في ظلال التّوحيد

الشيخ جعفر السبحاني

في ظلال التّوحيد

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: نشر مشعر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-6293-82-4

الصفحات: ٧١٢

المبحث الأوّل

نصوص البدعة في الكتاب والسنّة

اتّفقت الأدلّة الشرعيّة على حرمة البدعة ، وقد ذكرنا في المقدّمة قسماً وافراً من الآيات الكريمة وسنأتي بذكر ما تبقى منها :

البدعة في الكتاب

١ ـ قال سبحانه : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) (١).

فالآية تعتبر الرهبانية من مبتدعات الرهبان التي لم تكن مفروضة عليهم من قبل ، وإنّما تكلّفوها من عند أنفسهم وسيوافيك تفسير الاستثناء في مبحث تحديد البدعة.

٢ ـ (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) (٢).

__________________

(١) الحديد : ٢٧.

(٢) الأنعام : ١٥٩.

٦١

وقد فُسّرت الآية بأهل الضلالة وأصحاب الشبهات والبدع من هذه الأُمّة. قال الطبرسي : «ورواه أبو هريرة وعائشة مرفوعاً ، وهو المروي عن الباقر عليه‌السلام ، جعلوا دين الله أدياناً لإكفار بعضهم بعضاً وصاروا أحزاباً وفِرَقاً ، ويخاطب سبحانه نبيّه بقوله : (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) وإنّه على المباعدة التامّة من أن يجتمع معهم في معنى من مذاهبهم الفاسدة ، وليس كذلك بعضهم مع بعض ؛ لأنّهم يجتمعون في معنى من معانيهم الباطلة ، وإن افترقوا في شيء فليس منهم في شيء ؛ لأنّه بريءٌ من جميعهم» (١).

٣ ـ (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) (٢).

والآية بعموم لفظها تبيّن أنواع النُّذُر التي أنذر الله بها عباده ، فتبدأ من بعث العذاب من فوق ، إلى بعثه من تحت الأرجل ، وتنتهي بتمزيق الجماعة إلى شيع ، فتفرّق الأُمّة إلى فرق وشِيَع يعادل إنزال العذاب عليها من كلّ جهاتها. قال الحسن البصري : «التهديد بإنزال العذاب والخسف يتناول الكفّار ، وقوله : (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) يتناول أهل الصلاة» (٣).

وقال مجاهد وأبو العالية : إنّ الآية لأُمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أربع ؛ ظهر اثنتان بعد وفاة رسول الله فأُلبسُوا شِيعاً وأُذيق بعضكم بأس بعض وبقيت اثنتان (٤).

٤ ـ (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٥).

__________________

(١) مجمع البيان ٢ : ٣٨٩.

(٢) الأنعام : ٦٥.

(٣) المصدر نفسه ٢ : ٣١٥.

(٤) الاعتصام ٢ : ٦١.

(٥) التوبة : ٣١.

٦٢

يظهر ممّا رواه الطبري وغيره أنّهم كانوا مشركين في مسألة التقنين ، روي عن الضحاك: (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ) أي قرّاءهم وعلماءهم (أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) يعني سادة لهم من دون الله ، يُطيعونهم في معاصي الله ، فيُحلّون ما أحلّوه لهم ممّا قد حرّمه الله عليهم ، ويُحرّمون ما يحرّمونه عليهم ممّا قد أحلّه الله لهم.

وروي أيضاً عن عدي بن حاتم قال : انتهيت إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يقرأ في سورة براءة: (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) قال : قلت : يا رسول الله إنّا لسنا نعبدهم ، فقال : «أليس يُحرّمون ما أحلّ الله فتحرّمونه ، ويُحلّون ما حرّم الله فتحلّونه؟» قال : قلت : بلى ، قال : «فتلك عبادتهم» (١).

البدعة في السنّة

روى الفريقان عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حول البدعة والتشديد عليها روايات كثيرة نقتبس منها ما يلي :

١ ـ روى الإمام أحمد عن جابر قال : خطبنا رسول الله فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهل له ثمّ قال : «أمّا بعد فانّ أصدقَ الحديث كتاب الله ، وإنّ أفضل الهدى هدى محمّد ، وشرّ الأُمور محدثاتها ، وكلّ بدعة ضلالة» (٢).

٢ ـ روى أيضاً عن جابر قال : كان رسول الله يقوم فيخطب فيحمد الله ويُثني عليه بما هو أهله ويقول : «من يهدِ الله فلا مضلّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، إنّ خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هَديُ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وشرّ الأُمور محدثاتها ، وكلّ محدثة بدعة»(٣).

٣ ـ روى أيضاً عن عرباض بن سارية قال : صلّى بنا رسول الله الفجر ثمّ أقبل

__________________

(١) الطبري ، التفسير ١٠ : ٨٠ ـ ٨١.

