في ظلال التّوحيد

الشيخ جعفر السبحاني

في ظلال التّوحيد

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: نشر مشعر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-6293-82-4

الصفحات: ٧١٢

من مجموع الخطابات الواردة في الأدلّة. وإليك بيان ودراسة تلك الأدلّة تفصيلاً :

١ ـ تضافرت الآيات على ذمّ عمل المشركين حينما كانوا يقسمون رزق الله إلى ما هو حلال وحرام فجاء الوحي مندِّداً بقوله : (قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) (١) وفي آية أُخرى يعدّ عملهم افتراءً على الله كما يقول : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) (٢) ومن المعلوم أنّ المشركين كانوا ينسبون الحكمين إلى الله سبحانه ، وأنّه سبحانه قد جعل منه حلالاً وحراماً ، فكان عملهم بدعة في الدين.

٢ ـ وقفت في التمهيد ، أنّه سبحانه يصف من لم يحكم بما أنزل الله ، بكونه كافراً وظالماً وفاسقاً ومن المعلوم أنّ أحبار اليهود كانوا يحرّفون الكتاب فيصفون ما لم يحكم به الله ، بكونه حكم الله ، قال سبحانه : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) (٣) فقوله (هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ) صريح في أنّهم كانوا يتدخّلون في الشريعة الإلهية فيعرِّفون ما ليس من عند الله على أنّه من عند الله ، وهذا يؤكد بأنّ الموضوع في هذه الآية وأمثالها هو البدعة في الدين لا مطلقها.

٣ ـ ذمّ الله سبحانه الرهبان لابتداعهم ما لم يكتب عليهم ، قال سبحانه : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) (٤) ومعنى الآية أنّهم كانوا ينسبون الرهبانية إلى شريعة المسيح مدّعين بأنّه هو الذي شرع لهم ذلك العمل ، والقرآن يردّهم بقوله : (ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ).

٤ ـ أنّه سبحانه وصف أهل الكتاب بأنّهم اتّخذوا رهبانهم وأحبارهم أرباباً

__________________

(١) يونس : ٥٩.

(٢) النحل : ١١٦.

(٣) البقرة : ٧٩.

(٤) الحديد : ٢٧.

٨١

من دون الله ، وقد فسّره النبيّ الأكرم بأنّهم كانوا يحرّمون ما أحلّ الله فيتبعونهم أتباعهم ، أو يحلّلون ما حرّم الله عليهم فيقبلونه بلا تردّد ، ومن المعلوم أنّ الأحبار والرهبان كانوا يعرِّفون ما تخيّلوه من الحرام والحلال على أنّه حكم الله سبحانه ، وليس هذا إلّا بدعة في الشرع ، وتدخلاً في أمر الشريعة.

وإذا تدبّرت في هذه الآيات وأمثالها يتّضح لك أنّ الآيات تدور حول محور واحد هو البدعة في الدين لا مطلقها ، ولا يضرّ عدم ذكر القيد في اللفظ ؛ إذ هو مفهوم من القرائن القطعية.

ثمّ إنّ في قوله : (إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) وجهين : فمنهم من يجعله استثناءً منقطعاً ، أي ما كتبنا عليهم الرهبانية وإنّما كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله ، ومنهم من يجعله استثناءً متّصلاً ، بمعنى أنّه سبحانه كتب عليهم أصل الرهبانية ، لأجل كسب رضوان الله ، ولكنّهم لم يراعوا حقّها ؛ فتكون البدعة على الأوّل نفس الرهبانية وعلى الثاني الخروج عن حدودها.

هذا كلّه حول الآيات ، وأمّا السنّة ، ففيها قرائن كثيرة تعطي نفس المفهوم الذي أعطته الآيات ، وإليك تلك القرائن.

١ ـ ففي الرواية الأُولى يبتدئ النبي كلامه بقوله : «أصدق الحديث كتاب الله ، وأفضل الهدى هدي محمد» وهذا يدلّ على أنّ ما اتّخذه النبي موضوعاً للبحث هو ما يرجع إلى كتاب الله وهدي نبيّه ، فإذا قال بعده : «وشرّ الأُمور محدثاتها» يكون المراد ما دخل في الشريعة من أُمور ، وإذا قال : «كلّ بدعة ضلالة» ، أي البدعة فيما يتكلّم عنه ، ومن المعلوم أنّه يتكلّم عن دعوته وشريعته ، فتحوير كلامه إلى مطلق البدعة ، وإن لم يمسّ الكتاب والسنّة ، تأويل للظاهر بلا دليل.

٢ ـ ثمّ إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله يحكم على كلّ بدعة بالضلال ، ومن المعلوم أنّه لا يصدق إلّا على البدعة في الشريعة ، وأمّا غيرها فهي على أقسام كما قالوا.

٨٢

٣ ـ روى مسلم في صحيحه أنّ رسول الله إذا خطب احمرّت عيناه وعلا صوته ، واشتدّ غضبه كأنّه منذرُ جيشٍ ثمّ يقول : «أمّا بعد فانّ خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدي محمد ...» ومن المعلوم أنّ الأرضية الصالحة لثوران غضبه ليس إلّا تدخّل المبتدع في شريعته ، لا مطلق التدخل في شئون الحياة وإن لم تمسّ دينه ، خصوصاً إذا كان في مصلحة الإنسان.

٤ ـ إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وصف البدعة بالضلالة وقال : «إنّ صاحبها في النار» ولا تصدق تلك القاعدة إلّا على صاحب البدعة في الشريعة.

