الوهابيّون والبيوت المرفوعة

الشيخ محمد علي بن الحسن الهمداني السنقري الكردستاني

الوهابيّون والبيوت المرفوعة

المؤلف:

الشيخ محمد علي بن الحسن الهمداني السنقري الكردستاني


المحقق: لجنة من العلماء
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٢
الصفحات: ١٢٨

القيامة بالصلوات عليه فيقولوا : (السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته).

وفرض السلام على عباد الله الصالحين من جميع المؤمنين السالفين منهم واللاحقين.

وأن لا يتمّ لأحد صلاته إلّا بالصلوات على نبيّه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الطاهرين. ولَنِعْم ما قال الشافعي ، كما روى عنه ابن حجر في «الصواعق» :

يا آل بيتِ رسول الله حبُّكُمُ

فرضٌ من الله في القرآنِ أنزلَهُ

كفاكُمُ من عظيم الفخرِ أنّكُمُ

من لا يصلّي عليكم لا صلاةَ لَهُ

[دفاع الآلوسي]

وأمّا ما ذكره ابن الآلوسي البغدادي فيما روّج به أمر الوهابيين من «تاريخ نجد» ـ في صفحة ٤٨ ـ قال :

والذي اعتقدوه في النبيّ أنّ رتبته أعلى مراتب المخلوقين على الإطلاق ، وأنّه حيّ مرزوق في قبره حياة مستقرّة أبلغ من [حياة] الشهداء المنصوص عليها في التنزيل ؛ إذ هو أفضل منهم ، وأنّه يسمع سلام من يسلّم عليه ، وأنّه تسنّ زيارته غير أنّه لا تُشدّ إليه الرحال.

ففيه أوّلاً : أنّ صراحة الآيات المحكمة في التنزيل ، كما تراها ممّا تعمّ النبيّ وغيره من الشهداء والأولياء ممّن قُتل في سبيل الله ، فلا اختصاص لها بالنبيّ ، وإلّا لأفرده الله بالذكر دونهم.

وإذا كان كذلك فيتبعها لا محالة آثارها ولوازمها ، من السلام والدعاء والتوسّل ، كما في حياتهم.

وثانياً : أنّ المراد من الحياة الثابتة لهم بقوله تعالى : (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ

٤١

يُرْزَقُونَ) إنّما هو الأكمل والأبلغ من الحياة البرزخيّة الثابتة لعموم الموتى ، وذلك لوجهين :

الأوّل : تخصيص الشهداء بالذكر هنا دونهم.

والثاني : إفراد سائر الموتى بالذكر في آية أُخرى ، لقوله تعالى فيهم : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا).

وقال في حياة الكفّار منهم : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) ؛ وذلك لأنّ حياة القيامة ليس فيها بُكرة ولا عشيّ. هذا مع رعاية الأفضليّة.

وفي المعتبرة أنّه لما سُئل النبيّ عن تكلّم الموتى ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (نعم إنّهم يتزاورون).

وشواهد المقام لا تُحصى.

فقد ظهر فساد قوله في رسالته : ونحن أنكرنا الاستغاثة التي يفعلونها عند قبور الأولياء ، التي لا يقدر عليها إلّا الله.

فإنّك بعد ما عرفت النصوص الصريحة من القرآن ، مع تصريح هؤلاء الوهّابيين واعترافهم للأولياء والصالحين بحياتهم المستقرّة ، وأنّهم فيها مرزوقون منعّمون ، فرحون مستبشرون ، متزاورون ، ولمن حيّاهم بتحيّة ، أو سألهم مسألة سامعون ، وبهم عارفون ، وإلى الله متضرّعون سائلون ، فقد اعترفوا بالمقدور.

وأمّا رفع الحاجة والسؤال في كلّ حال من الأحوال إلى الله القادر على كلّ شيء فممّا ليس فيه إشكال.

[السنة والسيرة في زيارة القبور]

وأما شدّة إنكارهم لزيارة القبور والوقوف عليها والدعاء لديها.

فالجواب عنه فضلاً عمّا عرفت : هو البيان بدليل القرآن وجميع المأثور في

٤٢

زيارة القبور وما ورد في فضلها ، وأنها من السُّنّة ، وما ورد من الأعمال والأدعية هناك.

فضلاً عن سيرة رسول الله في زيارته شهداء أُحد ، وحضوره لزيارة مقابر البقيع ، ووقوفه عليها في الترحيم والتسليم ، وأمره وحثّه وترغيبه وتقريره عليها.

كما ورد قوله : (كنتُ قد نهيتُكم عن زيارة القبور ألا فزوروها ، فإنّها تذكّركم الآخرة) (١).

وفي المروي عن الحاكم عن أبي ذر قوله : (زر القبور تذكر بها الآخرة) ، ومثله المرويّ عن أبي هريرة فيما سيأتي بيانه.

وقد روى حجّة الإسلام الغزالي في الإحياء عن ابن أبي مليكة ، قال : «أقبلت عائشة يوماً من المقابر ، فقلت : يا أُمّ المؤمنين من أين أقبلت؟ قالت : من قبر أخي عبد الرحمن. فقلت : أليس كان رسول الله نهى عنها؟ قالت : نعم ، ثمّ أمر بها».