(٢) مسند أحمد ٣ : ٣١٠ بيروت ، دار الفكر.

(٣) المصدر نفسه : ص ٣٧١.

٦٣

علينا فوعظنا موعظة بيّنة ، قال : «أُوصيكم بتقوى الله ... وإيّاكم ومحدثات الأُمور ؛ فإنّ كلّ محدثة بدعة ، وكلّ بدعة ضلالة» (١).

٤ ـ روى ابن ماجة عن جابر بن عبد الله : كان رسول الله إذا خطب احمرّت عيناه ثمّ يقول : «أمّا بعد فإنّ خير الأُمور كتاب الله ، وخير الهدى هَديُ محمّد ، وشرّ الأُمور محدثاتها ، وكلّ بدعة ضلالة» (٢).

٥ ـ روى مسلم في صحيحه : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا خطب احمرّت عيناه وعلا صوته ، واشتدّ غضبه ، حتى كأنّه منذر جيشٍ ، يقول : «صبّحكم ومسّاكم ، ويقول : بُعِثْتُ أنا والساعة كهاتين ، ويقرن بين إصبعيه : السبابة والوسطى ، ويقول : أمّا بعد ، فانّ خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدى هديُ محمد ، وشرّ الأُمور محدثاتها ، وكلّ بدعة ضلالة ، ثمّ يقول : أنا أولى بكلّ مؤمن من نفسه ، من ترك مالاً فلأهله ، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإليّ وعليّ» (٣).

٦ ـ روى النسائي قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول في خطبته : «نحمد الله ونثني عليه بما هو أهله ، ثمّ يقول : من يهدِ الله فلا مضلّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، إنّ أصدق الحديث كتاب الله ، وأحسن الهدي هديُ محمد ، وشرّ الأُمور محدثاتها ، وكلّ محدثة بدعة ، وكلّ بدعة ضلالة وكلّ ضلالة في النار ، ثمّ يقول : بعثت أنا والساعة كهاتين ، وكان إذا ذكر الساعة احمرّت وجنتاه ، وعلا صوته ، واشتدّ غضبه ، كأنّه نذير جيشٍ ، يقول : صبّحكم ومسّاكم ، ثمّ قال : من ترك مالاً فلأهله ، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإليَّ ، (أو عليّ) وأنا أولى بالمؤمنين» (٤).

__________________

(١) المصدر نفسه ٤ : ١٢٦ ؛ ولاحظ أيضاً ص ١٢٧ ، ولاحظ البحار ٢ : ٢٦٣ فقد جاءت فيها نفس النصوص وفي ذيلها : وكلّ ضلالة في النار.

(٢) سنن ابن ماجة ج ١ ، الباب ٧ ، باب اجتناب البدع ، الحديث ٤٥ ، ط دار إحياء التراث العربي ١٣٩٥ ه‍.

(٣) جامع الأُصول ٥ : الفصل الخامس ، الخطبة رقم ٣٩٧٤.

(٤) المصدر نفسه.

٦٤

٧ ـ روى ابن ماجة : قال رسول الله : «لا يقبل الله لصاحب بدعة صوماً ولا صلاة ولا صدقة ولا حجّاً ولا عمرة ولا جهاداً» (١).

٨ ـ قال رسول الله : «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ» (٢).

قال الشاطبي : وهذا الحديث عدّه العلماء ثُلث الإسلام ؛ لأنّه جمع وجوه المخالفة لأمره عليه‌السلام ويستوي في ذلك ما كان بدعة أو معصية (٣).

٩ ـ روى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله : «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أُجور من تبعه لا ينقص ذلك من أُجورهم شيئاً ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من يتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً» (٤).

١٠ ـ روى مسلم عن جرير بن عبد الله : «من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فعُمل بها بعده ، كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أُجورهم شيء ؛ ومن سنّ في الإسلام سنّة سيئة فعمل بها بعده ، كتب له مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء» (٥).

١١ ـ روى مسلم عن حذيفة أنّه قال : يا رسول الله هل بعد هذا الخير شرّ؟ قال : «نعم ، قوم يستنّون بغير سنّتي ويهتدون بغير هداي ...» (٦).

١٢ ـ روى مالك في الموطأ من حديث أبي هريرة : أنّ رسول الله خرج إلى المقبرة فقال : «السّلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون ـ إلى أن قال : ـ فليُذادنَّ رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضالّ ، أُناديهم ألا هلمّ! ألا

__________________

(١) ابن ماجة ، السنن ١ : ١٩.

(٢) مسلم ، الصحيح ٥ : ١٣٣ كتاب الأقضية الباب ٨ ؛ مسند أحمد ٦ : ٢٧٠.

(٣) الاعتصام ١ : ٦٨.

(٤) مسلم ، الصحيح ٨ : ٦٢ كتاب العلم ؛ ورواه البخاري في الصحيح ج ٩ : كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة.

