المسامرة

كمال الدين محمد بن محمد الشافعي [ ابن أبي شريف المقدسي ]

المسامرة

المؤلف:

كمال الدين محمد بن محمد الشافعي [ ابن أبي شريف المقدسي ]


المحقق: كمال الدين القاري و عزّ الدين معميش
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-34-292-X
الصفحات: ٣٦٠

(فإذا أوجد العبد ذلك العزم) المصمم (خلق الله) تعالى (له الفعل) عقبه ، (فيكون منسوبا إليه تعالى من حيث هو حركة) لأنه تعالى المنفرد بترتيب المسببات على أسبابها ، (و) يكون منسوبا (إلى العبد من حيث هو زنى ونحوه) من الأوصاف التي يكون بها الفعل معصية ، وعلى منوال ذلك في الطاعة كالصلاة ، تكون الأفعال التي حقيقتها منسوبة إلى الله تعالى من حيث هي حركات ، وإلى العبد من حيث إنها صلاة لأنها الصفة التي باعتبارها عزم العزم المصمم.

واعلم أن حاصل كلام المصنف رحمه‌الله تعويل على مذهب القاضي الباقلاني ، وهو أن قدرة الله تعالى تتعلق بأصل الفعل ، وقدرة العبد تتعلق بوصفه من كونه طاعة أو معصية ، فمتعلق تأثير القدرتين مختلف ؛ كما في لطم اليتيم تأديبا وإيذاء ، فإن ذات اللطم واقعة بقدرة الله تعالى وتأثيره ، وكونه طاعة على الأول ومعصية على الثاني بقدرة العبد وتأثيره ، لتعلق ذلك بعزمه المصمم ؛ أعني قصده الذي لا تردد معه (١).

غير أن المصنف أوضح القول فيه ، ولعله إنما لم يعز ما ذكره إلى القاضي لأن من توجيهه ما لم يقع مصرحا به في كلامه وإن كان منطبقا عليه ، (وإنما يخلق الله سبحانه هذه) الأمور (في القلب) يعني الميل والداعية والاختيار (ليظهر من المكلف ما سبق علمه تعالى بظهوره منه من مخالفة) للأمر الإلهي (أو طاعة) له ، (وليس للعلم خاصية التأثير ليكون) المكلف (مجبورا) على ما سبق العلم بظهوره منه (لما) أي : الدليل (عساه يتضح من بعد). وقد أوضحه في آخر الأصل الثالث الذي يلي هذا الأصل.

وقوله : (ولا خلق) بلفظ المصدر عطف لجملة منفية على جملة منفية ، وهي قوله : «وليس للعلم» أي : وليس خلق (هذه الأشياء) أي : الميل والداعية والاختيار للمكلف (يوجب اضطراره إلى الفعل ؛ لأنه) تعالى (أقدره فيما يختاره ويميل إليه عن داعية) تدعوه إليه (على العزم على فعله وتركه) ولا اضطرار مع الإقدار على العزم على كل من الفعل والترك ، ولما كان الإقدار على العزم على فعل مع خلق الميل إليه والداعية له ظاهرا ، بخلاف الإقدار على العزم على ترك ما خلق الميل إليه والداعية له بيّنه بقوله : (إذ من المستمر) أي : من الأمر المعروف الذي لا يتخلف (ترك الإنسان لما يحبه ويختاره ، وفعل شيء وهو يكرهه لخوف) من سطوة

__________________

(١) قارن بما في التمهيد ، ص ٢٨٦ ـ ٢٩٣.

١٢١

جبار (أو حياء) ممن يجلّه ويؤثر امتثال أمره ونهيه (فعن ذلك العزم الكائن بقدرة العبد المخلوقة لله تعالى صح تكليفه) أي : نشأ عن ثبوت ذلك العزم صحة تعلق التكليف بالعبد ، (و) عنه أيضا صح (ثوابه) أي : أن يثاب بالطاعة (وعقابه) أي : أن يعاقب بالمعصية (وذمه) بفعل ما لا ينبغي شرعا (ومدحه) بفعل ما هو حسن شرعا (وانتفى بطلان التكليف ، و) انتفى (الجبر المحض (١) ، وكفى في التخصيص) أي : تخصيص تلك العمومات السابق بعضها (لتصحيح التكليف) أي : كفى لأجل تصحيح التكليف (هذا الأمر الواحد) الذي جعل متعلقا لتأثير قدرة العبد ، (وأعني) بهذا الأمر الواحد (العزم المصمم) على الفعل (وما سواه) أي : ما سوى العزم المصمم (مما لا يحصى من الأفعال الجزئية والتروك كلها مخلوقة لله تعالى ، متأثرة عن قدرته ابتداء بلا واسطة القدرة الحادثة) المخلوقة (المتأثرة عن قدرته تعالى ، والله سبحانه أعلم).

(ومع ذلك) أي : ومع ما ذكرناه من أن العزم المصمم موجود بالقدرة الحادثة (فقلما يكون حسن هذا العزم بلا توفيق من الله تعالى ، بل لا يقع) هذا العزم الموصوف بالحسن (إلا بتوفيق منه تعالى تفضلا) لا وجوبا ، (فإن الشيطان مع الشهوة الغالبة وهوى النفس) ثلاثتها (موانع) من العزم المذكور ، (تشبه القواسر) أي : تشبه الأمور الحاملة على ترك العزم قهرا (لقوة استيلائها) على الإنسان ، (فلا يغلب) بحيث يصمم العزم على خلاف ما تدعو إليه (إلا بمعونة التوفيق) من الله سبحانه للعبد.

(وليس لأحد على الله تعالى أن يوفقه) لأنه لا يجب على الله شيء كما سيأتي بيانه في الأصل الرابع ، (بل) العبد (إذا أعلمه) الله تعالى (طريقي الخير والشر وخلق المكنة) من كل منهما (له فقد أعذر إليه) أي : أزاح عذره منهيا إزاحة العذر إليه ، ف «أعذر» مضمن معنى «أنهى».

(وعدم التوفيق وهو الخذلان ، وهو) أي : الخذلان (أن يدعه مع نفسه لا ينصره ولا يعينه عليها). وقوله : (لا يسلبه) هو خبر المبتدأ الذي هو «عدم التوفيق»

__________________

(١) الجبر المحض بدل «الجبر» فقط ؛ تأكيد لنفي الجبر ، وإلا فإن الجبر والجبر المحض لهما نفس الدلالة على المستوى الكلامي في مجال التكليف ، كون تعريف الجبر : انعدام القدرة على مباشرة التكليف ، والتحرك بدون اختيار ، كما عبر المجبرة : «كالريشة المعلقة في الهواء» ولكن ينبغي ملاحظة أن البعض يمكن أن يميز بين العبارتين ؛ لاتهامه الأشاعرة بالجبر دون الجبر المحض ، فرأوا أن القائل بالكسب مآل قوله إلى الجبر لا محالة وإن لم يظهر ذلك مباشرة.

١٢٢

وما بينهما اعتراض ، والمعنى : أن عدم التوفيق لا يسلب العبد (الممكنة) أي : التمكن (من ذلك العزم التي خلقها له) نعت ل «المكنة» (وهذه) المكنة وسيأتي أنها عبارة عن سلامة الأسباب والآلات (غير القدرة ؛ التي ذهب أكثر أهل السنة إلى أنها لا تتقدم على الفعل) بل تكون معه ، توجد حال حدوث الفعل وتتعلق به في هذه الحالة (حتى قد يقال) بناء على ما ذهبوا إليه (إن التكليف بغير المقدور واقع ؛ لأنه) أي : التكليف وهو الطلب الإلزامي لما فيه كلفة (يكون قبل) وجود (الفعل) المطلوب (بالضرورة) لأن طلب الفعل بعد (١) وجوده طلب لتحصيل الحاصل وهو محال ، (ومقارن المتأخر) عن شيء (غير موجود مع المتقدم) عليه ، فالقدرة المدعى أنها إنما تكون مع الفعل يمتنع اقترانها بالتكليف المتقدم عليه ، فيكون التكليف بالفعل على هذا تكليفا بما لا قدرة عليه (٢).