٥ ـ إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عند ما رأى أنّ رجالاً يُذادون عن حوضه فأخذ يناديهم بقوله : «ألا هلمّ ألا هلمّ ألا هلمّ» فإذا ينادي المنادي بقوله : «إنّهم قد بدّلوا بعدك» فيقول النبي : «فسحقاً! فسحقاً! فسحقاً!» ومن المعلوم أنّه قد بدّلوا دين الرسول وشريعته وإلّا لما كانوا مستحقّين دعاءه بقوله : «فسحقاً ...».

٦ ـ دلّت الروايات السابقة على أنّه إذا ظهرت البدع في الأُمّة فعلى العالم أن يظهر علمه وإلّا فعليه لعنة الله.

٧ ـ كما دلّت على أنّ صاحب البدعة لا تقبل توبته.

٨ ـ وإنّ من زار ذا بدعة فقد سعى في هدم الإسلام.

٩ ـ وأوضح من الكل خطاب الإمام علي عليه‌السلام حيث قال : «إنّما بدء وقوع الفتن أهواء تتّبع وأحكام تبتدع يخالف فيها كتاب الله».

١٠ ـ وفي رواية أُخرى : «ما أُحدثت بدعة إلّا تركت فيها سنّة ، فاتركوا البدع والزموا المهيع إنّ عوازم الأُمور أفضلها ، وإنّ محدثاتها شرارها» (١).

١١ ـ هذا ما تعطيه نصوص الكتاب والسنّة ، وتليهما نصوص لفيفٍ من أهل اللغة التي سبق ذكرها ، مثل :

__________________

(١) قد سبقت مصادرها في نصوص البدعة في الكتاب والسنّة فلاحظ.

٨٣

قول الخليل : والبدعة ما استحدثت بعد الرسول.

وقول الراغب : البدعة في المذهب إيراد قول لم يستنّ قائلها وفاعلها فيه بصاحب الشريعة.

وقول الفيروزآبادي : البدعة : الحدث في الدين بعد الإكمال أو ما استحدث بعد النبي من الأهواء والأعمال.

وتليه نصوص لفيف من الفقهاء ، نظير قول ابن رجب الحنبلي : البدعة ما أُحدث ممّا لا أصل له في الشريعة يدلّ عليه.

وقول ابن حجر العسقلاني : البدعة ما أُحدث وليس له أصل في الشرع.

وقول ابن حجر الهيتمي : البدعة ما أُحدث على خلاف أمر الشارع ودليله الخاص.

وقول الزركشي : البدعة الشرعية هي التي تكون ضلالة (١).

ومن يدرس هذه النصوص جليلها ودقيقها يقف على أنّ موضوع البحث في جميع الأدلّة هو الأمر الذي يمت إلى الشريعة بصلة ، وأنّ الله سبحانه ونبيّه الصادع بالحق يهيبان بالمجتمع الإسلامي عن البدعة والكذب على الله ، والتدخّل في الكتاب والسنّة ، والتلاعب بما أنزل الله في مجالي العقيدة والشريعة ، وهذا أمر واضح لا غبار عليه ، وبذلك يختلف اتّجاهنا في تفسير النصوص عن غيرنا.

فإذا ثبت ذلك اتّضح أنّ البدعة ليس لها إلّا قسم واحد ، ولها حكم واحد لا يُخصص ولا يُقيّد بل هو بمثابة لا يقبل التخصيص ، وهذا نظير قوله سبحانه : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (٢) فإنّ تلك القاعدة لا تقبل التخصيص أي يمتنع تجويز الظلم والشرك في مكان دون مكان ، نظير قوله سبحانه : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ

__________________

(١) قد مضت النصوص في مواضعها.

(٢) لقمان : ١٣.

٨٤

كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (١).

ثمّ إنّ النتيجة التي توصّلنا إليها قد توصّل إليها الشاطبي بطريقة أُخرى هذا موجزها :

«قال : الباب الثالث : في أنّ ذمّ البدع والمحدثات عام لا يخصُّ محدثة دون غيرها ـ إلى أن قال : ـ فاعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ ما تقدّم من الأدلّة حجّة في عموم الذمّ من أوجه :

أحدها : أنّها جاءت مطلقة عامة على كثرتها لم يقع فيها استثناء البتة ، ولم يأت فيها ما يقتضي ، أنّ منها ما هو هدى ، ولا جاء فيها : كلّ بدعة ضلالة إلّا كذا وكذا. ولا شيء من هذه المعاني فلو كان هنالك محدثة يقتضي النظر الشرعي فيها الاستحسان ، أو أنّها لاحقة بالمشروعات ، لذكر ذلك في آية أو حديث ، لكنّه لا يُوجد ، فدلّ على أنّ تلك الأدلّة بأسرها على حقيقة ظاهرها من الكليّة التي لا يتخلّف عن مقتضاها فرد من الأفراد.

الثاني : أنّه قد ثبت في الأُصول أنّ كلّ قاعدة كليّة أو دليل شرعي كلّي إذا تكرّرت في مواضع كثيرة وأتى بها شواهد على معان أُصوليّة أو فروعية ، ولم يقترن بها تقييد ولا تخصيص ، مع تكرّرها وإعادة تقررها ، فذلك دليل على بقائها على مقتضى لفظها من العموم ، كقوله تعالى : (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) (٢) ، فما نحن بصدده من هذا القبيل إذ جاء في الأحاديث المتعدّدة أنّ كلّ بدعة ضلالة ، وأنّ كلّ محدثة بدعة ، وما كان نحو ذلك من العبارات الدالّة على أنّ البدع مذمومة ، ولم يأت في آية ولا حديث ، تقييد ولا تخصيص ، ولا ما يفهم منه خلاف ظاهر الكلية فيها.

