدعاء إلى طاعة الله ، بل قالوا إن جهنم نظر للكافرين في الدنيا ورحمة لهم. فكلامهم كله منصب حول الأصلح في الدين. انظر : المقالات للأشعري ، ص ٢٤٩.

(٣) الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد ، ص ٢٨٧ ـ ٢٨٨.

(٤) الرسالة القدسية ضمن إحياء علوم الدين ، ص ١٦٤.

١٤٤

الوجوب هنا ترجح الفعل على الترك لما يتعلق من الضرر بالترك كما فسره به الحجة في «الاقتصاد» (١) (وإما أن يراد به الذي عدمه يؤدي إلى) أمر (محال ، كما يقال : وجود المعلوم) أي : ما تعلق علم الله تعالى بوقوعه (واجب) وقوعه (إذ عدمه يؤدي إلى محال ، وهو أن يصير العلم جهلا ، فإن أراد الخصم) وهو المعتزلي بقوله : إن ابتداء الخلق مثلا واجب (المعنى الأول) وهو أن في تركه ضررا آجلا أو عاجلا (فقد عرضه) تعالى (للضرر) ولحوق الضرر محال في حقه تعالى ، والقول به كفر وفاقا ، (أو) أراد المعنى (الثاني) وهو أن عدمه يؤدي إلى محال (فهو مسلم) حيث نظر إلى أن ابتداء الخلق والتكليف قد تعلق العلم بوقوعه (إذ بعد سبق العلم) بوقوع شيء (لا بدّ من وجود) ذلك الشيء (المعلوم) وقوعه ، (أو) أراد الخصم يكون ابتداء الخلق واجبا (معنى ثالثا فهو غير مفهوم». اه) كلام الحجة.

وقد حقق المصنف أن المعتزلة يريدون المعنى الثاني ، وهو الذي عدمه يؤدي إلى محال لكن ليس هو انقلاب العلم جهلا بل البخل فقال (واعلم أنهم) يعني المعتزلة (يريدون بالواجب ما) أي : فعلا (يثبت بتركه نقص في نظر العقل) والجار والمجرور متعلق بقوله : «يثبت» ، وثبوت النقص (بسبب ترك مقتضى قيام الداعي) إلى ذلك الفعل ، وحذف متعلق النقص للعلم به مع تعظيم جناب الباري تعالى عن أن يجري اسمه على اللسان مع إضافة هذه الكلمة المستهجنة ، (وهو) أي : الداعي (هنا كمال القدرة) الإلهية (والغنى) المطلق (مع انتفاء الصارف) عن ذلك الفعل ، (فتركه المراعاة المذكورة) فيما مر بمعناها لا بلفظها ، وهي مراعاة ما هو أصلح للعبد في الدين فقط ، أو فى الدين والدنيا (مع ذلك) أي : مع قيام الداعي وانتفاء الصارف (بخل يجب تنزيهه تعالى عنه ، فيجب) ما اقتضاه قيام الداعي (أي لا يمكن أن يقع غيره لتعاليه) سبحانه (عما لا يليق ، وهذا) الذي يريدونه هو (المعنى الثاني الذي ذكره حجة الإسلام ،) فإن حاصله أن عدم الفعل يؤدي إلى محال في حقه سبحانه وتعالى (وظاهر تسليم الحجة رحمه‌الله) المعنى الثاني (أنهم إذا قصدوا) معنى قولنا : (المعلوم يجب وقوعه فهو) معنى (صحيح ، ومراده) أي : مراد حجة الإسلام رحمه‌الله (تسليم إطلاق لفظ الوجوب فقط) لهذا المعنى ، (لا) تسليم إطلاقه (مع موضوعه) أي : مع تسليم ما وضع له عندهم وهو أن الواجب ما

__________________

(١) انظر : الاقتصاد في الاعتقاد ، ص ٢٠٧ ـ ٢١٠.

١٤٥

يثبت بتركه نقص في نظر العقل ، وهو فيما نحن فيه البخل كما مر ، فإن هذا عين المذهب الاعتزالي ، وإنما مراده أن ابتداء الخلق واجب الوقوع لتعلق العلم بوقوعه ، وأن ابتداء التكليف كذلك ؛ لأن عدم وقوعه يؤدي إلى محال ، هو انقلاب العلم جهلا وهذا غير ملاق لمقصود أهل الاعتزال.

(وإلّا) أي : وإن لا يكن ذلك مراد حجة الإسلام بأن سلم لهم إطلاق الوجوب مع تسليم موضوعه في كلامهم على ما قدمناه (لزم) أن يسلم (أن كل أصلح) للعبد (يجب وقوعه) له ؛ (لأن كل ما علم وقوعه) للعبد (فهو الأصلح) له (عندهم ؛) زعما منهم أن هذا مبالغة في تنزيه الباري تعالى ، (إذ لا يخفى أن كل مسلم فإنما يقصد المبالغة في تنزيه الباري سبحانه بما ينسبه إليه ، فلا يمكن القول بوجوب الأصلح) على الله سبحانه (إلا مع القول بأن كل ما وقع في الدارين فهو الأصلح) للعباد ، لما مر عنهم من أنه يثبت بترك ما لم يقع منه نقص في نظر العقل وهو محال في حقه سبحانه ، (وصرح الإمام) يعني إمام الحرمين (بفهم هذا المعنى من كلام) أبي القاسم (الكعبي) وهو من رءوس معتزلة بغداد (وصرح) أي : الإمام (بأنهم) يعني معتزلة بغداد (قالوا : إن تخليد الكفار في النار والأغلال أصلح لهم) في الآخرة ، (وكذا الأصلح للفسقة عندهم في الدنيا أن يلعنهم ويحبط عملهم) وإذا انتهوا إلى ذلك سقطت مكالمتهم كما قال الإمام في «الإرشاد» (١) ؛ لأن كلّا من الأمرين عناد ومكابرة (٢) في الضروريات ، (فحقيقة الخلاف) بيننا وبينهم (في موضعين :)

أحدهما : (كون كل واقع روعي فيه الأصلح للعباد ، و) الثاني : (أنه لو لم يكن كذلك) أي : لو لم يكن كل واقع روعي فيه الأصلح للعباد ، بأن وقع ما ليس أصلح لهم (كان) وقوعه (نقصا) لما مر من أن المنع من الأصلح بخل يجب تنزيهه تعالى عنه ، وقد علمت أن قولهم في كل منهما خطأ ، لما لزم عليه من العناد ومكابرة الضرورة كما قدمناه (ولزمهم) مع ذلك (خطأ ثالث فقالوا به ؛ وهو) أي : ذلك الخطأ (عدم قدرته على إصلاحهم) يعني الكفار والفسقة (وهدايتهم) من

__________________

(١) انظر : الإرشاد ، ص ٢٩٣.