وقوله : (فإن المراد) بيان لكون المكنة غير القدرة المذكورة (٣) ، وتقريره : أن المراد (بتلك القدرة) التي ذهب أكثر أهل السنة إلى أنها لا تتقدم على الفعل هو (القدرة التي) يقام (بها الفعل ، وهي قدرة جزئية) أي : فرد هو جزئي حقيقي (مندرجة تحت مطلق القدرة الكلية تخلق) تلك القدرة الجزئية (مع الفعل) لا قبله ، وهي القدرة المستجمعة لشرائط التأثير (٤) ، وهي عرض جزئي ، فالمتقدم على الفعل المكنة والمتأخر عنه الامتثال (٥).

(وقولنا : يقام بها الفعل تساهل) في العبارة ، إذ المقيم للشيء متقدم عليه ، (وإنما هي) أي : القدرة المذكورة (معه) أي : مع الفعل لا قبله (إذ كان الفعل) عند أهل السنة (إنما هو أثر قدرة الله سبحانه) وحذف لفظة «كان» هنا أولى من ثبوتها.

(قال القاضي أبو بكر :) بن الطيب الباقلاني مقدم أهل السنة وهو المراد حيثما أطلق «القاضي» في كتب الكلام (إن الله تعالى لا يخلق تلك القدرة إلا ويخلق الفعل تحتها ، فهي من الفعل) أي : بالنسبة إليه (بمنزلة المشروط من

__________________

(١) في (م) : مع.

(٢) وهو المعروف بالتكليف بما لا يطاق ، وقد أجازه الأشاعرة عقلا.

(٣) المكنة المقصودة هنا هي شرائط التأثير في الفعل.

(٤) شرائط التأثير : التصور المتضمن لقصد الفعل ، والعزم المصمم والترجيح المتضمن لقصد الفعل وهو القدرة الجزئية ، ثم يأتي تحقيق الفعل ، فالمكنة هي الشروط الثلاثة الأولى ، والامتثال هو التحقق.

(٥) في (م) : الأمثال.

١٢٣

الشرط ، فالقدرة كالمشروط والفعل كالشرط ، فكما لا يوجد المشروط بلا شرط كذلك لا توجد القدرة) الحادثة (بلا فعل ، ويجوز) أن يوجد الفعل بدون قدرة حادثة ، إذ يجوز (أن يوجد الشرط بلا مشروط ، وهذه القدرة) أي : المسماة بالمكنة (شرط التكليف مقدّمة عليه) ضرورة وجوب تقدم الشرط على المشروط ، (وهي عبارة عندهم) أي : عند أهل السنة (عن سلامة الآلات) أي : آلات الفعل (وصحة الأسباب) أي : أسبابه (١) ، (بناء على أن من كان كذلك) أي : سليم الآلات وقد صحت له الأسباب (فإن الله تعالى يخلق له القدرة عند الفعل ، كذا أجرى سبحانه العادة) لا يسأل عما يفعل سبحانه ، (ومن مشايخنا) معشر أهل السنة (من ذهب إلى أن القدرة) المقابلة للمكنة أعني المستجمعة لشرائط التأثير (تتقدم حقيقة على الفعل) (٢). وبالله التوفيق.

__________________

(١) آلات الفعل وأسبابه : أما آلات الفعل فهي التي يكون بها الفعل ، كاليد التي يكون بها اللطم ، والفأس التي تكون بها النجارة ، والإبرة التي تكون بها الخياطة وما أشبه ذلك. وأما الأسباب فهي الواردة المحفّزة أو البواعث التي من أجلها يكون الفعل ، فصحتها شرط لإيقاع الفعل بخلق الله له القدرة.

(٢) هذا بحث له علاقة بالماهية والوجود ، أيهما أسبق ؛ فالماهية هي ما اكتنفت الوجود وحدّدته ، وقد تكون مقارنة لوجود شيء أو ثبوت خصوصية. أما الوجود فهو عبارة عن الثابت المعين ، وقد قال البعض : بأنه لا تكون أصالة للماهية وإنما هي تابعة للوجود ، وأثبت البعض أصالتها مستدلا بأنه لو كان الوجود أصلا لكان وجودا عينيا خارجيا ، وإلا لزم أن يكون لوجوده وجود ويؤدي ذلك إلى التسلسل وهو باطل. وهنا الفعل يمثل جانب الوجود ، أما المكنة وتصور دواعي الفعل وحقيقته يمثل جانب الماهية ، والمصنف جزم بتقدم المكنة على الفعل ، ولا شك أن ذلك على مستوى التأثير وليس على مستوى الذهن.

١٢٤

(الأصل الثالث

أن فعل العبد وإن كان كسبا له فهو) واقع (بمشيئة الله) تعالى (وإرادته) وهي عطف تفسير للمشيئة ، فإرادته تعالى متعلقة بكل كائن ؛ غير متعلّقة بما ليس بكائن.

(فهو تعالى مريد لما نسميه شرا من كفر وغيره) من المعاصي (كما هو مريد للخير) من إيمان وغيره من الطاعات ، (ولو لم يرده) أي : الشر (لم يقع).

هذا هو المعروف عن السلف ، وقد اتفقوا على جواز إسناد الكل إليه جملة ؛ فيقال : جميع الكائنات مرادة لله تعالى (١).

ومنهم من منع التفصيل فقال : لا يقال إنه يريد الكفر والظلم والفسق لإيهامه الكفر ، وهو أن الظلم والكفر والفسق مأمور به ـ لما ذهب إليه بعض العلماء من أن الأمر هو الإرادة ـ وعند الإلباس يجب التوقف عن الإطلاق إلى التوقيف ؛ أي الإعلام من الشارع ، ولا توقيف في الإسناد تفصيلا.

قالوا : وما ذكرناه من صحة الإطلاق إجمالا لا تفصيلا كما يصح بالإجماع والنص أن يقال : «الله خالق كل شيء» ، ولا يصح أن يقال : «خالق القاذورات ، وخالق القردة والخنازير» ، مع كونها مخلوقة له اتفاقا ، وكما يقال : «له ما في السموات والأرض» ، أي مالكهما ، ولا يقال : «له الزوجات والأولاد» لإيهامه إضافة غير الملك إليه. ومنهم من جوّز أن يقال : «الله مريد للكفر والفسق معصية معاقبا عليها» (٢).

وفي قول المصنف : «لما نسميه شرا» تنبيه على أن تسمية بعض الكائنات

__________________

(١) خلافا للمعتزلة الذين يستثنون إرادة الشر ، وينسبونها إلى العبد مباشرة خلقا وإرادة بطريق الإلزام ؛ لأنهم لم يكونوا يصرّحون بذلك مطلقا إلا عند ما طال إلزامهم بذلك فجاهر الجبائي وقال لا مانع شرعا.

(٢) قارن بما في الإرشاد للجويني ، ص ٢٣٨.

١٢٥

شرا بالنسبة إلى تعلقه بنا وضرره لنا ، لا بالنسبة إلى صدوره عنه تعالى ، فخلقه الشر ليس قبيحا ، إذ لا قبيح منه تعالى ، (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) (سورة الأنبياء : ٢٣).

(وعند المعتزلة) أنه إنما يريد من أفعال العباد ما كان طاعة ، و (سائر المعاصي والقبائح واقعة بإرادة العبد على خلاف إرادة الله تعالى) فإنه إنما يريد ـ عندهم ـ عدم وقوعها ، ويكره وقوعها ، فزعموا أنه يريد من الكافر الإيمان وإن لم يقع ، لا الكفر وإن وقع ، ويريد من الفاسق الطاعة لا الفسق كذلك.