(٥) مسلم ، الصحيح ٨ : ٦١ كتاب العلم.

(٦) مسلم ، الصحيح ٥ : ٢٠٦ كتاب الإمارة.

٦٥

هلمّ! ألا هلمّ! فيقال : إنّهم قد بدّلوا بعدك ، فأقول : فسحقاً! فسحقاً! فسحقاً!»(١). وعموم اللفظ يشمل أهل البدع أيضاً. وإن لم يرتدّوا عن الدين.

نكتفي بهذا القدر من الأحاديث التي رواها الحفاظ من المحدّثين من هذا الطريق ، وأمّا ما رواه أصحابنا عن النبي الأكرم أو عن أئمة أهل البيت فكثير وربما تكون هناك وحدة في المعنى واختلاف جزئي في التعبير :

١٣ ـ روى الكليني عن محمد بن جمهور رفعه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذا ظهرت البدع في أُمتي فليظهر العالم علمه ، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله» (٢).

١٤ ـ وبهذا الاسناد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من أتى ذا بدعة فعظّمه فإنّما يسعى في هدم الإسلام» (٣).

١٥ ـ وبهذا الاسناد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أبى الله لصاحب البدعة التوبة» قيل : يا رسول الله وكيف ذلك؟ قال : «إنّه قد اشرِبَ قلبه حبّها» (٤).

١٦ ـ روى محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : خطب أمير المؤمنين عليه‌السلام الناس فقال : «أيّها الناس إنّما بَدأ وقوع الفتن ، أهواءٌ تُتَّبَع ، وأحكام تُبتدع ، يُخالَف فيها كتاب الله ، يتولّى فيها رجال رجالاً ، فلو أنّ الباطل خلص من مزاج الحق لم يخف على المرتادين ، ولو أنّ الحق خلص من لبس الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندين ، ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث ، فيمزجان فهناك يستولي الشيطان على أوليائه ، وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى» (٥).

١٧ ـ روى الحسن بن محبوب رفعه إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : «إنّ من

__________________

(١) الموطأ ، كتاب الطهارة ، الحديث ٢٨ ، باب جامع الوضوء ؛ مسلم ، الصحيح ١ : ١٥٠ كتاب الطهارة.

(٢ ـ ٥) الكافي ١ : ٥٤ ـ ٥٥ ح ٢ و ٣ و ٤ و ١ باب البدع. ولفظ الأخير مطابق لما في نهج البلاغة الخطبة ٥٠ ، دون الكافي لكونه أتمّ.

٦٦

أبغض الخلق إلى الله عزوجل لَرَجلين : رجل وكّله الله إلى نفسه فهو جائر عن قصد السبيل ، مشغوف بكلام بدعة ، قد لهج بالصوم والصلاة فهو فتنة لمن افتتن به ، ضالّ عن هدى من كان قبله ، مضلّ لمن اقتدى به في حياته وبعد موته ، حمّال خطايا غيره ، رهن بخطيئته»(١).

١٨ ـ روى عمر بن يزيد عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «لا تصحبوا أهل البدع ولا تجالسوهم فتصيروا عند الناس كواحد منهم ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : المرء على دين خليله وقرينه»(٢).

١٩ ـ وروى داود بن سرحان عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم ، وأكثروا من سبّهم والقول فيهم والوقيع ...» (٣).

٢٠ ـ قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «ما اختلفت دعوتان إلّا كانت إحداهما ضلالة»(٤).

٢١ ـ وقال عليه‌السلام : «ما أُحدثت بدعة إلّا تُرك بها سنّة ، فاتّقوا البدع وألزموا المهيع ، إنّ عوازم الامور أفضلها ، وإنّ محدثاتها شرارها» (٥).

٢٢ ـ قال الإمام الصادق عليه‌السلام : «من تبسّم في وجه مبتدع فقد أعان على هدم دينه»(٦).

٢٣ ـ قال عليه‌السلام : «من مشى إلى صاحب بدعة فوقّره فقد مشى في هدم الإسلام» (٧). وقد روي أيضاً باختلاف يسير «مضى» (تحت رقم ١٤).

__________________

(١) الكافي ١ : ٥٥ ح ٦ باب البدع.

(٢) و (٣) الكافي ٢ : ٣٧٥.

(٤) و (٥) البحار ٢ : ٢٦٤ الحديث ١٤ و ١٥ ؛ ولاحظ أيضاً ٣٦ : ٢٨٨ ـ ٢٨٩.

(٦) البحار ٨ : ٢٣ الطبعة القديمة و ٤٧ : ٢١٧.

(٧) البحار ٢ : ٣٠٤ ح ٤٥.

٦٧

٢٤ ـ روي مرفوعاً عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «عليكم بسنّة ، فعمل قليل في سنّة خير من عمل كثير في بدعة» (١).

