المسامرة

كمال الدين محمد بن محمد الشافعي [ ابن أبي شريف المقدسي ]

المسامرة

المؤلف:

كمال الدين محمد بن محمد الشافعي [ ابن أبي شريف المقدسي ]


المحقق: كمال الدين القاري و عزّ الدين معميش
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-34-292-X
الصفحات: ٣٦٠

(الركن الثالث

العلم بأفعال الله تعالى)

(ومداره على عشرة أصول).

١٠١
١٠٢

[الكلام في صفة التكوين]

(وقبل الخوض في هذا الركن نذكر مسألة اختلف فيها مشايخ الحنفية والأشاعرة) :

تلك المسألة (في صفات الأفعال) التي يدل عليها نحو قوله تعالى : (الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ) (سورة الحشر : ٢٤) ، ونحو : الرزاق والمحيي والمميت ، (والمراد) بها (صفات تدل على تأثير) ، وتلك الصفات (لها أسماء غير اسم القدرة) ، تسميتها بها (باعتبار أسماء آثارها ، والكلّ) أي : كل تلك الصفات (يجمعها اسم التكوين) بمعنى اندراجها تحته وصدقه على كل منها.

(فإن كان ذلك الأثر مخلوقا فالاسم) الذي يدل على تلك الصفة (الخالق والصفة الخلق ، أو) كان ذلك الأثر (رزقا فالاسم) الذي يدل على تلك الصفة (الرزّاق) أو الرزاق ، (والصفة الترزيق ، أو) كان ذلك الأثر (حياة فهو) أي : الاسم الذي يدل على ذلك الصفة (المحيي) والصفة الإحياء ، (أو) كان ذلك الأثر (موتا فهو) أي : الاسم الدال على الصفة (المميت) والصفة الإماتة.

ورجوع الكل إلى صفة واحدة هي التكوين (١) كما ذكر المصنف هو ما عليه المحققون من الحنفية ، خلافا لما جرى عليه بعض علماء ما وراء النهر منهم من أن كلّا منها صفة حقيقية أزلية ، فإن في هذا تكثيرا للقدماء جدا ، (فادّعى متأخّر والحنفية من عهد) الشيخ (أبي منصور) الماتريدي وهلم إلى عهد المصنف (أنها) أي : الصفات الراجعة إلى صفة التكوين (صفات قديمة زائدة على الصفات المتقدمة) المعقود لها الأصول السابقة.

__________________

(١) صفة التكوين : هي الصفة الحادثة الجامعة لصفات الفعل ، وما هي إلا صفة القدرة باعتبار تعلقها بمتعلق خاص ، فالتخليق : القدرة باعتبار تعلقها بالمخلوق.

١٠٣

(وليس في كلام أبي حنيفة و) أصحابه (المتقدمين تصريح بذلك ، سوى ما أخذوه) يعني : المتأخرون (من قوله) يعني قول أبي حنيفة : (كان تعالى خالقا قبل أن يخلق ورازقا قبل أن يرزق) فإن هذا صريح في قدم الخلق وقدم الرزق ، وسيأتي من كلام أبي حنيفة تحقيق رجوع القدم إلى صفة القدرة ، (وذكروا له) أي : لما ادعوه من قدم الصفات الراجعة إلى التكوين وزياداتها (أوجها من الاستدلال) منها :

ـ وهو عمدتهم في إثبات هذا المدعى ـ : أن «الباري تعالى مكوّن الأشياء» ، أي : موجدها ومنشئها إجماعا ، «وهو» أي : كونه تعالى مكون الأشياء ، «بدون صفة التكوين التي المكونات آثار تحصل عن تعلقاتها بها محال» ضرورة استحالة وجود الأثر بدون الصفة التي بها يحصل الأثر ، كالعالم بلا علم ، ولا بدّ أن تكون صفة التكوين أزلية لامتناع قيام الحوادث بذاته تعالى.

وقد أجيب : بأن ذلك ، أعني استحالة وجود الأثر بدون الصفة ، إنما تكون في الصفات الحقيقية كالعلم والقدرة ، ولا نسلم أن التأثير والإيجاد كذلك ، بل هو معنى يعقل من إضافة المؤثر إلى الأثر ، فلا يكون إلا فيما لا يزال ولا يفتقر إلا إلى صفة القدرة والإرادة لا إلى صفة زائدة عليهما.

ومنها وجوه أخرى في الاستدلال مقررة مع الأجوبة عنها في المطولات (١).

(والأشاعرة يقولون : ليست صفة التكوين على فصولها) أي : تفاصيلها (سوى صفة القدرة باعتبار تعلّقها بمتعلّق خاص ، فالتخليق) هو (القدرة باعتبار تعلّقها بالمخلوق ، والترزيق تعلقها بإيصال الرزق) كذا وقع في المتن أن التخليق القدرة باعتبار تعلقها والترزيق تعلقها ، وكان اللائق الجريان فيهما على منوال واحد ، وكذا في غيرهما من فصول صفة التكوين ، كأن يقال على المنوال الأول : «والترزيق صفة القدرة باعتبار تعلقها بإيصال الرزق» ، وعلى المنوال الثاني : «فالتخليق تعلق القدرة بإيجاد المخلوق ، والترزيق تعلقها بإيصال الرزق» وهذا هو اللائق بطريق الأشاعرة ؛ لأنهم قائلون بأن صفات الأفعال حادثة لأنها عبارة عن تعلقات القدرة ، والتعلقات حادثة.

__________________

(١) انظر : الحواشي البهية ، ٢ / ٢٨٥ ، وشرح المواقف مع حواشي السيالكوتي والحلبي ، ٨ / ٨١ ـ ٨٧.

١٠٤

(وما ذكروه) يعني مشايخ الحنفية (في معناه) أي : في معنى التكوين الذي هو لفظ يجمع صفات الأفعال من أنها صفات تدل على تأثير إلى آخر ما سبق عنهم (لا ينفي هذا) الذي قاله الأشاعرة (و) لا (يوجب كونها) أي : كون صفة التكوين على فصولها (صفات أخرى لا ترجع إلى القدرة المتعلّقة) بما ذكر من إيجاد المخلوق وإيصال الرزق ونحوها ، (و) إلى (الإرادة المتعلقة) بذلك ، (ولا يلزم في دليل لهم) من الأوجه التي استدلوا بها (ذلك) الأمر من نفي ما قاله الأشاعرة وإيجاب كونها صفات أخرى.