قالوا : أولا : في التمسك لما زعموه (قال الله تعالى : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) (سورة غافر : ٣١)) أي : ظلما مضافا للعباد كائنا منهم ، مع أن الظلم كائن من العباد بلا شك فهو ليس مرادا له تعالى ، ومثلها قوله تعالى : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) (سورة آل عمران : ١٠٨).

(و) قالوا : ثانيا : (إرادته ظلمهم) أي : ظلم العباد (لأنفسهم ثم عقابهم عليه ظلم ، فهو منزه عنه سبحانه) وهذا متمسّك عقلي.

(و) قالوا : ثالثا : (قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) (سورة الأعراف : ٢٨)) وقال تعالى : ((وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) (سورة الزمر : ٧)) وقال تعالى : ((وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) (سورة البقرة : ٢٠٥)) قالوا : والفساد كائن ، والمحبة تلازم الإرادة بل ليست غيرها ، فالفساد ليس بمراد. وعلى هذا المنوال استدلالهم بالآيتين اللتين قبلها.

وقالوا : رابعا : قال تعالى : ((وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)) (سورة الذاريات : ٥٦)) دل على أنه أراد من الكل العبادة والطاعة لا المعصية.

(وهذا) التمسك بالآيات المذكورة (بناء) منهم (على تلازم الإرادة والمحبة والرضا والأمر عندهم) فلا يتعلق واحد منها بدون تعلق سائرها بل لا تغاير بينها ، إذ هي بمعنى واحد عندهم :

وقوله : (ولأن) عطف على مقدر دل عليه الكلام السابق ، أي أن المعاصي والقبائح واقعة بإرادة العبد للآيات السابقة ، ولأن (إرادة القبيح قبيحة ، والأمر عندهم بغير المراد والمحبوب والمرضي سفه) والسفه محال على الله تعالى ، وهذا متمسك عقلي وما قبله من الآيات نقلي وسيأتي الجواب عن الجميع.

(ولنا :) في الاستدلال على أن إرادته تعالى متعلقة بكل كائن غير متعلقة بما

١٢٦

ليس بكائن (إطباق الأمة من عهد النبوة على هذه الكلمة) وهي قولهم : («ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن» (١) ، فانعقد إجماع السلف على قولنا).

(و) لنا : (قوله تعالى : (أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) (سورة الرعد : ٣١)) أي : لكنه شاء هداية بعض وإضلال بعض كما دل عليه قوله تعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (سورة الإنسان : ٣٠) والآية الآتية تلوها ، وقوله تعالى : (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (سورة الأنعام : ١٤٩) وقوله تعالى : ((وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) (سورة السجدة : ١٣)) وقوله تعالى : ((وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (سورة الإنسان : ٣٠) و) هم (قد شاءوا المعاصي) وفاقا (فكانت بمشيئته) تعالى (بهذا النص) النافي لأن يشاءوا شيئا إلّا أن يشاءه سبحانه.

وقوله تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) (سورة الأنعام : ١٢٥) ، فإن هذه الآية الشريفة مصرحة بتعلق إرادته بالهداية والإضلال.

وقوله تعالى : (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) (سورة هود : ٣٤).

(ولهم) أي : للمعتزلة عن استدلالنا بهذه الآيات (أجوبة ليست لازمة) لنا لفسادها ، وعمدتهم القصوى منها : حمل المشيئة في هذه الآيات ونظائرها على مشيئة القسر والإلجاء ، وليس بشيء ؛ لأنه خلاف الظاهر ، وتقييد للمطلق من غير دلالة عليه ، على أنهم قد تحيروا في تفسير مشيئة القسر والإلجاء فاضطربوا فيه.

وقوله : (ولأن) عطف على مقدر دل الكلام السابق على معناه ، أي : ما ادعيناه من تعلق الإرادة بكل كائن حق ، للآيات السابقة ، ولدليل عقلي وهو أن (المعاصي لو كانت واقعة على وفق إرادة عدو الله إبليس ، وهي) كما لا يخفى (أكثر من الطاعات الجارية على مراد الله جل ذكره ، لزم رد ملك الجبار ذي الجلال والإكرام إلى رتبة لا يرضى بمثلها زعيم قرية ،) متكفل بأمر أهلها (ويستنكف) ذلك الزعيم (عنها ، وهو) أي : الرتبة ، وتذكير الضمير باعتبار ما بعده ، وهو : (أن يستمر) أي : يدوم مطردا (في محل مملكته وولايته وقوع مراد

__________________

(١) جزء منه حديث رواه أبو داود في الأدب رقم ٤٩٨٠ عن حذيفة بلفظ : «لا تقولوا : ما شاء الله وشاء فلان ، ولكن قولوا : ما شاء الله ثم شاء فلان» ، وروى أيضا حديث : «لا قوة إلا بالله ما شاء الله كان» في الأدب برقم ١٠١.

١٢٧

عدوه دون مراده ، ونسبة هذا إليه تعالى نسبة للعجز إليه ، تعالى رب العالمين) عن قول الظالمين علوا كبيرا.

(والجواب عما أوردوه) متمسّكا لهم من الآيات :

أما عن قوله تعالى : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) (سورة غافر : ٣١) وما بمعناها فهو (أنه سبحانه نفى إرادته ظلم العباد) أي : ظلمه لعباده ، (وهو لا يستلزم نفي إرادته ظلم العباد أنفسهم ،) فليس المنفي في الآية إرادة ظلم بعضهم بعضا فإنه كائن ومراد. (وسنذكر) أثناء هذا الأصل (جواب قولهم : إرادته الظلم) أي : ظلمهم لأنفسهم (... إلخ). وإفراد قولهم هذا بجواب يقتضي كونه دليلا ثانيا مستقلا كما سلكناه في هذا التوضيح ، ويصح أن يكون مع ما قبله دليلا واحدا.

وأما الجواب عن تمسكهم بقوله تعالى : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) (سورة الزمر : ٧) ، وقوله تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) (سورة البقرة : ٢٠٥) فهو أنه (لا تلازم بين الرضا والمحبة وبين الإرادة) كما ادّعوه ، (إذ قد يريد الواحد منا ما يكرهه) ألا ترى أن المريض يريد تعاطي الدواء وهو يكره تعاطيه لبشاعة طعمه أو مرارته ، وأيضا فالرضا : ترك الاعتراض على الشيء لا إرادة وقوعه ، والمحبة : إرادة خاصة ؛ وهي ما لا يتبعها تبعة ومؤاخذة ، والإرادة أعم ، فهي منفكة عنها فيما إذا تعلقت بما يتبعه تبعة ومؤاخذة.

وأما عن تمسكهم بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) (سورة الأعراف : ٢٨) فهو أنه (لا تلازم بين الأمر والإرادة ، إذ قد يأمر) الآمر (بما لا يريده ، كالمعتذر لمن لامه في ضرب عبده بمخالفته) أمره (فيأمره) بحضرة من لامه (و) هو (لا يريد) في هذه الحالة (المأمور به ، ليظهر) لمن لامه (صدقه ،) فقد تحقق انفكاك الأمر عن الإرادة (فالمعاصي واقعة بإرادته) تعالى (ومشيئته ،) وعطف المشيئة تفسيري كما مر في عطف الإرادة عليها (لا بأمره ورضاه ومحبته) لما قررناه (وقال إمام الحرمين : إن من حقق لم يكع عن القول بأن المعاصي بمحبته ، ونقله بعضهم) بمعناه (عن) الشيخ أبي الحسن (الأشعري ، لتقاربها) أي : المحبة والإرادة والرضا ، يريد : تقاربها في المعنى (لغة ، فإن من أراد شيئا أو شاءه فقد رضيه وأحبه) وهذا التعليل نقل لكلام إمام الحرمين بالمعنى ، وعبارة «الإرشاد» : «ومن حقق من أئمتنا لم يكع عن تهويل المعتزلة ، وقال المحبة بمعنى الإرادة ، وكذلك الرضا ، فالرب تعالى

١٢٨

يحب الكفر ويرضاه كفرا معاقبا عليه» (١). انتهت. وهي ظاهرة في ترادف الإرادة والمحبة والرضا (وهذا) الذي قاله إمام الحرمين (خلاف كلمة أكثر أهل السنة) لتصريحهم بأن الكفر مراد له وأنه لا يحبه ولا يرضاه ، وأن المشيئة والإرادة غير المحبة والرضا ، وأن الرضا ترك الاعتراض ، والمحبة إرادة خاصة ، كما بينّاه آنفا ، وبعض أهل السنة مشى على أن كلّا منهما إرادة خاصة ، وفسر الرضا بأنه الإرادة مع ترك الاعتراض.