__________________

(١) القلم : ٣٥.

(٢) النجم : ٣٨ ـ ٣٩.

٨٥

الثالث : إجماع السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم على ذمّها كذلك ، وتقبيحها والهروب عنها ـ إلى أن قال : ـ فهو بحسب الاستقراء ، إجماع ثابت ، فدلّ على أنّ كلّ بدعة ليست بحقّ ، بل هي من الباطل.

الرابع : أنّ متعقل البدعة يقتضي ذلك بنفسه ، لأنّه من باب مضادة الشارع واطّراح الشرع ، وكل ما كان بهذه المثابة فمحال أن ينقسم إلى حسن وقبيح (١) وأن يكون منه ما يمدح ومنه ما يذمّ ، إذ لا يصحّ في معقول ولا منقول استحسان مشاقّة الشارع» (٢).

إلى هنا تمّ الكلام في تحديد البدعة من حيث كون الموضوع بسيطاً ومركّباً ، ويترتّب عليه أنّه لا تعمّ البدعة غير الشريعة ، كالعادات والصناعات والأعلام وغيرها ، بل يستخرج حكمها من الكتاب والسنّة بنفس عناوينها ، لا بما هي بدعة ، فربّما تكون حلالاً وأُخرى حراماً ، لكن ليس كلّ حرام بدعة. كما سيأتي.

٢ ـ البدعة إشاعة ودعوة

إذا كانت البدعة هي إدخال ما ليس في الدين فيه أو نقصه منه في مجال العقيدة والشريعة ؛ فهل يتحقّق مفهومها بقيام الشخص بذلك العمل ؛ وحده في بيته ومنزله ، كأن يزيد في صلاته ما ليس فيها أو ينقص منها شيئاً ، أو أنّه ليس ببدعة وإن كان عمله باطلاً وبفعله عاصياً؟ بل البدعة تتوقّف على إشاعة فكرة خاطئة في العقيدة ، أو عمل غير مشروع في المجتمع ودعوتهم إليه بعنوان أنّه من الشرع ، ولك أن تستظهر ذلك القيد من الآيات والروايات ، فإنّ عمل المشركين في التحليل

__________________

(١) لا يخفى أنّ الإمام الشاطبي يقول في كلمته هذه بالحسن والقبح العقليين مع أنّه خلاف مذهبه ، لاحظ الصفحة ١١٤ من الاعتصام.

(٢) الاعتصام ١ : ١٤١ ـ ١٤٢.

٨٦

والتحريم لم يكن عملاً شخصياً في الخفاء ، بل إنّ المُبتدع الأوّل قد أحدث فكرة وأشاعها ودعا الناس إليها ، كما كان الحال كذلك في الرهبان والأحبار ، ويشهد على ذلك بوضوح ما رواه مسلم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله : «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أُجور من تبعه ، لا ينقص ذلك من أُجورهم شيئاً ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من يتّبعه ، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً» (١).

ويدلّ عليه قول القائل يوم القيامة : «إنّهم قد بدّلوا بعدك» فإنّ تبديل الدين ، ليس عملاً شخصياً بل هو عمل جماعي ، إلى غير ذلك من القرائن الموجودة في الروايات.

الى هنا خرجنا بنتيجتين :

الأُولى : إنّ مصبّ البدعة في الأدلّة هو الدين والشرع.

الثانية : إنّ البدعة لا تنفك عن الدعوة إلى الباطل.

وإليك بيان القيد الثالث.

٣ ـ عدم وجود أصل لها في الدين

العنصر الثالث المقوّم لمفهوم البدعة هو فقدان الدليل على جواز العمل بها ، لا في الكتاب ولا في السنّة ، وذلك ظاهر ؛ إذ لو كان هناك دعم من الشارع للعمل ؛ لما كان أمراً جديداً في الدين أو تدخّلاً في الشرع ، ولأجل ذلك قلنا : إنّ أفضل التعاريف هو قولهم : «إدخال ما ليس من الدين في الدين» أو «إدخال ما لم يُعلم من الدين في الدين».

__________________

(١) لاحظ المبحث الأوّل : نصوص البدعة في الكتاب والسنّة ، الحديث التاسع.

٨٧

وبعبارة واضحة : البدعة في الشرع : ما حدث بعد الرسول ، ولم يرد فيه نصّ على الخصوص ، ولم يكن داخلاً في بعض العمومات.

وإن شئت قلت : إحداث شيء في الشريعة لم يرد فيه نصّ ، سواء كان أصله مبتدعاً ، كصوم عيد الفطر ، أو خصوصيته مبتدعة كالإمساك إلى غسق الليل ناوياً به الصوم المفروض ، معتقداً بأنّه الواجب في الشرع. وفي النصوص السابقة للعلماء تصريح بذلك.

قال ابن حجر العسقلاني : «والمراد بالبدعة ، ما أحدث وليس له أصل في الشرع ، وما كان له أصل يدلّ عليه الشرع فليس ببدعة».

قال ابن رجب الحنبلي : «البدعة : ما أُحدث ممّا لا أصل له في الشريعة يدلّ عليه ، أمّا ما كان له أصل في الشرع يدلّ عليه فليس ببدعة شرعاً وإن كان بدعة لغة» (١).

