الوهابيّون والبيوت المرفوعة

الشيخ محمد علي بن الحسن الهمداني السنقري الكردستاني

الوهابيّون والبيوت المرفوعة

المؤلف:

الشيخ محمد علي بن الحسن الهمداني السنقري الكردستاني


المحقق: لجنة من العلماء
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٢
الصفحات: ١٢٨

وبالجملة فان النذر عنهم ، لا لهم.

فاين تذهبون وأنّى تؤفكون؟

وما هذا الرمي بالباطل والإفك العظيم؟

سبحانك اللهم ما أحلمك!

وكيف كان ، فقد انقدح بما ذكرنا في المقامين : أنّ استدلال المموِّه المغالط بالمتشابه من آيات الشفاعة على دعواه ، غلط باطل ، وخلط ظاهر فساده.

كفساد استدلال المعتزلة والخوارج على نفي الشفاعة بها تارة ، واخرى بقوله تعالى : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) ، ومرّة بقوله : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ).

فإنّ الآيات ـ كما عرفت ـ سوقها للكفّار ، وأنّ الظالم على إطلاقه هو الكافر بقرينة العهد وخصوصية مورد النزول.

فسلب المقيّد لا يستلزم سلب المطلق ، ونفي المطاع لا يستلزم نفي المجاب ؛ بمعنى أنّ نفي الشفيع الخاصّ لا ينافي إثبات مطلق الشفيع والشفاعة.

وبداهة العلم بأنه تعالى ليس فوقه أحد ، وكون الشفيع لا محالة دون المشفوع ممّا لا يوجب حملها على نفي المجاب ، إذ غايتها أنّها سالبة كلّية ، ونقيضها السلب الجزئي الملازم للإيجاب الجزئي.

فسوق الآيات لعموم السلب لا لسلب العموم.

على أنّا لا نسلّم عموم الأزمان والأحوال فيها ؛ لجواز اختصاصها بموردها.

كما أن قوله تعالى : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) وقوله : (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) ممّا لا تدلّان على دعواه ، فإنّ نفي النصرة لا تستلزم نفي الشفاعة ؛ لانها طلب على خضوع ، وأما النصرة فربما ينبئ عن مدافعة ومكافئة.

٦١
٦٢

المقام الثالث

في ثبوت الأمر بالتوسّلات والاستغاثات والاستشفاعات.

وفيه الأمر ببناء الضرائح والقِباب المتعلّقة بمشاهدهم.

[توسل آدم عليه‌السلام بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم]

فقد صحّ حديث توسّل آدم بالنبيّ من قبل أن يخلقه الله ، ويبعثه إلى الدنيا ، وكذا غيره من الأنبياء.

كما في آيات المواثيق عن الأنبياء بنبوّته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال الله تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ).

وقال تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ) فيما ورد التفسير به.

فقد أجمع السنّة والجماعة على حديث التوسّل حتّى ابن تيميّة وابن القيّم.

وممّا ورد في التوسّل ما أورده الحاكم وصحّحه ، قال : (إنّ آدم لما اقترف

٦٣

الخطيئة ، قال : يا ربّ أسألك بحقّ محمّد لمّا غفرت لي. فقال : يا آدم كيف عرفته؟

قال : لأنك لما خلقتني نظرت إلى العرش فوجدت مكتوباً فيه : «لا إله إلّا الله محمد رسول الله» ، فرأيت اسمه مقروناً مع اسمك ، فعرفته أحبّ الخلق إليك) (١).

ويؤيّده : أنه لما سأل أبو جعفر المنصور الإمام مالكاً ، فقال له : أأستقبل القبلة وأدعو الله ، أو أستقبل قبر النبيّ؟

فقال له : يا أبا عبد الله ، ولِمَ تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم!؟ (٢)

والقاضي أبو عمرو عثمان ابن أحمد رواه مرفوعاً عن ابن عبّاس ، عن النبي أنه قال : (لما اشتملت آدم الخطيئة ، نظر إلى أشباح تضيء حول العرش فقال : يا ربّ إنّي أرى أشباحاً تشبه خلقي ، فما هي؟

قال الله تعالى : هذه الأنوار أشباح اثنين من ولدك :

أحدهما محمد ، أبدأ النبوّة بك ، وأختمها به.

والآخر أخوه وابن أخي أبيه ، اسمه عليّ ، أُؤيّد محمّداً به ، وأنصره على يده.

والأنوار التي حولهما أنوار ذرّيّة هذا النبيّ من أخيه هذا ؛ يزوّجه ابنته تكون له زوجة ، يتصل بها أول الخلق إيماناً وتصديقاً له ، أجعلها سيّدة النسوان ، وأفطمها وذرّيّتها من النيران ، فتقطع الأسباب والأنساب يوم القيامة إلّا سببه ونسبه.