٢٥ ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذا رأيتم صاحب بدعة فاكفهرّوا في وجهه ؛ فانّ الله ليبغض كلّ مبتدع ، ولا يجوز أحد منهم على الصراط ، ولكن يتهافتون في النار مثل الجراد والذباب» (٢).

٢٦ ـ وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من غشّ أُمّتي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» قالوا : يا رسول الله وما الغشّ؟ قال : «أن يبتدع لهم بدعة فيعملوا بها» (٣).

وللإمام عليّ عليه‌السلام في نهج البلاغة وراء ما نقلناه كلمات دُريّة في ذمّ البدعة ، نقتبس ما يلي :

٢٧ ـ «فاعلم أنّ أفضل عباد الله عند الله إمام عادل هُدِيَ وهَدى فأقام سنّة معلومة ، وأمات بدعة مجهولة ... وإنّ شرّ الناس عند الله إمام جائر ضلّ وضُلَّ به ، فأمات سنّة مأخوذة وأحيى بدعة متروكة» (٤).

٢٨ ـ وقال : «أوّه على إخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه ، وتدبّروا الفرض فأقاموه ، أحيَوا السنّة وأماتوا البدعة» (٥).

٢٩ ـ وقال أيضاً : «وإنّما الناس رجلان : متّبع شرعة ، ومُبتدع بدعةً» (٦).

٣٠ ـ وقال : «طوبى لمن ذلّ في نفسه وطاب كسبه ـ إلى أن قال : ـ وعزل عن

__________________

(١) البحار ٢ : ٢٦١ ح ٣.

(٢) و (٣) جامع الأُصول ٩ : ٥٦٦ ؛ كنز العمال ١ : ٢٢١ / ١١١٨ ويشتمل الأخير على أحاديث لم نذكرها وقد بثّها في الأجزاء التالية من كتابه : ٨ ، ١٥ ، ٧ ، ١١ ، ٢ ، ٣ فلاحظ.

(٤) نهج البلاغة : الخطبة ١٦٤.

(٥) المصدر نفسه : الخطبة ١٨٢.

(٦) المصدر نفسه : الخطبة ١٧٦.

٦٨

الناس شرّه وَوَسِعَتْهُ السنّة ولم يُنسب إلى البدعة» (١).

هذا قسم ممّا وقفنا عليه من الروايات ، وهي كثيرة يفوتنا حصرها. وقد نقل الشاطبي قسماً وافراً من كلمات الصحابة والتابعين ومن أراد فليرجع إلى كتابه الاعتصام ونكتفي بهذا المقدار.

__________________

(١) المصدر نفسه : الحكمة ١٢٣.

٦٩

المبحث الثاني

البدعة لغة واصطلاحاً

لقد مضت نصوص الكتاب والسنّة في حرمة البدعة وآثارها الهدّامة ، ولأجل تحديد مفهومها تحديداً دقيقاً يلزمنا نقل أقوال أهل اللغة وكلمات الفقهاء والمحدّثين في تفسير البدعة، حتى تلقي ضوءاً على ما نتبنّاه من الوقوف على مفهوم البدعة.

البدعة في لغة العرب :

قال الخليل : البدع ؛ إحداث شيء لم يكن له من قبلُ خلق ولا ذكر ولا معرفة ... البدع : الشيء الذي يكون أوّلاً في كلّ أمر كما قال الله : (ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) أي لست بأوّل مرسل ، والبدعة اسم ما ابتدع من الدين وغيره ، والبدعة ما استحدث بعد رسول الله من الأهواء والأعمال (١).

وقال ابن فارس : البدع له أصلان ؛ ابتداء الشيء وصنعه لا عن مثال ، والآخر الانقطاع والكلال (٢).

__________________

(١) ترتيب كتاب العين : ص ٧٢.

(٢) المقاييس ١ : ٢٠٩ مادة «بدع».

٧٠

والمقصود في المقام هو المعنى الأوّل.

وقال الراغب : الإبداع إنشاء صنعة بلا احتذاء ولا اقتداء ، والبدعة في المذهب إيراد قول لم يستنّ قائلها وفاعلها فيه بصاحب الشريعة وأماثلها المتقدّمة وأُصولها المتقنة (١).

وقال الفيروزآبادي : البدعة ـ بالكسر ـ الحدث في الدين بعد الإكمال أو ما استحدث بعد النبي من الأهواء والأعمال (٢).

إلى غير ذلك من الكلمات المماثلة للّغويين ، ولا نطيل الحديث بنقل غير ما ذكر.