وقال العلّامة المجلسي : «البدعة في الشرع : ما حدث بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يرد فيه نصّ على الخصوص ولا يكون داخلاً في بعض العمومات ، أو ورد نهي عنه خصوصاً أو عموماً» (٢).

وعلى ضوء ذلك تنحل هنا عويصة المصاديق التي ربّما تعدّ من البدعة ؛ لعدم ورود نصّ خاصّ فيها ولكن تشملها العمومات بصورة كليّة ، فهذه لا تكون بدعة ، وذلك لأنّه لو كان هناك نصّ خاص ؛ لأخرجه عن البدعة وهذا واضح جدّاً ، أمّا إذا لم يكن هناك نصّ خاصّ ، ولكن العمومات تشمله بعمومها فهذا ما نوضحه بالمثال التالي :

إنّ الدفاع عن بيضة الإسلام وحفظ استقلاله وصيانة حدوده عن الأعداء

__________________

(١) مضت النصوص في محلّها.

(٢) البحار ٧٤ : ٢٠٢.

٨٨

أصل ثابت في القرآن الكريم ، قال سبحانه : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) (١) فإنّ قوله : (مِنْ قُوَّةٍ) مفهوم كلّي يشمل كيفية الدفاع ، ونوعيّة السلاح ، وشكل الخدمة العسكرية المتبعة في كلّ عصر ومصر ، فالجميع برمّته هو تطبيق لهذا المبدأ ، وتجسيد لهذا الأصل ، فالتسلّح بالغواصات والأساطيل البحريّة والطائرات المقاتلة إلى غير ذلك من أدوات الدفاع ، ليس بدعة بل تجسيد لهذا الأصل ومن حلاله.

وإنّ من يعد التجنيد العسكري بدعة فهو غافل عن حقيقة الحال ، فإنّ الإسلام يأمر بالأصل ويترك الصور والأشكال لمقتضيات العصور.

إلى هنا خرجنا بلزوم وجود قيود ثلاثة في تحقّق البدعة وصدقها :

١ ـ أن يكون تدخّلاً في الشريعة وتصرّفاً فيها عقيدةً وحكماً.

٢ ـ أن تكون هناك إشاعة بين الناس.

٣ ـ أن لا يكون هناك أصل على المشروعية لا خاصّاً ولا عامّاً.

ويجمع الكلّ «القول في الدين بغير علم على الأغلب ، بل مع العلم بالخلاف ولكن يقدّم رأيه عليه ، بظنّ الإصلاح أو غيره من الحوافز».

هذا هو تحديد البدعة بمفهومها الدقيق الذي نتّخذه قاعدة كليّة ، ونستكشف به حال الموضوعات التي تضاربت فيها الأقوال والأفكار بين موسِّع ومضيِّق. وسيوافيك شرحها.

__________________

(١) الأنفال : ٦٠.

٨٩

المبحث الرابع

الابتداع في تفسير البدعة

لقد ارتحل النبيّ الأكرم إلى الرفيق الأعلى بعد أن أكمل الشريعة وبيّن جليلها ودقيقها وما تحتاج إليه الأُمّة إلى يوم القيامة ، قال سبحانه : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (١) وحفاظاً على دينه وصيانته من التحريف والتبديل ، أمر التمسّك بالثقلين. ولم يرضَ للأُمّة غيرهما لئلّا يكون الدين أُلعوبة بأيدي المغرضين والطامعين. والمقياس في تميّز البدعة عن السنّة هو الرجوع إلى الثقلين سواء أفسر بالكتاب والعترة ، كما هو المتضافر ، أم بالكتاب والسنّة ، كما رواه الإمام مالك في الموطأ بسند مرسل (٢) ، والحديثان متقاربا المضمون ؛ لأنّ العترة لا تنشد إلّا السنّة النبويّة ، التي أخذوها كابر عن كابر إلى أن تصل إلى النبيّ الأكرم ، فما وافقهما فهو سنّة وما خالفهما فهو بين معصية وبدعة ، مع الفرق الواضح بينهما ؛ فلو أُذيعت الفكرة أو شاع العمل بين الناس بها فتصير بدعة ، وإن اكتُفي بها من دون دعوة وإشاعة فهي معصية.

__________________

(١) المائدة : ٣.

(٢) الموطّأ : ٦٤٨ / ١٦١٩.

٩٠

بدعة «ما لم يكن في القرون الثلاثة»

ومن العجب أنّ أُناساً صاروا إلى تحديد البدعة وتمييزها عن السنّة ، ولكنهم جاءوا حين تحديدها ببدعة وفرية جديدة لا دليل عليها في الكتاب والسنّة ، وهي أنّ المقياس في تمييز البدعة عن السنّة هو القرون الثلاثة الأُولى بعد رحيل الرسول. فما حدث فيها فهو سنّة ، وما حدث بعدها فهو بدعة ، وإن تعجب فإليك نصّ القائل :

«وممّا نحن عليه ، أنّ البدعة ـ وهي ما حدثت بعد القرون الثلاثة ـ مذمومة مطلقة خلافاً لمن قال : حسنة وقبيحة ، ولمن قسّمها خمسة أقسام إلّا إن أمكن الجمع بأن يقال : الحسنة ما عليها السلف الصالح شاملة للواجبة والمندوبة والمباحة ، وتكون تسميتها بدعة مجازاً ، والقبيحة ما عدا ذلك شاملة للمحرّمة والمكروهة فلا بأس بهذا الجمع» (١).