(٢) العناد أو المعاندة في اصطلاح المناطقة : المنازعة بين شخصين لا يفهم أحدهما كلام صاحبه وهو يعلم ما في كلام نفسه من الفساد ومجانبة الصواب. أما المكابرة : فهي المنازعة لا لإظهار الصواب ، ولا لإلزام الخصم ، ولكن لإظهار الفضل ، ولا شك في أن مدلول المصطلحين ينطبق على المعتزلة انطباقا تاما في هذه المسألة ، فقولهم وجوب ترك ما لا يحسنه العقل على الله والأصلح للعباد كذا وكذا عناد ومكابرة في البديهيات.

١٤٦

ضلالتهم ، ولزومه لهم من قولهم بوجوب الأصلح وتفسيرهم الواجب بأنه الذي لا يمكن أن يقع غيره ، (إذ) قد (كان من معلومه تخليدهم في النار) الذي هو أصلح لهم عند المعتزلة (ووقوع خلاف معلومه) تعالى (محال) لما مر من استلزامه المحال الذي هو البخل (فلا تتعلق القدرة به) أي : بالوقوع المذكور ؛ لما تقرر من أن متعلقها الممكن دون الواجب والممتنع ، فلا يكون قادرا على هدايتهم تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وتعلق القدرة تابع لتعلق الإرادة لما تقرر.

(وقد) ورد الكتاب العزيز بصحة تعلق الإرادة به (قال الله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) (سورة يونس : ٩٩)) وقال تعالى : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) (سورة السجدة : ١٣) ، وقال تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) (سورة الشورى : ٨) أي : مهتدين أو ضالين (إلى غير ذلك من الآيات المفيدة في الاستعمال العربي) المتعارف لأهل اللسان (كون مقابل الواقع مما يدخل تحت) مشيئته تعالى ، فيكون داخلا تحت (قدرته) سبحانه و (تعالى ، وكونه لا يفعله) أي : انتفاء فعله تعالى له الواقع ذلك الانتفاء (على موافقة العلم) بأنه لا يفعله (لا يسلبه الإمكان الذاتي) المقتضي لصحة تعلق القدرة به ، (وذاك) أي : الذي سلب الإمكان الذاتي فكان ممتنعا لذاته كاجتماع الضدين (هو الذي لا تتعلق به القدرة) لعدم صلاحيته لتعلقها ؛ لا لقصور في القدرة ، (فاستحالته) أي : استحالة وقوع خلاف معلومه تعالى (لغيره) وهو تعلق العلم بعدم وقوعه (لا لذاته) (١).

والحاصل أن ما امتنع وقوعه لتعلق العلم بعدم وقوعه ممكن لذاته ممتنع لغيره ، وامتناعه لغيره لا يسلبه الإمكان الذاتي المصحح لتعلق القدرة به ، فزعمهم أنه غير مقدور بمعنى أنه لا يصح تعلق القدرة به باطل.

(وليس لهم) أي : المعتزلة (في هذا المطلوب) وهو زعمهم الوجوب على الله تعالى (مستمسك) بفتح السين ، أي : شيء يستمسكون به (مستمسك) بكسرها ، أي : له استمساك ، أي : أدنى قوة ، (ونحن) معشر أهل السنة لا ندين

__________________

(١) الإمكان الذاتي : هو القدرة على التعلق والتأثير أصلا ، أو كون الشيء في نفسه بحيث لا يمتنع وجوده ولا عدمه امتناعا واجبا ذاتيا ، أو هو التجويز العقلي الذي لا يلزم من فرض وقوعه محال ، فلو كان العلم متعلقا بشيء ؛ فإن القدرة صالحة لتعلقها ؛ لأن القدرة صفة تتعلق على وفق الإرادة.

١٤٧

الله تعالى بما زعموه ؛ بل (ديننا) الذي ندين الله به اعتقاد (أن الله سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) (سورة الأنبياء : ٢٣)) كما نطق به كتابه العزيز في الآيات الثلاث المشار إليها وهي قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) (سورة الحج : ١٨) وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) (سورة المائدة : ١) وقوله تعالى : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) (سورة الأنبياء : ٢٣) (كل عوض وابتداء) أنا لهما خلقه سبحانه (من الرزق) فهو (فضل منه) عليهم (بلا استحقاق) عليه تعالى ، (لا يقبح منه تركه إذ استحقاق ذلك) الرزق (إنما يكون لغير المملوك ، فأما المملوك بجملة هويته) أي : ذاته المشخّصة (وقدرته وأفعاله كيف يستحق بعلمه) على مالكه (أجرا ورعاية مصلحة فضلا عما) أي : عن أن يستحق رعاية ما (هو الأصلح ، وهو) أي : والحال أن ذلك المملوك (مستحق عليه) ذلك العمل لمالكه ، أو : والحال أن ذلك العمل مستحق على ذلك المملوك لمالكه ، فمرجع قوله : «هو» إما المملوك وإما العمل (وغاية ما في منع الرزق أنه نوع إماتة) لمن منعه من الخلق ، (وله) تعالى (أن يميتهم اتفاقا) منا ومنهم.

