الوهابيّون والبيوت المرفوعة

الشيخ محمد علي بن الحسن الهمداني السنقري الكردستاني

الوهابيّون والبيوت المرفوعة

المؤلف:

الشيخ محمد علي بن الحسن الهمداني السنقري الكردستاني


المحقق: لجنة من العلماء
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٢
الصفحات: ١٢٨

وبعدم إجزاء نفس عن نفس ثالثة.

وهكذا الكلام في نظائرها.

وبين ما سيقت لبيان شدّة الموقف وأهواله ، وأنّه ـ يومئذٍ ـ لا ينفع الكفّار بيعهم وخلّتهم وشفاعتهم ـ بعضهم ـ في دفع العذاب عن خليله أو مولاه :

مثل ما في سورة الدخان قوله تعالى : (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً) ... (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ).

وقوله في سورة البقرة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ).

قال الرازي : لما قال : (وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) أوهم ذلك ـ أي الخُلّة والشفاعة مطلقاً ـ فذكر تعالى عقيبه : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ليدلّ على أنّ ذلك النفي مختصّ بالكافرين ، وعلى هذا التقدير تكون الآية دالّة على إثبات الشفاعة في حقّ الفسّاق.

وبين ما لبيان أنّ الشفاعة الثابتة مختصّة بالمرضيّين :

كقوله تعالى في سورة طه (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً).

وقوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) أي لمن ارتضى الله دينه ، وسيأتي بيانه.

أو لبيان أنّ المجرمين غير قادرين على الشفاعة إذ لا يملكونها :

كما في سورة مريم قوله تعالى : (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً* لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ) ألا تنظر إلى قوله بعده : (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) إلى غير ذلك.

٢١
٢٢

المقام الثاني

[ثبوت الشفاعة في العقيدة الإسلاميّة]

أعلم : أنّ الشفاعة أن يستوهب أحد لأحد شيئاً ، ويطلب له حاجة ، وأصلها من الشفع الذي هو ضدّ الوتر ، كأنّ صاحب الحاجة كان فرداً ، فصار الشفيع له شفعاً ، أي صارا زوجاً.

وقد أجمع المسلمون كافّة على ثبوت الشفاعة ، خلافاً للخوارج وبعض المعتزلة ، حيث خصّوها بزيادة المنافع للمؤمنين ورفع درجات المثوبين والمستحقّين.

مع ضرورة حكم العقل بحسن العفو عن الكبائر وصريح المحْكمات من الكتاب والسُّنّة ، كما سيجيء ذكرها.

مع ما عرفت من الجواب عمّا تمسّك به المانع المتكلّف من المتشابهات.

٢٣

[الاجماع على الشفاعة]

ولو لم يقم الإجماع على ثبوتها بهذا المعنى ، وكانت الشفاعة بحيث يصحّ إطلاقها على مجرّد طلب الزيادة ، لكنّا شافعين للرسول بقولنا : «اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد».

ضرورة أنّا لم نطلب له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا الزيادة في فضله.

وحيث بطل هذا القسم تعيّن الثاني.

لا يقال : إنّ ذلك إنّما كان لوضوح علوّ رتبة الشفيع على المشفوع له وانحطاطهم عنه ، وإنّ غرض السائل من الصلوات هو التقرّب بذلك إلى المسئول ؛ وإن لم يستحقّ المسئول له بذلك السؤال منفعة زائدة.

فإنّا نقول : إنّ الرتبة غير معتبرة في الشفاعة ، ويدلّ عليه لفظ الشفيع المشتقّ من الشفع.

على أنّا ، وإن قطعنا أنّ الله يكرّم رسوله ويعظّمه ؛ سواء سألت الأُمّة ذلك أو لم تسأله ، ولكنّا لم نقطع بأنّه لا يجوز أن يزيد في إكرامه بسبب سؤال الأُمّة ؛ على وجه لو لا سؤالهم لما حصلت الزيادة ، ومع جواز هذا الاحتمال وجب أن يبقى جواز كوننا شافعين للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال العلامة القوشجي : اتّفق المسلمون في ثبوت الشفاعة ؛ لقوله تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) ، وفُسّر بالشفاعة.

قال : ثمّ اختلفوا : فذهب المعتزلة إلى أنّها زيادة المنافع للمؤمنين المستحقّين للثواب.

وأبطله المصنّف : بأنّ الشفاعة لو كانت كذلك لكُنّا شافعين للنبيّ ؛ لأنّا نطلب زيادة المنافع له.

والتالي باطل ؛ لأنّ الشفيع أعلى رتبة من المشفوع له. انتهى.