فسجد آدم شكراً لله أن جعل ذلك في ذرّيّته فعوّضه الله عن ذلك السجود أن أسجد له ملائكته ...) إلى آخره.

وما رواه القاضي زكريا الحنفي ـ قاضي قسطنطينة في عصر السلطان محمد

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين للحاكم ٢ / ٦١٥.

(٢) ذكر ذلك القاضي عياض في الشفا بالتعريف بحقوق المصطفى وانظر شفاء السقام للسبكي ، الباب الرابع ، دفع الشبه للحصني ص ١٤٠.

٦٤

الفاتح ـ ذكره في حاشية له على «الكشاف» في تفسير قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ) ، رُوي : أنّه الميثاق في المهدي من ولده ، القائم في آخر الزمان.

وتبعه تلميذه خرّم اوغْلي في تعليقته عليه.

[البيوت المرفوعة]

ومنها : ما رواه الشيخ ابن بِطْريق في «العمدة» عن الشيخ الحافظ أبي إسحاق أحمد بن محمد بن نعيم الثعلبي في كتاب «الكشف والبيان في تفسير القرآن» ، روى بإسناده عن القابوسي ، عن الحسين بن سعيد ، عن أبان بن تغلب ، عن نفيع بن الحارث ، عن أنس بن مالك ، عن بريدة.

ورواه غيره ـ من أعاظم أهل السُّنّة بطرقهم ـ عن أنس وبريدة وابن عباس أنه قال : قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ).

فقام إليْه رجل ، وقال : أيّ بيوت هذه يا رسول الله؟ قال : بيوت الأنبياء.

فقام إليه أبو بكر ، فقال : يا رسول الله هذا البيت منها؟ وأشار إلى بيت عليّ وفاطمة ، فقال : نعم ، من أفاضلها.

ثمّ ذكر :

وبيتٍ تقاصر عنه البيوت

وطال عُلوّاً على الفَرْقَدِ

تحوم الملائكُ من حولِهِ

ويصلح للوحي دار الندي

بيان : الآية عقيب آية النور (١).

والتقدير : أن المشكاة الثابتة في بيوت هذه صفتها.

__________________

(١) أي قوله تعالى الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة الآية (٣٥) سورة النور : ٢٤.

٦٥

والرازي : أنّ التقدير كمشكاة فيها مصباح في بيوت أذن الله ، وهو اختيار كثير من المحقّقين انتهى.

ولا شكّ أنّ البيوت أعمّ من المساجد ، ومن بيت علم الله ووحيه وأنوار هدايته تعالى.

كما أنها تعمّ الرجال ومساكنهم ومحلّ التعاهد إليهم.

ويؤيّده : قرينة المشكاة ، فإنّ مجرّد كون المشكاة في المساجد ممّا لا معنى محصّل لها ، ولا فائدة مهمّة لذكرها.

فالآية تمثيل لنور هدايته تعالى ، وإعلانه عن شرافة أهل بيت نبيّه وأطائب عترته ؛ ممن خصّهم الله بعلمه ونور هدايته ، ومن نصبهم لإرشاد عباده ، ومثّل نور هدايتهم المقتبسة من نوره تعالى بالمشكاة ، فالظرفية متعلّقة بالنور المذكور في صدر الآية ، لمظهريّته عن نور الله تعالى ، ولم تكن قيداً للمشبَّه ، ولا خبراً عن رجال.

ويؤيّد هذا التفسير للبيت : قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

وقد صحّ تفسيرها وتواتر من طرق السُّنّة والجماعة ، نزولها في خصوص الخمسة ممّن اجتمع تحت العباء الخيبريّة.

كما ورد في تفسير قوله تعالى : (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) : أنّها ليس المراد منها ظاهرها ، بل هي من الكنايات ، كما هو المتعارف في المحاورات.

ويؤيّده أيضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إنّ الله اختار من البيوتات أربعة ، ثمّ تلا قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ).

ويؤيّده قراءة أهل البيت «يُسبّح» بالمبني للمفعول ، والوقف على «الآصال» ، والابتداء ب «برجال».

٦٦

وفي المعتبرة من طرق الخاصّة عن الإمام جعفر بن محمد عليه‌السلام أنه قال : (التمسوا البيوت التي أذن الله أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه ، فإنّ الله أخبركم أنهم رجال).

ولما حضر قتادة قاضي قضاة البصرة عند الإمام أبي جعفر محمد ابن علي عليه‌السلام قال : «أصلحك الله يا ابن رسول الله ، والله لقد جلستُ بين يدي الفقهاء وقُدّام ابن عبّاس ، فما اضطرب قلبي قدّام واحد منهم ما اضطرب قُدّامك؟

فقال أبو جعفر : (أما تدري أين أنت؟! أنت بين يدي (بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ) ونحن أُولئك).