وهذه النظرية الشاذّة عن الكتاب والسنّة نظرية خاصّة استنتجها القائل ممّا رواه الشيخان في باب فضائل أصحاب النبيّ وإليك نصّهما :

روى البخاري قال : سمعت عمران بن الحصين يقول : قال رسول الله : «خير أُمّتي قرني ثمّ الذين يلونهم ثمّ الذين يلونهم» ، قال عمران : فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة، «ثمّ إنّ بعدكم قوماً ، يشهدون ولا يستشهدون ، ويخونون ولا يُؤتمنون ، ويَنذرون ولا يفون ، ويظهر فيهم السمن».

وروى أيضاً عن عبد الله رضى الله عنه أنّ النبيّ قال : «خير الناس قَرني ثمّ الذين يلونهم ثمّ يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ، ويمينه شهادته» ، قال : قال

__________________

(١) الهدية السنية ، الرسالة الثانية : ص ٥١.

٩١

إبراهيم : وكانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار (١).

إنّ الاحتجاج بهذه الرواية على أنّ الميزان في تمييز البدعة عن السنّة ، هو أنّ كلّ ما حدث في القرون الثلاثة الأُولى ليس ببدعة ؛ وأمّا الحادث بعدها فهو بدعة ؛ باطل بوجوه :

الأوّل : إنّ القرن في اللّغة هو النسل (٢) وهو الأُمّة بعد الأُمّة وبهذا المعنى استعمل في القرآن الكريم ، قال سبحانه : (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) (٣) وبما أنّ المتعارف في عمر كلّ نسل هو الستّون أو السبعون ، يكون المراد ، مجموع تلك السنين التي تتراوح بين ١٨٠ و ٢١٠ وأين هذا من تفسير الحديث بثلاثمائة سنة؟!

الثاني : على الرغم من اختلاف شرّاح الحديث في تفسير الرواية ، إلّا أنّ جميعها لا يستفاد منها ما يتبنّاه الكاتب ، فبعض قال : إنّ المراد من القرن في قوله : «قرني» هو أصحابه ، ومن «الذين يلونهم» أبناءهم ومن «الثالث» أبناء أبنائهم.

وقال آخر : بأنّ قرنه ما بقيت عين رأته ، ومن الثاني ما بقيت عين رأت من رآه ، ثمّ كذلك.

وثالث قال : إنّ قرنه الصحابة ، والثاني التابعون ، والثالث تابعوهم (٤).

وعلى كلّ تقدير تكون المدّة أقلّ من ثلاثة قرون ، حتى لو أخذنا بالقول الأخير الذي هو أعمّ الأقوال وأوسعها. فإنّ آخر من مات من الصحابة هو أبو الطفيل ، وقد اختلفوا في تاريخ وفاته على أقوال : فقيل : أنّه توفّي سنة ١٢٠ أو

__________________

(١) فتح الباري في شرح صحيح البخاري ٧ : ٦ باب فضائل أصحاب النبي ؛ صحيح مسلم بشرح النووي ٨ : ٨٤ ـ ٨٥.

(٢) لسان العرب ١٣ : ٣٣٣ مادة «قران».

(٣) الأنعام : ٦.

(٤) صحيح مسلم ، شرح النووي ١٦ : ٨٥.

٩٢

دونها أو فوقها بقليل ، وأمّا قرن التابعين فآخر من توفّي منهم كان عام ١٧٠ أو ١٨٠ وآخر من عاش من أتباع التابعين ممّن يقبل قوله ، من توفّي حدود ٢٢٠ ، فيقل عن ثلاثة قرون بثمانين سنة ، وهذا كثير جدّاً ، ولأجل عدم انطباقه على ثلاثة قرون قال ابن حجر العسقلاني : «وفي هذا الوقت ٢٢٠ ه‍ ظهرت البدع فاشياً ، وأطلقت المعتزلة ألسنتها ، ورفعت الفلاسفة رءوسها ، وامتُحِن أهل العلم ليقولوا بخَلْق القرآن ، وتغيّرت الأحوال تغيّراً شديداً ولم يزل الأمر في نقص الى الآن» (١).

ولو افترضنا أنّ القرن يستعمل في مائة سنة فلا يصحّ تفسير الحديث به ، لأنّ المحور في الحديث في تمييز قرن عن قرن آخر هو الأشخاص حسب أعمارهم ، فعلى ذلك يجب أن يكون الملاك في تبادل القرون وتمايزها ملاحظة من كانوا يعيشون فيه حيث قال : «خير أُمّتي قرني» ولم يقل القرن الأوّل ، ثمّ قال : «ثمّ الذين يلونهم» فلم يقل ثمّ القرن الثاني ، وقال : «ثمّ الذين يلونهم» ولم يقل القرن الثالث ، فلا محيص عند حساب السنين ملاحظة الأشخاص الذين كانوا يعيشون في قرنه والقرنين اللّذين يليانه.

* * *

الثالث : ما ذا يراد من عبارة خير القرون وشرّها ، وما هو الملاك في الوصف بالخير والشر؟

هناك ثلاثة ملاكات للاتّصاف بالخير والشر ، كلّها محتمل :

١ ـ إنّ أهل القرن الأوّل كانوا خير القرون ، وذلك لأنّهم لم يدبّ فيهم دبيب الخلاف في الأُصول والعقائد ، وكانوا متماسكين في الأُصول ، متّحدين في العقائد.