٢٤

وقال العلّامة في «البحار» في ما حكاه عن النووي في «شرح صحيح مسلم» (١) : إنّه قال : قال القاضي عياض : مذهب أهل السُّنّة جواز الشفاعة عقلاً.

ووجوبها سمعاً بصريح الآيات وبخبر الصادق عليه‌السلام ، وجاءت الآثار التي بلغت بمجموعها التواتر بصحّة الشفاعة لمذنبي المؤمنين ، وأجمع السلف ومن بعدهم من أهل السُّنّة عليها.

ومنعت الخوارج وبعض المعتزلة منها ، وتعلّقوا بمذاهبهم في تخليد المذنبين في النار ، واحتجّوا بقوله تعالى : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) وأمثاله ، وهي في الكفّار.

وأمّا تأويلهم أحاديث الشفاعة وغيرها فهي صريحة في بطلان مذهبهم وإخراج من استوجب النار. انتهى.

[العقل يدل على صحّة الشفاعة]

وأمّا العقل فقد قالت الفلاسفة في هذا المقام : إنّ واجب الوجود عامّ الفيض تامّ الجود ، فحيث لا تحصل الشفاعة فإنّما هو لعدم كون القابل مستعدّاً ، ومن الجائز أن لا يكون مستعداً لقبول ذلك الفيض من شيء قبله عن واجب الوجود ، فيكون ذلك الشيء كالمتوسّط بين واجب الوجود وبين ذلك الشيء الأوّل.

ومثاله في المحسوس أنّ الشمس لا تضيء إلّا للقابل المقابل ، وسقف البيت لما لم يكن مقابلاً لجِرْم الشمس ، فلا جَرَمَ لم يكن فيه استعداد لقبول النور عن الشمس ، إلّا أنّه إذا وضع طشت مملوّ من الماء الصافي ، ووقع عليه ضوء الشمس ، انعكس ذلك الضوء من ذلك الماء إلى السقف ، فيكون ذلك الماء الصافي متوسّطاً في وصول

__________________

(١) شرح صحيح مسلم ، للنووي ٣ / ٣٥ باب إثبات الشفاعة وإخراج الموحّدين من النار.

٢٥

النور من قُرص الشمس إلى السقف الذي غير مقابل للشمس.

وأرواح الأنبياء والأوصياء والصالحين ، كالوسائط بين واجب الوجود وبين الخلق.

والتحقيق : أنّ المعصية ليست بما هي علّة للتعذيب والخلود ، وإنّما هي المقتضي له لو لا المانع ؛ من الاستشفاعات المنصوبة من الله الرءوف المالك للشفاعة.

كما يشهد به الكتاب والسُّنّة وبداهة حكم العقل مع قرينة شدّة الرأفة والرحمة منه تعالى.

ولذلك فرّق الشارع بين نيّة الحسنة ونيّة السيّئة في الاستحقاق وعدمه ، مع أنّهما في الاقتضاء سواء ؛ سبقت رحمته غضبه.

فقد ظهر : أنّ الحديثين إنّما سيقا لبيان الاقتضاء :

أمّا الأوّل : فبدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في النبوي : (لو لم ترسلوا عليها ناراً فتحرقوها).

أمّا الثاني : فبضرورة ما في السباق من احتمال العثرات ، وصريح ما ورد في الحَبْط من الآيات والعمومات ، النافية لاستحقاق العقوبة على نيّة السيّئات ، وأنّها لا تكتب ما لم يتلبّس بها.

وبالجملة : فلو لم تكن المعاصي مقتضيات لما كان النادم عليها ماحياً لها تائباً عنها ، كما صحّ : أنّ (التائب من الذنب كمن لا ذنب له).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (من سرّته حسنته وسائته سيّئته فهو مؤمن).

وذلك لوضوح أنّ من ساءته سيّئة ، فهو النادم منها التائب عنها الماحي لها ، ومعه فلا غَرْوَ ولا عجب أن يجعل الله الأمر بالمودّة والتمسّك والتوسّل بذوي القربى من أهل بيت رسوله ، مانعاً لتأثير المعصية ، شافعاً فيها ، توبة عنها ، ماحياً لها ، وإن رغم الراغمون ، وخسر هنالك المبطلون.

٢٦

[تذبذب بين المعتزلة والأشعرية]

وليت شعري ، ولا يكاد ينقضي تعجبي ، من هؤلاء الإخوان ، وما أدري أنّهم في إنكارهم للشفاعة أشعريّة أم معتزلة ، وبأيّهما اقتدوا؟ وبأيّ ديانة دانوا فتديّنوا؟

فإن كانوا في الأُصول أشعرية فقد عرفت أنّ مذهبهم على ثبوتها وإثباتها.