(وهو) أي : ما قاله إمام الحرمين ونقله بعضهم عن الأشعري (وإن كان) لو قال به أهل السنة (لا يلزمهم به) أي : بسبب القول به (ضرر في الاعتقاد ، إذ كان مناط العقاب) أي : المعنى الذي علق به العقاب ورتب عليه هو (مخالفة النهي ، وإن كان متعلقه) أي : متعلق النهي (محبوبا كما يتضح لك ؛) فيما بعد من هذا الأصل (لكنه) أي : لكن ما قاله إمام الحرمين ونقله بعضهم عن الأشعري (خلاف النصوص التي سمعت) في كتاب الله (من قوله تعالى : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) (سورة الزمر : ٧)) وقوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) (سورة آل عمران : ٣٢) ومثله) أي : مثل لفظ الكافرين في هذا التركيب من المشتق الذي علق به الحكم إثباتا كان أو نفيا (يتعلق ما علق به) من الحكم ، الذي هو في الآية نفي المحبة (بمبدإ الاشتقاق) أي : المصدر ، (وهو) هنا (الكفر ،) فيكون المعنى : لا يحب كفرهم. وقوله : ((وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) (سورة البقرة : ٢٠٥) وغير ذلك) من النصوص كقوله تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (سورة المائدة : ٦٤) ، وقوله تعالى : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (سورة الأعراف : ٥٥) ، والحكم في مثلهما يتعلق بمبدإ الاشتقاق على ما مر.

وقد نبه المصنف على أمر زائد على كلام إمام الحرمين والأكثر ، وهو الفرق بين المشيئة والإرادة عند أبي حنيفة فقال : (ونقل عن أبي حنيفة رحمه‌الله ما يدل على جعل الإرادة) عنده (من جنس الرضا والمحبة ، لا) من جنس (المشيئة) لدخول معنى الطلب عنده في مفهوم الإرادة دون مفهوم المشيئة ، (روي عنه) أن (من قال) لامراته : (شئت طلاقك ونواه) أي : نوى طلاقها بهذا اللفظ (طلقت ، ولو قال : أردته أو أحببته أو رضيته) أي : أردت طلاقك أو أحببت طلاقك أو رضيت طلاقك (ونواه) أي : طلاقها في كل من

__________________

(١) الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد ، ص ٢٣٩.

١٢٩

الصور الثلاث (لا يقع) عليه الطلاق (١).

وقوله : (بناه) استئناف ؛ كأن سائلا قال : على ما ذا بنى أبو حنيفة ما روي عنه؟ فأجيب بأنه بناه (على إدخال معنى الطلب والميل في مفهوم الإرادة ، والمرضيّ والمحبوب) كل منهما (مطلوب) بل هما أولى بدخول الطلب في مفهومهما ، (ومنه يقال لطالب الكلأ رائد) فالطلب داخل في مفهومه.

وهذا التوجيه لما روي عن أبي حنيفة رحمه‌الله لا ينافي القول بأن كلّا من الرضا والمحبة إرادة خاصة (و) ما دل عليه هذا النقل من أبي حنيفة من الفرق بين المشيئة والإرادة (هو أيضا خلاف ما عليه الأكثر) أي : أكثر أهل السنة ، (وسيعود الكلام إليه) في محله من هذا الأصل.

ولم يتعرض المصنف لجواب استدلالهم بقوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)) (سورة الذاريات : ٥٦) ، وقد أجيب عنه : بمنع دلالة لام الغرض على كون ما بعدها مرادا ، بل معنى الآية : إلا لنأمرهم بالعبادة ، ولئن سلم فلا نسلم عموم الآية للقطع بخروج من مات على الصبي والجنون ، والعام إذا دخله التخصيص صار عند المعتزلة مجملا في بقية أفراده (٢) ؛ فلا يصلح دليلا عندهم ، فليخرج من مات على الكفر كما يدل عليه قوله تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) (سورة الأعراف : ١٧٩).

والتحقيق : أن الحصر في الآية إضافي ، والمقصود به أنه خلقهم لعبادته ، لا ليعود إليه منهم نفع ، كما دل عليه قوله تعالى : (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧)) (سورة الذاريات : ٥٧) ، وليس حصرا حقيقيا كما فهموه.

(وأجيب عن قولهم) أي : المعتزلة (إنّ إرادة الظلم من العبد ثم عقابه عليه

__________________

(١) انظر : الروضة ، للنووي ، ٨ / ١٥٧ ، ومواهب الجليل ، للحطاب ، ٤ / ٤٤ ، والنصوص فيهما مقاربة للمعاني التي أوردها المصنف.

(٢) العام الذي يدخله التخصيص : العام هو اللفظ المستغرق جميع ما يصلح له دفعة بوضع واحد من غير حصر ، والخاص : إخراج بعض ما كان داخلا تحت العموم على تقدير عدم المخصص ، والمخصصات متصلة ومنفصلة. والأصل أن العام باق على عمومه ، ومذهب جمهور العلماء أن للعام إثبات الحكم في جميع ما يتناوله ، أما دلالته فإذا كان عاما مطلقا لم تصحبه قرينة تنفي احتمال تخصيصه اختلف في دلالته على جميع أفراده أهي قطعية أم ظنية ، والأكثر على أنها ظنية فتفيد وجوب العمل دون الاعتقاد ، أما المعتزلة فإن العام عندهم إن دخله التخصيص صار مجملا في بقية أفراده ، فلا يحتج به.

١٣٠

ظلم ، بالمنع) أي : منع كون ذلك ظلما حال كون ذلك المنع (مسندا ، بأن الظلم هو التصرف في ملك الغير كرها) ، من غير رضا من المالك (أما) تصرف من تصرف (في ملك نفسه فلا ،) أي : فليس ظلما ، بل هو عدل وحق كيف كان.

(و) هذا المنع المسند بما ذكر (قد يدفعونه بأن صرائح العقول) دالة (على أن تعذيب المملوك ذي الإحسان على) ما أحسن به من (فعله مراد سيده ظلم ، فالملك لا أثر له في نفيه ،) أي : في نفي الظلم (إنما المؤثر في نفيه الجناية) أي : أن يكون المعاقب عليه جناية من العبد بارتكابه خلاف المراد.

(وأجيب) من طرف أهل السنة (بأنه :) أي : ما ذكره من الدفع (مبني على التحسين والتقبيح العقلي) كل منهما (وسنبطله) في الأصل الخامس من هذا الركن (١).