والسرّ في النهي الأوّل : أنه كان ذلك بدوَ الإسلام ، وفي زيارة القبور وتذكار الموتى كان باعثاً على الجبن عن الجهاد ، حتّى إذا قوي الإسلام أمرهم بها.

ومثله غير عزيز.

وقد سُئل عليّ عليه‌السلام في الخضاب عن قول النبيّ (غيّروا الشيب ، ولا تشبّهوا باليهود) فقال : (إنّما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك والدين قلّ ، فأما الآن وقد اتّسع نطاقه ، وضرب بجرانه ، فامرؤ وما اختار).

وفي الإحياء عن ابن أبي مليكة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (زوروا موتاكم ،

__________________

(١) سنن النسائي ٤ / ٩٠ و ٧ / ٢٣٥ ، وفي مسلم ٣ / ٦٥ وفيه : تذكّر الموت ، وكذا ابن ماجة ١ / ٥٠١ ، ومستدرك الحاكم ١ / ٣٧٥ ، والسنن الكبرى للبيهقي ٤ / ٧٦ ، وعقد البيهقي باباً لخصوص زيارة القبور في البقيع فلاحظ ٥ / ٢٤٩ ، ولاحظ مجمع الزوائد ٣ / ٥٨ و ٤ / ٢٦ ، وكنز العمال ٥ / ١٠٨ و ٣٧٧ و ٨٥٩ ، وانظر ١٥ / ٦٤٦ وما بعدها.

٤٣

وسلّموا عليهم ، فإن لكم فيهم عبرة).

وفيه عن نافع ، عن ابن عمر : أنّه كان لا يمرّ بقبر أحد إلّا وقف عليه ، وسلّم عليه.

وكانت فاطمة بنت النبيّ تزور قبر عمّها حمزة في الأيّام ، فتصلّي وتبكي عنده.

وفيه : قال قال النبيّ : (من زار قبر أبويه أو أحدهما في كلّ جمعة غُفر له وكُتب بَرّاً).

وقال : قال رسول الله : (ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلّا استأنس به وردّ عليه روحه حتى يقوم).

وقال : قال سليمان بن سحيم : «رأيت رسول الله في النوم قلنا : يا رسول الله هؤلاء الذين يأتونك يُسلّمون عليك أتفقه سلامهم؟ قال : نعم وأردّ عليهم».

وقد تواترت الأحاديث الصحيحة الواردة عن آل محمد وحثّهم على زيارة الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم‌السلام.

[ابن تيمية يعترف بمشروعية الزيارة]

وقال أحمد بن تيميّة في رسالته التي عملها في «مناسك الحج» (١) : «فالزيارة الشرعية المقصود بها السلام على الميّت والدعاء له ، كما يقصد بالصلاة على جنازته ، فزيارته بعد موته من جنس الصلاة عليه ، فالسنّة أن يسلّم على الميّت ، ويدعو له ؛ سواء كان نبيّاً أو غير نبيّ ، وكما كان النبيّ يأمر أصحابه إذا زار القبور أن يقول أحدهم : السلام عليكم أهل الديار ... إلى آخر الزيارة.

قال : وهكذا يقول إذا زار أهل البقيع ومن به من الصحابة.

__________________

(١) صفحة ٣٩٢.

٤٤

وفي المنقول عن كتاب له في فتاواه (مسألة ٢٢) (١) قال : «لو سافر إلى المسجد النبوي ، ثمّ ذهب معه إلى قبا ، فهذا يستحبّ ، كما يستحبّ زيارة أهل البقيع وشهداء أُحد» انتهى كلامه.

وأما الدعاء عندها فلقوله تعالى : (وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ).

حيث ذكر المفسّرون ـ كأبي السعود والإمام الرازي وغيرهم من أعاظم المفسّرين ـ : أنّ النبيّ كان من عادته إذا دُفن الميّت ، وقف على قبره ساعة ، ودعا له.

ففي الآية دلالة على أنّ القيام على القبور للدعاء عبادة مشروعة ، ولو لا ذلك لم يخصّ بالنهي عن الكافر.

[إسلام السلفية والوهابية]

وبها استدلّ أيضاً شيخ الوهّابية ومؤسّس ديانتهم أحمد بن تيمية فيما نقل عنه من كتاب له في فتاواه (في جواب مسألة ٥١٨) (٢) قال :

«فأمّا الزيارة الشرعية فهي من جنس الصلاة على الميّت ؛ يقصد بها الدعاء للميّت ، كما يقصد بالصلاة عليه ، كما قال الله في حقّ المنافقين (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) فلمّا نهى عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم ، دلّ ذلك بطريق مفهوم الخطاب وعلّة الحكم على أنّ ذلك مشروع في حقّ المؤمنين.

والقيام على قبره بعد الدفن هو من جنس الصلاة عليه قبل الدفن ؛ يُراد به الدعاء له.

__________________

(١) ص ١٨٦.