فقال له قتادة : صدقت والله جعلني الله فداك ما هي بيوت حجارة ولا طين». الخبر.

فقد ظهر : أن البيوت أعمّ من ذلك.

[معنى رفع البيوت]

كما أنّ الرفع بإطلاقه يعمّ جميع معانيه :

فكما أنّ رفعها يكون بالسير إليها ؛ لأخذ علومهم ومعارفهم التي ورثوها عن لسان الوحي ، وارتضعوها من ثدْي الرسالة.

كذلك يكون بالتعهّد لمشاهدهم وضرائحهم ، والتبّرك بها وتعظيمها ، والدعاء عندها وبتعميرها وبنائها وتشييدها ؛ لقوله تعالى : (رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها) ، وقوله تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ).

ويؤيّد هذا المعنى من الرفع حديث أبي عامر البناني ـ واعظ أهل الحجاز ـ قال : أتيت أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليهما‌السلام ، وقلت له : يا ابن رسول الله ما لمن زار قبره ـ يعني أمير المؤمنين ـ وعمّر تربته؟

٦٧

قال : يا أبا عامر ، حدّثني أبي ، عن أبيه ، عن جدّه الحسين بن عليّ ، عن عليّ عليهما‌السلام : أنّ رسول الله قال : (والله لَتُقتلَنّ بأرض العراق وتُدفن بها. قلت : يا رسول الله ما لمن زار قبورنا وتعاهدها؟ فقال لي : يا أبا الحسن إنّ الله جعل قبرك وقبر ولدك ، بِقاعاً من بقاع الجنّة ، وعَرَصة من عَرَصاتها ، وإنّ الله جعل قلوب نجباء من خلقه وصفوة من عباده ، تحنّ إليكم ، وتحتمل المذلّة والأذى ، فيعمرون قبوركم ، ويُكثرون زيارتها تقرّباً منهم إلى الله ومودّة منهم لرسوله ، أولئك ـ يا علي ـ المخصوصون بشفاعتي ، الواردون حوضي ، وهم زُوّاري غداً في الجنّة.

يا علي من عمّر قبوركم وتعاهدها ، فكأنّما أعان سليمان بن داود على بناء بيت المقدس.

ومن زار قبوركم عدل ذلك ثواب سبعين حجّة بعد حجّة الإسلام ، وخرج من ذنوبه حتّى يرجع من زيارتكم كيوم ولدته أُمّه.

فأبشر وبشّر محبّيك من النعيم وقُرّة العين بما لا عين رأت ، ولا أُذُن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.

ولكن حُثالة من الناس يعيِّرون زُوّار قبوركم كما تعيَّر الزانية بزنائها ، أُولئك شرار أُمّتي ، لا أنا لهم الله شفاعتي ، ولا يردون حوضي).

رواه السيّد الإمام المعظّم الزاهد العابد ، أبو المظفّر غياث الدين بن طاوس الحسيني بسلسلة إسناده ، عن عمارة بن يزيد ، عن أبي عامر البناني. ورواه غير واحد بإسناد آخر ، كما رواه الشيخ العلّامة عن محمد بن علي بن الفضل.

فالحديث يدلّ على تعمير القباب ، وعليه استمرار طريقة الأصحاب.

[الوسيلة إلى الله]

ومنها : قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ).

٦٨

ولا شكّ أنّ حسن التوسّل إنّما يحكم به الأدلّة الأربعة ؛ من الكتاب والسُّنّة والإجماع والعقل ، بل وعرف العادات في الملوك والسلاطين.

وهل العبادات والطاعات إلّا القُرُبات والوسائل لنيل المثوبات؟!

أو لا ترى أنّ لرفع الحاجات إلى الله وسائل واقعية ، من الدعاء والإلحاح ونوافل الصلوات والصدقات وأنحاء القُرُبات ؛ من الذبائح والتوسّلات.

وذلك لأنّها جرت عادة الله في الامور مجرى العرف والعادة بتوسّط الأسباب والمسبّبات ، فجعل للعقاقير دخلاً في الاستشفاء بها وأثراً في عالم الطبيعة ، وهو خالق الطبيعة وجاعل آثارها فيها.

ولكلّ نفل من العبادة خواصّ وآثار تزداد لفاعلها آثارها ، وهو تعالى يقدر على إعطائها بدونها ، مع علمه بحوائج عباده ولطفه الشامل لخلقه ، وجواز قضائها وإنجاحها بعلمه من غير توسيط تلك الوسائل ، ولو لا ذلك لزم إلغاء كثير من العمومات الآمرة بها ، ولكان الأمر بها لغواً وعبثاً ، تعالى الله عن ذلك عُلُوّاً كبيراً.

مع أنّ المشهود من الإجابة بتوسيطها ضروريّ محسوس لا ينكره إلّا مكابر.

