في ظلال التّوحيد

الشيخ جعفر السبحاني

في ظلال التّوحيد

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: نشر مشعر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-6293-82-4

الصفحات: ٧١٢

والحديث صحيح السند ، فما ظنك برواية رواها الإمام البخاري ، لكن من لا يروق له التوسّل بالذوات الطاهرة أخذ يؤوّل الحديث بأنّ الخليفة توسّل بدعاء العباس لا بشخصه ومنزلته عند الله. وأضاف على ذلك أنّه لو كان قصده ذات العباس لكانت ذات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل وأعظم وأقرب إلى الله من ذات العباس ، بلا شك ولا ريب ، فثبت أنّ القصد كان الدعاء (١).

لا أظنّ أن أحداً يحمل شيئاً من الإنصاف ، يسوِّغ لنفسه أن يفسر الحديث بما ذكره أي التوسّل بالدعاء ؛ لأنّ في الموضوع نصوصاً تردُّ ذلك ، وإليك الإشارة إليها : ١ ـ قول الخليفة عند الدعاء ... قال : «اللهمّ إنّا كنّا نتوسّل إليك بنبيّنا فتسقينا ، وإنّا نتوسّل إليك بعمّ نبيّنا فاسقنا». وهذا ظاهر في أنّ الخليفة قام بالدعاء في مقام الاستسقاء ، وتوسّل بعمّ الرسول في دعائه ، ولو كان المقصود هو التوسّل بدعائه ، كان عليه أن يقول : يا عمّ رسول الله كنّا نطلب الدعاء من الرسول فيسقينا الله ، والآن نطلب منك الدعاء فادع لنا.

٢ ـ روى ابن الأثير كيفية الاستسقاء فقال : استسقى عمر بن الخطاب بالعباس عام الرمادة لمّا اشتدّ القحط ، فسقاهم الله تعالى به ، وأخصبت الأرض ، فقال عمر : هذا والله الوسيلة إلى الله والمكان منه. وقال حسّان :

سأل الإمام وقد تتابع جدبنا

فسقى الغمامُ بغُرّة العباسِ

عمِّ النّبي وصنوِ والده الذي

ورث النبي بذاك دون الناسِ

أحيا الإله به البلاد فأصبحت

مخضرّة الأجناب بعد الياسِ

ولمّا سُقي طفقوا يتمسّحون بالعباس ويقولون : هنيئاً لك ساقي الحرمين (٢).

__________________

(١) التوصل إلى حقيقة التوسّل : ص ٢٥٣.

(٢) اسد الغابة ٣ : ١١١ ط مصر.

٦٢١

أمعن النظر في قول الخليفة : هذا والله الوسيلة.

٣ ـ ويظهر من شعر حسّان أنّ المستسقي كان هو نفس الخليفة وهو الداعي حيث قال : «سأل الإمام ...» وكان العباس وسيلته لاستجابة الدعاء.

قال الدكتور عبد الملك السعدي : وقد أوّلوا حديث العباس بأنّ عمر طلب من العباس أن يدعو لأنّهم كانوا إذا أجدبوا طلبوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يدعو لهم فكذا هنا طلب الدعاء من العباس. وهذا التأويل غير مقبول لوجهين :

الوجه الأوّل : إنّ السنّة أن يدعو الإمام نفسه والقوم يؤمنون وهذا ما حصل حيث كان الداعي هو سيدنا عمر لا العباس.

الوجه الثاني : إنّ نص الحديث لا يدلّ على أنّ عمر طلب الدعاء من العباس بل كان هو الداعي ، بدليل قوله : اللهمّ إنّا كنّا نتوسّل ... وهذا عين الدعاء ولم يرد أيّ لفظ يشير إلى أنّه قال للعباس : ادع لنا بالسقيا.

ومع ذلك فأيّ خلل يحصل في الدين أو العقيدة إذا أجرينا النص على ظاهره وتركنا العناد والتعصّب؟

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري : ويستبين من قصة العباس استحباب الاستسقاء بأهل الخير والصلاح وأهل بيت النبوّة وفيه فضل العباس ، وفضل عمر لتواضعه للعباس ومعرفته بحقّه (١).

وأظنّ أنّ هذه الروايات الصحيحة لا تبقي شكّاً ولا ريباً في خلد أحد في جواز التوسّل بالصالحين.