(٢) مجلد ٤ ص ٣٠٦.

٤٥

وهذا هو الذي نطقت به السُّنّة ، واستحبّه السلف عند زيارة قبور الأنبياء والصالحين».

انتهى كلامه على غلوّهم فيه وغلوّه في تحريم إتيان القبور والوقوف عليها والدعاء لديها وقراءة القرآن عندها.

وقد أورد الغزالي أيضا في «الإحياء» عن محمد بن أحمد المروزي ، قال : سمعت أحمد بن حنبل يقول : إذا دخلتم المقابر فاقرءوا بفاتحة الكتاب والمعوذتين وقل هو الله أحد ، واجعلوا ثواب ذلك لأهل المقابر ، فإنه يصل إليهم ...

إلى غير ذلك.

وبالجملة : فإذا كان الأمر كذلك.

فما معنى تخصيص جواز زيارة القبور بالنبيّ خاصّة دون غيره.

وما خصوصية الحاضر دون السفر إليه وشدّ الرحل نحوه؟!

أليس هذا هو التقوّل بالغيب والفتوى في دين الله بالريب؟!

هذا ، وأصالة الجواز فيما لم يرد فيه النهي كما تراها في الكل محكّمة ، وليست بمخصّصة ، وعلى مدّعيه الإثبات ، ودونه خرط القتاد.

أوليس قد صحّ ما ورد عن الغزالي عن النبي أنه قال : (من وجد سعة ولم يغدُ إليّ فقد جفاني).

فإنّ وجدان السعة إنما هو يصح للمسافر الذي يشدّ الرحل إليه.

[حديث لا تشدّ الرحال ...]

ومن العجب تمسّكهم في ذلك بحديث : (لا تشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد) المروي عن أبي هريرة.

مع أنّ ذكر المساجد في المستثنى بعد تسليم الحديث وصحّته ، دليل على أنّ

٤٦

المستثنى منه هو خصوص المساجد ، لا مطلق السفر ؛ أي لا تُشدّ الرحال إلى مسجد من المساجد ، فيكون الحديث ناظراً إلى الأمر بشدّ الرحال إلى المساجد المعظّمة لإدراك جمعتها وجماعتها ، وليس المراد النهي عن مطلق شدّ الرحل ، وإلّا لزم تخصيص الأكثر إذ لو أُخذ بعمومه لانتقض بمطلق الأسفار المباحة والمندوبة والواجبة ، مع وجوب شدّ الرحل إليها ، فليكن منها شدّ الرحال إلى المشاهد المشرّفة والبيوت التي أذن الله أن ترفع ، ويذكر فيها اسم الله ، ولتعظيم شعائر الله.

فإن قالوا هناك بالتخصيص قلنا فيها أيضاً ، وإن قالوا بالتخصّص فكذلك قلنا فيها.

[المؤلّفات في جواز الزيارات]

هذا مع ما روى بعض أجلّة الأعلام بما شاهد ممّا أُلّف وصُنِّف في هذا المقام.

فمنها : كتاب «شفاء السقام في زيارة خير الأنام» ، «شنّ الغارة على من أنكر فضل الزيارة) تأليف قاضي قضاة المسلمين في القرن الثامن ، الشيخ الحافظ تقي الدين أبي الحسن السبكي ، المطبوع بمصر ـ القاهرة ، المرتّب على أبواب في إثبات حياة الأنبياء والشفاعة وفضل الزيارة والسفر إليها ومسنونيتها ، وأنها من القربة ، وأبواب في الاستغاثات والتوسّلات.

ومنها : «الجوهر المنظّم في زيارة قبر النبي المكرّم» تأليف أحمد بن حجر الشافعي كذلك ...

إلى غير ذلك من المؤلفات.

[تناقض التصرّفات]

وأما قوله فيما اعترف به من حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّه يسمع سلام من يسلّم

٤٧

عليه» ، فهذا كلام من ينقض فعلُهُ قولَهُ ، ولا يعتقد بشيء مما يتفوّه به.

وإلّا ، فلِمَ لم يُراعوا بالأمس حرمته في حرمه وضريحه ، وقاتلوا وقتلوا من المسلمين حول حرمه وحماه ؛ ممّن يستغيث برسول الله ؛ وذلك بمرأى منه ومسمع فيسمعه إغاثته بقوله : وا محمداه! (١)

والناس إلى اليوم يُضربون على قول : «يا رسول الله»!؟

[لا فرق بين حياة الرسول وموته في تعظيمه]

وأيضاً ما يرون هؤلاء في قول الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) ، وكذا قوله تعالى : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) الآية.

هل هي من الأحكام الباقية إلى القيامة أم لا؟

فإن قالوا : لا ، فقد كذبوا وخالفوا كتاب الله والسيرة المستمرّة وإجماع الأُمّة.

وإلّا فليخبرونا ما الوجه في ذلك؟

ولْيذعنوا أنها ليس إلّا لحياته ولمعاملة الأُمّة معه معاملة الأحياء.