(وأما نسبتهم ذلك للمتقدمين ففيه نظر) إذ لم يثبت التصريح به عن أحد منهم فيما نعلمه ، (بل في كلام أبي حنيفة) نفسه رحمه‌الله (ما يفيد أن ذلك على ما فهم الأشاعرة من هذه الصفات على ما نقله) عنه (الطحاويّ ، قال) أي : الطحاوي نقلا عنه ما نصه : («وكما كان) تعالى (بصفاته أزليا كذلك لا يزال عليها أبديا ، ليس منذ خلق الخلق استفاد اسم الخالق ، ولا بإحداثه البريّة استفاد اسم البارئ ، له معنى الربوبية ولا) أي : والحال أنه لا (مربوب) موجود ، (ومعنى الخالق ولا) أي : والحال أنه لا (مخلوق) موجود ، (وكما أنه محيي الموتى استحق هذا الاسم قبل إحيائهم ، كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم ، ذلك بأنه على كل شيء قدير» (١) اه.) فقوله : «ذلك بأنه على كل شيء قدير» تعليل وبيان لاستحقاق اسم الخالق قبل المخلوق ، (فأفاد أن معنى الخالق قبل الخلق ، واستحقاق اسمه) أي : الاسم الذي هو الخالق في الأزل (بسبب قيام قدرته) تعالى (عليه) أي : على الخلق ، (فاسم الخالق و) الحال أنه (لا مخلوق في الأزل لمن له قدرة الخلق في الأزل ، وهذا) هو (ما يقوله الأشاعرة) لا خلافه (والله الموفّق).

واعلم أن إطلاق الخالق بمعنى القادر على الخلق مجاز ، من قبيل إطلاق ما بالقوة على ما بالفعل ، وكذا الرازق ونحوه ، وأما في قول أبي حنيفة : «كان خالقا قبل أن يخلق ورازقا قبل أن يرزق» فمن قبيل إطلاق المشتق قبل وجود المعنى المشتق منه كما هو مقرر في مبادئ أصول الفقه ، وقد وقع في «البحر» للزركشي أن إطلاق الخالق والرازق ونحوهما في حقه تعالى قبل وجود الخلق والرزق حقيقة ، وإن قلنا صفات الأفعال من الخلق والرزق ونحوهما حادثة ، وفيه بحث لأن قوله : «وإن قلنا ... إلخ» ممنوع عند الأشعرية القائلين بحدوث صفات الأفعال ، إنما يلائم

__________________

(١) انظر : شرح العقيدة الطحاوية ، ١ / ٩٦.

١٠٥

كلامه طريق الماتريدية القائلين بقدمها (١).

فإن قيل : لو كان مجازا لصح نفيه ، وقولنا : ليس خالقا في الأزل أمر مستهجن لا يقال مثله.

قلنا : استهجانه والكف عن إطلاقه ليس من جهة اللغة بل من جهة الشرع أدبا ، وكلامنا في الإطلاق لغة ، ولا يخفى أنه لا يقال أنه تعالى أوجد المخلوق في الأزل حقيقة لأنه يؤدي إلى قدم المخلوق وهو باطل.

__________________

(١) انظر : البحر المحيط ، للزركشي ، ٢ / ٩٤.

١٠٦

(الأصل الأول

العلم بأنه تعالى لا خالق سواه)

فهو سبحانه الخالق (لكلّ حادث جوهر أو عرض) على اختلاف أنواعه (كحركة كل شعرة) وإن دقّت ، (وكلّ) أي : وككل (قدرة) ، لكل حيوان عاقل أو غيره ، (و) كلّ (فعل اضطراريّ كحركة المرتعش والنبض) أي : وكالنبض وهو حركة العروق الضوارب بالبدن ، (أو اختياريّ كأفعال الحيوانات المقصودة لهم) وأتى بضمير العاقل في قوله : «لهم» تغليبا.

(وأصله) أي : دليله ، يعني دليل العلم بأنه سبحانه الخالق لكل حادث ، نقلي وعقلي ، فالدليل (من النقل : قوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (سورة الزمر : ٦٢) ، وقوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦)) (سورة الصافات : ٩٦) حكاية عن قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام (لهم حين كانوا ينحتون الأحجار بأيديهم ثم يعبدونها ، ولا يمتنع إنكاره عليهم بهذه العبارة مع جعل «ما» مصدرية) كما ذهب إليه سيبويه ، أي : موصولا حرفيا لا يحتاج إلى عائد ، فيستغنى عن تقدير الضمير المحذوف لو جعلت موصولا اسميا ، والمعنى على المصدرية : والله خلقكم وخلق عملكم.

ولا منافاة في ذلك للإنكار كما يزعمه المعتزلة ، فإن قول المصنف : «ولا يمتنع إنكاره ... إلخ» إشارة إلى سؤال من طرف المعتزلة أورده صاحب «الكشاف» (١) وغيره منهم ، وإلى جوابه.

محصل السؤال : أن معنى الآية إنكار السيد إبراهيم عليهم عبادة مخلوق ينحتونه بأيديهم ، والحال أن الله تعالى خلقهم وخلق ذلك المنحوت ، والمصدرية

__________________

(١) انظر : الكشاف ، ٥ / ٢١٨.

١٠٧

تنافي هذا الإنكار ، إذ لا طباق بين إنكار عبادة ما ينحتون وبين خلق عملهم.

وحاصل الجواب : المعارضة ببيان حصول الطباق (١) مع المصدرية ، إذ المعنى عليها : أتعبدون منحوتا تصيّرونه بعملكم صنما ، والحال أن الله تعالى خلقكم وخلق عملكم الذي به يصير المنحوت صنما ، فقد ظهر الطباق.

(وحينئذ) أي : حين إذ جعلت مصدرية (الاستدلال بها) أي : الآية (ظاهر) للتصريح بأن العمل هو الفعل مخلوق.

(أو هو) أي : لفظ «ما» (موصول اسميّ) يحتاج إلى عائد ، ويكون التقدير :

وخلق الذي تعملونه ، فحذف العائد المنصوب بالفعل ، والموصول الاسمي من أدوات العموم (فيشمل) في الآية (نفس الأحجار) المنحوتة ، (والأفعال) طاعات كانت أو معاصي ، (وأعني) بالفعل هنا (الحاصل بالمصدر) لأنّا إذا قلنا : أفعال العباد مخلوقة لله تعالى لم نرد بالفعل المعنى المصدري الذي هو الإيجاد والإيقاع ، لما سيأتي من أنه أمر اعتباري لا وجود له في الخارج ، فلا يتعلق به الخلق ، بل نريد الحاصل بالمصدر ، وهو متعلق الإيجاد والإيقاع ، أي : ما نشاهد من الحركات والسكنات مثلا ، والفعل بهذا المعنى هو متعلّق التكليف (٢) ؛ كالصوم والأكل والشرب والصلاة ، إذ هي عبارة عن قيام وقعود وركوع وسجود وتلاوة وذكر ، (وأهل العربية يقولون للمصدر المفعول المطلق ؛ لأنه هو المفعول بالحقيقة ؛ لأنه الذي يوجده الفاعل ويفعله ، وهو بناء على إرادة الحاصل بالمصدر ؛ لأن الأمر الاعتباريّ) وهو الفعل بمعنى الإيجاد والإيقاع (لا وجود له ، فلا يتعلق به الخلق ، فوجب إجراؤها) أي : الآية (على عمومها) للأحجار المنحوتة والأفعال ، والله ولي التوفيق.