وقد رد المصنف تمسّكهم بقولهم : «إن ترك رعاية الأصلح بخل يجب تنزيهه تعالى عنه» فقال : (وليس يلزم في تمام الكرم ونفي البخل) بالنسبة (للسيد بلوغ أقصى الغايات الممكنة في الإحسان إلى كل عبد ، بل هو) سبحانه (الحكيم) ذو الحكمة ، وهي عبارة عن كمال العلم وإحسان العمل واتقان الصنع ، (يفعل ما هو مقتضى حكمته الباهرة ؛ من الإعطاء لمن يشاء والمنع لمن يشاء) دون إيجاب يسلب الاختيار والمشيئة ، (كما قال تعالى : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) (سورة المائدة : ٥٤) له سبحانه كمال الصفات ؛) التي دلت عليها أسماؤه الحسنى الواردة في الكتاب والسنة ، ويسمى معظمها صفات أيضا (من الكريم) وقد قيل في معناه :

إنه المتفضل الذي يعطي من غير وسيلة ولا مسألة (والمتجاوز) الذي يعفو عن العقاب ولا يستقصي في العتاب ، وقيل معناه : المقدس عن النقائص والعيوب ، ومن هذا قولهم كرائم الأموال لنفائسها ، (والجواد) وهو الواسع العطاء (وشديد العقاب ، وعدم بعضها نقص) تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، (واقتضت هذه الصفات الكريمة متعلقات) أي : أمورا تتعلق الصفات بها (فانقسم الخلق) لذلك (إلى شقيّ بعدله وسعيد بفضله) كما قال تعالى : (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) (سورة الشورى : ٧) (مع أن الكرم والفضل تعلّق بالكل) والبر والفاجر والمؤمن والكافر ؛ (فإن الكافر منعم عليه في الدنيا على رأي القاضي) أبي بكر منا

١٤٨

كالمعتزلة ، أنعم عليه خالقه تعالى (بما خوّله ؛) أي : أعطاه من قوى ظاهرة وباطنة وأمور يلتذّ بها.

(إلّا أنّ) الشيخ أبا الحسن (الأشعري) ذهب إلى أن ما أوتيه الكافر في الدنيا من قوى وملاذ استدراج له ، فهي في الحقيقة نقمة عليه (قال :) (١) مبينا ما ذهب إليه («إذا كان ذلك) الأمر الذي ناله في الدنيا (قد حجبه عن الله تعالى فليس بنعمة) بل هو نقمة (قال الله تعالى : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) (سورة المؤمنون : ٥٥)) فقوله : (مِنْ مالٍ وَبَنِينَ) بيان ل «ما» ، وقوله : (نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ) خبر «أن» ، وقوله : (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) انتقال إلى بيان أنهم كالبهائم لا شعور لهم ليتأملوا فيعلموا أن ذلك الإمداد استدراج لا مسارعة في الخير.

وقد نصر المصنف مذهب القاضي فقال : (لكن تكرر في القرآن حكاية قول الأنبياء للكفار) الذين بعثوا إليهم ((فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) (سورة الأعراف : ٧٤)) أي : نعمه (فالحق أنها في أنفسها نعم ، وطغيانهم) واقع (باختيارهم ،) فلا تخرج به عن كونها نعما في أنفسها ، (وإن كانت) تلك النعم (سببا) للتمادي على ما هم عليه ؛ لاعتقادهم إنّما هم عليه من الضلال مرضي لخالقهم وأنه لو لم يكن كذلك لما أنعم عليهم (فلم تلجئهم) تلك النعم إلى الكفر.

واعلم أن الأشعري لا ينكر كونها تسمى نعما إنما يذهب إلى أن حكمة إيصالها إليهم استدراجهم لتكون الحجة عليهم أبلغ ، لا أن ينعموا بها في الدنيا ، كما قال تعالى : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) (سورة الأعراف : ١٨٢).

(واختلف مشايخنا) معشر الحنفية (في أنه) هل (يستجاب للكافر دعوة؟)

(فقيل : لا) تستجاب له دعوة في أمر الآخرة (ولا) في (أمر الدنيا) وإن نالته فيها نعم ، ونفي الاستجابة منقول في «معالم التنزيل» عن ابن عباس من رواية الضحاك في تفسير قوله تعالى : (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) (سورة الرعد : ١٤) ، وبها استدل لهذا القول (٢) ، وفي «شرح العقائد» : اختلف المشايخ في أنه هل يجوز أن يقال : يستجاب دعاء الكافر» فمنعه الجمهور (٣).

__________________

(١) انظر : مجرد مقالات الأشعري ، لابن فورك ، ص ٣٤.

(٢) انظر : معالم التنزيل للبغوي ، ٣ / ١٢.

(٣) شرح العقائد ، ص ٢٠٠.

١٤٩

فجعل محل الخلاف جواز إطلاق اللفظ ، وما جرى عليه شيخنا المصنف من أن محل الاختلاف جواز وقوع الاستجابة أقرب ، وعليه جرى «الروياني» (١) من الشافعية في كتابه «بحر المذهب» حيث نقل الخلاف في المسألة (٢).

(فما) أي : فعلى هذا القول وهو نفي استجابة دعائه ما (قد يقع عند دعائه) من الأمور التي يدعو بها (كان منجزا في علم الله تعالى له ، غير معلق فيه) أي : في علم الله تعالى (بدعائه.)

(وقيل : نعم) يستجاب له (في أمر الدنيا) لا في أمر الآخرة ؛ لأن في قوله تعالى : (إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) (سورة الأعراف : ١٥) بعد حكاية قول إبليس : (رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (سورة ص : ٧٩) إجابة لإبليس ، وإلى هذا ذهب أبو القاسم الحكيم (٣) وأبو النصر الدّبّوسيّ (٤).