ولا يتخلّف المشروط بها إذا لم يكن محتوماً ، وكان موافقاً لحكمته ومشيّته تعالى ، كما أنّها ربّما تتخلّف إن بلغت المسمّى المحتوم ، كما قال عليه‌السلام : (يا من لا تبدِّل حكمته الوسائل).

ألم تَرَ أنّ الله قال لمريمٍ

وهزّي إليك الجذع تساقطُ الرُّطَبْ

فلو شاء أن تجنيهِ من غير هزِّهِ

جنتْهُ ولكن كلّ شيء له سبب

فمن شدّة رأفته تعالى بعباده جعل لهم وسائل بينه وبينهم ؛ ليتشفّعوا للمرتضين منهم بإذنه ، وللمتّخذين عهد التوحيد والإيمان به بكرمه ورحمته ، كما قال : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) ، أو (مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً).

٦٩

فلا بأس بمن توسّل إلى الله بمعظَّم ؛ من قرآن أو نبيّ أو وصيّ أو وليّ ونحوها من آياته العظيمة ، وسأل الله بحقّهم ، فإنّ حقّ الشيء وحاقّه وسطه ، وأوساطه ، وهم الوسائط بين عباده.

قال الجوهري : سقط فلان على حاقّ رأسه ؛ أي وسط رأسه ، وجئته في حاقّ الشتاء ، أي وسطه.

والفيروزآبادي : حقّه وحاقّه وسطه.

والمخلوقيّة ممّا لا تمنع الوساطة ، بل وإنّما تؤكّد العلاقة العابديّة والمعبوديّة ، وتؤيد ربطها بها ربط المتضايفين ، بل وهي الأنسب بمقام العبوديّة بما فيها من الإشارة إلى جلالة مولاه وعظمة معبوده.

فتفسير بعضهم الوسيلة بخصوص الفرائض ـ مع ما عرفت أنّها تعمّ الوسائل إلى الله كلّها ـ تفسير بالرأي.

قال ابن الأثير في «النهاية» في حديث الأذان : اللهمّ آتِ محمّداً الوسيلة ؛ هي في الأصل ما يتوصّل به إلى الشيء ويتقرّب به ، وجمعها وسائل. يقال : وَسَلَ إليه وسيلة وتوسّل ، والمراد به في الحديث القرب من الله ، وقيل : هي الشفاعة. انتهى.

وفي تفسير «الكشف والبيان» لأبي إسحاق الثعلبي عن الإمام جعفر بن محمّد عليهما‌السلام أنّه قال : (ابتغوا إليه الوسيلة : تقرّبوا إليه بالامام).

وهب أن المراد من الوسيلة الفريضة ، أوليست المودة لذوي القربى من الفرائض؟! بل وأهمّها المسئول عنها في قوله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى).

وإذ قد تبيّن من الآيات ثبوت الشفاعة للمرتضين وللمتّخذين عهد توحيدهم وإيمانهم بربّ العالمين.

وظهر : أنّ اتّخاذ العهد والارتضاء بحسب الإيمان ممّا لا يُنافي عدمها باعتبار

٧٠

فسق المعصية ، كما تقدّم ، فلا توجب المعصية ارتداداً وكفراً ، ولا تخرج العباد عن الارتضاء شيئاً ، فقد ثبت أنّ المعاصي ليست علّة تامّة للتعذيب ، وإنّما هي مقتضيات لو لا المانع عن التأثير.

فكما أنّ الله جعل بفضله وكرمه الندم عن المعصية توبةً وعفواً ، فلا غرو أن جعل الله الأمر بابتغاء الوسيلة بأوليائه ، وإيجاب فرض المودّة لذوي قربى نبيّه وأطائب عترته ولحمته ، مانعاً لها رافعاً لتأثيرها ، ماحياً لموضوعها ، مقرّباً أولياءهم إلى الله ، موجباً لنيل حوائجهم وإن رغم الراغمون ، وهنالك يخسر المبطلون.

ثمّ لا يخفى أنّ تفسيرهم الوسيلة هنا ، ليس بأعجب من تفسيرهم (الإمام) في الحديث المتواتر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (من مات ولم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتة الجاهلية) (١).

حيث قالوا : إنّ المراد من الإمام القرآن؟

مع وضوح فساده ، الظاهر من إضافة الإمام إلى الزمان ، المضاف إلى ما صدق عليه

الموصول في الحديث.

مع أنّ القرآن إنّما هو الإمام المستمرّ الباقي ، الذي لا يختصّ بزمان دون زمان.

فلم يكن لتفسيرهم في المقامين وجه ، فتدبّر.