والإمعان في هذه الكلمات يثبت بأنّ البدعة في اللغة وإن كانت شاملة لكلّ جديد لم يكن له مماثل سواء أكان في الدين ، أم العادات ، كالأطعمة والألبسة والأبنية والصناعات وما شاكلها ، ولكن البدعة التي ورد النص على حرمتها هي ما استحدثت بعد رسول الله من الأهواء والأعمال في أُمور الدين ، وينصّ عليه الراغب في قوله : «البدعة في المذهب إيراد قول لم يستنّ قائلها وفاعلها فيه» ، ونظيره قول القاموس : «الحدث في الدين بعد الإكمال».

كل ذلك يعرب عن أنّ إطار البدعة المحرّمة ، هو الإحداث في الدين ، ويؤيّده قوله سبحانه في نسبة الابتداع إلى النصارى بإحداثهم الرهبانية وإدخالهم إيّاها في الديانة المسيحية، قال سبحانه: (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) (٣).

فقوله سبحانه : (ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) يعني ما فرضناها عليهم ولكنّهم نسبوها

__________________

(١) المفردات : ص ٣٨ و ٣٩.

(٢) القاموس المحيط ٣ : ٦.

(٣) الحديد : ٢٧.

٧١

إلينا عن كذب.

وأمّا التطوير في ميادين الحياة وشئونها فإن كان بدعة لغة فليس بدعة شرعاً بل يتبع التطوير في الحياة جوازاً ومنعاً الحكم الشرعي بعناوينه ، فإن حرّمه الشرع ولو تحت عنوان عام فهو محرّم ، وإلّا فهو حلال ؛ لحاكمية أصل البراءة ما لم يرد دليل على الحرمة. وسيوافيك تفصيلها في المستقبل.

* * *

البدعة في اصطلاح العلماء

لا ريب أنّ البدعة حرام ، ولا يشك في حرمتها مسلم واع ، لكن المهم في الموضوع تحديدها وتعيين مفهومها بشكل دقيق ، حتى تكون قاعدة كليّة يرجع إليها عند الشك في المصاديق ، فإنّ واجب الفقيه تحديد القاعدة ، وواجب غيره تطبيقها على مواردها ، وهذا الموضوع من أهمّ المواضيع فيها.

وقد عُرفت البدعة بتعاريف مختلفة ، بين متشدد لا يتسامح فيها ، وبين متسامح في تعريفها ، وإليك بعضها :

١ ـ البدعة : ما أُحدث ممّا لا أصل له في الشريعة يدلّ عليه ، أمّا ما كان له أصل من الشرع يدلّ عليه فليس ببدعة شرعاً ، وإن كان بدعة لغة (١).

٢ ـ البدعة : أصلها ما أُحدث على غير مثال سابق ، وتطلق في الشرع في مقابل السنّة فتكون مذمومة (٢).

ويقول ابن حجر في موضع آخر : المحدثات جمع محدثة ، والمراد بها أي في

__________________

(١) جامع العلوم والحكم : ص ١٦٠ ط الهند.

(٢) فتح الباري ٥ : ١٥٦.

٧٢

حديث «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» ؛ ما أُحدث وليس له أصل في الشرع يسمّى في عرف الشرع بدعة ، وما كان له أصل يدلّ عليه الشرع فليس ببدعة (١).

٣ ـ البدعة لغة : ما كان مخترعاً ، وشرعاً : ما أُحدث على خلاف أمر الشرع ودليله الخاص أو العام (٢).

٤ ـ البدعة في الشرع موضوعه : الحادث المذموم (٣).

٥ ـ إنّ البدعة الشرعية هي : التي تكون ضلالة ، ومذمومة (٤).

٦ ـ البدعة : طريقة في الدين مخترعة ، تضاهي الشرعية ، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية.

وعرّفه الشاطبي أيضاً في مكان آخر بنفس ذلك وأضاف في آخره : «يقصد بالسلوك عليها : المبالغة في التعبّد لله تعالى» (٥). وما أضافه ليس أمراً كليّاً كما سيوافيك عند البحث عن أسباب نشوء البدعة ودواعيها.

وهذه التعاريف ، تحدّد البدعة تحديداً ، وتصوّر لها قسماً واحداً. والمحدود في هذه التعاريف هو البدعة في الشرع والدين الإسلامي ، والتدخّل في أمر التقنين والتشريع.

وهناك من حدّدها ثمّ قسّمها إلى : محمودة ومذمومة ، منهم :

١ ـ عن حرملة بن يحيى ، قال : سمعت الشافعي رحمه‌الله يقول : «البدعة بدعتان :

__________________

(١) فتح الباري ١٧ : ٩.

(٢) التبيين بشرح الأربعة : ص ٢٢١.

(٣) الإبداع : ٢٢.

(٤) أحسن الكلام : ص ٦.

(٥) الاعتصام ١ : ٣٧.

٧٣

بدعة محمودة وبدعة مذمومة ، فما وافق السنّة فهو محمود وما خالف السنّة فهو مذموم».