والعجب ممّن يظهر التحاشي ، وينكر إنكار السلف على من قصد دعاء الله عند القبر ، وقد شاع ما ورد في الكتب المعتبرة من فعل أعاظم الصحابة ، من الشيخين وغيرهما إلى زمان التابعين والخلفاء.

ولم يزالوا خلفاً عن سلف يتشرّفون بزيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويتبرّكون بحرمه وتقبيل قبره ومنبره من خارج الحرم ، بعد ما كانوا يدخلون عليه في بُرهة من الزمان ، وفي الحجرة عائشة ليس بينها وبين القبر إلّا حائل من ستر أو بناء من جدار.

__________________

(١) لقد انتشر نبأ قتل الوهابية للمسلمين اللاجئين بحرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جميع كتب التاريخ ، فراجع.

٤٨

ثمّ بنوا على القبر حيطاناً مرتفعة مستديرة حول القبر ، وبقي كذلك إلى أن بنوا جدارين من ركني القبر الشماليّين ، وحرّفوهما حتّى التقيا ؛ لئلّا يتمكّن أحد من استقبال القبر.

هذا ولم تزل الحجرة مزاراً للمؤمنين معاذاً للّائذين.

ومن أحاط خبراً بتاريخ السلف وترجمة أحوال مهاجري الصحابة علم أنّهم كانوا كثيراً ما يقصدون المدينة لإدراك زيارة الحجرة المنوّرة.

ولو لا خوف الإطالة لأتيتُ على ذكرهم ولملأتُ هذا الكرّاس من تراجمهم.

هذا ، ولم ينكر عليهم لا الشيخان ولا كبار الصحابة بشيء.

وهذا أمير المؤمنين علي عليه‌السلام أتى بعد موت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووقف على قبره الشريف ، وخاطبه بقوله : (طبت حيّاً ، وطبت ميّتاً ... إلى قوله : بأبي أنت وأُمّي اذكرنا عند ربك ، واجعلنا من بالك وهمّك ...) إلى آخر كلماته.

ووقف أيضاً يوم دفنه فاطمةَ عليها‌السلام على قبره ، وخاطبه بقوله : (السلام عليك يا رسول الله عنّي وعن ابنتك النازلة بفنائك ، البائتة في الثرى ببقعتك. قلّ يا رسول الله عن صفيّتك صبري ، وعفا عن سيّدة نساء العالمين تجلّدي ...) إلى آخر كلماته.

وهذا حسين بن علي عليهما‌السلام سبطه وفرخه ؛ لما أراد المسير إلى العراق ، أتى قبر جدّه وضريحه ثلاثة أيّام ، زائراً مودّعاً داعياً مصلّياً ، سائلاً منه التكليف لأمره وحرمه وصحبه ؛ مخاطباً إيّاه بقوله : (يا جدّاه أنا الحسين بن فاطمة ، فرخك وابن فرختك ، وسبطك الذي خلّفته في أُمّتك).

هل ترون أنّه كان بذلك مخاطباً للأموات؟

أم كان يسأله من أمره وتكليفه؟

ولم يزل حتّى أجابه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : (اخرج إلى العراق ، فإنّ الله شاء أن يراك قتيلاً ...) إلى آخر ما أجابه من أمر حرمه وعيالاته.

٤٩

وبالجملة : فإن كان المراد من النكير مجرّد الزيارة للقبور والتبرّك بها والصلوات والدعاء عندها ، فقد عرفت أنه أمر راجح مسنون ، وستعرف الأمر بها في العمومات من الآيات والقرآن العظيم ، فانتظر المقام الثالث.

وإن أراد من ذلك عبادتها واتّخاذها ـ معاذ الله ـ آلهة تُعبد من دون الله ، فحاشا ، ثمّ حاشا من ذلك.

حيث لم نَرَ ولم نشهد ولم نسمع أنّ أحداً من المسلمين اعتقد بشيء من ذلك ، أو خطر بباله ، فكيف بالشيعة الإماميّة ، وهم أوّل الموحّدين ، وأحوطهم في تقديس الله ربّ العالمين ، وأدقّهم في تقديسه ومعرفته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ ورثوا وأخذوا علومهم ومعارفهم عن مهابط الوحي والتنزيل؟!

فما معنى إنكار التبرّك بالقبور وزيارتها وتعاهدها ، وبناء القِباب عليها والوقوف عندها؟!

وأيّ وجه للرمي بأنّها وسيلة للشرك؟!

وقد علمت أنّه ليس ذلك إلّا للغايات الدينية ، حفظاً لآثارهم وقبورهم الكريمة ، وصيانة عن الاندراس والانطماس وفوات انتفاع المؤمنين بزيارتهم ، والإسراج بها لتلاوة القرآن وذكر الله عندها.

أو ما تقدّم أنّ العبادة ليست مطلق الخضوع ، وإلّا لكان الوهّابيّون الخاضعون لشهواتهم العابدون لأهوائهم في معاصيهم كفّاراً.

وإنّما العبادة هي الخضوع الخاصّ المقرون بالإخلاص عند أمر الله الواجب العظيم لذاته.