__________________

(١) وفي مسند أحمد ٤ / ٩٦ : من مات بغير إمام ... ، وفي المستدرك على الصحيحين للحاكم ١ / ٧٧ و ١١٧ : ومن مات وليس عليه إمام ... ، ونقله في مجمع الزوائد ٥ / ٢٢٤ ، ورواه بلفظ بغير إمام في مجمع الزوائد ٥ / ٢١٨ ، وبلفظ : ليس لإمام ... ٥ / ٢١٩ ، ورواه في كنز العمال ١ / ١٠٣ بلفظ (بغير إمام) عن أحمد والطبراني ، وبلفظ (ليس عليه إمام) في ١ / ٢٠٧ وانظر ٢٠٨ و ٦ / ٦٥ ، ولكن أكثر مصادر الحديث اثبتوها بألفاظ اخرى مثل (بغير سلطان ، أو أمير أو بغير طاعة ، أو من فارق الجماعة ، أو ليس في عنقه بيعة ... ، ولاحظ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا علي ، من مات وهو يبغضك مات ميتة جاهلية. رواه الطبراني في الكبير رواه في مجمع الزوائد ٩ / ١١١ و ٩ / ١٢١ و ١٢٢ ، وكنز العمال ١١ / ٦١١ و ١٣ / ١٥٩.

٧١

[التوسل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم]

هذا ، وقد صحّ حديث التوسّل بالنبيّ من أعيان الصحابة من قبل ، بل والتوسّل بغير النبيّ من الصحابة.

ومن ذلك حديث استسقاء عمر بن الخطاب بوجه عباس بن عبد المطلب عمّ النبي ، وقوله : «اللهمّ إنّا كنّا نتوسّل إليك بنبيّك فتسقينا ، وإنّا نتوسّل إليك بعمّ نبيّك فاسقِنا». رواه البخاري في الصحيح.

مع أنّ صحّة التوسّل بغير النبيّ ممّا يدلّ بالفحوى على التوسّل بأطائب عترته وأهل بيته.

ورواه ابن عبد البر في «الاستيعاب» ، وغيره في غيره ، وفيه : «فأرْختِ السماء عَزالِيَها (١) ، فأخصبت الأرض. فقال عمر : «هذه والله الوسيلة إلى الله والمكان منه».

[تعظيم الشعائر]

ومنها قوله تعالى في سورة الحجّ : (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ).

فسّر الشعائر بمعالم الدين وطرقه المنصوبة إلى الله تعالى وإلى معارفه ، بل وإطلاقه شامل لكلّ ما يُشعر ويشير إليه تعالى ويعرّفه سبحانه.

ففي «النهاية» لابن الأثير عن الأزهري قال : الشعائر المعالم التي ندب الله إليها وأمر بالقيام عليها.

وقال السيوطي : الشعار العلامة ، فالبدنة ـ وهي النُّسُك للحاجّ القارن ـ من

__________________

(١) العَزالي والعَزالَى : مصبّ الماء من القِرْبة ونحوها.

٧٢

إحدى مصاديق الشعار ، كما هو الظاهر من قرينة «من» التبعيضية ، ودخولها على منتهى الجموع.

على أن ذكر البعض ممّا لا ينافي ثبوت الآخرين ، فتخصيص الشعائر بالهدْي والنُّسُك خاصّة دون غيره ، تخصيص بلا دليل.

فإن قلت : إنّ الدليل هو الجعل فيه دون غيره ، فتكون النُّسُك مجعولاً في الشعارية.

قلت : لما كانت البدنة لذاتها مع قطع النظر من اعتبار النُّسكيّة للحجّ ، غير ظاهرة في الشِّعاريّة ، كما أنّ النعل وتقليدها أيضاً كذلك ، فكانت ـ لا جرم ـ تحتاج إلى ما يصرفها إليها ، وهو قرينة الجعل.

كما أنّ الصفا والمروة والهرولة فيهما ، ممّا هي بذاتها مفتقرة إليها ، ولم تكن غنيّة عنها ، فنصّ عليها بقوله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ).

بخلاف ما إذا كان الشيء ظاهراً في الشعاريّة ، فإنّه لا يحتاج إليها ، فالتمسّك بإطلاق الشعار كافٍ في مصاديقه ما لم يقم دليل على خلافه في الشعاريّة.

هذا ، وأنت ترى أنّ المشاهد والقِباب المشرّفة للأئمّة وأكابر الصحابة من عترة الرسول ، بمظهريّتها عن أُولئك الأطائب ، من آيات الله ، وحملة علمه ووحيه وحماة دينه وشريعته والدعاة إليه ، من أظهر مصاديق الشعائر؟

كيف ، وهي البيوت التي (أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ).

كما أنّ الحليّ والحُلَل والزينة اللائقة بها فيها ، مما يقصد بها الأُبّهة الدينيّة ، تجاه الأجانب من منكري دين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ربّما تُعدّ أيضاً من الشعائر.