٢ ـ وقال الربيع : قال الشافعي رحمه‌الله : «المحدثات من الأُمور ضربان : أحدهما يخالف كتاباً أو سنّة أو إجماعاً أو أثراً ، فهذه البدعة الضلالة.

والثاني : ما أُحدث من الخبر لا خلاف فيه لواحد من هذا ، فهي محدثة غير مذمومة» (١).

٣ ـ قال ابن حزم : «البدعة في الدين ؛ كلّ ما لم يأت في القرآن ، ولا عن رسول الله ، إلّا أنّ منها ما يؤجر عليه صاحبه ويُعذّر بما قصد إليه من الخير ، ومنها ما يؤجر عليه صاحبه ويكون حسناً وهو ما كان أصله الإباحة ، كما روي عن عمر رضى الله عنه : «نعمت البدعة هذه ـ إلى أن قال : ـ ومنها ما يكون مذموماً ، ولا يُعذَّر صاحبه ، وهو ما قامت الحجة على فساده فتمادى القائل به» (٢).

٤ ـ وقال الغزالي : «وما يقال : إنّه أُبدع بعد رسول الله ، فليس كل ما أبدع منهياً بل المنهي عنه بدعة تضاد سنّة ثابتة ، وترفع أمراً من الشرع مع بقاء علّته ، بل الإبداع قد يجب في بعض الأحوال إذا تغيّرت الأسباب» (٣).

٥ ـ وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي في شرح المشكاة : «اعلم أنّ كل ما ظهر بعد رسول الله بدعة ، وكلّ ما وافق أُصول سنّته وقواعدها أو قيس عليها فهو بدعة حسنة ، وكلّ ما خالفها فهو بدعة سيّئة وضلالة» (٤).

٦ ـ وقال ابن الأثير : «البدعة بدعتان : بدعة هدى ، وبدعة ضلال ، فما كان في

__________________

(١) فتح الباري ٧ : ١٠.

(٢) الفصل في الملل والنحل كما في البدعة للدكتور عزت : ١٦١.

(٣) الاحياء ٢ : ٣ ط الحلبي.

(٤) الكشّاف لاصطلاحات الفنون كما في البدعة للدكتور عزت : ١٦٢.

٧٤

خلاف ما أمر الله به ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله فهو في حيز الذم والإنكار ، وما كان واقعاً تحت عموم ما ندب الله إليه ، وحثّ عليه الله أو رسوله فهو في حيّز المدح. وما لم يكن له مثال موجود ، كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف ، فهو من الأفعال المحمودة ، ولا يجوز أن يكون ذلك في خلاف ما ورد الشرع به ؛ لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد جعل له في ذلك ثواباً فقال : «من سنّ سنّة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها» وقال في ضدّه : «ومن سنّ سنّة سيّئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها» وذلك إذا كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ومن هذا النوع قول عمر رضى الله عنه : «نعمت البدعة هذه (التراويح) لما كانت من أفعال الخير وداخلة في حيز المدح» سمّاها بدعة ومدحها ، إلّا أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يسنّها لهم وإنّما صلّاها ليالي ثمّ تركها ولم يحافظ عليها ، ولا جمع الناس لها ، ولا كانت في زمن أبي بكر ، وإنّما عمر رضى الله عنه جمع الناس عليها وندبهم إليها ، فبهذا سمّاها بدعة ، وهي على الحقيقة سنّة ، لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي» وقوله: «اقتدوا باللّذين من بعدي : أبي بكر وعمر» وعلى هذا التأويل يحمل الحديث الآخر : «كل محدثة بدعة» إنّما يريد ما خالف أُصول الشريعة ولم يوافق السنّة. وأكثر ما يستعمل المبتدع عرفاً في الذم» (١).

هذه كلمات أعلام السنّة وإليك ما ذكره أصحابنا في الموضوع مقتصراً على نماذج منها :

٧ ـ قال السيد المرتضى : «البدعة : الزيادة في الدين أو نقصان منه من إسناد إلى الدين» (٢).

__________________

(١) النهاية ١ : ٧٩ وكلامه صريح في أنّ النبيّ لم يصلّها جماعة إلّا ليال وتركها ، وإن أقامتها جماعة كانت من سنّة عمر ، إذ للخليفتين ـ حسب الرواية ـ حقّ التسنين الذي يعبّر عنه بسنّة الصحابي.

(٢) الشريف المرتضى ، الرسائل ٢ : ٢٦٤.

٧٥

٨ ـ قال العلّامة في المختلف : «إنّ الأذان عبادة متلقّاة من الشرع ؛ فالزيادة عليها بدعة كالنقصان ، وكلّ بدعة حرام» (١).

٩ ـ قال الشهيد السعيد محمد بن مكي العاملي (ت ٧٨٦ ه‍) : «محدثات الأُمور بعد عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تنقسم أقساماً ، لا يطلق اسم البدعة عندنا إلّا على ما هو محرّم منها» (٢).