هذا تقرير كلام المصنف ، والتحقيق : أن عملهم بمعنى الأثر الحاصل بالمصدر هو معمولهم ، ومعنى الموصولة وصلتها كذلك ، فمآل المعنى فيهما

__________________

(١) الطباق : هو الجمع بين الشيء وضده في الكلام ، وهو نوعان :

١ ـ طباق الإيجاب : وهو ما لم يختلف فيه الضدان إيجابا وسلبا.

٢ ـ طباق السلب : وهو ما اختلف فيه الضدان إيجابا وسلبا.

(٢) متعلق التكليف هو المسمّى وليس الاسم على رغم الخلاف المعروف في علم الكلام : هل الاسم هو المسمى أو صفة توجد به أو قول غير المسمى ؛ والمذهب الراجح أن الاسم هو صفة متعلقة به وأنه غير التسمية ؛ كما أشار إلى ذلك الباقلاني في كتابه تمهيد الأوائل ، ص ٢٥٨. فعلى هذا : الأفعال التكليفية هي مسمياتها الحاصلة بالمصدر ؛ أي : متعلّقاتها.

١٠٨

واحد ؛ لأن التقدير في الموصولة : وخلق العمل الذي تعملونه ، أو الشيء الذي تعملونه.

ودعوى عموم الآية للأعيان ممنوعة ؛ لأن الأعيان ليست معمولة للعباد ، بمعنى إيجادهم ذواتها ، وإنما هي معمول فيها النحت والتصوير وغيرهما من الأعمال ، وإطلاق قول القائل : عملت الحجر صنما مجاز ، والمعنى الحقيقي هو أنه حوّله بالنحت والتصوير إلى صورة الصنم ، فلا يتأتى شمول «ما» للأعيان بناء على أنها موصول اسمي ، إلا على القول باستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه.

(و) الدليل (من العقل) على أنه سبحانه الخالق لكل حادث (أنّ قدرته تعالى صالحة للكلّ) أي : لخلق كل حادث (لا قصور لها عن شيء منه) لأن المقتضى للقادرية هو الذات ، لوجوب استناد صفاته تعالى إلى ذاته ، والمصحّح للمقدورية هو الإمكان ؛ لأن الوجوب والامتناع الذاتيين يحيلان المقدورية ، ونسبة الذات إلى جميع الممكنات في اقتضاء القادرية على السواء ، فإذا ثبت قدرته على بعضها ثبت قدرته على كلها ، وإلا لزم التحكّم (١) (فوجب إضافتها) أي : إضافة الحوادث كلها (إليه) سبحانه (بالخلق) أي : إضافة خلقها إليه لما مر أنه لا خالق سواه.

وهذا الاستدلال مبني على ما ذهب إليه أهل الحق من أن المعدوم ليس بشيء (٢) ، وإنما هو نفي محض ، لا امتياز فيه أصلا ، ولا تخصيص قطعا ، فلا يتصوّر اختلاف في نسبة الذات إلى المعدومات بوجه من الوجوه ، خلافا للمعتزلة ، ومن أن المعدوم لا مادة له ولا صورة خلافا للحكماء (٣) ، وإلا لم يمتنع اختصاص بعض الممكنات دون بعض بمقدوريته تعالى كما يقوله الخصم :

__________________

(١) التحكم دون دليل ، وهو المصادرة وتعرف بأنها جعل نتيجة الدليل نفس مقدمة من مقدمتيه مع تغيير في اللفظ ، يوهم فيه المستدل التغاير بينهما في المعنى ، انظر : ضوابط المعرفة ، لحبنكة ، ص ٤٥١.

(٢) قال الجويني : ما صار إليه أهل الحق أن حقيقة الشيء : الموجود. كل شيء موجود ، وكل موجود شيء ، وما لا يوصف بالوجود لا يوصف بكونه شيئا ... والمعدوم منتف من كل الوجوه. (الشامل في أصول الدين ، للجويني ص ١٢٤).

(٣) المعدوم لا مادة له ولا صورة ، وهو معنى قول الجويني منتف من كل الوجوه ، سواء الجوهرية أو العرضية ، فلا شكل له بناء على أنه ليس بشيء وغير موجود.

١٠٩

إذ المعتزلي يقول : جاز أن يكون خصوصية بعض المعدومات الثابتة المتميّزة مانعة من تعلق القدرة. والحكيم يقول : جاز أن تستعد المادة لحدوث ممكن دون آخر.

وعلى هذين التقديرين لا يكون نسبة الذات إلى جميع الممكنات على السواء.

ولما كان هذا الاستدلال لا يخلو عن ضعف لابتناء دليله على أمر مختلف فيه يمنعه الخصم أشار المصنف إلى ذلك بقوله : (ويؤنسه) أي : يؤنس هذا الدليل العقليّ (في أفعال غير العقلاء) أي : يقويه ويقربه بالنسبة إليها (استبعاد استقلال العنكبوت والنحل بما يصدر عنها ؛ من غريب الشكل ولطيف الصناعة ممّا قد يعجز عنه بعض العقلاء) من نسج العنكبوت الذي يصل في الصفاقة إلى أن لا يتبين شيء من الخيوط الواهية التي تركب منها ، وبناء النحل الشمع على الشكل المسدس الذي لا خلاء بين أضلاع بيوته ولا خلل فيها ، ثم إلقاء العسل به أوّلا فأوّلا إلى أن تمتلئ البيوت ثم يختم بالشمع على وجه يعمها في غاية من اللطف ، (فكان ذلك) الصنع الغريب والفعل الواقع على غاية من الإتقان وحسن الترتيب واقعا (منه سبحانه وصادرا عنه) دون تلك الحيوانات التي لا عقول لها ولا علم بتفاصيل ما يصدر عنها.