٢ ـ كونهم خير القرون وذلك لسيادة الطمأنينة فيهم ، وكان الجميع متظلّل بظلّ الصلح والسلم إخواناً.

__________________

(١) فتح الباري في شرح صحيح البخاري ٧ : ٤.

٩٣

٣ ـ كونهم خير القرون وذلك لتمسّكهم بأهداف الدين في مقام العمل وتطبيق الشريعة.

وأيّ واحد أُريد من هذه الملاكات ؛ فالقرآن والسنّة والتاريخ القطعي لا يدعمه بل يكذبه ، وإليك البيان :

فإن كان الملاك هو العقائد الصحيحة والباطلة ، وأنّ المسلمين كانوا متمسّكين جملة واحدة بمعتقد واحد صحيح في القرون الثلاثة الأُولى ثمّ ظهرت رءوس الشياطين ، ودبّت فيهم المناهج الكلاميّة الفاسدة ، ـ فإن كان الملاك هذا ـ فتاريخ الملل والنحل لا يؤيد ذلك بل ويكذّبه ، فانّ الخوارج ظهروا بين الثلاثين والأربعين من القرن الأوّل ، وكانت لهم ادّعاءات وشبهات وعقائد سخيفة خضّبوا في طريقها وجه الأرض ، ولم يتمّ القرن الأوّل إلّا وظهرت المرجئة ، الذين دعوا المجتمع الإسلامي إلى التحلل الأخلاقي ، رافعين عقيرتهم بأنّه لا تضرّ مع الإيمان معصية ، فقد ضلّوا وأضلّوا كثيراً حتّى دبّ الإرجاء بين المحدثين وغيرهم في القرن الثاني ، وقد ذكر أسماءهم جلال الدين السيوطي في تدريب الراوي (١). حيث كان الإرجاء يقود المجتمع الإسلامي إلى التحلل الأخلاقي ، والفوضى في جانب العمل. إلى أن ظهرت المعتزلة في أوائل القرن الثاني عام ١٠٥ ه‍ قبل وفاة الحسن البصري بقليل ، فتوسّع الشقاق بين المسلمين ، وانقسموا إلى فرق كثيرة ، حيث كان النزاع قائماً على قدم وساق منذ أن ظهر الاعتزال على يد واصل بن عطاء حتى أواسط القرن الخامس الذي قضي فيه على هذه الفرقة.

وأمّا القرن الثاني فكان عصر ازدهار المذاهب الكلامية ، وكانت الأمصار ميداناً لتضارب الأفكار.

فمنهم متزمت يقتصر في وصفه الله سبحانه على الألفاظ الواردة في الكتاب

__________________

(١) تدريب الراوي ١ : ٣٢٨.

٩٤

والسنّة ، ويفسّرها بمعانيها الحرفية ، من دون إمعان وتدبّر ، ويرفع صوته بأنّ لله يداً ووجهاً ورجلاً وأنّه مستقرّ على عرشه.

ومنهم مرجئيّ يكتفي بالإيمان بالقول ، ويقدّمه ويؤخر العمل ويسوق المجتمع إلى التحلل الخلقي وترك الفرائض.

وآخر محكِّم يكفّر كلّ الطوائف الإسلامية غير أهل نحلته ، الذين كانوا يبغضون الخليفتين عثمان وعليّاً ، وكانوا يكفّرون الصدّيق الأعظم عليّ عليه‌السلام.

ومعتزلي يؤوّل الكتاب والسنّة بما يوافق معتقده وعقليّته.

وجهميّ ينفي صفات الله كلّها ، وينفي الاستطاعة والقدرة عن الإنسان ، ويحكم بفناء الجنّة والنار ، وقد هلك جهم بن صفوان عام ١٢٨ ه‍.

وكرّامي يقول : الإيمان قول باللسان ، وإن اعتقد الكفر بقلبه فهو مؤمن ، وانّه سبحانه جسم لا كالأجسام وقد هلك «كرّام» عام ٢٥٥ ه‍.

إلى غير ذلك من المناهج الرجعية التي أفسدت المسلمين والمجتمع الإسلامي بعقائدها الفاسدة ، فكيف يمكن ـ من هذا الجانب ـ وصف هذه القرون خيراً؟!

وأمّا إذا كان الملاك هو صفاء المجتمع من حيث السلم والصلح وسيادة الطمأنينة على المسلمين ، فهذا ما يكذّبه التاريخ ، فانّ القرن الأوّل كان صحيفة سوداء في التاريخ الإسلامي ، وكان قرناً دموياً لم يرَ التاريخ مثله. فكيف يكون خير القرون؟! وأيّ يوم فيه كان يوم الصفاء والصلح؟!