وإلّا فيرد عليهم ما يرد على المعتزلة من المناقضة لأصلهم ، فإنّ من قال بقاعدة التقبيح والتحسين ، فقد التزم في المسألة موافقة الأشعريّين ، فظهر أنّهم دانوا بالشفاعة من حيث لا يشعرون.

[الآيات الدالة على ثبوت الشفاعة]

وأمّا الآيات : فقد قال الله تعالى في سورة الإسراء : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً).

وقال في سورة الضحى : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى).

وقال في سورة المؤمن : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ* رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

وقال تعالى في سورة يوسف حاكياً مقالة الأسباط : (قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) إلى قوله : (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ).

وقال تعالى في سورة النساء : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً).

وقال تعالى في حكايته عن عيسى عليه‌السلام : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ

٢٧

فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

وقال تعالى حكاية عن إبراهيم : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

فقد دلّت الآيات كغيرها على ثبوت الشفاعة لنبيّنا خاصّة وللملائكة والنبيّين والأولياء والصالحين عامّة وشفاعة القرآن أيضاً.

حيث لا يجوز حمل هذه الآيات على الكافر ، فإنّه ليس أهلاً للمغفرة بالإجماع.

ولا يجوز حمله على صاحب الصغيرة.

ولا على صاحب الكبيرة بعد التوبة ؛ لأنّ غفرانه لهم واجب عقلاً عند الخصم ، فلا حاجة له إلى الشفاعة.

فلم يبقَ حمله إلّا على صاحب الكبيرة قبل التوبة.

[الروايات الدالة على ثبوت الشفاعة]

ويؤيّد ذلك : ما رواه الرازي عن البيهقي : (أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا تلا هاتين الآيتين رفع يديه ، وقال : إلهي أُمّتي أُمّتي ، وبكى ، فقال الله : يا جبرائيل اذهب إلى محمّد ـ وربّك أعلم ـ فَسَلْهُ ما يبكيك؟ فأتاه جبرائيل ، وسأله فأخبره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما قال ، فقال الله : يا جبرائيل اذهب إلى محمد وقل له : إنّا سنُرضيك في أُمّتك) (١).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الصحيح : (ادّخرتُ شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي) (٢).

__________________

(١) التفسير الكبير للرازي.

(٢) مجمع الزوائد ٧ / ٥ ، مسند أحمد ٢ / ٣١٣ و ٣ / ٢٠ بلفظ أخّرت ، ولاحظ سنن ابن ماجة ٢ / ١٤٤١ ، والترمذي ٤ / ٤٥ ، والحاكم في المستدرك ١ / ٦٩ و ٢ / ٣٨٢.

٢٨

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (واعطيت الشفاعة) رواه البخاري (١).

وصحّ أيضاً عنه فيما أخرجه بإسناده عن عمران بن حصين ، قال : (يخرج من النار بشفاعة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيدخلون الجنّة ، ويسمّون الجهنّميين) (٢) إلى غير ذلك.

وقال الرازي في قوله تعالى : (وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) إجلالاً له حيث أكرمه بوحيه ، وجعله سفيراً بينه وبين خلقه ، ومن كان كذلك فإنّ الله لا يردّ شفاعته ، فكانت الفائدة في العدول عن لفظ الخطاب إلى الغيبة ما ذكرناه (٣).

أقول : ومثلها في الدلالة قوله : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) فإنّ هذه الآية نصّ صريح في المدّعى ، ولا سيّما بقرينة ذكر الاستغفار الملازم لإسقاط العقاب وذكر الذين (آمَنُوا) والذين (تابُوا) إلى غير ذلك.

والمناقشة فيها : بأنّ قيد التوبة واتّباع السبيل مما هي قرينة على ثبوت الشفاعة بالمعنى الخاصّ وصرفها عن عموم الدعوى لأنّ التائب والمتّبِع للسبيل لا يفتقران إلى الشفاعة بالمعنى العامّ.

مدفوعة : بالنقض بقيد المغفرة الظاهرة في معنى الحطّ والستر للذنب ، وحلاًّ : بأنّ القيدين هنا من باب ذكر بعض أفراد العامّ وأقسامه ، فلا يُخصّص العامّ بها ، وهذا ثابت في علم أُصول الفقه.

ثمّ يدلّ أيضاً على ثبوت الشفاعة للملائكة قوله تعالى في صفتهم في سورة الأنبياء : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى).