ولما قرّر أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ، وكان مذهب أهل الحق أنها مع ذلك مكسوبة للعبد خلافا للمعتزلة والفلاسفة في زعمهم أنها مخلوقة للعبد ، بمعنى أنه المستقل بإيجادها أورد متمسّكهم سؤالا. وجعل الأصل الثاني في كلام حجة الاسلام جوابا عنه فقال :

(فإن قيل : لا شك أنه تعالى خلق للعبد قدرة على الأفعال ولذا) أي : ولكون القدرة مخلوقة للعبد قائمة به (ندرك) نحن معشر العباد العقلاء (تفرقة ضرورية) بطريق الوجدان (بين الحركة المقدورة) لنا وهي الاختيارية (و) بين (الرعدة الضرورية) أي : التي تصدر دون اختيار منا. وهذا من باب الاستدلال بالسبب على المسبب ، ولو قيل بأن إدراكنا التفرقة المذكورة بطريق الوجدان يدل على قيام قدرة بالعبد مخلوقة لله تعالى لكان استدلالا بالمسبب على السبب ، وهو هنا أقعد ؛ لأن المقام مقام إثبات قدرة للعبد بدليلها ، وهو إدراكنا التفرقة المذكورة بالوجدان (والقدرة ليس خاصيتها) من بين الصفات (إلا التأثير) أي : إيجاد

١١٠

المقدور ؛ لأن القدرة صفة تؤثر على وفق الإرادة ، ويستحيل اجتماع مؤثرين مستقلين على أثر واحد ، (فوجب تخصيص) عمومات (النصوص) السابق بعضها (بما سوى أفعال العباد الاختياريّة ، فيكونون) أي : العباد (مستقلّين بإيجاد أفعالهم) الاختيارية (بقدرهم الحادثة) التي تحدث (بخلق الله تعالى) إياها لهم (كما هو) أي : ذلك الاستقلال بالإيجاد (رأي المعتزلة والفلاسفة بلا فرق) بين الفريقين (غير) الفرق في كيفية حدوث القدرة وهو : (أن قدرة العبد حادثة بإيجاد الله تعالى باختياره) تعالى (عند المعتزلة) لاعتقادهم كأهل الحق أنه تعالى فاعل بالاختيار لا موجب بالذّات (١) ، (وبطريق الإيجاب) بالذات (عند تمام الاستعداد) من المحل القابل (٢) (عند الفلاسفة) لاعتقادهم أنه ـ تعالى عما يقولون ـ موجب بالذات لا فاعل بالاختيار ، (وإلا) أي : وإن لا يكن العباد مستقلين بإيجاد أفعالهم الاختيارية لعدم تخصيص النصوص (كان) إيجادها بخلق الباري تعالى (جبرا محضا) ، إذ الفرض أنه لا تأثير لقدرة العبد أصلا في إيجادها ، وإذا كان كذلك (فيبطل الأمر والنهي) إذ لا معنى للأمر بما لا يكون فعلا للمأمور ولا يدخل تحت قدرته ، كأن يطلب من إنسان خلق الحيوان أو الطيران إلى السماء ، أو يطلب من الجماد المشي على الأرض.

(فالجواب) من طرف أهل السنة (وهو حاصل الأصل الثاني) في كلام حجة الاسلام (أن الحركة مثلا كما أنّها وصف للعبد ومخلوقة للرب) سبحانه ، (لها) أيضا (نسبة إلى قدرة العبد فسمّيت) أي : الحركة (باعتبار تلك النسبة) أي : نسبتها إلى قدرة العبد (كسبا) بمعنى أنها مكسوبة للعبد (وليس من ضرورة تعلق القدرة بالمقدور أن يكون بالاختراع) الذي هو خاصيتها أي : التأثير (فقط ، إذ قدرة الله تعالى متعلّقة في الأزل بالعالم ولم يحصل الاختراع بها إذ ذاك ، و) هي (عند الاختراع تتعلق به نوعا آخر من التعلّق ، فبطل أن القدرة) من حيث تعلقها (تختص (٣) بإيجاد المقدور) بها ، (ولم يلزم الجبر المحض) كما زعم الخصم ، (إذ كانت) الحركة المذكورة (متعلّق قدرة العبد داخلة في اختياره) وهذا التعلق هو

__________________

(١) الموجب بالذات : اعتقاد من اعتقادات الفلاسفة الباطلة ؛ وفحوى اعتقادهم سيأتي شرحه تفصيلا في أواخر هذا الكتاب.

(٢) يقصدون بالمحل القابل : المحل عند الفلاسفة منحصر في الهيولي والموضوع ، ويسمى المادة ، تفيض هذه المادة من الفاعل بالاختيار ، وتتحول إلى أعيان ثابتة في الوجود.

(٣) في (م) : مختصة.

١١١

المسمى عندنا بالكسب (١) ، هذا حاصل ما ذكره حجة الاسلام.

ولما لم يوافقه المصنف عليه قال : (ولقائل أن يقول : قولكم) معشر أهل السنة (إنها) أي : الحركة الاختيارية (تتعلق بالقدرة) وحق العبارة أن يقال : «قولكم : إن قدرة العبد تتعلق بالحركة» (لا على وجه التأثير) فيها ، (و) أن التعلق لا على وجه التأثير (هو الكسب مجرّد ألفاظ لم يحصّلوا لها معنى ، ونحن) معشر أهل اللغة العربية (إنما نفهم من الكسب التحصيل ، وتحصيل الفعل المعدوم ليس إلا إدخاله في الوجود ، وهو إيجاده ، وقولكم بأن القدرة) الحادثة (تتعلق بلا تأثير ، كتعلّق القدرة القديمة في الأزل).

(قلنا :) ممنوع ، وتحقيق المقام أن نقول : (معنى ذلك التعلّق) الأزليّ للقدرة القديمة (نسبة المعلوم) الوقوع (من مقدوراتها إليها بأنها ستؤثر في إيجاده عند وقته) فالباء في قوله : «بأنها» للإلصاق ، ومدخولها محذوف ، أي : بمعنى أنها ستؤثر في إيجاد ذلك المعلوم عند وقت وجوده ، فالهاء في «وقته» عائدة للوجود المفهوم من الإيجاد (وذلك أن القدرة إنما تؤثّر) وقوع الشيء (على وفق الإرادة ، وتعلّق الإرادة بوجود (٢) الشيء هو تخصيصه) أي : تخصيص ذلك الوقوع (بوقته) دون ما قبله وما بعده من الأوقات ، (والقدرة الحادثة يستحيل فيها ذلك ؛ لأنها مقارنة للفعل عندكم) معشر الأشاعرة (فلم يكن تعلقها) بالفعل (إلا) على غير ما ذكرتم ، إما (بالتأثير) كما هو الظاهر (أو تثبتوا (٣) له) أي : لتعلقها بالفعل (معنى محصّلا ينظر فيه) ليقبل أو يرد.