أم يوم قُتل فيه الخليفة عثمان بن عفان في عقر داره بمرآى ومسمع من المهاجرين والأنصار؟

أم يوم فتنة الجمل الذي قتلت فيه عشرات الآلاف من الطرفين بين صحابي وتابعي ، وقد عقب ذلك ترميل النساء وأيتام الأطفال ، وحدوث الأزمة والشدّة؟

أم يوم صفّين الذي خرج فيه أمير الشام بوجه الإمام عليّ عليه‌السلام ، الذي بايعه

٩٥

المهاجرون والأنصار بيعة لم ير لها نظير في التاريخ ، فوقع صِدَام بين طائفتين من المسلمين كانت نتيجته إراقة دماء عشرات الأُلوف ، إلى أن انتهى إلى التحكيم؟

أم يوم ظهر الخوارج على الساحة الإسلامية يَغيرون ويقتلون الأبرياء إلى أن انتهت فتنتهم بقتل مشايخهم في النهروان؟

أم يوم أُغير على آل رسول الله بكربلاء ، حيث قتل فيه أبناء المصطفى ، وفيهم سبطه وريحانته سيد شباب أهل الجنّة ، وسُبيت بنات الزهراء ومن معهنّ من نساء أهل البيت حتى لم يبقَ بيت له برسول الله صلة إلّا وقد ضُجَّت فيه النوائح وعمّته الآلام والأحزان؟

أم يوم أُبيحت فيه مدينة رسول الله في وقعة الحرّة الشهيرة فقُتل الأصحاب والتابعون ، ونهبت الأموال ، وبقرت بطون الحوامل وهتكت الأعراض حتى ولدت الأبكار دون أن يعرفن أولادهن؟ (١)

أم يوم حاصر جيش بني اميّة مكّة المكرّمة والبيت العتيق ورموه بالحجارة ، لأجل القضاء على عبد الله بن الزبير؟

أم يوم تسلّم عبد الملك بن مروان منصّة الخلافة ، وقد عيّن الحجاج بن يوسف عاملاً على العراق ، فسفك دماءً طاهرة ، وقتل الأبرياء ، وزجّ بالسجون رجالاً ونساءً من دون أن تظلّهم مظلّة تقيهم حرّ الشمس وبرد الليل القارص؟

فكل تلك الحوادث الدموية قد وقعت ولمّا ينقضي القرن الأوّل ، فكيف يمكن أن يكون خير القرون وأفضلها؟!

وإن كان صاحب القرن هو الرسول الأعظم أفضل الخلق؟ إلّا أنّ سيرته ،

__________________

(١) منهج في الانتماء المذهبي : ص ٢٧٧.

٩٦

تختلف عن سيرة أُمّته التي وقفْتَ على صورة مجملة من أفعالها الدموية (١).

وإن كان الملاك هو تمسّكهم بالدين في مجال الأحكام والفروع فهو أيضاً لم يتحقّق ، وإن شئت فارجع إلى ما حدث بعد رحيل النبي في نفس عام الرحلة ، فإنّ كثيراً ممّن رأى النبيّ الأكرم وأدركه وسمع حديثه أصبح يمتنع عن أداء الزكاة ، بل وارتدّ بعض عن دين الإسلام ، لو لا أن يقمعهم الخليفة الأوّل ويرد عاديتهم.

لكن لا ندري هل نصدق هذا الحديث أم نؤمن بما حدّث القرآن الكريم ، حيث يعتبر قوماً أعرف بمواقع الإسلام ويفضلهم على من كان في حضرة النبيّ من الصحابة الكرام وقد ارتدّ ، يقول سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (٢) قل لي من هؤلاء الذين يعتزّ الله بهم سبحانه ويفضّلهم على أصحاب النبيّ؟ فلاحظ التفاسير (٣).

لا ندري هل نؤمن بهذا الحديث الذي رواه الشيخان أم نؤمن بما روياه أنفسهما في باب آخر ، قالا : قال رسول الله : «يرد عليَّ يوم القيامة رهط من أصحابي فيُحلَّئون عن الحوض فأقول : يا ربّ أصحابي ، فيقول : إنّه لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى» (٤).

هل نؤمن بهذا الحديث أم نؤمن بما رواه المؤرّخون في حياة الوليد بن عقبة وهو الذي وصفه سبحانه بكونه فاسقاً وقال : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ

__________________

(١) للوقوف على هذه الحوادث المرّة ، لاحظ تاريخ الطبري ، تاريخ اليعقوبي ، مروج الذهب للمسعودي ، وتاريخ الكامل للجزري ، والإمامة والسياسة لابن قتيبة إلى غير ذلك من المعاجم التاريخية المعتبرة.

(٢) المائدة : ٥٤.

(٣) مفاتيح الغيب ٣ : ٤٢٧ ؛ تفسير النيسابوري بهامش تفسير الطبري ٦ : ١٦٥.

(٤) جامع الأصول ١١ : ١٢٠ : ٧٩٧٣.

٩٧

فَتَبَيَّنُوا) (١) وقد أطبق المفسّرون في نزولها في الوليد بن عقبة.

هذا وقد ولي الكوفة أيّام خلافة الخليفة الثالث فشرب الخمر ، وقام يصلّي بالناس صلاة الفجر فصلّى أربع ركعات ، وكان يقول في ركوعه وسجوده : اشربي واسقني ، ثمّ قاء في المحراب ثمّ سلّم وقال : هل أزيدكم إلى آخر ما ذكره (٢).

وليس الوليد شخصاً وحيداً بين من عاصر النبيَّ الأكرم ، بل كان فيهم أصناف مختلفة لا يمكن الحكم باستقامتهم فضلاً عن الحكم بعدالتهم.

فقد كان فيهم المنافقون المعروفون بالنفاق (٣) ، والمختفون به (٤) ، ومرضى القلوب (٥) ، والسمّاعون كالريشة في مهبّ الرياح (٦) ، وخالطوا العمل الصالح بالسيّئ (٧) ، والمشرفون على الارتداد (٨) ، والمسلمون غير المؤمنين (٩) ، والمؤلّفة قلوبهم (١٠) ، والمولّون أمام الكفّار (١١) ، والفاسق (١٢).