__________________

(١) صحيح البخاري ١ / ١١٣ و ٢١١ ، وصحيح مسلم ٢ / ٦٣ ، وسنن النسائي ١ / ٢١١ ، والدارمي ١ / ٣٢٣ ، ومسند أحمد ٤ / ٤٣٤.

(٢) صحيح البخاري ٧ / ٢٠٢ و ٢٠٣ الرقاق ، وصحيح مسلم ١ / ١٢٣ الإيمان ، والترمذي ٤ / ١١٤ ، وسنن ابن ماجة ٢ / ١٤٤٣ الزهد ، ومسند أحمد ٤ / ٤٣٤ ، وراجع مجمع الزوائد للهيثمي ١٠ / ٣٧٩ ، وكنز العمال ١٤ / ٤٠٨ و ٥٠٦ و ٥١٣ و ٥٤١.

(٣) التفسير الكبير للفخر الرازي.

٢٩

ووجه الاستدلال : أنّ صاحب الكبيرة هو المرتضى عند الله بحسب إيمانه وتوحيده ، وكلّ من صدق عليه أنّه المرتضى عند الله بهذا الوصف وجب أن يكون من أهل الشفاعة ، فإنّ الاستثناء من النفي إثبات.

وإذا ثبت أنّ صاحب الكبيرة داخل في شفاعة الملائكة ، وجب دخوله في شفاعة الأنبياء وشفاعة نبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعدم القول بالفصل.

(لا يقال :) إنّ صاحب الكبيرة فاسق ، والفاسق ليس بمرتضى بحسب فسقه وعصيانه.

لأنا نقول : قد تبيّن في العلوم المنطقية أنّ المهملتين لا تتناقضان ، فالمرتضى بحسب إيمانه لا ينافيه عدمه بحسب فسقه.

وقال الرازي : اعلم أنّ هذه الآية أقوى الدلائل لنا في إثبات الشفاعة لأهل الكبائر.

وتقريره : هو أنه من قال : «لا إلهَ إلّا الله» فقد ارتضاه في ذلك ، ومتى صدق عليه أنّه ارتضاه الله في ذلك فقد صدق عليه أنّه ارتضاه الله ، لأنّ المركّب متى صدق فقد صدق ـ لا محالة ـ كلّ واحد من أجزائه ، وإذا ثبت أنّ الله قد ارتضاه وجب اندراجه تحت هذه الآية.

وقال في قوله تعالى : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) ، كما نرى في المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبيّين.

ثمّ قال : احتجّ أصحابنا بمفهوم هذه الآية ، وقالوا : إنّ تخصيص هؤلاء بأنّهم لا تنفعهم شفاعة الشافعين يدلّ على أنّ غيرهم تنفعهم شفاعة الشافعين.

وفي تفسير آخر : فما تنفعهم شفاعة الشافعين كما نفعت للموحّدين.

وقال في قوله تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) :

قال الواحدي : أجمع المفسّرون على أنّه مقام الشفاعة كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في

٣٠

هذه الآية (هو المقام الذي أشفع فيه لأُمّتي).

ثمّ أخذ في بيان وجوه الاستدلال بها ، وتضعيف ما فسّره البعض بآرائهم.

ورواه أبو السعود في تفسيره عن أبي هريرة.

وقال في قوله تعالى : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) : عن تفسير وكيع قال : ولسوف يُشفّعك ، يا محمّد ، يوم القيامة في جميع أهل بيتك وفي أُمّتك ، وتدخلهم الجنّة ترضى بذلك عن ربّك.

وعن فردوس الديلمي قال : الشفعاء خمسة : القرآن والرحم والأمانة ونبيّكم وأهل بيت نبيكم.

والعلّامة أبو السعود في تفسيره عن سعيد بن جبير قال : يدخل المؤمن الجنّة ، فيقول : أين أبي وولدي؟ وأين زوجي؟ فيقال له : لم يعملوا مثل عملك ، فيقول : إنّي كنتُ أعمل لي ولهم ، فيقال : أدخلوهم الجنّة بشفاعته وسبق الوعد بالإدخال.

ثمّ قال في الجواب عن شبهة هؤلاء : والإدخال لا يستدعي حصول الموعود بلا توسّط شفاعة واستغفار ، وعليه مبنى من قال : إنّ فائدة الاستغفار زيادة الكرامة والثواب ، والأوّل هو الأولى ، لأنّ الدعاء بالإدخال فيه صريح ، وفي الثاني ضمنيّ ، انتهى كلامه.