(ولو سلّم) ما ذكرتم من أن قدرة العبد تتعلّق بالفعل بلا تأثير فيه لم يكن كافيا في ثبوت مدعاكم بما ذكرتم من وجوب استناد الحوادث كلها إليه تعالى بالخلق ، حملا للنصوص السابق بعضها على عمومها ، فإنما يسوغ العمل

__________________

(١) نظرية الكسب : عند الأشعري تتلخص في أن القدرة التي يستعملها الإنسان للقيام بفعل ما هي مخلوقة لله في اللحظة التي يقوم فيها بهذا الفعل ، وهي لا تصلح إلا لهذا العمل بالذات ، ولا تصلح للقيام بغيره أو بضده ، فالكسب عنده اقتران قدرة الإنسان بفعل الله ، وبذلك يخالف الماتريدي الذي يقول بأن هذه القدرة صالحة لأي فعل ، وأن الإنسان قادر على توجيهها الوجهة التي يريد ، أما أنها مخلوقة لله فهو ناتج من أن الإنسان وما يصدر عنه مخلوق لله ؛ فالكسب عنده بمعنى الخلق ، ولكن ليس خلقا من العدم بل من مادة سابقة.

(٢) في (م) : بوقوع.

(٣) في (ط) : تبينوا.

١١٢

بالعموم إذا لم يجب تخصيصه ، وهو هنا واجب كما بينه بقوله : (فالمقتضي لوجوب تخصيص تلك النصوص بأفعال العباد) أي : بإخراج أفعال العباد الاختيارية منها (هو لزوم الجبر المحض المستلزم لبطلان الأمر والنهي ، ولزومه) أي : ولزوم الجبر المحض مبني (على تقدير أن لا أثر) في الفعل (القدرة المكلّف) الذي كلّف (بالأمر) بفعل (والنهي) عن فعل ، (ولا يدفعه) أي : لا يدفع هذا اللزوم (تعلّق) لقدرة المكلّف بالفعل (بلا تأثير) فيه لبناء اللزوم على نفي أثر القدرة الحادثة.

ولك أن تقول : قول المصنف أن الكسب لا يفهم منه إلا التحصيل هو بحسب ما وضع له لغة ، وكلامنا هنا في المعنى المسمى بالكسب بوضع اصطلاحيّ كما ينبئ عنه كلام حجة الإسلام في «الاقتصاد» ، فإنه لما ذكر تعلق قدرة الباري بالأفعال ، وأنه على وجه الاختراع ، وتعلق قدرة العبد وأنها نسبه لها إليه لا على وجه الاختراع وأن الباري تعالى يسمى خالقا ومخترعا ، والعبد لا يسمى بذلك ، قال : فوجب أن يطلب لهذا النمط من النسبة اسم آخر ، فطلب فوضع له اسم «الكسب» تيمّنا بكتاب الله تعالى ، فإنه وجد إطلاق ذلك على أعمال العباد في القرآن (١).

فقد دل هذا الكلام على أنه معنى اصطلح على تسميته بالكسب ، وذلك لا ينافي كوننا لا نفهم بحسب اللغة من الكسب إلا التحصيل.

ثم لك أن تقول : قولكم أن لزوم الخبر يقتضي وجوب تخصيص تلك النصوص العامة بإخراج أفعال العباد منها ممنوع ، فإن لزوم الجبر يندفع بتخصيص تلك النصوص بإخراج فعل قلبيّ (٢) واحد ، كما سيحققه المصنف ، ويأتي قريبا ما يوضحه ، لا بإخراج كل فعل من أفعال العباد البدنية والقلبية.

واعلم أن الأشعرية لا ينفون عن القدرة الحادثة إلا التأثير بالفعل لا بالقوة ؛ لأن القدرة الحادثة عندهم صفة شأنها التأثير والإيجاد ؛ لكن تخلّف أثرها في أفعال العباد لمانع هو تعلّق قدرة الله تعالى بإيجادها ، كما حقق في «شرح المقاصد» (٣) وغيره ، وقد نقل في «شرح العقائد» تعريفها بأنها صفة يخلقها الله

__________________

(١) الاقتصاد في الاعتقاد ، ص ١٢٠.

(٢) ليست في (ط).

(٣) انظر : شرح المقاصد ، ٤ / ٢٢٦.

١١٣

تعالى في العبد عند قصده اكتساب الفعل مع سلامة الأسباب والآلات (١) ، ونقل فيه أيضا أنها عند جمهور أهل السنة شرط لوجود الفعل (٢) ، يعني أنها شرط عادي يتوقف الفعل على تعلقها به توقّف المشروط على الشرط ؛ لا توقف المتأثّر على المؤثّر (٣) ، وبهذا يظهر أن مناط التكليف بعد خلق الاختيار للعبد هو قصده الفعل وتعليقه قدرته به ، بأن يقصده قصدا مصمّما طاعة كان أو معصية ، وإن لم تؤثر قدرته وجود الفعل لمانع هو تعلق قدرة الله تعالى التي لا يقاومها شيء بإيجاد ذلك الفعل.

فإن قيل : القدرة عندكم معشر الأشعرية مقارنة للفعل لا قبله ، فكيف يتصوّر (٤) تعليق العبد إياها بالفعل قبل وجودها؟

قلنا : لمّا اطّردت العادة الإلهية بخلق الاختيار المترتّب عليه صحة قصد الفعل أو الترك ، وبخلق القدرة عقب هذا القصد عند مباشرة الفعل ، سواء كان ذلك كفّا للنفس أو غير كفّ ؛ لأن وجودها مع المباشرة متحقق الوقوع بحسب اطراد العادة ، فصح تعليقها بالفعل المباشر ، بأن يقصده قصدا مصمما لتحقق وقوعها (٥) مع المشروع فيه (٦).

إذا تقرر ذلك ظهر أن تعلق قدرة العبد التي تعلّقها شرط هو الكسب الذي هو مناط الثواب والعقاب.

وهذا التحقيق لائق بكلام المصنف فيما بعد ، لكني رأيت تقديمه هنا ليظهر

__________________

(١) انظر : شرح العقائد ، ص ٩٠.

(٢) انظر : المرجع السابق ، ص ٩٣.