وأمّا ما ذكره من أنّه لو كان المقصود التوسّل بذات العباس لكان النبي بذلك أفضل وأعلم ، فيلاحظ عليه أنّ الهدف من إخراج عمّ النبي إلى المصلّى وضمّه إلى

__________________

(١) البدعة : ص ٤٦.

٦٢٢

الناس هو استنزال الرحمة ، فكأنّ المصلّين يقولون ربّنا إذا لم نكن مستحقّين لنزول الرحمة ، فإنّ عمّ النبيّ مستحقّ لها ، فأنزل رحمتك إليه لتريحه من أزمة القحط والغلاء وعندئذٍ تعمّ الرحمة لغير العباس ، ومن المعلوم أنّ هذا لا يتحقق إلّا بالتوسّل بإنسان حيّ يكون شريكاً مع الجماعة في المصير وفي هناء العيش ورغده لا مثل النبيّ الراحل الخارج عن الدنيا والنازل في الآخرة ، نعم يجوز التوسّل بشخصه أيضاً ولكن لا بهذا الملاك بل بملاك آخر لم يكن مطروحاً للخليفة في المقام.

ولو افترضنا صحّة ما يُدَّعى من أنّ الخليفة توسّل بدعاء عمّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فهو عبارة أُخرى عن التوسّل بذات النبيّ لبّاً ؛ إذ لو لا صلته به لما قُدِّم للدعاء.

٦٢٣

(٨)

التوسّل بحقّ الصالحين وحرمتهم ومنزلتهم

إنّ من التوسّلات الرائجة بين المسلمين منذ وقعوا في إطار التعليم الإسلامي ، التوسّل بمنازل الصالحين وحقوقهم على الله ، وهناك سؤال يطرح نفسه وهو أنّه : كيف يمكن أن يكون لإنسان حقٌّ على الله؟

بل الحقوق كلّها لله على العباد ، ولكن الإجابة على السؤال واضحة ؛ إذ ليس معنى ذلك أنّ للعباد أو لبعضهم على الله سبحانه حقّاً ذاتياً يلزم عليه سبحانه الخروج عنه ، بل لله سبحانه الحقّ كلّه ، فله على الناس حقّ العبادة والطاعة إلى غير ذلك ، بل المراد المقام والمنزلة التي منحها سبحانه عباده تكريماً لهم ، وليس لأحد على الله حقّ إلّا ما جعله الله سبحانه حقّاً على ذمّته لهم تفضّلاً وتكريماً ، قال سبحانه : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (١).

روى مسلم عن معاذ بن جبل رضى الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «هل تدري ما حقّ الله على العباد؟» قال : قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : «فإنّ حقّ الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً» ، ثمّ سار ساعة قال : «يا معاذ» قلت : لبيك رسول الله

__________________

(١) الروم : ٤٧.

٦٢٤

وسعديك قال : «هل تدري ما حقّ العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟» قال : قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : «أن لا يعذبهم» (١).

وروى الترمذي وقال : حديث حسن صحيح ، وابن حبان في صحيحه ، والحاكم وقال : صحيح على شرط مسلم ، عن أبي هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «ثلاثة حقّ على الله عونهم : المجاهد في سبيل الله ، والمكاتب الذي يريد الأداء ، والناكح الذي يريد العفاف» (٢).

فهذان الحديثان قد ثبت بهما وجود حقّ للعباد على الله تعالى ، إلّا أنّه حقّ تكريم لا حقّ إلزام وإيجاب.

إنّ للإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كلمة قيّمة في تفسير حقّ العباد على الله ، وأنّ هذا الحقّ ممّا منحه سبحانه تفضّلاً على عباده ، قال : «فالحقّ أوسع الأشياء في التواصف وأضيقها في التناصف لا يجري لأحد إلّا جرى عليه ، ولا يجري عليه إلّا جرى له ، ولو كان لأحد أن يجري له ولا يجرى عليه لكان ذلك خالصاً لله سبحانه دون خلقه لقدرته على عباده ، ولعدله في كل ما جرت صروف قضائه ، ولكنّه سبحانه جعل حقّه على العباد أن يطيعوه ، وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضّلاً منه وتوسّعاً بما هو من المزيد أهله»(٣).