وعن بشر بن ذريح البصري ، عن محمّد بن عليّ عليهما‌السلام في قوله تعالى : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) قال : قال : (الشفاعة ، والله الشفاعة ، والله الشفاعة).

وقال الرازي في هذه الآية : يعني به الشفاعة تعظيماً لنبيّه.

قال : عن عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وابن عبّاس : إنّ هذا لهو الشفاعة في الآية.

يروى أنّه لما نزلت الآية قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إذن لا أرضى وواحد من أُمّتي في النار).

ثمّ قال : واعلم أنّ الحمل على الشفاعة متعيّن ، ويدلّ عليه وجوه ذكرها هناك (١).

__________________

(١) التفسير الكبير للرازي.

٣١

وفي «النهاية» لابن الأثير قال في ترجمة «وحاء» من في حديث أنس : (شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي حتّى حكم وحاء) (١). قال : وهما قبيلتان جافيتان من وراء رمل يَبْرِيْنَ ، ومثله قال في ترجمة «حَكَم».

وفي مرفوعة جابر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث له أنّه قال : (أنا سيّد ولد آدم ولا فخر ، وفي ظلال الرحمن يوم لا ظلّ إلّا ظلّه ولا فخر ، ما بال قوم يزعمون أنّ رحمي لا ينفع ، بل حتّى يبلغ حانكم أنّي لأشفع فأُشفّع) الخبر إلى قوله : (حتّى إنّ إبليس ليتطاوَل طمعاً في الشفاعة) (٢).

وعن عبد الله بن عبّاس عن النبيّ أنّه قال : ما من رجل مسلم يموت ، فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً ، إلّا شفّعهم الله فيه (٣).

إلى غير ذلك من الآيات والروايات في إثبات عموم الشفاعة بما ورد من أعيان علماء السُّنّة والجماعة ومفسّريهم ، ما لا يحتمله هذا المختصر ، فليراجع المطوّلات.

[تمويه في إنكار الشفاعة]

وبعد ما أسلفناه وما سيأتي في معنى الاستشفاع بالأولياء ، فلا يُصغى إلى شيء ممّا تكلّف به محمد بن عبد الوهّاب في رسالته من التمويه والمغالطة تبعاً لإمامَيْهِ ابن القيّم وابن تيميّة بقوله :

فإن قال : إنّ النبيّ أُعطي الشفاعة وأطلبه مما أعطاه الله.

__________________

(١)

انظر كنز العمال ١٤ / ٤١٢.

(٢) مجمع الزوائد ١٠ / ٣٧٦ و ٣٨٠ عن الطبراني في الأوسط.

(٣) مسلم ٣ / ٥٣ ، والترمذي ٢ / ٢٤٧ ، وابن ماجة ١ / ٤٧٧ ، والنسائي ٤ / ٧٥ ، مسند أحمد ٣ / ٦٦ كلهم في الجنائز ، وانظر كنز العمال ١٥ / ٥٨١ ، ومجمع الزوائد ٥ / ٢٩٢.

٣٢

فالجواب : إنّ الله أعطاه الشفاعة ، ونهاك عن هذا ؛ يعني به الشرك ، وقال (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً).

فإن كنت تدعو الله أن يشفّعه فيك فأطعه في قوله : (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً).

وأيضاً فإنّ الشفاعة أعطاها غير النبيّ ، فصحّ أنّ الملائكة يشفعون ، والأولياء يشفعون ، والإفراط يشفعون أتقول : إنّ الله أعطاهم الشفاعة فأطلبها منهم؟! فإن قلت هذا ، رجعت إلى عبادة الصالحين.

أقول : اعلم أنّ موضع المغالطة من كلامه ، هو أنّه زعم أنّ الشفاعة هي شفع الغير مع الله في المسألة والدعوة لقضاء الحوائج.

ولم يَدْرِ المسكين أنّ الشفاعة ـ كما مرّ تعريفها في صدر المقام ـ هو شفع الغير وضمّه مع المستشفع للذهاب إلى الله وتوجّههما معاً إليه سبحانه ، ودعاؤنا الشفيع دعوته لذلك ، لا ما توهّمه المغالط.

[ليست الشفاعة بشرك]

وبعد ما ثبتت الشفاعة إجمالاً وتفصيلاً ، كتاباً وسنةً ، إجماعاً وعقلاً ، حيّاً كان الشفيع أو ميّتاً ، فقد علم بالضرورة من الشريعة :

أنّها ليست بشرك.

وأنّ الاستشفاعات والتوسّلات لا تنافي شيئاً من التوحيد ولا الإخلاص.