[تعظيم ما أمر الله ، هو من عبادة الله وطاعته]

على أنّ تعظيم المأمور به لتعظيم أمر الله ـ عزوجل ـ إنّما هو في الحقيقة

٥٠

عبادة الله وتعظيمه تعالى ؛ من غير فرق بين أن يكون ذلك المأمور به إنساناً أو حجراً أو مدراً أو غيرها ، كالأمر بالسجود لآدم فإنّه كان تعظيماً لأمر الله تعالى وعبادة له ، كما أنّه كان للملائكة امتحاناً ، ولآدم تشريفاً ، فإنّ الغايات تتعدّد بالاعتبارات.

وكذلك أمر الشارع بفرض الطواف على أحجار البيت ، وتقبيل الحجر الأسود واستلام الأركان والتزام المستجار.

وإلّا لكان الأمر بجميع ذلك أمراً بالشرك.

فمن تبرّك بشيء لأمر الله ، كان في الحقيقة عبادة الآمر به.

وهذا عبد الله بن أحمد بن حنبل ـ كما هو المروي عن كتاب «العلل والسؤالات» ـ قال : سألتُ أبي عن الرجل يمسّ منبر رسول الله ، ويتبرّك بمسّه وتقبيله ، ويفعل بالقبر ذلك رجاء ثواب الله.

فقال : لا بأس به.

فالتواضع والتبرّك والإكرام والاحترام لما هو معظَّم عند الله ، إنّما هو من تعظيم الله.

كما أنّ تعظيم بيوته ومساجده وقرآنه ، بل والجلد والغلاف منه ، إنّما هو لانتسابها إلى الله.

فمن قبّل الحجر الأسود أو عظّم البيت أو استلم الأركان أو وجد شيئاً من آيات القرآن وكلماته ملقًى مهاناً ، فبادر إليها برفعها وتعظيمها وتقبيلها ، فإنّما قبّل آيات الله وعظّم شعائر الله وتبرّك بآثار ربّه أينما وجدها وحيثما رآها.

فلها منزل على كلّ أرضٍ

وعلى كلّ دِمْنةِ آثارُ

ونعم ما قال العامري :

٥١

أمرّ على الديارِ ديارِ ليلى

أُقبِّلُ ذا الجدارَ وذا الجدارا

وما حبُّ الديارِ شَغفْنَ قلبي

ولكنْ حبُّ مَنْ سَكَن الديارا

كلا ، وليس استلام الحجر إلّا لاستحضار [معنى] المبايعة لله على طاعته ، والتصميم من المكلف لعزيمته على الوفاء ببيعته (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً).

ولذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (الحجر الأسود يمين الله في الأرض ؛ يصافح بها خلقه ، كما يصافح الرجل أخاه).

ولمّا قبّله عمر ، قال : «لأعلم إنّك حجر ؛ لا تضرّ ولا تنفع ، ولو لا أنّي رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقبّلك لما قبّلتك» (١).

فقال عليّ : (يا عمرُ مَهْ بل يضرّ وينفع ، فإنّ الله سبحانه أخذ الميثاق على بني آدم حيث يقول : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ) الآية ، القمه هذا الحجر ليكون شاهداً عليهم بأداء أمانتهم ، وذلك معنى قول الإنسان عند استلامه : (أمانتي أدّيتها ، وميثاقي تعاهدته ؛ لتشهد لي عند ربّك بالموافاة) (٢).

وكذلك التعلّق بأستار الكعبة والالتصاق بالملتزم ، إنّما هو لاستحضار طلب القرب من الله حبّاً لله ، وشوقاً إلى لقائه ، وتبرّكاً بالمماسّة ، والإلحاح في طلب الرحمة.

وهكذا أسرار السعي والهرولة بين الصفا والمروة والوقوفين

__________________

(١) الحديث إلى هنا في صحيح البخاري ٢ / ١٦٠ ، ومسلم ٤ / ٦٦ ، سنن النسائي ٥ / ٢٢٧ ، ولاحظ التخريج التالي.

(٢) أورد جواب علي عليه‌السلام لعمر ، الحاكم في المستدرك على الصحيحين ١ / ٤٥٨ وفي آخره :

فقال عمر : أعوذ بالله أن أعيش في قومٍ لستَ فيهم ، يا أبا حسن.

٥٢

والرمي والهدي ...

إلى غير ذلك من الأحكام الشرعية ، فإنّ لكلٍّ منها أسراراً إلهيّة وحكماً ومصالح روحية ، كما هي المروية عن أهل بيت العصمة.

والمسكين المحروم منها هو الجامد على الظواهر ، القاصر عن إدراكها.

[زيارة القبور سنّة نبويّة وغايتها]

وكما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المشرّع لزيارة قبور المؤمنين المُسِنّ لها ؛ بتعاهدها والوقوف لديها والدعاء عندها ، فقد أشار إلى بعض غاياتها ومصالحها فيما تقدّم من الصحيح بقوله : (ألا فزوروها ، فإنها تذكّركم الآخرة).

وفي حديث آخر المروي عن الحاكم عن أبي ذر : (زر القبور تذكر بها الآخرة).