(وقد يقولون) أي : المعتزلة في دفع ما ذكر من كونه مبنيا على التحسين والتقبيح العقليين (ليس هذا) الذي ذكرناه من كون تعذيب المملوك على فعله مراد سيده ظلما (من محل النزاع ؛) بيننا وبينكم في الحسن والقبح العقليين (لأنه) أي : لأن محل النزاع هو (تقبيح العقل) الفعل (في حكم الله تعالى ، أي : جزمه) يعني العقل (بأن حكم الله) تعالى (ثابت بالمنع فيما استقبحه) العقل ، (وأما إدراك) العقل الحسن بمعنى (صفة كمال ، أو القبح بمعنى (٢) صفة نقص فلا نزاع) بيننا وبينهم (في ثبوته) كما سيأتي أول الأصل الخامس ، (فيمكن إرادتهم) أي : المعتزلة (إياه) أي : القبيح (بهذا المعنى ، بل هو واجب) أي : متعين الإرادة (إذ) لو حمل القبح على المعنى الذي هو محل النزاع لكان المعنى أن حكم الله تعالى ثابت بمنعه تعالى من التعذيب و (يبعد من عاقل أن يقول إن تكليف الله تعالى متعلق بالله سبحانه ،) أي يبعد أن يقول ذلك عاقل (فيكون قولهم : تعذيب العبد لفعله مراد سيده ظلم ، أي : صفة نقص يجب تنزيه الله تعالى عنه).

(والجواب) حينئذ (منع كونه (٣) صفة نقص في حقه تعالى) وإن كان صفة نقص في حقنا ؛ إذ لا قبيح منه تعالى (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) (سورة الأنبياء : ٢٣) ، غايته أن صفة حسنه خفيت علينا ، (وعلى) تقدير (التسليم فإنما يكون) تعذيب العبد

__________________

(١) في ص ١٧٧.

(٢) في (ط) : أي.

(٣) في (م) : أنّه.

١٣١

لفعله مراد سيده (ظلما إذا كان) قد (أمره) السيد (بذلك المراد ففعله فعاقبه) على فعله ، (أما إذا كان إنما أمره) السيد (بشيء ففعل) هو (غير ما أمر به فلا) يكون تعذيبه على ذلك ظلما (فإن على العبد امتثال أمر سيده من غير التفات إلى أنه) أي : ما أمره به السيد (مراده) أي : مراد السيد (أو لا) أي : أو ليس مراده (مع أن الإرادة غيب) أي : أمر غائب (عنه) أي : عن العبد (لا يصل إلى معرفة أنها متعلقة بالمأمور) به (أو بغيره ،) وإذا بطل تعلق العقاب بمخالفة الإرادة (فلم يبق منه) أي : لم يبق أمر صادر من العبد يصلح لترتب العقاب عليه (إلا المخالفة لأمره ، فيحسن عقابه لمخالفته الأمر ، فعاد الظلم إلى عقابه) أي : العبد (على فعل ما أمره به) السيد (لا ما أراده) السيد (و) عاد (الحسن إلى عقابه) أي : العبد (على مخالفة أمره) أي : السيد.

(فإن قيل : إذا كان لا يقع) في الوجود (إلا مراده) تعالى ، كما ذهبتم إليه ، وقد أمر العبد بما لم يرد وقوعه (فقد كلفه بما لا يقدر على فعله ، وتكليفه بذلك) أي : بما لا يقدر على فعله (ثم عقابه على عدم فعله في التحقيق ليس إلا إرادة تعذيبه ابتداء بلا مخالفة ، وهذا أيضا) أي : تكليفه بما لا يقدر على فعله ثم عاقبه لكونه لم يفعله أمر (في نظر العقل) أي : بالنسبة إلى ما دل عليه العقل بطريق النظر (غير لائق) لأنه ظلم قبيح (فيجب تنزيه) الله (الغني عن العالمين) أي : عن وجودهم وطاعتهم (عنه) متعلق ب «تنزيه» أي : تنزيه الله تعالى عن هذا الذي ليس بلائق (على الوجه الذي ذكرناه آنفا) من أن وجوب التنزيه عنه لكونه صفة نقص ، فقبحه بالمعنى المتفق عليه ، لا بالمعنى المتنازع فيه بيننا وبينكم.

(قلنا : قد جوز الأشاعرة) عقلا (تكليف ما لا يطاق ،) فلا يرد ما ذكرتموه على أصلهم ، (وعلى القول بأنه) أي : التكليف بما لا يطاق وإن جاز عقلا فهو (غير واقع ، وهو الراجح) من القولين لهم ، (فالتحقيق أن عقابه) أي : العبد (إنما هو على مخالفته) حال كونه (مختارا غير مجبور) على المخالفة ، (فإن تعلق الإرادة بمعصيته لم يوجبها منه ، ولم يسلب اختياره فيها ، ولم يجبره على فعلها ، بل لا أثر للإرادة في ذلك) ولا في شيء منه ، (فكما أنه تعالى كلّف من علم منه عدم الامتثال فوقع منه ما علمه) من عدم الامتثال (كسائر الكفرة فلم يبطل ذلك) الوقوع الذي تعلق به العلم (معنى التكليف) الذي هو الطلب (ولم نظلّمه) بصيغة التفعيل وأوله نون ، أي : لم ننسب إليه تعالى ظلما بذلك (باتفاق منا ومنكم و) من (سائر المسلمين ؛ لعدم تأثير العلم في إيجاد ذلك الكفر المعلوم) وقوعه ، (وفي سلب

١٣٢

اختيار المكلف في إتيانه بذلك) الكفر (وإن كان لا يوجد إلا معلومه) أي : ما هو معلوم له تعالى (فكذا التكليف بما تعلقت الإرادة بخلافه إذا كانت) الإرادة (لا أثر لها في الإيجاد كالعلم) أي : كما أن العلم لا أثر له في الإيجاد (وهذا) أي : انتفاء تأثير الإرادة في الإيجاد (لأن الإرادة صفة شأنها تخصيص وجود المقدور دون غيره) من المقدورات (بخصوص وقت وجوده دون غيره) من الأوقات السابقة واللاحقة ، (ليس غير) أي : ليس شأنها غير ذلك التخصيص (ولا يدخل هذا المفهوم) بالنصب مفعول مقدم ، فاعله قوله : (تأثير) أي : لا يدخل مفهوم الإرادة تأثير (في الإيجاد بل) تأثير الإرادة (في مجرد التخصيص لما علم وقوعه) فالجار والمجرور متعلق ب «التخصيص» وفيه إشارة إلى أن تعلق الإرادة تابع لتعلق العلم (فالتأثير) في الإيجاد (خاصية) صفة (القدرة) دون العلم والإرادة وغيرهما من الصفات (إلا أنها) أي : القدرة (إنما تؤثر على وفق الإرادة ، أعني : في الوقت الذي تعلقت الإرادة بأنه) أي : المقدور (إذا وجد عن مؤثره) أي : المؤثر في وجوده وهو صفة القدرة (كان) وجوده (فيه) أي : في ذلك الوقت دون ما قبله وما بعده ، (والعلم) الإلهي (متعلق بهذه الجملة).