هذا كلّه لأنّ تعظيم ما هو شعائر الله مما يرجع إلى تعظيم الله سبحانه ، بل هو تعظيمه في الحقيقة ، والإنفاق في هذه السبيل إنّما هو من امتحان القلب للتقوى تقوى القلب.

٧٣

قال الرازي في قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) : أي امتحنها ليعلم منه التقوى ، فإنّ من يعظّم واحداً من أبناء جنسه لكونه رسولاً مُرسلاً ، يكون تعظيمه للمُرسِل أعظم ، وخوفه منه أقوى.

وهذا كما في قوله تعالى : (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) ؛ أي تعظيم أوامر الله تعالى من تقوى القلوب. انتهى.

[تعظيم حرمات الله]

ومنها : قوله تعالى في سورة الحجّ : (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ).

والحرمة والحرمات والحرام ما لا يحلّ انتهاكه ، وقيل : ما وجب القيام به ، وحَرُم التفريط فيه.

وتعظيمها ترك ملابستها تعظيماً لله سبحانه ، وتكريماً وإجلالاً لأمره ونهيه ، ومنه المَشْعر الحرام والمسجد الحرام والبلد الحرام والبيت الحرام والشهر الحرام ، كلّ هذا باعتبار وجوب رعاية القيام بتعظيمها وحرمة انتهاكها ، والتبرّك بها بإضافتها إلى معظمها.

وعقد الإحرام هو الالتزام بتروكه والإتيان بواجباته.

والمحرِم للحجّ هو الممنوع عمّا حرّمه الله عليه بدخوله في حرمه.

وتكبيرة الإحرام ؛ لأنّ المصلّي يكون معها ممنوعاً من الكلام ومن سائر المنافيات.

والمسلم محرم ؛ أي يحرم أذاه ؛ يعني بتسليمه إلى الله وخضوعه لوجه الله كأنه داخل في حرم الله.

فحرمة هذه العناوين كلّها بسبب إضافتها التشريفية وانتسابها إلى مشرّفها ومظهريّتها عنه سبحانه.

٧٤

ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في «أُحُد» كما في «صحيح البخاري» عن النبي لما طلع له «أُحد» ، فقال : (هذا جبل يُحبّنا ونحبّه. اللهمّ إنّ إبراهيم حرّم مكّة وإنّي أُحرّم ما بين لابتيها ، يعني المدينة) (١).

فتخصيصها بالمناسك دون غيرها تخصيص بغير دليل ، والإطلاق كافٍ لشموله جميع المصاديق ، كما تقدّم في الشعائر ، وقرينة اتّصالها بآية النُّسك لا تزيد على الإشارة إلى إحدى مصاديقها شيئاً ، فكيف بتخصيصها بها؟!

هذا وقد ورد في تفسير أهل البيت وباطن القرآن تفسيرها بهم عليهم‌السلام ، كما عن الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهما‌السلام في المعتبر أنه قال : (نحن حرمات الله الأكبر).

وفي المروي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما‌السلام أنه قال : (إنّ لله حرمات ثلاثاً ليس مثلهن : كتابه هو حكمته ونوره ، وبيته الذي جعله قبلة للناس ، وعترة نبيّكم) (٢).

وفي المرفوعة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : (ستّة لعنتُهم ولعنهم الله ، وكلّ نبيّ مجاب : الزائد في كتاب الله ، والمكذّب بقدر الله ، والمتسلّط بالجبروت ، ليذلّ من أعزّه الله ، ويعزّ من أذلّه الله ، والمستحلّ لحرم الله ، والمستحلّ لعترتي ما حرّم الله ، والتارك لسُنّتي).

[الاعتصام بحبل الله]

ومنها : قوله تعالى في سورة آل عمران : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً

__________________

(١) صحيح البخاري ٥ / ١٣٦ باب نزول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الحجر.

(٢) رواه الصدوق الإمامي في كتابه (معاني الأخبار ص ١١٨ وانظر كتابه الخصال ص ١٤٦ باب : لله عزوجل حرمات ثلاث).

٧٥

وَلا تَفَرَّقُوا)

قال الرازي في هذه الآية : أمر الله بالتمسّك والاعتصام بما هو كالأصل لجميع الخيرات والطاعات ، وهو الاعتصام بحبل الله.

واعلم أنّ كلّ من يمشي على طريق دقيق يخاف أن تزلق رجله ، فإذا تمسّك بحبل مشدود الطرفين بجانبي ذلك الطريق ، أمن من الخوف.

ولا شك أنّ طريق الحقّ طريق دقيق ، وقد زلقت أرجل الكثير من الخلق عنه ، فمن اعتصم بدلائل الله وبيّناته ، فإنّه يأمن من ذلك الخوف.

فكأنّ المراد من الحبل هاهنا كلّ شيء يمكن التوصّل به إلى الحقّ في طريق الدين ، وهو أنواع كثيرة.

ثمّ عُدّ منها العهد في قوله تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي).