نحن نترك تفسير الحديث إلى آونة أُخرى ، ولعلّ المحقّقين يجدون له تفسيراً ينطبق على التاريخ القطعي المشهود والملموس.

__________________

(١) الحجرات : ٦.

(٢) الكامل ٢ : ٥٢ ؛ اسد الغابة ٥ : ٩١ إلى غيرهما من المصادر الكثيرة.

(٣) المنافقون : ١ ـ ٨.

(٤) التوبة : ١٠١.

(٥) الأحزاب : ١٢.

(٦) التوبة : ٤٥ ـ ٤٧.

(٧) التوبة : ١٠٢.

(٨) آل عمران : ١٥٤.

(٩) الحجرات : ١٤.

(١٠) التوبة : ٦٠.

(١١) الأنفال : ١٦.

(١٢) الحجرات : ٦.

٩٨

بدعة «جعل السلف معياراً للحق والباطل»

إنّ من البدعة في تفسيرها ، هو جعل السلف معياراً للحقّ والباطل والإصرار عليه ، فترى أنّ كثيراً ممّن ينتمون إلى السلفية يصفون كثيراً من الأُمور بالبدعة بحجّة أنّها لم تكن في عصر الصحابة والتابعين ، وهذا ابن تيمية يصف «الاحتفال في مولد النبي بدعة بحجّة أنّه لم يفعله السلف ، مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه ، ولو كان هذا خيراً محضاً أو راجحاً ، لكان السلف ـ رضي الله عنهم ـ أحقّ منّا فإنّهم كانوا أشدّ محبّة لرسول الله وتعظيماً له منّا وهم على الخير أحرص» (١).

ويقول في حقّ القيام للمصحف وتقبيله : «لا نعلم فيه شيئاً مأثوراً عن السلف»(٢).

وقد ورث هذه الفكرة كثير ممّن يؤمن بمنهجه. وهذا هو عبد الله بن سليمان بن بُليهد الذي قام باستفتاء علماء المدينة بتخريب قباب الصحابة وأئمة أهل البيت في بقيع الغرقد عام ١٣٤٤ ه‍ وقد نشر مقالاً في جريدة أُمّ القرى في عدد جمادى الآخر سنة ١٣٤٥ ه‍ جاء فيه : لم نسمع في خير القرون أنّ هذه البدعة (البناء على القبور) حدثت فيها بل بعد القرون الخمسة (٣).

وبدورنا نشكر الشيخ ابن بليهد حيث وسع الأمر على المسلمين وأدخل عليها قرنين آخرين بعد ما قصر مؤلف الهدية السنية العصمة على أهل القرون الثلاثة الأُولى ، ولكن نهيب بصاحب المقال بأنّ المسلمين وفي مقدمتهم عمر بن

__________________

(١) اقتضاء الصراط المستقيم : ص ٢٧٦.

(٢) الفتاوي الكبرى ١ : ١٧٦.

(٣) كشف الارتياب : ص ٣٥٧ ـ ٣٥٨.

٩٩

الخطاب رضى الله عنه قد فتحوا القدس ، وفيها مقابر الأنبياء ومقام إبراهيم ويعقوب وأولادهم ، وعليها قباب وأبنية ولم يَدُر بخلد أحدٍ حتى الخليفة بأنّها بدعة كي يهدموها بمعاولهم.

إنّ هناك كلاماً جميلاً للأُستاذ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي ، فقد ألّف كتاباً باسم «السلفية مرحلة زمنيّة مباركة لا مذهب إسلامي» وقد أدّى فيه حقّ المقال ، نقتطف منه ما يأتي:

إنّ من الخطأ بمكان أن نعمد إلى كلمة (السلف) فنصوغ منها مصطلحاً جديداً ، طارئاً على تاريخ الشريعة الإسلامية والفكر الإسلامي ، ألا وهو «السلفية» فنجعله عنواناً مميزاً تندرج تحته فئة معيّنة من المسلمين ، تتّخذ لنفسها من معنى هذا العنوان وحده مفهوماً معيناً ، وتعتمد فيه على فلسفة متميزة ، بحيث تغدو هذه الفئة بموجب ذلك جماعة إسلامية جديدة في قائمة جماعات المسلمين المتكاثرة والمتعارضة بشكل مؤسف في هذا العصر ، تمتاز عن بقية المسلمين بأفكارها وميولاتها بل تختلف عنهم حتى بمزاجها النفسي ومقاييسها الأخلاقية كما هو الواقع اليوم فعلاً.

بل إنّا لا نعدو الحقيقة إن قلنا : إنّ اختراع هذا المصطلح بمضامينه الجديدة التي أشرنا إليها ، بدعة طارئة في الدين ، لم يعرفها السلف الصالح لهذه الأُمّة ولا الخلف الملتزم بنهجه.

فإنّ السلف ـ رضوان الله عليهم ـ ، لم يتّخذوا من معنى هذه الكلمة بحدّ ذاتها مظهراً لأيّ شخصية متميّزة ، أو أي وجود فكري أو اجتماعي خاص بهم ، يميّزهم عمّن سواهم من المسلمين ، ولم يضعوا شيئاً من يقينهم الاعتقادي أو التزاماتهم السلوكية والأخلاقية في إطار جماعة إسلامية ذات فلسفة وشخصية فكرية مستقلّة. بل كان بينهم وبين من نسمّيهم اليوم بالخلف منتهى التفاعل وتبادل الفهم

١٠٠