(٣) والفرق بين توقف المشروط على الشرط ، وتوقف المتأثر على المؤثر ؛ أن توقف شيء على شيء له صور متعددة : فإن كان من جهة الشروع فإنه مقدمة ، ومن جهة الشعور يسمى معرفا ، ومن جهة الوجود : إن كان داخلا فيه يسمى ركنا ، وإلا فإن كان مؤثرا فيه يسمى علة فاعلية ، وإلا يسمى شرطا وجوديا وعدما ، فالفرق في الفاعلية ؛ أي أن القدرة شرط وجودي لحصول الفعل وليس علة فاعلية ، حتى لا يؤدي ذلك إلى القول بخلق الفعل ، ومعنى قولنا : شرط عادي أي : يمكن الشروع بدونه ، وهو باب الإمكان العقلي ؛ لأن الله هو الذي رتب ذلك السبب والمسبب.

(٤) في (ط) : تصوير.

(٥) في (م) : وجودها.

(٦) فالقدرة المخلوقة تكون مع الفعل لا قبله ولا بعده ، وهذا الذي عليه أهل السنة ، وصرح به الإمام أبو حنيفة في وصية الموت ، ولا تصلح هذه القدرة للضدين ، بل للفعل المشروع فيه بالعزم والتصميم.

١١٤

ارتباطه بكلام الخصم وكونه ردا له ، وفيه مع ذلك مزيد توضيح يقرب به فهم الكسب عند الأشعري وبالله التوفيق.

واعلم أن قول المصنف هنا : «لوجوب تخصيص تلك النصوص بأفعال العباد» قد يتوهّم مناقضته لقوله فيما سبق : «فوجب تخصيص النصوص بما سوى أفعال العباد الاختيارية» وليس مناقضا له ؛ لأن المراد بالتخصيص فيما سبق جعل النصوص العامة خاصة بما سوى أفعال العباد الاختيارية ، وأن ذلك هو المقصود منها بالحكم ، والمراد هنا أن ذلك التخصيص حصل بسبب إخراج أفعال العباد الاختيارية ، فإن النظر فيها والفرق بينها وبين الأفعال الاضطرارية أدى إلى التخصيص ، فالباء هنا للسببية ، وفيما سبق صلة التخصيص. وبالله التوفيق.

(وما قيل) لبيان أن الفعل مكسوب للعبد تتعلق به قدرته لا على وجه التأثير ، ومخلوق لله تعالى تتعلق به قدرته على وجه التأثير (إيجاد الحركة) برفع «إيجاد» مبتدأ وقوله : (غير الحركة) خبره ، والجملة وما بعدها هو المقول ، وهو بدل من ما قيل ، و «ما» مبتدأ ، خبره قوله فيما بعد «فأجنبي» ، والمعنى أن إيجاد الحركة غير الحركة نفسها بلا شك (فالإيجاد) هو (فعل الله تعالى ، والموجود وهو الحركة فعل العبد ، و) العبد (موصوف به حتى يشتقّ له) أي : للعبد (منه اسم المتحرك ، وليس يشتق للموجد اسم من متعلق فعله ، فلا يقال لموجد البياض في غيره : أبيض) ولا لموجد السواد في غيره أسود ، ولا لموجد الكلام في جسم متكلم ، كما مر في محله (بخلاف من قام به) البياض ونحوه ، كالسواد والكلام ، إذ يشتق له منه اسم فيقال : أبيض وأسود ومتكلم ، وقوله : (فأجنبي) هو خبر «ما» كما مر ، يعني أن مقول قيل «أجنبي عما نحن فيه» وهو التعلق لا على وجه التأثير ، (إذ لا يتعرّض) هذا المقول (إلا لكونه) أي : العبد (متصفا بالعرض) من البياض والسواد والكلام ونحوها (بعد إيجاد غيره إياه (١) فيه) أي : إيجاد غير العبد ذلك العرض في العبد ، (وهذا) أي : اتصاف العبد بالعرض الذي أوجده غيره فيه (لا يوجب دخوله) أي : العرض (تحت اختياره) بحيث يتوقف وجوده على اختيار العبد ، (فضلا عن تعلق قدرته) أي : العبد (به) أي : بذلك العرض ، فلم يفد المقول المطلوب وهو إثبات تعلق قدرة العبد لا على وجه التأثير والإيجاد.

(فإن قيل :) في إثبات تعلق قدرة العبد لا على وجه التأثير (قام البرهان) من

__________________

(١) في (ط) : أبدا.

١١٥

العقل والنقل كما تقدم في صدر هذا الأصل (على وجوب كون كل موجود صادرا عن قدرته تعالى ابتداء بلا واسطة ، و) قام البرهان أيضا من العقل (على وجوب تعلق قدرة العبد بأفعاله الاختيارية للعلم الضروري بالتفرقة بين حركتيه صاعدا وساقطا) بأن حركته صاعدا اختيارية وحركته ساقطا اضطرارية ، (فنقول بهما) أي : بالأمرين اللذين قام البرهان على كل منهما (وإن لم تعلم حقيقة كيفية هذا التعلق) وهو الثاني منهما (فإنه) أي : علم كيفية هذا التعلق (غير لازم لنا) إذ لسنا متعبدين بتعرف مثل حقيقة كيفيته (١).

(قلنا :) في الجواب : (حاصل هذا) الذي قررتموه (اعترافكم بأن العلم الضروري بتعلق قدرة العبد بحركته صاعدا) أمر (ثابت) لا ارتياب فيه ، (ثم) بعد اعترافكم بذلك (ادّعيتم أنه) أي : الشأن (ألجأ إلى كونه على خلاف المعقول من معنى تعلق القدرة بمقدورها ، من كونه بلا تأثير وإيجاد لا ندري على أي وجه هو ملجئ) وحل هذا التركيب أن قوله : «ألجأ» فعل ماض ، فاعله قوله آخرا : «ملجئ» ، وقوله : «من معنى» متعلق بالمعقول ، وقوله : «من كونه بلا تأثير» بيان لقوله : «خلاف».

أي : ثم ادعيتم أنه ألجأكم ملجئ إلى القول بكون تعلق قدرة العبد بالفعل على وجه يخالف ما يعقل من معنى تعلق القدرة بمقدورها ، وذلك الوجه المخالف هو أن تعلق قدرة العبد بلا تأثير منه وإيجاد للمقدور ، وإنكم لا تدرون كيفية ذلك التعلق ، والعطف في قوله : «وإيجاد» تفسيري (و) ذلك الملجئ (هو براهين وجوب استناد كل الحوادث إلى القدرة القديمة بالإيجاد) وقد تقدم بعضها في صدر هذا الأصل (وهو) أي : ما ادعيتموه من أنه ألجأكم إلى تلك البراهين المشار إليها (غير صحيح ، فإن تلك البراهين إنما تلجئ لو لم تكن) أي : تلك البراهين (عمومات لا تحتمل التخصيص) كذا فيما رأيته من النسخ ، واللائق حذف «لا» ، بأن يقال : «لو لم تكن عمومات تحتمل التخصيص بأن كانت غير عمومات ، أو عمومات لا تحتمل التخصيص» ، ويدل لكون اللائق حذف «لا» أنه المناسب لقوله : (فأما إذا كانت إياها) أي : فأما إذا كانت عمومات تحتمل التخصيص (ووجد ما يوجب

__________________

(١) الكيفية : هي عرض لا يقتضي لذاته قسمة ولا نسبة ، وتنقسم إلى أربعة أقسام : الكيفية الجسمية والكيفية النفسية والكيفية الاستعدادية والكيفية الكمية ، والكيفية الأخيرة تندرج ضمن الأولى وتعد اعتبارية من جهة النسبة لصعوبة تحديدها.