ومنها القرآن ...

إلى قوله : وروي عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله حبلٌ ممدود من الأرض عترتي أهل بيتي) والحديث متواتر بين الفريقين (١).

وزاد فيما رواه عبد الله بن أحمد بن حنبل ، وأخرجه بإسناده عن ابن نمير ، عن عبد الملك بن سليمان ، عن عطية العوفي ، عن أبي سعيد الخدري ، عن

__________________

(١) حديث الثقلين متواتر بحكم جمع من أعلام الحديث وهو على كل حال مجمع على صحته ، فأورده مسلم في صحيحه ٧ / ١٢٢ ـ ١٢٣ ، وبشرح النووي ١٥ / ١٧٩ ـ ١٨١ ، وأحمد في المسند ٣ / ١٤ و ١٧ و ٢٦ و ٥٩ و ٤ / ٣٧١ ، والدارمي في السنن ٢ / ٤٣٢ ، والحاكم في المستدرك على الصحيحين ٣ / ١٠٩ ، وقال : صحيح على شرط الشيخين و ٣ / ١٤٨ وقال مثله ، والبيهقي في السنن الكبرى ٧ / ٣٠ و ١٠ / ١١٤ ، وانظر مجمع الزوائد للهيثمي ٩ / ١٦٣ ، وكنز العمال ١ / ١٨٦ و ٥ / ٢٩٠ و ١٣ / ١٠٤ و ٣ / ٦٤١ و ١٤ / ٤٣٥ ، واقرأ بحثاً مفصّلاً عن الحديث ومصادره ودلالته في مجلة (علوم الحديث) العدد الأول لسنة ١٤١٨ ه‍.

٧٦

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال بعده : (إنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض).

وقال : قال ابن نمير : قال بعض أصحابنا عن الأعمش أنّه قال : (انظروا كيف تخلّفوني فيهما).

وفي رواية : (ألا وإنّي مخلّف فيكم الثقلين : الثقل الأكبر القرآن ، والثقل الأصغر عترتي أهل بيتي ، وهما حبل الله ممدود بينكم وبين الله عزوجل ، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا ؛ سبب ـ أو طرف ـ منه بيد الله وسبب بأيديكم ؛ إن اللطيف الخبير قد نبّأني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض كإصبعيَّ هاتين وجمع بين سبّابتيه) الحديث.

وعن تفسير «الكشف والبيان» لأبي إسحاق الثعلبي في هذه الآية ، روي بإسناده ، رفعه إلى الإمام جعفر بن محمد عليهما‌السلام أنّه قال : (نحن حبل الله الذي قال الله : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)).

وفي حديث العنبري وقوله : (يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما هذا الحبل الذي أمرنا الله بالاعتصام به وألّا نتفرّق عنه؟

فأطرق مَليّاً ، ثمّ رفع رأسه ، وأشار بيده إلى عليّ بن أبي طالب ، وقال : هذا حبل الله الذي من تمسّك به عُصم به في دنياه ، ولم يضلّ به في آخرته.

فوثب الرجل إلى عليّ عليه‌السلام ، فاحتضنه من وراء ظهره ، وهو يقول : اعتصمت بحبل الله وحبل رسوله) الحديث.

وفي حديث محمد بن عبد الله المعمّر الطبري الناصبي ـ بطبرية سنة ٣٣٣ ـ رواه في وفد اليمانيّين على رسول الله ، والحديث مشهور إلى قوله : (فقالوا يا رسول الله بيّن لنا ما هذا الحبل؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هو قول الله : (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) فالحبل من الله كتابه ، والحبل من الناس وصيّي ، ولم يعلم تأويله إلّا الله) الحديث.

فالآية كناية عن الالتزام بمودّة ذوي القربى من أهل البيت وأخذ العلم منهم

٧٧

والتعظيم لآثارهم.

ومثله «العروة الوثقى» فيما أخرجه أبو المؤيّد موفّق ابن أحمد ، عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى ، قال : قال رسول الله لعليّ عليه‌السلام : (أنت العروة الوُثقى).

[أبواب البيوت]

ومنها : قوله تعالى : (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها).

والتقريب : أنّ الهداة من عترة الرسول إنّما هم أبواب مدينة علمه وخزنة وحيه ورسالته ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها ، ولا تُؤتى البيوتُ إلّا من أبوابها) (١).

والحديث متواتر اللفظ والمعنى في طرق الفريقين.

ورواه ابن بِطريق في (العمدة) بإسناده عن ابن المغازلي الواسطي الفقيه الشافعي في «المناقب» بإسناده عن علي بن عمر ، عن حذيفة ، عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي غير : (أنا مدينة الحكمة وعلي بابها) ، ومن أراد الحكمة فَلْيأتِ الباب).