ولما كان القول الأول من هذا الخلاف قد يوهم أن الكافر لا ينال الرحمة في الدنيا ، مع أن الرحمة تعم في الدنيا البرّ والفاجر والمؤمن والكافر نفى المصنف رحمه‌الله هذا الوهم بقوله : (ومع هذا) أي : ومع هذا الخلاف المشتمل على القول بنفي استجابته تعالى دعاء الكافر (فرحمته) تعالى (سبقت غضبه) كما نطق به الحديث الصحيح (٥) (حتى إن مظاهر الكرم والجود والرحمة من عباده أكثر ،) من مظاهر الغضب ، و «المظاهر» جمع مظهر بالفتح ، وهو موضع الظهور ، أي : مواضع ظهور آثار الرحمة ومواضع ظهور آثار الغضب ، و «من» في قوله : «من عباده» بيانية متعلقة بقوله : «مظاهر» (أرأيت) أيها المتأمل (أهل النار

__________________

(١) الروياني : قاضي القضاة ، عبد الواحد بن إسماعيل ، الملقب فخر الإسلام ، أخذ عن والده ، وتفقه على جده وعلى كثيرين ، وبرع في المذهب الشافعي. كان يقول : لو احترقت كتب الشافعي لأمليتها من حفظي ، توفي سنة ٥١٢ ه‍ شهيدا على يد الباطنية. (طبقات الشافعية ، ١ / ٢٧٧).

(٢) لم نعثر على المرجع على كثرة التقصي.

(٣) أبو القاسم الحكيم : إسحاق بن محمد ، المعروف بالحكيم السمرقندي ، أخذ عن الماتريدي الفقه والكلام ، (الجواهر المضية ، ١ / ٣٠٤).

(٤) أبو النصر الدبوسي : هو أحمد بن محمد بن سعيد ، أبو نصر ، النسفي ، الدبوسي ، كان من الفقهاء على مذهب أبي حنيفة ، توفي سنة ٣٧٤ ه‍. (الجواهر المضية ، ٢ / ٢٦٩).

(٥) كما في حديث أبي هريرة عنه مرفوعا : «لما قضى الله الخلق كتب كتابا ، فهو فوق العرش : إن رحمتي تغلب غضبي» وفي رواية : «غلبت غضبي». رواه البخاري في التوحيد / باب و (يحذركم الله نفسه) برقم : (٦٩٦٩) ، مسلم برقم : (٢٧٥١) ، الترمذي برقم : (٣٥٣٧).

١٥٠

أكثر حصى (١)) أي : عددا (من أهل الجنة ، من الحور والولدان ومؤمني الجن والإنس ، ومن الملائكة ، وهم منذ آلاف لا تحصى من السنين يرد منهم كل يوم سبعون ألفا إلى البيت المعمور ثم لا يعودون إليه أبدا) كما ورد في حديث الإسراء في صحيح مسلم وغيره (٢).

واعلم أن من عادة العرب أن يعدوا ما استكثروه بالحصى بأن يجعلوا لكل فرد من أفراده حصاة ثم يعدوا الحصى ، فإذا قصدوا عد جمعين كثيرة أفرادهما ، وجعلوا لكل فرد حصاة كان الأكثر عددا أكثر حصى.

(قال الحجة) حجة الإسلام (في دفع قولهم :) أي : المعتزلة بوجوب الأصلح (إذا لم يتضرر) تعالى (بترك مصلحة العباد لم يكن للوجوب معنى في حقه) تعالى ، (ثم مصلحة العباد) إنما هي في (أن يخلقهم في الجنة لا في دار البلاء) أي : الدنيا (معرضين لخطر العقاب) بارتكاب الخطايا ، وهذا تلخيص لكلام حجة الإسلام وعبارته : «ثم مصلحة العباد في أن يخلقهم في الجنة ، فأما أن يخلقهم في دار البلايا ويعرضهم للخطايا ثم يهدفهم لخطر العقاب وهول العرض والحساب فما في ذلك غبطة لأولي الألباب» (٣) (وأنت قد علمت) كما قدمناه (أن معنى هذا الوجوب عندهم كونه) أي : كون ذلك الأمر الواجب (لا بد من وقوعه ، وفرض عدمه فرض محال لاستلزامه المحال ، وهو اتصافه) تعالى (بما) أي : بالبخل الذي (لا يجوز عليه على زعمهم ،) متعلق بقوله : «لاستلزامه» (فلا يكون) تعالى (بهذا) أي : بسبب هذا (الوجوب معرّضا) بفتح الراء (للضّرر) (٤) كما ألزمهم به الحجة ؛ (لأن التعريض له) أي : للضرر (إنما يلزم لو كان الإيجاب مبنيا على التخيير في فعل ذلك الأمر الواجب وتركه) كما ينبئ عنه

__________________

(١) الحصى : صغار الحجارة ، واحدها حصاة ج حصيات وحصيّ. انظر : لسان العرب ، ٣ / ٢١٠.

(٢) حديث الإسراء ورد بروايات ، منها ما ورد فيه : «فرفع لي البيت المعمور ، فسألت جبريل؟ فقال : هذا البيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك ، إذا خرجوا لم يعودوا آخر ما عليهم». رواه البخاري في بدء الخلق / باب الملائكة رقم (٣٠٣٥) وفي الأنبياء : باب : (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩)) / رقم : (٣٢١٤) ، مسلم برقم : (١٦٤) ، والترمذي (٣٣٤٣) ، والنسائي ١ / ٢١٧ ، ٢١٨ ، رقم : (٣١٣).

(٣) إحياء علوم الدين ، ١ / ١٦٥.

(٤) سقطت في (ط).