وأنّ دعاء الصالحين والالتماس منهم إنّما هو لكي يدعو الله للعباد بالرحمة والمغفرة ، فليس من الدعاء المنهيّ عنه.

وإنّما الدعاء المنهيّ عنه في قوله تعالى : (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) هو أنّ العبد يقرن الصالحين بالله في دعائه ، ويسألهما معاً في عرض واحد ، وذلك بقرينة لفظ «مع» ، وكما هو معنى الشرك والتشريك في العبادة ، فإنّ الإشراك هنا وضع

٣٣

في غير الله.

كما في قوله : (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

وقوله تعالى عن إبليس : (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ).

قال الرازي : أي بإشراككم إيّاي مع الله في الطاعة.

وقوله تعالى عن موسى : (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي).

بجعله شريكاً له معه في النبوّة.

وأمّا إذا لم يكن سؤاله حقيقة إلّا من الله ، ولم يكن له النظر مستقلاًّ إلّا إليه تعالى دون غيره ، فيدعو الله ويسأله بوجه نبيّه ، فهذا ليس من الشرك في شيء.

يفصح منه لفظ الشرك المشتقّ من مادّة الإشراك بجعل الشريكين على نمط واحد.

فلو سأل العبد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يغفر له ذنبه ، أو سأل النبيّ مع الله بقوله : يا الله ويا نبيّ الله اغفرا لي ذنبي ، كان ذلك شركاً منه.

وأمّا لو سأله أن يسأل الله غفران ذنبه ، فهذا من غفران الذنب الموعود من الله بالشفاعة ، والسؤال منه تعالى ، لا من النبيّ.

وإنّما المسئول من النبيّ التماس دعائه من الله تعالى ليسأله بوجهه.

[صور من الأدعية المأثورة]

وهذه دعواتنا المأثورة عن الأئمّة عليهم‌السلام ، حيث نقول :

(اللهمّ إن كانت الذنوب والخطايا قد أخلقت وجهي ، فإنّي أسألك بوجه حبيبك محمّد).

وفي الدعاء عند النوافل الليليّة :

(اللهمّ إنّي أتوجّه إليك بنبيّك نبيّ الرحمة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأُقدّمهم بين يدي

٣٤

حوائجي في الدنيا والآخرة ، فاجعلني بهم عندك وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقرّبين.

اللهمّ ارحمني بهم ، ولا تعذّبني بهم ...) الدعاء.

فليس المراد بالاستغاثات والتوسّلات إلّا طلب الدعاء من المستغاث ، كما في قوله عزوجل في القدسيّات : (يا موسى ادعُني بلسانٍ لم تعصِني به ، فقال : يا ربّ وأين ذلك؟ فقال : بلسان الغير).

وأيضاً ، فإنّ بني إسرائيل قد دعوا الله بلسان نبيّهم في مواضع من القرآن ؛ حيث حكى الله عنهم في قوله تعالى : (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ) الآيات.

فأنصفْ وراجع.

أين هذا من دعاء الغير أو شركة الغير مع الله في الدعاء؟!

سُبحانك إنْ هذا إلّا بهتان عظيم.

وكيف كان ، فقد عرفت أنّ الآيات والروايات لا تدلّ على النهي بشيء من ذلك كلّه ، بل الآيات على خلافه كما عرفت.

[الاستشفاع بالأموات]

ثمّ ، ومن أوهن المناقشات والشفاعات والتوسّلات ، هو المناقشة في جوازها بعد موت الشفيع.

وذلك لثبوت جوازها مطلقاً ؛ من غير فرق بين النشآت.

بعد صريح عبارته في رسالته بشفاعة الملائكة والأولياء والإفراط.

وصريح الآيات بحياتهم المستقرّة بعد موتهم.

ومع اتّحاد المناط في الغايات.

٣٥

وحكم العقل بحسن الواسطة من غير تخصيص ولا تبعيض.

وبالجملة : فقد أطنب الوهابيّة في شبهة العابد بالمعبود ، وشبهة الزيارة بالعبادة ؛ حتّى صاروا بجمودهم وخضوعهم لشبهتهم هذه ، كأنّهم آلة هدم الإسلام باسم الإسلام.

قد أوضحنا الجواب عن الأُولى.

[الزيارة والعبادة]

وأمّا الثانية : فأمّا قوله فيما نسجه :

«ونحن أنكرنا استغاثة العبادة التي يفعلونها عند قبور الأولياء التي لا يقدر عليها إلّا الله ...» إلى قوله : «وأمّا بعد موته ـ يعني به النبيّ ـ فحاشا إنّهم ما سألوه عند قبره ، بل أنكر السلف ...» إلى آخر كلماته.