ومع ذلك كلّه فقد خالف الشهيد كلامه في كتاب الذكرى ، وقال :

١٠ ـ «إنّ لفظ البدعة غير صريح في التحريم ؛ فانّ المراد بالبدعة ما لم يكن في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ تجدّد بعده ، وهو ينقسم إلى : محرّم ومكروه».

١١ ـ قال الطريحي (ت ١٠٨٦ ه‍) : «البدعة : الحدث في الدين وما ليس له أصل في كتاب ولا سنّة. وإنّما سمّيت بدعة ؛ لأنّ قائلها ابتدع هو نفسه ، والبِدَع ـ بالكسر والفتح ـ : جمع بدعة ومنه الحديث «من توضّأ ثلاثاً فقد أبدع» أي فعل خلاف السنّة ؛ لأنّ ما لم يكن في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وآله فهو بدعة» (٣).

١٢ ـ وقال المجلسي (ت ١١١٠ ه‍) : «البدعة في الشرع : ما حدث بعد الرسول ولم يرد فيه نصّ على الخصوص ، ولا يكون داخلاً في بعض العمومات ، أو ورد نهي عنه خصوصاً أو عموماً ؛ فلا تشمل البدعة ما دخل في العمومات مثل بناء المدارس وأمثالها ، الداخلة في عمومات إيواء المؤمنين وإسكانهم وإعانتهم ، وكإنشاء بعض الكتب العلمية ، والتصانيف التي لها مدخل في العلوم الشرعية ، وكالألبسة التي لم تكن في عهد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله والأطعمة المحدثة ؛ فإنّها داخلة في

__________________

(١) المختلف ٢ : ١٣١.

(٢) القواعد والفوائد ٢ : ١٤٤ ـ ١٤٥ القاعدة ٢٠٥. وقد ذكر الأقسام الخمسة غير واحد من الفقهاء منهم القرافي في الفروق ٤ : ٢٠٢ ـ ٢٠٥. وسيوافيك الكلام في عدم صحة هذا التقسيم.

(٣) مجمع البحرين ج ١ : مادة «بدع» لاحظ «ترتيب المجمع».

٧٦

عمومات الحليّة ، ولم يرد فيها نهي.

وما يفعل منها على وجه العموم إذا قصد كونها مطلوبة على الخصوص كان بدعة ، كما أنّ الصلاة خير موضوع ويستحبّ فعلها في كلّ وقت. ولو عيّن ركعات مخصوصة على وجه مخصوص في وقت معيّن صارت بدعة ، وكما إذا عيّن أحد سبعين تهليلة في وقت مخصوص على أنّها مطلوبة للشارع في خصوص هذا الوقت بلا نصّ ورد فيها كانت بدعة ، وبالجملة إحداث أمر في الشريعة لم يرد فيه نصّ بدعة ، سواء كانت أصلها مبتدعة أو خصوصيتها مبتدعة» ثمّ ذكر كلام الشهيد عن قواعده (١).

١٣ ـ وقال المحدّث البحراني (ت ١١٨٦ ه‍) : «الظاهر المتبادر من البدعة لا سيما بالنسبة إلى العبادات إنّما هو المحرّم ، ولما رواه الشيخ الطوسي عن زرارة ومحمد بن مسلم والفضيل عن الصادقين عليهما‌السلام : «ألا وإنّ كلّ بدعة ضلالة ، وكلّ ضلالة سبيلها إلى النار»(٢).

١٤ ـ وقال المحقق الآشتياني (ت ١٣٢٢ ه‍) : البدعة ؛ «إدخال ما علم أنّه ليس من الدين في الدين ولكن يفعله بأنّه أمر به الشارع» (٣).

١٥ ـ وقال أيضاً : «البدعة : إدخال ما لم يعلم أنّه من الدين في الدين» (٤).

١٦ ـ وقال السيد محسن الأمين (ت ١٣٧١ ه‍) : «البدعة : إدخال ما ليس من الدين في الدين كإباحة محرّم أو تحريم مباح ، أو إيجاب ما ليس بواجب أو ندبة ، أو نحو ذلك سواء كانت في القرون الثلاثة أو بعدها ، وتخصيصها بما بعد القرون الثلاثة

__________________

(١) البحار ٧٤ : ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

(٢) الحدائق ١٠ : ١٨٠ ؛ وسائل الشيعة ٥ : ١٩٢ ذ ح ١.

(٣) و (٤) بحر الفوائد : ٨٠ وترى قريباً من هذه الكلمات في فرائد الشيخ الأنصاري : ٣٠ وفوائد الأُصول للمحقق النائيني ٢ : ١٣٠.