١٥١

التعبير بالترك في قول حجة الإسلام : «إما أن يراد بالواجب الفعل الذي في تركه ضرر» (١) (وليس هذا) الذي قالته المعتزلة هنا من وجوب رعاية الأصلح (كذلك) أي : مبنيا على التخيير ؛ (لأن حاصل كلامهم فيه سلب قدرته) تعالى (عن ترك ما هو الأصلح) فليس قادرا عليه عندهم ؛ (لانتفاء قدرته عن الاتصاف بما لا يليق به ، فلذا) أي : فلزعمهم انتفاء قدرته سبحانه عن ترك ما هو الأصلح (حكموا بأن كل ما علم كونه) أي : وقوعه ووجوده (من خلود أهل النار فيها ولعن الفساق وحبط أعمالهم على قولهم هو الأصلح ، فقولهم : يجب الأصلح ، كقولنا : يجب أن لا يتصف) تعالى (بنقص ، و) كقولنا : يجب (وقوع وعده) تعالى ، (فالسبيل إلى دفعهم إنما هو منع كون كل واقع هو الأصلح لمن وقع له ، ومنع لزوم ما لا يليق به) تعالى ، أي : البخل الذي زعموا لزومه (بتقدير أن لا يعطي الملك العظيم كلّ فرد من العبيد أقصى ما في وسعه) أي : طاقة ذلك الملك العظيم ، أو أن لا يعطي كل فرد من العبيد (مصلحته) وقوله : (جبرا) حال مما تضمنه «يعطي» ، أي : حال كون ذلك الإعطاء جبرا ، أي مجبرا عليه دون اختيار (بعد أن عرفه) أي : عرف كل فرد من العبيد يعني المكلفين (طريقها) أي المصلحة (وأقدره) أي : جعل له قدرة عليها وعلى خلافها ، (ولم يجبره على خلافها ، وليس ذلك) القول بأن كل واقع هو الأصلح ، وبلزوم ما لا يليق بتقدير عدم إعطاء الملك العظيم كل فرد أقصى ما في الوسع (إلا صادرا (٢) عن نقص في الغريزة) أي : الطبيعة بمعنى أنه صادر عن عقل ناقص ، فعبر عن نقص العقل الذي يختل معه الفهم بنقص الغريزة (وكذا كون الخلود في النيران أصلح لمن فعل به ذلك) الخلود فيها (من مشاهدة جمال رب العالمين في أعالي الجنان أو) كونه أصلح من (مجرد) نعيم (الجنان) صادر عن نقص في الغريزة ، أي : خلل في العقل (وهذا) القول أيضا ، أعني : كون الخلود في النيران أصلح (إنكار للضروريات) من انتهى إليه كان معاندا فيسقط الكلام معه (٣).

(ومن مشهور دفعهم) أي : دفع المعتزلة بإبطال ما زعموه (مناظرة) أبي

__________________

(١) المرجع السابق ، ١ / ١٦٤.

(٢) سقطت في (م).

(٣) سبق تعريف المعاندة ، ولا شك أن هذا الكلام من المعتزلة ينسجم مع مبدئهم الأصلح في الدين والدنيا.

١٥٢

الحسن (الأشعري مع) أبي علي (الجبائي (١)) رأس المعتزلة في أواخر الثلاثمائة فما بعدها (وكان الأشعري تلميذه وعلى مذهبه فتاب وصار إماما في السنة ، قال) أي : الأشعريّ (له :) أي للجبائي (لو أن صبيا مات فرأى منزلة رفيعة) في الجنة (لبالغ مسلم فقال : يا رب لم لم تدم حياتي حتى أبلغ فأجتهد) في الطاعة (فأنال) منزلة رفيعة (مثله؟ قال :) أي : الجبائي (يقول الله تعالى له :) أي : للصبي (علمت أنك لو بلغت عصيت فكان الأصلح لك الموت في) سن (الصبا ، قال :) أي : الأشعري للجبائي (فينادي) حينئذ (الكفار من دركات لظى : يا إلهنا لمّا علمت أنّا إذا بلغنا عصينا فهلا أمتّنا في الصبا؟) فإنا راضون بما دون منزلة الصبي (فانقطع الجبائي ، وتاب الإمام الأشعري) عن الاعتزال ورجع إلى ما كان عليه السلف ، وأخذ في نقض قواعد المعتزلة (٢).

قال المصنف : (و) قد (استغنينا بهذا) أي : بما سقناه في الأصل الرابع من عدم وجوب رعاية الأصلح (عما ذكره) حجة الإسلام (في الأصل السابع) لأنه عقد الأصل الرابع لعدم وجوب ابتداء الخلق والتكليف ، والأصل السابع لعدم وجوب رعاية الأصلح ، وقد رأى المصنف أن الأنسب إيرادهما معا في الأصل الرابع.

واعلم أن المشهور أن مناظرة الأشعري والجبائي في ثلاثة إخوة أحدهم مطيع مات على الطاعة والآخر عاص مات على المعصية والثالث مات صغيرا ، كما هو مذكور في «المواقف» (٣) وأول «شرح العقائد» (٤) ، ولما رأى المصنف أن ما في عقيدة حجة الإسلام ينطبق مقصوده على ذلك أورده حكاية بالمعنى ، وعبارة حجة الإسلام : «وليت شعري بم يجيب المعتزلي عن مسألة نفرضها عليهم وهو أن نفرض مناظرة في الآخرة بين صبي مات مسلما وبين بالغ مات مسلما أي طائعا ...

__________________

(١) أبو علي الجبائي : محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائي ، من أئمة المعتزلة ، له مقالات وآراء انفرد بها في المذهب وإليه نسبت فرقة الجبائية. ولد سنة ٢٣٥ ه‍ توفي سنة ٣٠٣ ه‍ ، له تفسير حافل مطوّل. (انظر : الأعلام ، ٦ / ٢٥٦).

(٢) مناظرة الأشعري للجبائي نقلها كثير من مؤرخي الفرق ، منهم الشهرستاني في الملل والنحل ، ١ / ٣٢ ، وابن عساكر في تبيين كذب المفتري ، ١ / ٩١ ، وابن الجوزي في تلبيس إبليس ، ١ / ١١٨.

(٣) انظر : المواقف ، ص ٣٢٩.

(٤) انظر : شرح العقائد ، ص ٧.

١٥٣

إلى آخر كلامه» (١) فلم يجعل ما ذكره غير (٢) حكاية الأشعري والجبائي.

وقيّد الصبي ب «المسلم» ولم يقيده المصنف بذلك بناء على القول بأن أطفال الكفار لا يدخلون النار ، وهو الجاري على أصول المعتزلة والراجح عندنا. والله أعلم.

__________________

(١) إحياء علوم الدين ، ١ / ١٦٥.

(٢) في (ط) : عين.