فأقول :

وليت شعري ما هذا النكير؟!

وما قياس الأنبياء والشهداء ـ المصرّح بحياتهم المستقرّة في القرآن ـ بسائر الموتى؟!

وما معنى إضافة الاستغاثة إلى العبادة؟!

وما المانع من الاستغاثة عند قبور الأولياء؟!

وما المراد بقوله : «لا يقدر عليها إلّا الله»؟!

وما هذا الخبط؟!

ثمّ وما هذا التحاشي والخلط ودعوى الإنكار؟

أفعلى عمد تركوا كتاب الله ونبذوه وراء ظهورهم؟

فإن كان المانع منها هو شبهة الشرك ، فقد عرفت فساده بما لا مزيد عليه.

٣٦

وقد تقدّم أنّ الساعي لحاجة إخوانه عند باب مولاه لا يرتفع عن مقام العبودية بشيء.

فليست الشفاعة والاستشفاع إلّا قسماً من الدعاء الشامل لجميع الناس ، واختصاص الأولياء والخواصّ بها باعتبار قبولها.

وقد ورد في باب زيارة النبيّ ـ كما عن حُجّة الإسلام الغزالي ـ قال : «ثمّ ترجع وتقف عند رأس رسول الله ـ بين القبر والأُسطوانة اليوم ـ وتستقبل القبلة ...» إلى قوله : «ثمّ تقول : (اللهمّ إنّك قلت ـ وقولك الحقّ .. (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً).

اللهمّ إنّا قد سمعنا قولك ، وأطعنا أمرك ، وقصدنا نبيّك متشفّعين به إليك في ذنوبنا وما أثقل ظهورنا من أوزارنا ، تائبين من زللنا) ...» إلى قوله : (اللهمّ لا تجعله آخر العهد من قبر نبيّك ومن حرمك يا أرحم الراحمين).

ومعاذ الله أن يرفع المسلمون أحداً من هؤلاء المَزُورين عن مقام العبوديّة ، أو يذكرهم في الدعاء بغير الاستشفاع والتوسّل.

فأين وصمة الشرك؟!

ثمّ وما حديث التبعيض والتخصيص؟!

وهل ظفر المتكلّف بعد ما تقدّم في الشفاعات والتوسّلات بآية أو رواية تخصّص بها العمومات ، أو تقيد بها المطلقات؟

أو يناقض بها ما صرّح به من قبل بقوله : «فصحّ أنّ الملائكة يشفعون ، والأولياء يشفعون ، والإفراط يشفعون»؟!

وليت شعري ، فإن كان المناط في الشرك هو مجرّد التوسّل بالغير والاستشفاع به.

فهو الموجود عيناً في الآخرة ، كما ورد أنّ الناس يسألونهم الشفاعة يوم

٣٧

القيامة ، فيشفعون لهم عند الله ، فيُشفَّعون فيهم.

وإذا كانت المسألة والتوسّل موجوداً في النشأتين ، والمناط قائم في المقامين.

فمن أين جاءت هذه الخصوصية؟!

على أنّه يلزم منه أن يكون الباطل بما هو باطل ينقلب في الآخرة حقّاً ، والحقّ بما هو حقّ يكون في الدنيا باطلاً وشركاً.

وهذا هو التناقض البيّن وصريح الانقلاب المحال.

[المزورون أحياء في قبورهم]

وإن كان المانع منهما هو الموت فقد أثبت محكم القرآن حياتهم المستقرّة حياةً مخصوصة بهم ، فيسمعون ويعقلون ويعرفون من يخاطبهم.

ولا غرو في الحياة بعد الموت مع الإقرار بعموم قدرته تعالى ، فجاعل الروح في النطفة يضعها في التراب وحيث يشاء.

فلو كان خطاب الموتى ممّا يوجب عند الجاهل عبثاً ، فلا يوجب كفراً وشركاً.

وبالجملة : فإطلاق الموت وخصوصيّة كيفيّة عود الأجسام المختصّة بالقيامة ، ممّا لا ينافي شيء منها لحياتهم المستقرّة الثابتة لهم بعد الموت.

وعليه اعتقاد أعاظم المحققين من علماء السُّنّة والجماعة.

ويعاضده الأحاديث المعتبرة كما لا يخفى.

وكما في تفسير قوله تعالى : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا).

وكان الأُستاذ أبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي شيخ الشافعي يقول : إنّ الأنبياء لا تبلى أجسادهم ، ولا تأكل الأرض منهم شيئاً ، ولقد التقى نبيّنا مع إبراهيم وموسى بن عمران.