٧٧

لا وجه له ، ولو سلّمنا حديث «خير القرون قرني» فإنّ أهل القرون الثلاثة غير معصومين بالاتّفاق. وتقسيم بعضهم لها إلى حسنة وقبيحة ، أو إلى خمسة أقسام ليس بصحيح ، بل لا تكون إلّا قبيحة. ولا بدعة فيما فهم من إطلاق أدلّة الشرع أو عمومها أو فحواها أو نحو ذلك ، وإن لم يكن موجوداً في عصر النبيّ» (١).

تلك ستة عشر نصّاً من كلمات مشاهير علماء الإسلام ، فمنهم من خصّ بالتعريف بالبدعة في الدين فجعله قسماً واحداً ، ومنهم عمّمها فقسّمها إلى ممدوحة ومذمومة ، والحافز الوحيد إلى ذاك ، هو اقتفاء قول عمر في صلاة التراويح ، ولو لا صدور ذاك لما خطر ببال هؤلاء هذا التقسيم.

ويبدو أنّ أوضح التعاريف ما نقلناه عن العلمين : الآشتياني والسيد الأمين ؛ فإنّهما ٠ أتيا باللبّ ، وحذفا القشر ، فمقوّم البدعة هو التصرّف في الدين عقيدة وتشريعاً ؛ بإدخال ما لم يعلم أنّه من الدين فيه ، فضلاً عمّا علم أنّه ليس منه قطعاً. والذي يؤخذ على تعريفهما أنّه لا يشمل البدعة بصورة النقص كحذف شيء من أجزاء الفرائض.

__________________

(١) كشف الارتياب : ١٤٣.

٧٨

المبحث الثالث

تحديد مفهوم البدعة ومقوّماتها

إنّ الأمر المهم بعد الوقوف على النصوص ، هو تحديد مفهوم البدعة التي وقعت موضوعاً للحكم الشرعي كسائر الموضوعات الواردة في المصدرين الرئيسيّين ، فما لم تحدّد ولم نقف على مفهومها الدقيق وعلى ما هو معتبر في صميمها عند الشرع ، لا يمكن لنا تطبيق الحكم الكلّي على مصاديقها ومواضيعها. وقد اتّضح بعد دراسة الأدلّة أنّ قيود البدعة التي هي الموضوع لدى الشرع ثلاثة ، نذكرها بالتدريج :

الأوّل : التدخّل في الدين عقيدة وحكماً ، بزيادة أو نقيصة.

الثاني : أن تكون هناك إشاعة ودعوة.

الثالث : أن لا يكون هناك دليل في الشرع يدعم جوازها لا بالخصوص ولا بالعموم.

وإليك دراسة هذه القيود المكوّنة لمفهوم البدعة التي اتّخذها الكتاب والسنّة موضوعاً للحكم.

٧٩

١ ـ التدخّل في الدين بزيادة أو نقيصة

هل إنّ الموضوع في المصدرين هو نفس البدعة أو خصوص البدعة في الدين؟ فلو قلنا بأنّ الموضوع نفسُ البدعة بسيطاً ، سواء كان الإحداث والإبداع راجعاً إلى صميم الدين أو غيره ، فيكون الحكم بحرمة ذلك الموضوع الواسع أمراً غير ممكن ، ولأجل ذلك لجأ أصحاب ذلك القول إلى تقسيمها إلى أقسام خمسة حسب انقسام الأحكام.

وأمّا إذا كان الموضوع هو الأمر المركّب ، أي البدعة في الدين ، فذلك له حكم واحد لا يقبل التخصيص. إلّا أنّ صحة إحدى النظرتين متوقفة على دراسة الآيات والروايات. وقد اتّضح ممّا سبق ، عند استعراض النصوص ، أنّ الموضوع في الكتاب والسنّة هو البدعة في الدين لا مطلقها ، فلو كان الكتاب والسنّة يتكلّمان فيها فإنّما يتكلّمان فيها باسم الدين والشريعة وعن البدعة فيهما ، لأنّ كلّ متكلّم إنّما يتكلّم في إطار اختصاصه ومقامه وحسبَ شأنه ، فالكتاب العزيز كتاب إلهي جاء لهداية الناس وإلى ما فيه مرضاة الله بتشريعه القوانين والسنن ، والنبيّ الأكرم مبعوث لتبيان ذلك الكتاب بأقواله وأفعاله وتقريراته ، قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (١).

وعلى ضوء ذلك فإنّ الكتاب والسنّة يتكلّمان بتلك الخصوصية التي يمتلكانها ، فإذا تكلّما عن البدعة فإنّما يتكلّمان عن البدعة الواردة في حوزتهما ، وقيد الدين والشريعة وإن لم يذكرا في متون النصوص غالباً ؛ لكنّهما مفهومان من القرائن الموجودة فيها ، فلا عبرة بالإطلاق بعد القرائن الحافّة على الكلام ، هذا ما نستنبطه

__________________

(١) النحل : ٤٤.

٨٠