وقوله : (أنها) بفتح الهمزة بدل من «هذه الجملة» أي : متعلق بأنها (ستكون) أي : توجد (كذلك) أي : بأن يوجد المقدور متعلقا للإرادة على وجه تخصيصه دون غيره بالوجود في ذلك الوقت دون ما قبله وما بعده ، ومتعلقا للقدرة على وجه التأثير في وجوده وفق تعلق الإرادة (ثم يوجد ما يوجد باختيار المكلف على طبق) تعلق (ذلك العلم و) تعلق تلك (الإرادة ، متأثرا) في وجوده (عن قدرة الله تعالى على ما قدمناه) في الأصل السابق (من أن للمكلف اختيارا) يناط به الثواب والعقاب على ما عليه أهل السنة (أو) أن للمكلف (عزما) يستقل بإيجاده على ما اختاره المصنف ـ فيما مر ـ موصوفا ذلك العزم بأنه (يصمم) أي : لا يبقى معه تردد ، وبأنه (يوجد الله سبحانه عنده تحت قدرته) أي : قدرة المكلف (الحادثة ما له صمم عليه واختياره كما مر) في الأصل السابق (لا جبرا) للمكلف (عليه) أي : على ما صمم عليه واختاره ، فجملة قوله : «يصمم» في محل نصب نعتا لقوله : «عزما» ، وجملة قوله : «يوجد» نعت ثان له ، (وبسبب أن تعلق الإرادة) الإلهية (على حسب تعلق العلم) الإلهي (لزم أن ما لم يشأ) الله (لم يكن) أي : أن ما لم تتعلق الإرادة بوجوده لا يوجد ، فالجار والمجرور أعني قوله : «بسبب» متعلق بقوله : «لزم» (وذلك) اللزوم (أنه) أي : لأنه (إذا كان العلم متعلقا بأن كذا لا يكون

١٣٣

لا يتصور تعلق الإرادة بتخصيصه بوقته إذ كانت) الإرادة (إنما تخصص) أي : شأنها ليس إلا أنها تخصص (ما سيوجد بوقته) الذي يوجد فيه دون ما قبله وما بعده من الأوقات ، (فعدم تعلقها) بوجود ممكن (تابع للعلم بعدم وجوده لا مؤثر في عدم وجوده) إذ العلم (١) ليس مفتقرا إلى مؤثر (٢).

(فظهر) بهذا التقرير (معنى) قول السلف : (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن) أي : ما تعلقت المشيئة وهي الإرادة الإلهية بوجوده يوجد لتعلق العلم بوجوده ، وما لم تتعلق المشيئة بوجوده لا يوجد لتعلق العلم بعدم وجوده.

(وظهر) أيضا (أن لا طلب في مفهوم الإرادة) بناء على الفرق بينها وبين المشيئة (كما) مر (عن أبي حنيفة) لما عرفت من أن الإرادة ليس مفهومها إلا أنها صفة تخصص ما سيوجد دون غيره بوقته دون ما قبله وما بعده من الأوقات ، وليس في هذا المفهوم طلب.

(و) ظهر أيضا (أن لا محبة) في مفهوم صفة الإرادة (كما قال الأشعري وجماعة) إذ المحبة عندهم أخص من الإرادة على ما قدمناه من أنها إرادة لا يتبعها تبعة ومؤاخذة (بل لا يستلزمها) أي : لا يستلزم مفهوم الإرادة المحبة ، إذ الأعم لا يستلزم الأخص (٣) ، (نعم ؛ الغالب تعلقها) أي : الإرادة (بالمحبوب المطلوب وجوده فتقارن الإرادة المحبة في متعلقها) بأن يقع ذلك (اتفاقا) أي : على سبيل الاتفاق (لا لزوما) بحيث لا تنفك الإرادة عن المحبة ، لما مر من أن الأعمّ لا يستلزم الأخص ، (فعن هذا) أي : عن مقارنة الإرادة المحبة في متعلقها (وقع ذلك

__________________

(١) في (م) : العدم.

(٢) عدم افتقار العلم إلى مؤثر معقول ؛ لأن العلم عبارة عن حقيقة مجردة عن الغواشي الجسمانية ، فهو معرفة الشيء على ما هو به ، وهذا في علم المخلوق. وأما علم الخالق فهو الإحاطة والخبر على ما هو به ، وهو منزه عن الزمان ، ونسبته إلى جميع الأزمنة سواء ، فمهما حدثت المخلوقات لا يحدث له تعالى علم آخر بها ، بل حصلت مكشوفة له بالعلم الأزلي ، فالعلم بأن سيكون الشيء هو نفس العلم بكونه في وقت الوجود من غير تجدد ولا كثرة ، وإنما المتجدد هو نفس التعلق والمعلق به.

(٣) علاقة الأعم بالأخص على مستوى الإثبات : إثبات الأعم لا يستلزم إثبات الأخص ولكن إثبات الأخص يستلزم إثبات الأعم ؛ وهذا مراد الشارح ، أما على مستوى النفي ؛ فنفي الأعم يستلزم نفي الأخص ، ولكن نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم.

ويقصد بالأعم كلي تلاحظ فيه نسبته إلى نوعه أو بعض جزئياته ، مثل الحيوان بالنسبة إلى الإنسان. أما الأخص فهو كلي تلاحظ فيه نسبته إلى جنسه أو نوعه ، مثل الإنسان بالنسبة للحيوان.

١٣٤

الفرع) الفقهي (عن أبي حنيفة) معتبرا في علة حكمه دخول الطلب في مفهوم الإرادة إذ المحبوب مطلوب الوجود (وللغلبة) أي : لغلبة تغلب الإرادة بالمحبوب (ظن اللزوم) بين الإرادة والمحبة ، (وهو) أي : ظن اللزوم بينهما للغلبة المذكورة (بعيد عن التأمل ،) إذ بالتأمل يفرق بين اللزوم والغلبة الاتفاقية ، فلا يشتبه أحدهما بالآخر ، (فكثيرا ما يجد الإنسان منه) أي : من نفسه (إرادة ما يكره وجوده لأمر ما) من الأمور المقتضية لإرادة ذلك المكروه ، (ولو فرض أن ذلك) أي : إرادة الإنسان ما يكره وجوده (لمصلحة أحبها كإرادة الكي تداويا) لمحبة حصول الصحة التي هي مصلحة تترتب على الكي (لم يخرجه) جواب «لو» ، أي : ولو فرض أن إرادة المكروه لمصلحة تترتب عليه لما أخرجه ذلك (عن كونه مكروها في نفسه ؛) لأن الكي عبارة عن إمساس النار البدن وهو أمر مكروه (فإنه) أي : فإن كونه مكروها هو (الثابت في الواقع بالفرض ،) إذ الفرض كونه في نفس الأمر مكروها (فلا يكون غير ما في الواقع) برفع «غير» اسم كان ، وذلك الغير كونه (محبوبا) أي : فلا يكون كونه محبوبا (ثابتا فيه) أي : في الواقع ، فلا يجتمعان ، (وكذا) أي : وكثيرا ما يجد الإنسان من نفسه أيضا أنه (لا يريد وجود ما) أي : أمر (يحبه ، وهو) أي : عدم إرادة وجوده (وإن كان لضرر) أي : لأجل ضرر (يلزم وجوده لا يخرجه) عدم إرادة وجوده لذلك الضرر (عن كونه محبوبا) في نفسه ، (لفرض) أي : لأجل فرض (أنه ما زال محبوبا) ، فكونه محبوبا هو الثابت في الواقع بسبب فرضه كذلك ، فلا يكون غير ما في الواقع ، أعني كونه مكروها ثابتا في الواقع ، (فإنما تستلزم الإرادة الإذن والإطلاق في وجود ما يكرهه) المريد ، و «الإطلاق» عطف تفسيري ل «الإذن» ، إذ المراد بالإذن معنى الإطلاق ، وهو عدم المنع من تعلق الاختيار بوجود ذلك المكروه. (وإنما أطلق سبحانه وجود ما يكرهه في ملكه) تعالى (وهو) أي : والحال أنه (الملك القهّار وحده لا شريك له ليتم وجه التكليف بلازميه) أي : بلازمي التكليف (وهما الثواب بالفعل) أي : بسبب الفعل المطلوب (والعقاب للترك ،) أي : لأجل الكف عن الإتيان بالمطلوب (ولو كان في مفهوم صفة الإرادة طلب كانت هي صفة الكلام ؛ لكن الإرادة صفة مغايرة للكلام ، والقدرة والعلم شأنها ما ذكرنا) من تخصيص وجود المقدور دون غيره بخصوص وقت وجوده دون ما قبله وما بعده من الأوقات.