وقال الرازي في قوله تعالى : (بَلْ أَحْياءٌ) :

٣٨

«إنّهم في الوقت أحياء كان الله أحياهم لإيصال الثواب إليهم ، وهذا قول أكثر المفسّرين».

ثمّ أخذ يستدلّ على حياتهم المستقرّة بوجوه ، سادسها : زيارة قبور الشهداء وتعظيمها انتهى.

على أنّهم يسمعون السلام ، ويفهمون الكلام.

وأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبلغه صلوات المصلّين عليه ، ويسمعهم ، وهو يعلم بهم وبمقامهم ، كما ورد في الصحاح :

منها : ما عن سنن أبي داود ، رواه عن أبي هريرة قال : قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ما من أحد يسلّم عليّ إلّا ردّ الله عليّ روحي حتّى أردّ السلام) (١).

وعن صحيح النسائي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : (إنّ لله ملائكة في الأرض يبلّغوني من أُمّتي السلام) (٢).

وفي مرفوعة ابن عبّاس عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : (أكثروا عليّ من الصلاة يوم الجمعة ، فإنّ صلاتكم معروضة عليّ ... ـ إلى قوله ـ : فإنّ الله حرّم على الأرض لحوم الأنبياء) (٣).

وفي حديث آخر صحّ عنه قال : (علمي بعد مماتي كعلمي في حياتي) (٤).

وفي آخر قال : (إنّ الله وكّل ملَكاً يُسمعني أقوال الخلائق ، يقوم على قبري ،

__________________

(١) السنن الكبرى للبيهقي ٥ / ٢٤٥ باب زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومجمع الزوائد للهيثمي ١٠ / ١٦٢ عن الطبراني في الأوسط ، وكنز العمال ١ / ٤٩١ عن أبي داود.

(٢) سنن النسائي ٣ / ٤٣ في نوع آخر من التشهّد.

(٣) سنن النسائي ٣ / ٩١ ، وسنن الدارمي ١ / ٣٦٩ ، وسنن ابن ماجة ١ / ٣٤٥ و ٥٢٤ ، ومستدرك الحاكم ١ / ٢٧٨ و ٤ / ٥٦٠ ، والسنن الكبرى للبيهقي ٣ / ٢٤٩ ، وكنز العمال ١ / ٤٩٩ و ٧ / ٧٠٨.

(٤) لم أجده ، لكن في مجمع الزوائد ٤ / ٢ : من حجّ ، فزار قبري في مماتي كان كمن زارني في حياتي ، رواه الطبراني في الكبير والأوسط.

٣٩

فلا يصلّي عليّ أحد إلّا قال : يا محمّد إنّ فلان بن فلان يصلّي عليك ، صلّوا عليّ حيثما كنتم ، فإنّ صلاتكم تبلغني) (١).

كما في المرويّ عن الدار قطني في السنن عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : (من زار قبري وجبت له شفاعتي) (٢).

وعن ابن عمر ـ مرفوعاً عنه ـ أنّه قال : (من جاءني زائراً ليس له حاجة إلّا زيارتي ، كان حقاً عليّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة) (٣).

وفي آخر : (من زارني كنت شهيداً أو شفيعاً).

ثمّ إنّ هؤلاء المزورين من الأولياء والصالحين ، إن هم إلّا عباد الله الذين تشرّفوا بطاعتهم وعبادتهم وتوحيدهم له جلّ شأنه ، ولهم التقدّم بسابقتهم في الإسلام ، واجتهادهم في الدين.

وقد ورد في الشريعة المطهّرة والسُّنّة النبويّة من الرجحان في زيارة سائر المؤمنين من أهل القبور والتسليم عليهم ، فكيف بهؤلاء؟!

وهل يكون التسليم على مثل هؤلاء الصالحين شِركاً وقد سلّم الله ـ عزوجل ـ في كتابه على آحاد من الأنبياء والمرسلين ، فقال : (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ).

وقد سلّم على يحيى وإلْياسين ، وصلّى على الصابرين من المؤمنين ، وأمر رسوله بالسلام عليهم.

وأوجب على المسلمين كافّة أن يُخاطبوا نبيّهم في كلّ يوم خمس مرّات إلى يوم

__________________

(١) مجمع الزوائد ١٠ / ١٦٢ عن الطبراني في الكبير والأوسط ، وكنز العمال ١ / ٤٩٤ عن الفردوس.

(٢) مجمع الزوائد ٤ / ٢ عن البزار.

(٣) مجمع الزوائد ٤ / ٢ عن الطبراني في الكبير والأوسط.

٤٠