١١٦

التخصيص فلا) تلجئ البراهين المشار إليها إلى ما ذكرتم (لكن الأمر كذلك) وهو أن البراهين المذكورة عمومات تحتمل التخصيص ، لها مخصص (وذلك المخصص أمر عقلي هو أن إرادة العموم فيها تستلزم الجبر المحض).

وقوله : (المستلزم) صفة كاشفة للجبر المحض ؛ لأن من شأن الجبر المحض أنه مستلزم (لضياع التكليف وبطلان الأمر والنهي) وفي ذلك إبطال الشرائع.

وقد علمت مما مر أن احتمال التخصيص لا يقتضي إسناد جميع أفعال العباد إليهم ، وأنه يكتفى في بيان حقية مذهب أهل السنة بإسناد جزئي واحد قلبي.

هذا ، ومما يضعف رعاية احتمال التخصيص ويقوي المحافظة على العموم ما أمكن أن سياق النصوص المشار إليها في معرض التمدح ينافي التخصيص ، فليتأمل.

ولما كان ما ذكره المصنف إنما يأتي في النقليات ؛ لأن العموم وتخصيصه من خصائص النقليات ، ورد أن يقال : «بقي أن يكون الملجئ هو البراهين العقلية» وما ذكرت لا تعرض فيه لها.

فأجاب عنه بقوله : (وأما ما ذكروه من العقليات مما موضعه غير هذا المختصر) كتأليفات الإمام (١) ، و «المواقف» ، و «المقاصد» وشرحيهما (فليس شيء منها لازما) للخصم يصلح مستندا للإلجاء المدعى (على ما يعلمه الواقف عليها بأدنى تأمل) فيها ، (وكيف) يكون شيء منها لازما (ولو تم منها ما) أي : دليل (يلجئ إلى ما ذكر) من كون التعلق على وجه يخالف المعقول (استلزم ما ذكرنا) من (بطلان التكليف ، وقد قدمنا أن تعلق القدرة بلا تأثير لا يدفعه) أي : لا يدفع استلزامه بطلان التكليف ، (لأن الموجب للجبر) أي : للقول بالجبر المحض (ليس سوى أن لا تأثير) أي : ليس سوى قولنا بأنه لا تأثير (لقدرة العبد في إيجاد فعل) أصلا ، (وهو) أي : الجبر ، والمراد اعتقاد الجبر (باطل ، وملزوم الباطل باطل) فملزوم الجبر وهو موجبه يعني اعتقاد أن لا تأثير لقدرة العبد في إيجاد فعله باطل.

(ولهذا صرح جماعة من محققي المتأخرين من الأشاعرة بأن مآل كلامهم هذا) أي : مرجع قولهم أن قدرة العبد تتعلق لا على وجه التأثير الذي يؤول إليه آخرا (هو الجبر ، وأن الإنسان مضطر في صورة مختار) لوقوع الفعل على وفق

__________________

(١) الغزالي ؛ ومنها الاقتصاد في الاعتقاد ، ومعارج القدس ، وقواعد العقائد ، وقانون التأويل ، وتهافت الفلاسفة ، والمنقذ من الضلال ... الخ.

١١٧

اختياره ، من غير تأثير لقدرته المقارنة له (١).

(واعلم أنّا لما ذكرنا) آنفا (أن ما أورده من) متمسكاتهم (العقليات التي ظنوا إحالتها استناد شيء) أي : ظنوا أنها تدل على استحالة استناد شيء (من الأفعال الاختيارية إلى العباد لم تسلم) هذا خبر «أن» ، أي : لما ذكرنا أن ما أورده من العقليات لم تسلم من القدح ونبهنا على بطلانه بالاستلزام الذي ذكرناه (لم يبق عندنا في حكم العقل مانع عقلي من ذلك) أي : من تأثير قدرة العبد في الفعل ؛ لأنا لم نجد ما يمنع من ذلك عقلا ؛ بل قد وجدنا ما يدل على انتفاء المانع من ذلك ، (فإنه لو عرّف الله تعالى) العبد (العاقل) أي : أعلمه (أفعال الخير والشر ، ثم خلق له قدرة أمكنه بها من الفعل) لما أمر به من الخير ، (والترك) لما نهى عنه من الشر ، (ثم كلّفه بإتيان الخير) أي : بأن يأتي به (ووعده عليه) أي : على الإتيان به الثواب ، وترك الشر) أي : وكلفه بترك الشر (وأوعده عليه) أي : على الشر إذا أتى به بالعقاب ، وقوله : (بناء) متعلق بقوله : «كلفه» أي : كلفه بذلك بناء (على ذلك الإقدار) أي : خلق القدرة المذكورة (لم يوجب ذلك) هذا جواب «لو» أي : لو وقع ما ذكر من تعريف الأمرين وخلق القدرة والتكليف بما ذكر لم يوجب وقوع هذه الأمور (نقصا في الألوهية) ليكون مانعا من القول بتأثير قدرة العبد (إذ غاية ما فيه) أي : ما في وقوع الأمور المذكورة (أنه) تعالى (أقدره) أي : أقدر العبد العاقل (على بعض مقدوراته تعالى ، كما أنه أعلمنا) معشر العباد العقلاء (بعض معلوماته سبحانه تفضلا) منه تعالى ، ولم يوجب ذلك نقصا في الألوهية وفاقا منا ومنكم (٢).

وقوله : (وإن كان قد يرى) أي : يظن (فرق بين العلم والخلق ؛) إشارة إلى سؤال بإيراد جوابه.