وفيما أخرجه المناوي عن الترمذي (أنا دار الحكمة) ، وفي بعضها ما رواه بإسناده عن ابن المغازلي ، عن أحمد بن محمد بن عيسى سنة عشر وثلاث مائة معنعناً عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : (يا عليّ أنا المدينة وأنت الباب ، كذب من زعم أنه يصل المدينة إلّا من الباب).

__________________

(١) أورده الحاكم في المستدرك على الصحيحين ٣ / ١٢٧ ، وفي مجمع الزوائد ٩ / ١١٤ ، وكنز العمال ١٣ / ١٤٨ وتكلموا حول إسناده.

وقد أشبع الإمام المجتهد الحافظ أحمد بن محمّد بن الصديق الغماري الحسني المغربي المتوفي (١٣٨٠ ه‍) البحث عنه ، وأثبت صحّته في كتاب (فتح الملك العليّ بصحة حديث باب مدينة العلم علي) المطبوع طبعة ثانية بالقاهرة عام ١٣٨٩ ه‍.

٧٨

قال الرازي : فجعل الله إتيان البيوت من ظهورها كناية عن العدول عن الطريق الصحيح ، وإتيانها من أبوابها كناية عن التمسّك بالطريق المستقيم ، وهذا طريق مشهور في الكناية ، فإن من أرشد غيره على الوجه الصواب ، يقول له : ينبغي أن تأتي الأمر من بابه ، وفي ضدّه يقال : إنّه ذهب إلى الشيء من غير بابه.

قال الله : (فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) ، وقال : (وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا).

فلمّا كان هذا طريقاً مشهوراً معتاداً في الكنايات ذكره الله هاهنا. انتهى.

فقد ظهر : أنّ الآية كناية عن التمسّك والتوسّل بأهل البيت.

[اتخاذ المساجد]

ومنها قوله تعالى في سورة الكهف : (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً).

دلّت الآية بالتقرير والإمضاء على جواز العبادة عند قبور الأولياء والصالحين ، بل وعلى اتّخاذها للمسجديّة تبريكاً للمكان.

ففي «تفسير الجلالين» و «الكشّاف» وأبي السعود : (الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ) وهم المؤمنون (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) يصلّي فيه المسلمون ، ويتبرّكون بمكانهم ، وفعل ذلك على باب الكهف. انتهى.

وممّا أخرجه المناوي في «الكنوز» (١) عن الديلمي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إنّ بمسجد الخِيف قبرَ سبعين نبيّاً) ورواه أيضاً في (صفحة ١٠٥) عن الطبراني.

وفي (صفحة ٤١) فيما أخرجه عن الحكيم الترمذي في «النوادر» قوله عليه‌السلام : أنّ قبر إسماعيل في الحِجْر ، ورواه أيضاً «صفحة ١٠٦) عن الديلمي.

__________________

(١)

صفحة ٥٧.

٧٩

[الوهابيون والشعائر]

هذا كلّه ، مع ما كان الأحرى والأجدر بهؤلاء النجديّين ـ في صيانتهم لشعائر الدين ، ووجوب التحفّظ والرعاية لحرمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أطايب عترته ولحمته وأركان أصحابه وأعاظم العلماء والشهداء من حملة وحيه وعلمه.

إبقاء مآثرهم وضرائحهم وبقاعهم التي كان قد بناها المسلمون ، أداءً لفرض المودّة وأجر الرسالة.

كما كان الأوفق والأصلح لهم بجمع الكلمة واجتماع الأُمّة ، التبيُّن والتثبُّت فيما بلغهم عن موحّدي المسلمين من الإفك العظيم ، أو راموها بظنونهم فيهم ، فرموهم بها.

لا التهجّم عليهم بالهمجية بهدم قباب هؤلاء الأئمة وأطائب العترة ، ففعلوا ما فعلوا ، والتاريخ يعلن عمّا فعلوا ، وأغضبوا الله ورسوله.

كما كان الأوفى والأقرب بالنَّصف أن يكون لهؤلاء غنىً فيما استدلّ به السمهودي والسبكي والمدني والنووي والمناوي بالإجماع والكتاب والسُّنّة على الزيارات والتوسّلات.

وفيما أرسل إليهم الشيخ الوحيد والمصلح الكبير بذلك الكتاب الناصح المشفق ؛ بما فيه من الدلائل الواضحة والبراهين القويّة ، من الكتاب والسُّنّة وإجماع الأُمّة في جوامع ما عليه الإماميّة من التوحيد وتنزيهم عن إفك الشرك لو أنصفوا ولم يعودوا.

[أهداف الفرقة]

وكان الباعث لهم في الحقيقة إلى تعذيب المسلمين وإلقاء نار الشِّقاق في الموحّدين ، هو ما تمكّن في نفوسهم من حبّ الاستئثار بالسطوة والسلطان ،

٨٠