١٥٤

(الأصل الخامس

في الحسن والقبح العقليين)

وهو الأصل الثامن في كلام حجة الإسلام ، وقد أوسع فيه المصنف فبدأ بتحرير محل النزاع فيهما بيننا وبين المعتزلة ، فذكر كغيره أنهما يطلقان لثلاثة معان ، ليس الأول ولا الثاني منها محلا للنزاع ، وإنما محل النزاع المعنى الثالث فقال : (لا نزاع في استقلال العقل بإدراك الحسن والقبح بمعنى صفة الكمال و) صفة (النقص ؛ كالعلم والجهل) وكالعدل والظلم ، فإن العقل يستقل بإدراك حسن العلم والعدل وقبح الجهل والظلم (ورد شرع أم لا ، و) كذا لا نزاع في استقلال العقل بإدراك الحسن والقبح (بمعنى ملاءمة الغرض وعدمها ؛ كقتل زيد بالنسبة إلى أعدائه) فإنه عندهم حسن (و) بالنسبة إلى (أوليائه) فإنه عندهم قبيح ، وتعبير المصنف ب «ملاءمة الغرض وعدمها» أولى من تعبير بعضهم عن هذا المعنى ب «ملاءمة الطبع ومنافرته» لأن ملاءمة الغرض أعم كما يظهر للمتأمل ، وملاءمة الطبع كحسن الحلو وقبح المر فالعقل يستقل بإدراك الحسن والقبح بهذا المعنى أيضا وفاقا منا ومنهم.

(وإنما النزاع) بيننا وبينهم (في استقلاله) أي : العقل (بدركه) بسكون الراء أي : إدراك ما ذكر من الحسن والقبح (في حكم الله تعالى ، فقالت المعتزلة : نعم) هما بهذا المعنى عقليان ، قالوا بيانا لمرادهم : (يجزم العقل بثبوت حكم الله تعالى في الفعل بالمنع) متعلق بقوله : «حكم الله» أي : ثبوت حكمه تعالى بالمنع من الفعل الواقع ذلك المنع (على وجه ينتهض) معه الفعل (سببا للعقاب إذا أدرك) العقل (قبحه).

قالوا : (و) يجزم العقل (بثبوت حكمه جل ذكره فيه) أي : في الفعل (بالإيجاب له والثواب بفعله) أي : إيجاده في الخارج (والعقاب بتركه إذا أدرك)

١٥٥

ظرف للجزم أي : يجزم العقل بذلك وقت إدراكه (حسنه على وجه يستلزم تركه قبحا ؛ كشكر المنعم ، وهذا) القول من المعتزلة (بناء) منهم (على أن للفعل في نفسه حسنا وقبحا ذاتيين) أي : يقتضيهما ذات الفعل كما ذهب إليه قدماؤهم (أو) أن للفعل حسنا وقبحا ثبتا له (لصفة) أي : لأجل صفة (فيه) حقيقية توجبهما له كما ذهب إليه الجبائية (١).

وقوله : (قد يستقل) صفة ثانية أي : حسنا وقبحا يوصفان بأنهما ذاتيان أو أنهما لصفة وبأنه قد يستقل (بدركهما) بسكون الراء ، أي : بإدراكهما (العقل ، فيعلم) أي : العقل ، والإسناد مجازي ، والمراد أن العاقل لإدراك عقله الحسن والقبح المذكورين يعلم (حكم الله تعالى باعتبارهما فيه) متعلق : «بحكم» ، والضمير للفعل ، أي : يعلم حكم الله تعالى الكائن في الفعل أي المتعلق به (وقد لا) يستقل العقل بإدراك الحسن والقبح في الفعل (فلا يحكم) فيه (بشيء حتى يرد الشرع) كاشفا عن ذلك الحسن والقبح (كحسن صوم آخر يوم من رمضان وقبح صوم أول يوم من شوال) إذ لا استقلال للعقل بإدراك شيء منهما.

(وقالت الأشاعرة قاطبة : ليس للفعل نفسه حسن ولا قبح) ذاتيان ولا لصفة توجبهما (وإنما حسنه ورود الشرع بإطلاقه) أي : الإذن لنا فيه (وقبحه وروده بحظره) أي : بالمنع لنا منه ، (وإذا ورد) الشرع (بذلك) أي : بإطلاقه لنا أو بحظره (فحسنّاه أو قبّحناه) أي : حكمنا بأنه حسن أو قبيح (بهذا المعنى) وهو كونه مأذونا لنا فيه ومحرما علينا (فحاله بعد ورود الشرع بالنسبة إلى الوصفين) الحسن والقبح (كحاله قبل وروده) في أنه ليس حسنه وقبحه لذاته ولا لصفة توجبهما له ، ولو لا ورود الشرع لم يعرفا. (فلا يجب قبل البعثة شيء) عند الأشاعرة (لا إيمان ولا غيره ولا يحرم) قبل البعثة (كفر) ((٢) ولا شيء من المحرمات (٢)) وإنما وجب الإيمان وسائر الواجبات وحرم الكفر وسائر المحرمات بالشرع.

(وقالت الحنفية قاطبة بثبوت الحسن والقبح للفعل على الوجه الذي قالته المعتزلة) وهو أن العقل قد يستقل بإدراك الحسن والقبح الذاتيين أو لصفة فيدرك القبح المناسب لترتب حكم الله تعالى بالمنع من الفعل على وجه ينهض معه الإتيان به سببا للعقاب ، ويدرك الحسن المناسب لترتب حكمه تعالى فيه

__________________

(١) نسبة إلى أبي علي الجبائي وقد تقدمت ترجمته في ص ١٥٣.

(٢) ليست في (ط).

١٥٦

بالإيجاب ، والثواب بفعله والعقاب بتركه ، إلا أن المعتزلة أطلقوا القول بعدم توقف حكم العقل بذلك على ورود الشرع.

قالوا : نعم ؛ ما قصر العقل عن إدراك جهة الحسن والقبح فيه كحسن صوم آخر يوم من رمضان وقبح صوم أول يوم من شوال يأتي الشرع كاشفا عن حسن وقبح فيه ذاتيين أو لصفة.