وما رواه الغزالي عن ابن أبي مليكة قال : (زوروا موتاكم وسلّموا عليهم ، فإنّ لكم فيهم عبرة).

إلى غير ذلك من الغايات.

وذلك لأن الحضور عند المزور إنّما يمثّل للزائر شخصيات المزور بجوامع مآثره ومجامع صفاته وآثاره ، ولا سيّما إذا كان المزور من أكابر الأولياء والشهداء ؛ ممّن له في الإسلام ـ لهمّته وسابقته وعلمه وزهده وفتاواه ـ مقامات تاريخية ومواقف كريمة ومزايا عظيمة.

فتُلقي الزيارة على الزائرين ـ حينئذٍ ـ أبحاثاً جليّة ، علميّة مبدئيّة مَعاديّة أخلاقيّة اجتماعيّة ، يعتبر بها حسبما يتجلّى له من الحكم والمصالح العائدة إلى النفس التي لا ينبغي تفويتها ، ويجب على الشارع الرءوف الرحيم الحريص على تربية الأُمّة التنبيه عليها.

فالظاهريّة بجمودهم غَلَوا وأفرطوا فقتلوا حقائق الديانة ، كغُلُوّ الباطنية في

٥٣

تفريطهم واعتبارهم القشريّة لظواهر الكتاب والسُّنّة.

فكأنّ الفريقين تظاهرا على قتل الشريعة ظهراً وبطناً.

مع أنّ الأحرى لهم التحرّي إلى التوسّط والاعتدال ، وسلوكهم في الدين مسلك النبيّ محمّد والآل.

[بناء المشاهد والمزارات عمل شرعيّ]

ثمّ بعد ما عرفت الغايات الدينية لبناء القباب وزيارتها وتعاهدها ، فلا يخفى عليك أنه ليس في بناء القباب وتعليتها تجديداً للقبر ، وإنّما هو وضع علامة عليها بعيدة عنها ؛ لتكون كما عرفت دلالة وعَلَماً على المزور ، وحفظاً لبقاء الآثار ، وتوصّلاً لزيارة الأطهار ، وإرغاماً لغير المسلمين من الكفّار ، وتعظيماً لشعائر الله المندوب إليها بالرفع والتشييد ، ومعاونة على البر لزوّارهم ، واستكثاراً لتلاوة القرآن وذكر الله لديهم ، وإهداء ثوابها لهم وإليهم.

كلّ هذا تقرّباً بالمسنونات ، وأداء لحقّ سابقتهم في الإسلام ، ووقاية للزائرين من الحرّ والبرد.

أو ليسوا من كبار الصحابة والتابعين ودعائم الدين وأئمّة المسلمين؟؟

ومن الواضح الغير الخفيّ أنّ التعظيم ليس لقبورهم بما هي حفرة وتراب ، بل إنّما هو لذلك الشأن العظيم لهم في الإسلام.

أو ليس عمر أوّل من بنى قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسوّاه باللبن؟!

واقتدى به بعده الخلفاء خلفاً عن سلف من تسقيفه وعمارة ما حوله؟!

كما بنى عثمان المسجد بعد ذلك بالحجارة المنقوشة إلى أن بنوه بأحسن بناء.

أو ما كان قصد عمر والخلفاء من بعده هو التعظيم لشعائر الله.

أو هل قصد عمر بفعله هذا عبادة قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجعله وسيلة للشرك

٥٤

بربّه ، حاشاه؟!

هذا ، ولم يكن وضع القباب على القبور حادثاً في هذه القرون ، بل كان ثابتاً في القرون السالفة من قبل الهجرة إلى أعصار الصحابة والتابعين والخلفاء الراشدين.

كما يظهر من تراجم الماضين وأحوالهم في الكتب المعتبرة ، وأنّ للمعتبر بها وبالآثار الباقية منها لعبرة.

فمنها قبر إبراهيم الخليل بفلسطين ، وقبور سائر الأنبياء السالفين ببيت المقدس.

وبمكّة في الحجر قبر إسماعيل وأُمّه هاجر ، وفي تستر قبر دانيال ... إلى غيرها من القبور وقبابها في أقطار العالم.

وكذلك تعلية القبور في الإسلام ، فهذا «صحيح البخاري» فيما رواه عن خارجة بن زيد قال رأيتني ونحن شبّان في زمن عثمان ، وإنّ أشدّنا وثبةً الذي يثب قبر عثمان بن مظعون حتى يجاوزه.

وقال : قال عثمان بن حكيم : أخذ بيدي خارجة فأجلسني على قبر ، وأخبرني عن عمّه يزيد بن ثابت قال : إنّما كره ذلك لمن أحدث عليه.

وقال نافع : كان ابن عمر يجلس على القبر. وفيه أيضاً بإسناده إلى أبي بكر بن عباس عن سفيان التمار : أنه حدّثه : أنه رأى قبر النبيّ مسنَّماً.

وهذا التاريخ يعلن بقبر العباس بن عبد المطلب عمّ النبيّ وبناء القبّة عليه ، الباقية إلى أواخر القرن الأول ، كما عن ابن خلّكان.