(وقول من قال : الإرادة والمشيئة صفة تنافي العجز والسهو وتقتضي الوجود ، قد يتوهم أنه) أي : القول المذكور (بسبب ذكر الاقتضاء) فيه بقوله :

١٣٥

«وتقتضي الوجود» (كذلك ،) أي : كما أن في مفهوم الإرادة طلبا ؛ لأن الاقتضاء الطلب ، وأصله : طلب قضاء الدين ، ثم استعمل لمطلق الطلب ، فيلزم كون صفة الإرادة هي صفة الكلام (وليس كذلك) أي : ليس كما يتوهم ، (فإن الاقتضاء في تعريفه) أي : تعريف من عرف الإرادة بأنها صفة تنافي العجز ... الخ (منسوب إلى الصفة ، وليس ذلك) الاقتضاء المنسوب إلى الصفة (كلاما) إنما هو بمعنى الاستلزام (يقال : اقتضى هذا المعنى كذا ، أي : استلزم لعلّية) أي : لكون ذلك المعنى علة واللازم معلولا (أو لا) لعلية ، كالتلازم بين الشرط والمشروط في جانب العدم ، بحيث يلزم من عدم الشرط عدم المشروط ، حيث يقال : عدم الشرط يقتضي عدم المشروط ، (بخلاف ما إذا نسب) الاقتضاء (إليه تعالى) فإنه بمعنى طلبه تعالى الفعل أو الكف فيكون كلاما ، (وإذا جعل) الاقتضاء (جزء مفهوم) صفة (الإرادة كان منسوبا إليه تعالى ، فتكون) إرادته هي (كلامه) تعالى ، وقد علمت أن الإرادة صفة مغايرة للكلام كما مر آنفا ، (بخلاف ما إذا جعل) الوجود (مقتضاها) أي : مقتضى الإرادة ، بمعنى أنها تستلزمه ، فإذا تعلقت الإرادة بوجود شيء لزم أن يوجد ، بأن تتعلق القدرة بوجوده وفق تعلق الإرادة ، (ثم المراد من هذا الاقتضاء ما بينّاه) فيما مر (في كلمة : «ما شاء الله كان» من أنها) أي : المشيئة وهي مرادفة الإرادة (تستلزم الوجود) أي : وجود ما تعلقت به (إذ كانت تؤثر تخصيصه) أي : تخصيص ذلك الوجود بوقته الذي وقع فيه دون ما قبله وما بعده من الأوقات.

وهاهنا تنبيه : على أمر مهم تضمنه قوله : (ومما ذكرنا) أي : في الأصل الثاني من أن محل قدرة العبد هو عزمه المصمم عقب خلق الداعية والميل والاختيار (يبطل احتجاج كثير من الفساق بالقضاء والقدر لفسقهم) متعلق بقوله : «احتجاج» أي : يظهر بطلان احتجاجهم على ما صدر منهم من الفسق ، حيث يقولون : «إنه بقضاء الله وقدره لم يكن بقدرتنا» (إذ ليس القضاء والقدر مما يسلب قدرة العزم) أي : قدرتهم عليه (عند خلق الاختيار) لهم ، (فيكون) بسبب سلب قدرة العزم (جبرا ليصح الاحتجاج) من الفاسق (به على ما أوقع نفسه فيه) من الفسق ، بل هو الجاني بإيجاده ذلك العزم المصمم عند خلق الميل والاختيار (كما قال علي رضي الله عنه لذلك الشيخ) الذي سأله.

روى الأصبغ بن نباتة أن شيخا قام إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد انصرافه من صفين فقال : أخبرنا عن مسيرنا إلى الشام أكان بقضاء الله تعالى وقدره؟ فقال : «والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما وطئنا موطئا ولا هبطنا واديا ولا

١٣٦

علونا تلعة إلا بقضاء وقدر» فقال الشيخ : عند الله أحتسب خطئي ، ما أرى لي من أجر شيئا. فقال له : «مه أيها الشيخ ، عظم الله أجركم في مسيركم وأنتم سائرون وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليها مضطرين» ، فقال الشيخ : كيف والقضاء والقدر ساقانا؟ فقال : «(ويحك ، لعلك ظننت قضاء لازما وقدرا حتما ، لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب) والوعد والوعيد والأمر والنهي ، ولم تأت لائمة من الله لمذنب ولا محمدة (١) لمحسن» والقصة بكمالها في «شرح المقاصد» (٢).

(بل المراد به) أي : بالقضاء والقدر (إما الخلق) أي : خلق الفعل المقدّر المقضيّ (فلا يسلبه) أي : فلا يسلب ذلك الخلق العبد (عزمه) المصمم (وكسبه) الذي قدمنا أنه محل قدرته. والعطف في قوله : «وكسبه» تفسيري. (إذ لا ينفي خلق الأعمال) أي : إيجاد الله تعالى إياها (ذلك) العزم المصمم الذي هو محل قدرة العبد. وقوله : (وإما الحكم) قسيم لقوله : «إما الخلق» ـ بكسر الهمزة فيهما ـ أي : أو المراد بالقضاء والقدر حكم الله تعالى بوقوع ذلك الفعل (كما فسره الإمام علي رضي الله عنه لذلك الشيخ) في بقية القصة ، ففيها : إن الشيخ قال لعلي رضي الله عنه : وما القضاء والقدر اللذان ما سرنا إلا بهما؟ فقال : «هو الأمر من الله والحكم» ثم تلا قوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (سورة الإسراء : ٢٣)».

(وهو) أي : الحكم (إما أن يرجع إلى صفة الكلام) ويكون العطف في قول سيدنا علي : «والحكم» تفسيريا يفسر قوله ، إذ الأمر كلام نفسي (أو) يرجع إلى صفة (العلم ، ولا تأثير للكلام ولا للعلم) في إيجاد الأعمال ، بل تعلق الكلام تعلق طلب ونحوه ، وتعلق العلم تعلق كشف ولا يتعلق شيء منهما تعلق تأثير كما لا يخفى ، وإذا لم يكن تعلّقهما تعلق تأثير (فأحرى أن لا يسلبا ذلك) العزم ، أي : فبسبب كون الكلام والعلم لا تأثير لهما ، وكون الخلق يتعلق تعلق التأثير كانا أحق من الخلق بأن لا يسلبا ذلك العزم والكسب الذي هو محل قدرة العبد.

وقوله : (والإعلام) بكسر الهمزة (أيضا قد يراد به) أي : بالقضاء والقدر (نحو : (قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) (سورة الحجر : ٦٠)) أي : أعلمنا بذلك ، لأن

__________________

(١) الحديث رواه أيضا أبو بكر الهذلي عن عكرمة ، انظر : كنز العمال ؛ ١ / ٣٤٤ ، رقم ١٥٦٠.

(٢) انظر : شرح المقاصد ، ٤ / ٢٦٨.

١٣٧

«قدرنا» من قول الملائكة ، والقدر بمعنى الخلق أو بمعنى الحكم لا يصح إسناده إليهم حقيقة ((وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) الآية (سورة الإسراء : ٤)) أي : أعلمناهم ، (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ) أي : أعلمنا لوطا ، (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) (سورة الحجر : ٦٦) ، وعدي ب «إلى» لتضمنه معنى «أوحينا».

وقد غيّر المصنف الأسلوب حيث لم يقل : «وإما الإعلام» وأتى ب «قد» التقليلية للإشارة إلى أن ورود القضاء والقدر مرادا بهما الإعلام قليل بالنسبة إلى ورودهما مرادا بهما الخلق أو العلم (١).