وخالفهم الحنفية في هذا الإطلاق ، ثم اختلفوا أعني الحنفية : هل المتوقف على ورود الشرع جميع الأحكام ؛ فلا يقضي العقل في شيء منها بمقتضى ما أدركه إلا بعد ورود الشرع ، فيكون الحاكم هو الله تعالى لا العقل ، أو المتوقف على ورود الشرع أكثر الأحكام دون أحكام خاصة منها؟ وسيأتي في المتن تفصيل ذلك (١).

(ثم اتفقوا) أي : الحنفية (على نفي ما بنته المعتزلة على إثبات الحسن والقبح للفعل من القول بوجوب) أمور على الله تعالى كوجوب (الأصلح) للعباد (على ما قدمناه) عن المعتزلة في الأصل الرابع (ووجوب الرزق ، و) وجوب (الثواب على الطاعة ، و) وجوب (العوض في إيلام الأطفال والبهائم ، ووجوب العقاب بالمعاصي إن مات) مرتكبها (بلا توبة) وقوله : (بناء) مفعول لأجله هو علة لقوله : «نفي» أي : اتفق الحنفية على نفي ما فرّعته المعتزلة على أصل الحسن والقبح العقليين من الأمور المذكورة ، وذلك النفي للبناء من الحنيفة (على منع كون مقابلاتها) أي : مقابلات الأمور التي أوجبتها المعتزلة (خلاف الحكمة) وتلك المقابلات كفعل غير الأصلح ومنع الرزق وما على منوالهما ؛ (بل) قالت الحنفية (ما ورد به السمع) أي : المسموع من الكتاب والسنة (من وعد الرزق و) وعد (الثواب على الطاعة و) على (ألم المؤمن و) على ألم (طفله حتى الشوكة يشاكها) المؤمن (محض فضل وتطوّل منه) تعالى دون وجوب عليه عزوجل (لا بد من وجوده) أي : وجود ذلك الموعود من الرزق وسائر ما ذكر معه (لوعده) الصادق (لا نحصي ثناء عليه ، سبحانه هو كما أثنى على نفسه).

واعلم أن الشيخ عز الدين (٢) أنكر في «قواعده» (٣) كون المصيبة من ألم

__________________

(١) في ص ١٨٢.

(٢) عز الدين ، عبد العزيز بن عبد السلام ، السلمي المغربي أصلا ، المصري دارا ووفاة ، سماه ابن دقيق العيد : سلطان العلماء ، توفي سنة ٦٦٠ ه‍ ، من مؤلفاته : قواعد الأحكام في مصالح الأنام ، انظر : طبقات الشافعية ، ١ / ٨٤.

(٣) انظر : قواعد الأحكام في مصالح الأنام ، ص ١٩٦.

١٥٧

وغيره يؤجر عليها ، وخطّأ من قال ذلك ؛ لأن المصيبة ليست من كسبه والمرء إنما يؤجر على عمله وكسبه قال تعالى : (الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) (سورة الطور : ١٦) ، واعترضه الإسنوي (١) بأنه خلاف نص الشافعي المستند إلى حديث عائشة وهو في الصحيحين : «ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله بها من خطاياه» (٢).

ونص الشافعي هو ما في «الأم» في باب : طلاق السكران ولفظه : «إن قال قائل : هذا أي : السكران مغلوب على عقله ، والمريض والمجنون مغلوب على عقله؟ قيل : المريض مأجور مكفّر عنه بالمرض والمجنون مرفوع عنه القلم ، فكيف يقاس من عليه العقاب بمن له الثواب؟!» اه (٣). فقد جعل المريض مأجورا مكفرا عنه بالمرض.

ويمكن حمل كلام الشافعي رضي الله عنه على أن المريض مأجور بالصبر على المرض أو الرضا به مكفر عنه بنفس المرض ، لأن الشيخ عز الدين لا ينكر كون المرض نفسه مكفرا للحديث السابق إنما يرى أن المرض مكفر من حيث إنه عقوبة عاجلة تمحص الذنوب كما أن عقوبة الآخرة تمحص ذنوب المؤمنين (٤).

(وما لم يرد به سمع) أي : دليل سمعي (كتعويض البهائم) عن آلامها (لم يحكم بوقوعه وإن جوزناه) عقلا (على ما سنذكره).

ولما بين المصنف رحمه‌الله ما خالفت الحنفية فيه المعتزلة من الفروع التي بنوها على أصل الحسن والقبح الذي وافقوا فيه المعتزلة ، أخذ يبين وفاقهم للمعتزلة في نفي تكليف ما لا يطاق فقال : (ولا أعلم أحدا منهم) أي : الحنفية (جوّز) عقلا (تكليف ما لا يطاق) فهم في هذا مخالفون

__________________

(١) جمال الدين في كتابه : التمهيد في تخريج الفروع على الأصول ، ص ١١٤ ، والإسنوي هو : عبد الرحيم بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن إبراهيم الأرموي الأسنوي ، نزيل القاهرة ، الملقب بالشيخ جمال الدين ، له مؤلفات عديدة ، أهمها : طبقات الشافعية ، ونهاية السئول ، توفي سنة ٧٧٢ ه‍. (شذرات الذهب ، ٦ / ٢٢٤).

(٢) الحديث أخرجه البخاري في كتاب المرضى باب ما جاء في كفارة المرض ، رقم ٥٣١٨. وأخرجه مسلم في البر والصلة والأدب ، رقم ٢٥٧٣.

(٣) الأم ، ٥ / ٢٧٠.

(٤) انظر : قواعد الأحكام في مصالح الأنام ، ص ١٩٦.

١٥٨

الأشعرية (١) في تجويزهم إياه عقلا.