وقد كان ينبغي لهم الأُسوة بإمضاء الشيخين وبقيّة الخلفاء.

أو ليس إبقاء هذه الآثار في عصرهم ـ مع قدرتهم وسلطنتهم على تلك الأقطار والديار ـ إمضاءً منهم وتقريراً لهم ، وهي السُّنّة الباقية منهم؟!

أو ليس النكير عليهم ومخالفتهم وترك سنّتهم بدعة وضلالة؟!

٥٥

والحاصل : أنّ حرمة موتى المؤمنين وقبورهم مما ثبت شرعاً.

وقد صحّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : (حرمة المؤمن ميّتاً كحرمته حيّاً).

وضرورة المسلمين بل الملّيّين ، بل وجبلّة البشر على زيارة قبور موتاهم وتعاهدها.

فضلاً عمّا ورد في الشريعة من وجوب احترام موتى المسلمين ، كالآمرة بوجوب تغسيلهم وتكفينهم وتطييبهم ، والرفق بهم ، ودفنهم ومواراتهم.

وحرمة إهانتهم بجسارة أو بجناية ، أو بمثلة بأجسادهم ، وهتك لقبورهم.

كما ورد في مناهي النبيّ : من كراهة الجلوس على قبر المؤمن ووطئه بإهانة.

وحرمة سبّ الموتى ، كما في البخاري في باب «ما ينهى عنها سبّ الاموات».

ففي المعتبرة أيضاً قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (من وطئ قبراً فكأنما وطئ جمراً).

وفيما أخرجه النووي في «الكنوز» (١) عن الديلمي : (إياكم والبول في المقابر ، فإنه يورث البرص).

وروى الرازي في تفسيره الكبير عن «الكشّاف» في حديث طويل ، رواه عند قوله تعالى (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) إلى قوله : (ألا ومن مات على حُبِّ آلِ مُحمّد فُتح في قبره بابان إلى الجنّة ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد جعل الله قبره مزاراً لملائكة الرحمة).

هذا كلّه في قبور سائر الموتى.

فكيف إذا كان الميّت نبيّاً أو وصيّاً أو وليّاً أو أحداً من الصالحين؟؟

[كرامات الأولياء من قبورهم]

وحسبك ما يظهر منها من الكرامات وخوارق العادات ، المشهودة المشهورة

__________________

(١) في ٥٢.

٥٦

في كلّ عصر ، ما يفتح أبواب معرفة الله الواهب لآثار صنعه ، وعجائب قدرته وبركاته لأوليائه.

وهذا هو الإمام الشافعي في المرويّ عن الشيخ في «اللمعات» حيث قال : «إنّ قبر الإمام موسى الكاظم عليه‌السلام تِرياق مجرّب للإجابة» (١).

وبالجملة : فمن المغالطة الواضحة والافتراء العظيم نسبة هؤلاء الزائرين في إقامة الصلوات والدعوات وقراءة القرآن والآيات في المشاهد المشرّفة والمقامات المتبرّكة ، إلى عبادتها!!

وإنّما هو البهتان العظيم والإفك الكبير.

فليت شعري متى خصّ الله هؤلاء المفترين بعلم الغيب؟!

وكيف اطّلعوا على سرائر العباد وضمائرهم؟!

ومن أين وقفوا على نيّاتهم؟!

أو ما علموا ودَرَوا أنّ لمكان المصلّي دخلاً في الراجحية والمرجوحية من حيث الخِسّة والشرافة؟

أو ما نهى النبيّ عن الصلاة في المزابل والمذابح ومبارك الإبل ومرابط الخيل وقُرى النمل والأراضي السبخة وبيت فيه المسكر والطرق والشوارع؟!

أو ليس لله أن يفضّل الناس بعضهم على بعض؟

كما فضّل الرسل ، وقال : (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ).

وَفضّل بعض الناس على بعض ، فقال : (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ).

وفضّل الرجال على النساء ، فقال : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ).

أوَما شرّف الله بقعة على بقعة كما شرّف المساجد أيضاً على البقاع ، وكما شرّف

__________________

(١) لم أجده ، ولكن روى الذهبي في سير أعلام النبلاء ٩ / ٣٤٣ عن إبراهيم الحربي ، قوله في قبر معروف الكرخي : إنه الترياق المجرّب.

٥٧

المساجد الأربع على سائر المساجد ، وشرّف المسجدين على غيرهما؟!

أوَلم يرد في الأحاديث : أنّ الأعمال يتضاعف أجرها لشرف المكان أو الزمان؟!

أوَلم يفضّل الله الأشهر الحُرُم على سائر الشهور ، وفضّل شهر رمضان عليها؟!

أوَما صحّ أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطب خطبته التي خطبها آخر جمعة من شعبان في فضيلة شهر رمضان ، ومنها قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها : (شهر هو عند الله أفضل الشهور ، وأيّامه أفضل الأيّام ، ولياليه أفضل الليالي ، وساعاته أفضل الساعات ...) إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (من أدّى فيه فرضاً كان له ثواب من أدّى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور ، ومن قرأ فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور) الخطبة.