أما السؤال فهو أن يقال : جعلكم الخلق كالعلم فيما ذكرتم قياس مع وجود

__________________

(١) منشأ هذا القول ؛ أن الأشاعرة نظروا إلى صور تسلسل الفعل ، والمحددة بخمسة : ١ ـ مرحلة تصور الفعل ، ٢ ـ مرحلة تصور دواعيه ، ٣ ـ مرحلة التردد لموازنة الأسباب والدواعي ، ٤ ـ مرحلة الحكم والترجيح المتضمن للفعل ، ٥ ـ مرحلة تحقق الفعل. فالاختيار في المراحل الثلاث معدوم ، وكذا في المرحلة الخامسة ، بينما يوجد الاختيار في المرحلة الرابعة.

(٢) يناقش الماتريدية الأشاعرة في نظرية الكسب ، بإبراز اختلاف خالقية الإنسان عن خالقية الله الذي يخلق من العدم ، وإثبات حرية الإنسان من استحقاقه الثواب والعقاب لاستعماله قدرته وتوجيهها إلى فعل من الأفعال ، ولقد تكلمنا عن نظرية الكسب عندهم ، فراجعه في ص ٨٣.

١١٨

الفارق ، وهو أن الخلق من خصائص الألوهية كما قال تعالى : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) (سورة فاطر : ٣) بخلاف العلم فقد ورد في الكتاب العزيز إثبات العلم للعباد في غير موضع.

وقوله : (لكن لا يقدح) هو الجواب ، أي : ما أبديتموه من الفرق لا يقدح في المقصود ، وهو أن إقدار العبد على بعض المقدورات لا يوجب نقصا في الألوهية (كما ذكرنا) آنفا ، (إذ كان سبحانه غير ملجأ) بصيغة المفعول (إلى ذلك) أي : إلى إقدار العبد على بعض المقدورات (ولا مقهور عليه) ليلزم النقص المحذور ، (بل فعله سبحانه باختياره) أي : بإرادته تعالى (في قليل) من المقدور (لا نسبة له بمقدوراته) أي : إلى مقدوراته التي لا تتناهى ، فالباء هنا بمعنى «إلى» كما في قوله تعالى : (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي) (سورة يوسف : ١٠٠) أي «إليّ». وستعرف أن ذلك القليل الذي هو محل قدرة العبد هو العزم المصمم.

وقوله : (لحكمة) متعلق بقوله : «فعله» أي : فعل تعالى ذلك الإقدار لحكمة (صحة التكليف واتجاه الأمر والنهي) فإن نفي تأثير قدرة العبد يستلزم بطلان التكليف وعدم اتجاه الأمر والنهي كما مر ، (مع أنه) أي : مع أن ذلك القليل الذي أقدر عليه العبد من أفعاله إذا أوجده (لا تنقطع نسبته إليه) أي : إلى الباري (تعالى بالإيجاد ؛ لأن إيجاد المكلّف لها إنما هو بتمكين الله تعالى إياه منها وإقداره عليها ، غير أن السمع ورد بما يقتضي نسبة الكل إليه) تعالى (بالإيجاد ، وقطعها) أي : قطع نسبة الإيجاد (عن العباد) كقوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦)) (سورة الصافات : ٩٦) ، (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (٤٩) (سورة القمر : ٤٩) ، (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) (سورة فاطر : ٣).

فإن قلت : الفرق الذي تقدم (١) ذكره قادح باعتبار أن الله تعالى أخبر بأنه علّم العباد بعض معلوماته ، وأخبر بأنه لا خالق غيره وبأنه خالق كل شيء أي موجده ، فلو أوجد العبد شيئا لزم الخلف في خبره تعالى ، والخلف في خبره تعالى محال.

قلنا : نمنع (٢) لزوم الخلف في خبره تعالى ؛ لأن خلق الشيء هو الاستقلال

__________________

(١) ليست في (ط).

(٢) في (م) : يمتنع.

١١٩

بإيجاده ((١) في خبره تعالى (١)) ، والعبد لا يستقل بإيجاد شيء ؛ بل العزم الذي قلنا إنه محل قدرته يتوقف وجوده على خلق الاختيار للعبد والتمكين من ذلك العزم كما سيأتي ، فلا استقلال للعبد بشيء ، فلا خلف في خبر الله تعالى.

وقوله : (فلنفي) علة سابقة على ما هي علة له ، وهو الوجوب في قوله : «وجب» أي : لأجل نفي (الجبر المحض وتصحيح التكليف وجب التخصيص) أي : وجب بالدليل العقلي تخصيص عموم الكل الذي اقتضى السمع نسبته إليه تعالى بالإيجاد ، (وهو) أي : ما ذكر من نفي الجبر وتصحيح التكليف ، أي : الحكم بصحته المتوقف ذلك على النفي المذكور (لا يتوقف على نسبة جميع أفعال العباد إليهم بالإيجاد) أي : على أن ينسب إليهم أنهم موجدون لجميع أفعالهم (بل يكفي لنفيه) أي : الجبر ، نسبه الفعل الواحد ـ وهو العزم الآتي ذكره ـ إليهم.

وتقرير ذلك : (أن يقال : جميع ما يتوقف عليه أفعال الجوارح من الحركات) إنما يوجد بخلق الله تعالى ، (وكذا التروك التي هي أفعال النفس) لأن المراد من الترك كف النفس عن الفعل ، وذلك الكف فعل للنفس ، إذ لا تكليف إلا بفعل كما تقرر في محله ، والمقصود هنا أن جميع ما يتوقف عليه التروك (من الميل) إلى الشيء الذي تكف عنه النفس ، (و) من (الداعية) التي تدعو إليه ، (و) من (الاختيار) له إنما يوجد الجميع (بخلق الله تعالى) ، وجهة توقف التروك على ذلك ظاهرة ، إذ لا يتحقق كف النفس إلا عما مالت إليه ودعت له وتعلق به الاختيار ، والحاصل أن جميع ما يتوقف عليه أفعال الجوارح وأفعال النفوس (لا تأثير لقدرة العبد فيه ، وإنما محل قدرته) أي : العبد هو (عزمه عقيب خلق الله تعالى هذه الأمور في باطنه عزما مصمما بلا تردد ، وتوجهه توجها صادقا للفعل) أي : توجهه للفعل (طالبا إياه) توجها لا يلابسه شوب توقف.

وما بعد قوله : «عزما مصمّما» كالتفسير الموضح له ، وهذا العزم المصمم هو محل تأثير قدرة العبد ، وهو مسمى الكسب عند الحنفية (٢).

__________________

(١) سقط من (م).

(٢) رأى بعض العلماء أن الماتريدية التزموا بأعدل المسالك في مسألة خلق أفعال العباد بين الجبر والاختيار. انظر : موقف البشر تحت سلطان القدر ، لمصطفى صبري ، ص ١٦١.

١٢٠