(والأوجه) أي : الأظهر توجيها (أنه) أي : القضاء (يرجع إلى) صفة (العلم لا) إلى صفة (الكلام ، إلا إن صح فيه أعني في المفعول معصية معنى الجبر) بأن يصح أن يراد بلفظ القضاء المتعلق به أن وقوعه معصية خبر ؛ وهو نوع من الكلام النفسي (وكذا الإعلام) إذا كان هو المراد بالقضاء (يرجع إليه) أي : إلى الكلام ، (إذ إنما يكون) الإعلام (عنه) أي : ناشئا عن الكلام النفسي ، والجار أعني «الباء» في قوله : (ويرجع) متعلق بقوله : «أجاب» ، و «الرجع» مصدر بمعنى الرد ، أي : ويرد معنى (القضاء إلى) صفة (العلم).

(أجاب) العلامة بدر الدين محمد بن أسعد (التستري) (٢) تلميذ القاضي

__________________

(١) في معاني القضاء والقدر ، أورد الماتريدي أن لفظ «قضى» على ثلاثة أوجه :

١ ـ أن لفظ قضى يعني أعلم وأخبر.

٢ ـ وقد يرد لفظ» قضى» بمعنى أمر ، لقوله تعالى (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) وهذا المعنى لا يجوز أن يضاف إلى الله إلا في الخيرات.

٣ ـ المعنى الثالث : «قضى» فرغ كقوله تعالى : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) ، وهذا المعنى لا يجوز أن يضاف إلى الله ؛ لإضافة الشغل له أو فراغ له منه إلا على مجاز اللغة في انقضاء ما خلق ، أما القدر ، فيرد على معنيين : أ ـ الحد الذي عليه يخرج الشيء ، وهو جعل كل شيء على ما هو عليه من خير أو شر ، من حسن أو قبح ، أو حكمة أو سفه : مثل قوله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ). ب ـ بيان ما عليه يقع كل شيء من زمان ومكان ، وحق وباطل ، وما له من الثواب والعقاب ؛ وفي هذا المعنى قوله تعالى : (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ). انظر : التوحيد ، ص ٣٠٥.

(٢) التستري : بدر الدين محمد بن أحمد ، كان فقيها وإمام زمانه في الأصلين والمنطق والحكمة ، له مؤلفات كثيرة منها «شرح ابن الحاجب» و «الطوالع» و «المطالع» ، توفي سنة ٧٣٠ ه‍ بهمذان. طبقات الشافعية ، ١ / ١٥٤.

١٣٨

ناصر الدين البيضاوي (عن سؤال اليهودي المنظوم) ، وهو سؤال نظمه بعض المعتزلة على لسان يهودي ، ويقال إن الذي نظمه هو ابن البققي (١) بموحدة وقافين أولاهما مفتوحة ، وهو الذي قتل على الزندقة في ولاية شيخ الإسلام ابن دقيق العيد ، وذلك (حيث قال) الناظم المذكور :

(أيا علماءَ الدين ذِمِّيُ دينِكم

تحيَّرَ دُلُّوه (٢) بأوضح حُجَّةِ

إذا ما قضى ربي بكُفرِي بزعمكم

ولم يرضَه منِّي فما وجهُ حيلتي)

(فأجاب) عن هذا السؤال علماء ذلك العصر نظما ونثرا ، ومنهم التستري أجاب (نظما ، إلى أن قال) في جوابه :

(فمعنى قضاء الله بالكفر علمه

بعلم قديم سرّ ما في الجلية (٣)

(وإظهاره من بعد ذاك مطابقا

لإدراكه بالقدرة الأزلية)

(وصدّر) التستري (حاصله) أي حاصل جوابه النظم (نثرا ؛ بأن قال : معنى قضاء الله) تعالى (بكفر الكافر أنه تعالى علم بالأشياء إلى آخر ما هو حاصل البيتين) (٤). ولكن ينبغي أن تعلم أن البيت الأول منهما تفسير لمعنى القضاء ، والثاني منهما تفسير لمعنى القدر :

فمعنى قضائه تعالى علمه الأشياء أزلا بعلمه القديم ، وأما معنى القدر فهو إظهاره أي إيجاده تعالى بقدرته الأزلية ، ما تعلق علمه بوجوده على الوجه المطابق ، لتعلق العلم بوجوده

فإن قيل : رجع القضاء إلى العلم طريق الفلاسفة وأما الأشاعرة فطريقهم رجع القضاء إلى الإرادة والقدر إلى الخلق ، كما قرره السيد في «شرح المواقف» فقال : اعلم أن قضاء الله تعالى عند الأشاعرة هو إرادته الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال وقدره إيجاده إياها على قدر مخصوص وتقدير معين في ذواتها وأحوالها.

وأما عند الفلاسفة فالقضاء عبارة عن علمه بما ينبغي أن يكون عليه الوجود

__________________

(١) ابن البققي : أحمد بن محمد بن فتح الدين الحموي ، برع في علوم عدة ، وثبت عليه الاستخفاف بالشرع فضربت عنقه في ولاية ابن دقيق العيد. الوافي بالوفيات ، ٨ / ١٥٨.

(٢) انظر : اليواقيت والجواهر ، ١ / ١٤٥.

(٣) انظر : المرجع السابق.

(٤) انظر : المرجع السابق.

١٣٩

حتى يكون على أحسن النظام وأكمل الانتظام ، وهو المسمى عندهم بالعناية التي هي مبدأ لفيضان الموجودات من حيث جملتها على أحسن الوجوه وأكملها ، والقدر عبارة عن خروجها إلى الوجود العيني بأسبابها على الوجه الذي تقرر في القضاء.

قلنا : رجع القضاء إلى العلم على الوجه الذي قلناه من طريق الأشاعرة أيضا ، وهو مغاير لطريق الفلاسفة المذكورة ((١) فرجعه إلى العلم عند الأشاعرة على منوال رجعه إلى الإرادة المذكورة (٢)) في «شرح المواقف» ؛ بأن يقال : القضاء عبارة عن علمه تعالى أزلا بوجود الأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال ، وقدره إيجاده إياها على وجه يطابق تعلق العلم بها. كما قيل في رجع القضاء إلى الإرادة أنه إرادته تعالى الأزلية إلى آخر ما نقلناه عن «شرح المواقف» (٣).

(وقد ذكرنا ما فيه مغنى) أي : غنية (في ظهور أن لا أثر للعلم ، وهذا) أمر نذكره سوى ما قدمناه (يزيدك وضوحا) وهو : (أنك لو كنت حاسبا) لسير الشمس والقمر (فعلمت من طريق الحساب قبل يوم كذا أن يوم كذا) المذكور (يكون كسوفا) أي : يوم كسوف ، حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه (فلما جاء يوم كذا ووقع) ذلك (الكسوف) الذي كنت علمته (هل تظن أن علمك السابق هو الذي أثّر في وجوده) لا سبيل إلى أن تظن ذلك ، (كذلك ما يقع على وفق العلم القديم) لا يؤثر العلم في وجوده ، (إنما يقع بكسب العبد مختارا فيه ، وغاية الأمر أن الله جلّ وعلا له كمال العلم ، فكان علمه محيطا بكل ما يكون أنه سيكون ، وذلك لا يسلب الفاعلين اختيارهم) المخلوق لهم (عند الفعل ، وعزمهم) المصمم (عليه) الذي هو محل قدرتهم ، (فلا يبطل التكليف).

(ومن جعل القضاء وجود جميع المخلوقات في اللوح المحفوظ مجملة ، والقدر وجودها) أي : المخلوقات (في جميع (٤) الأعيان مفصلة) (٥).

(من شارحي «الطوالع») للقاضي البيضاوي (٦) ، لا يخلو إما أن يريد بوجودها في اللوح المحفوظ الوجود في الكتابة ، أو يريد به العلم :

__________________

(١ ـ ٢) سقط من (ط).

(٣) انظر : شرح المواقف ، ٨ / ١٨٠.

(٤) ليست في (ط).

(٥) انظر : مطالع الأنظار شرح طوالع الأنوار ، للأصفهاني ، ص ٤.

(٦) انظر : المرجع السابق.

١٤٠