وبالجملة : فقد شرّف الله بعض الأحجار على بعض ، والمقامات بعضها على بعض ، كما شرّف أحجار البيت والحرم والحجر الأسود وزمزم وركن الحطيم ومقام إبراهيم ، فقال : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) أو ليست هي إلّا صخرة عليها أثر قدم إبراهيم الخليل ، وفيه قبر إسماعيل؟!

أوَما قرأت قوله تعالى : (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) حيث أمضى الله سبحانه فعلهم ، وهم المؤمنون ، وعليه المفسّرون؟

وهذا وجه رغبة الشيخين في دفنهما مع الرسول في الروضة المنوّرة وجواره الشريف ؛ تبرّكاً بحرمته وشرفه وبركته.

وكذلك حكم العقل في حرمة حرمه وقبره.

فإنّ حرمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تذهب بعد موته ضياعاً.

أفهل كان رغبتهما في الدفن عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا التبرّك بعظمته وتعظيماً لمضجعه بجميع مراتب التعظيم؟!

٥٨

ومن ذلك رغبة عائشة ، وادّخارها مكان القبر لها لكنّها آثرت عمر لما استأذن منها.

أوَهل يستطيع المسلم أن يُنكر المقام العظيم في الإسلام لمثل هؤلاء الذين هُتكت حرمتهم بهدم قبابهم؟!

[يفترون على المسلمين]

ثمّ ، وهذا الافتراء منهم وإفكهم ، كقياسهم الحلف والنذورات والهدايا وذبائح المسلمين الواقعة لله رب العالمين ، بما كان يفعله المشركون.

سُبحانك اللهم ونعوذ بك من هذا البهتان العظيم ، وتفريق الكلمة وشقّ عصا الامّة من غير رويّة وبيّنة وحجّة.

وما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حُرمات الله ورمي عباده الموحّدين!

وهل يخفى على مثل هؤلاء الموحّدين من أعلام الدين : أنّ الحلف بغير الله على وجه إرادته تعالى منه مما يوجب الخروج من رِبْقة المسلمين؟

[الحلف عند المسلمين]

فالأيمان الواقعة بغيره تعالى ممّا لا يُراد منها حقيقة القسم.

وحاشا أن يقع منهم ذلك على وجه إرادته تعالى ، وإنما هو مجرّد العبارة وزيادة التأكيد.

فإنّ مثل هذا الصادر كثيراً في كلمات أعاظم الصحابة غير عزيز ، كما لا يخفى على المتتبّع في كلماتهم.

وهل الحلف ببيت الله وكلمات الله وآيات الله ، أو بضريح النبيّ وشيبته ومنبره وتربته ، إلّا لمجرّد التثبّت والتأكيد؟!

٥٩

فإن لم يحضروا بلاد الشيعة الموحّدين ، ولم يطّلعوا على سرائرهم ، فها هي بين أيديهم الكتب من فقه الإمامية وسائر المسلمين ـ المطبوع منها وغير المطبوع ـ التي ملأت أقطار العالم ، فإنّ فيها ما يزجرهم عن هذا الافتراء العظيم.

وهل جعل الله للمسلمين حرمة أعظم من حرمة بيته وكعبته؟!

أوَما حرّم الله ظنّ السوء وسوء القول؟!

وهل يخفى على فحول العلماء والفقهاء ـ من أهل الجمعة والجماعة وإمعان النظر في الأحكام ـ أنّ الذبح لغير الله العظيم ـ تعالى شأنه ـ حرام؟

وهذه أبواب فقههم مصرّحة بأنّ النذر لا ينعقد إلّا لله سبحانه ، ولا الذبائح والقرابين إلّا له جلّ شانه ، ولا تحصل التذكية إلّا باسمه ـ تعالى اسمه ـ.

فلو لم يخصّ النذر بالله وبإنشائه له تعالى لم ينعقد ، كما أنه إذا لم يُستقبل بالذبيحة ولم يسمّ الله عليها لا تحلّ ؛ وتقع ميتة نجسة.

وأمّا نسبتها بعد ذلك إلى النبيّ والوصيّ والوليّ ، فإنّما هي لكي يصل الثواب إليهم ، كما نقرأ القرآن ونهدي إليهم ثوابه ، ونصلّي وندعو لهم ، ونفعل جميع الخيرات عنهم ، وفيه أجر عظيم.

وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يذبح بيده ، ويقول : (اللهمّ هذا عنّي وعمّن لم يضحِّ من أُمّتي).

وكان عليّ يضحّي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكبش ، وكان يقول : (أوصاني أن أُضحّي عنه دائماً).

كذلك النذر ، فانه لا يقع لغير الله بل على معنى أنها صدقة منذورة لله يهدي ثوابها إلى أولياء الله ، وهذا لا يزيد عمن نذر لأبيه وأمه أو حلف أو عاهد أن يتصدق عنهما.

كما أن اختيارهم لها الأماكن المشرفة ليس إلا لشرف المكان وتضاعف الحسنات فيها.

٦٠