والمراد أنهم يمنعون التكليف بالممتنع لذاته أما الممتنع لتعلق علم الله تعالى بعدم وقوعه ، كإيمان من علم الله تعالى أنه لا يؤمن ، فإن التكليف به جائز عقلا واقع وفاقا (و) الحنفية مع قولهم بالحسن والقبح العقليين (اختلفوا : هل يعلم باعتبار العلم بثبوتهما في فعل حكم) هو مرفوع بقوله : «يعلم» نائب عن الفاعل ، أي : إذا علم ثبوت حسن أو قبح في فعل من أفعال العباد هل يترتب على العلم بثبوت أحدهما أن يعلم حكم (الله) تعالى (في ذلك الفعل تكليفي) بالرفع نعت لقوله : «حكم» (فقال الأستاذ أبو منصور) الماتريدي (وعامة مشايخ سمرقند :) أي : أكثرهم (نعم) يعلم على هذا الوجه (وجوب الايمان بالله ، و) وجوب (تعظيمه وحرمة نسبة ما هو شنيع إليه) تعالى ؛ كالكذب والسفه ، (و) وجوب (تصديق النبي عليه‌السلام ، وهو) أي : ما ذكر من الإيمان والتعظيم وما ذكر معهما (معنى شكر المنعم) (٢).

فإن قيل شكر المنعم أعم من الأمور المذكورة فإنه صرف العبد جميع ما أنعم الله تعالى عليه به من سمع وبصر ونظر وغيرها إلى ما خلقه له كصرف البصر إلى المشاهدات ، والنظر إلى ما يفيد دلالتها على وجوده تعالى وقدرته وإرادته وعلمه ، والسمع إلى تلقي أوامره ونواهيه ووعده ووعيده.

قلنا : كل ذلك مندرج تحت وجوب تعظيمه تعالى (وروى) الحاكم الشهيد (٣) (في «المنتقى» (٤) عن أبي حنيفة رحمه‌الله) أنه قال : (لا عذر لأحد في الجهل

__________________

(١) جذور الخلاف ترجع إلى مبحث الحسن والقبح ، هل في الأشياء حسنا وقبحا ذاتيين أم لا؟ فالأشاعرة رأوا أن الأشياء منفكة عن هذه الصبغة ، والمعتزلة ويقترب منهم الماتريدية رأوا أن في الأشياء صبغة ، ولذلك قال الأشاعرة بإمكانية الجواز العقلي للتكليف بما لا يطاق مع عدم وقوعه شرعا. أما الماتريدية فيجعلون ما لا يكلف به نوعين : الأول ما هو ممتنع في نفسه ، وهو القبيح في ذاته ، والثاني ما هو ممكن لكن ليس بمقدور الإنسان ، ويرون بأنه إذا كان في علم الله أن أمرا ما لن يحصل ، لا يمنع إمكانية التكليف به إذا كان مما هو في مقدور الإنسان.

(٢) قارن بما في التوحيد ، للماتريدي ، ص ٩٦ ـ ١٠١.

(٣) الحاكم الشهيد : محمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن إسماعيل بن الحاكم ، الشهير بالحاكم الشهيد ، المروزي البلخي ، كان قاضيا ببخارى ، استشهد على يد الأتراك سنة ٣٤٤ ه‍ ، من مصنفاته : المختصر والكافي وغيرهما ، (الفوائد البهية ، ص ١٨٥)

(٤) كتاب المنتقى في فروع الحنفية ، للحاكم ، كتاب مفقود فيه فوائد جمة في المذهب الحنفي ، انظر : كشف الظنون ، ٢ / ١٨٥١.

١٥٩

بخالقه ، لما يرى من خلق السموات والأرض) وخلق نفسه وسائر مخلوقاته ، (وعنه) أي : عن أبي حنيفة رحمه‌الله أنه قال : (لو لم يبعث الله رسولا لوجب على الخلق معرفته بعقولهم).

(ونقل هؤلاء) يعني الأستاذ أبا منصور وعامة مشايخ سمرقند (مذهب المعتزلة على خلاف المهيع الأول) و «المهيع» : الطريق ، وقيل : الطريق الواضح ، وليس للتقييد هنا بالوضوح كبير معنى (قالوا :) يعني الأستاذ وعامة مشايخ سمرقند (العقل عندهم) أي : المعتزلة (إذا أدرك الحسن والقبح يوجب بنفسه على الله وعلى العباد مقتضاهما).

(وعندنا :) معشر من ذكر من الحنفية (الموجب) لمقتضى الحسن والقبح اللذين يدركهما العقل من الفعل (هو الله تعالى) يوجبه على عباده ولا يجب عليه سبحانه شيء باتفاق أهل السنة الحنفية وغيرهم.

(والعقل) عندنا معشر من أذكر من الحنفية (آلة يعرف به ذلك الحكم بواسطة اطلاعه) بسكون الطاء وإضافة المصدر إلى المفعول ، أي : اطلاع العقل بأن يطلعه الله (على الحسن والقبح الكائنين في الفعل) ، والحاصل أن العقل عند هؤلاء الحنفية آلة للبيان ، وسبب عادي لا مولّد كما عند المعتزلة (١).

والفرق بين طريق هذا الفريق من الحنفية وبين الأشاعرة : أن الأشاعرة قائلون بأنه لا يعرف حكم من أحكام الله تعالى إلا بعد بعثة نبي ، وهؤلاء الماتريدية يقولون : قد يعرف بعض الأحكام قبل البعثة بخلق الله تعالى العلم به ؛ إما بلا كسب ، كوجوب تصديق النبي وحرمة الكذب الضار ، وإما مع كسب بالنظر وترتيب المقدمات ، وقد لا يعرف إلا بالكتاب والنبي ، كأكثر الأحكام.

(وأشار بعضهم) أي : بعض مشايخ سمرقند (إلى أن مأخذ هذا النقل عنهم) أي : عن المعتزلة هو (قولهم بوجوب) رعاية (الأصلح) للعباد (عليه ، تعالى عن ذلك) سبحانه (فإنه) أي : الشأن (إذا أدرك العقل) الحسن في الفعل أوجب وجوده منه تعالى ، وإذا أدرك (القبح أوجب عدم وجوده منه تعالى) أي : أن يستمر عدم الفعل الموصوف بذلك القبح.

__________________

(١) التوليد عند المعتزلة : أن يوجب فعل لفاعله فعلا آخر ، نحو حركة اليد والمفتاح ، واحتجوا بورود الأمر والنهي والمدح والذم ، ونسبة الفعل إلى العبد دون الله.

١٦٠