وقد أوضح الإمام معنى حقّ الناس على الله وأنّه ليس حقّاً ذاتياً للناس عليه بل كلّها تفضّل منه سبحانه : وترى مثله في سائر المواضع حيث نرى أنّه يقترض من العباد وهو مالك للعباد وما في أيديهم ويقول : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ)(٤).

__________________

(١) و (٢) الترغيب والترهيب ٣ : ٤٣ ؛ وشرح النووي على صحيح مسلم ١ : ٢٣١.

(٣) نهج البلاغة : الخطبة ٢١٦.

(٤) البقرة : ٢٤٥ والحديد : ١١.

٦٢٥

فبعد هذه التصاريح على أنّ حقّ الناس على الله مقتضى تفضّله سبحانه وتكرّمه على عباده ليس لنا أن نستشكل في تصوير حقّ الناس على الله.

على أنّ هذا النوع من التوسّل لا يفترق عن التوسّل بذات النبي وشخصه فإنّ المنزلة والمقام مرآة لشخصه ، وإنّ حرمة الشخص وكرامته نابعة من كرامة ذاته وفضيلتها ، فلو صحّ التوسّل بالأوّل كما تعرّفت عليه من خلال الأحاديث يصح بالثاني بدون إشكال ، ويدل عليه من الأحاديث ما نذكره :

١ ـ التوسّل بحقّ السائلين

روى عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «من خرج من بيته إلى الصلاة فقال : «اللهمّ إنّي أسألك بحقّ السائلين عليك ، وأسألك بحق ممشاي هذا ، فإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياءً ولا سُمعة إنّما خرجت اتّقاء سخطك وابتغاء مرضاتك أن تعيذني من النار وأن تغفر ذنوبي إنّه لا يغفر الذنوب إلّا أنت» ، إلّا أقبل الله عليه بوجهه واستغفر له سبعون ألف ملك (١).

إنّ دلالة الحديث واضحة لا يمكن لأحد التشكيك فيها ، وسند الحديث صحيح ورجاله كلّهم ثقات ، نعم اشتمل السند على عطية العوفي وقد وثّقه لفيف من أهل الجرح والتعديل.

قال أبو حاتم : يكتب حديثه ، وقال ابن معين : صالح ، وقال ابن حجر : عطية بن سعيد بن جنادة العوفي الجدلي الكوفي أبو الحسن صدوق ، قال ابن عدي : قد روى عن جماعة من الثقات ، توفّي سنة إحدى عشرة ومائة ، قال ابن سعد : خرج عطية مع ابن الأشعث فكتب الحجّاج إلى محمد بن القاسم أن يعرض عليه سبّ علي ـ إلى

__________________

(١) ابن ماجة ، السنن ١ : ٢٥٦ / ٧٧٨ ؛ الإمام أحمد ، المسند ٣ : ٢١.

٦٢٦

أن قال : ـ كان ثقة ، وله أحاديث صالحة ، وكان أبو بكر البزّاز يعدّه في التشيّع ، روى عن جلّة الناس (١).

نعم ، هناك من ضعّفه لا لأنّه غير صدوق ، بل لأنّه كان يتشيّع ، وليس تشيّعه إلّا ولاؤه لعلي وأهل بيته ، وهل هذا ذنب؟!

إنّ لوضع الحديث دوافع خاصة توجد أكثرها في أبواب المناقب والمثالب وخصائص البلدان والقبائل ، أو فيما يرجع إلى مجال العقائد ، كالبدع الموروثة من اليهود والنصارى في أبواب التجسيم والجهة وصفات الجنة والنار ، وأمّا مثل هذا الحديث الذي يعرب بوضوح عن أنّه كلام إنسان خائف من الله سبحانه ترتعد فرائصه من سماع عذابه فبعيد عن الوضع.

٢ ـ التوسّل بحقّ النبي وبحقّ من سبقه من الأنبياء

روى الطبراني بسنده عن أنس بن مالك رضى الله عنه أنّه لمّا ماتت فاطمة بنت أسد أُمّ علي ـ رضي الله عنها ـ دخل عليها رسول الله فجلس عند رأسها فقال : «رحمكِ الله يا أُمّي كنتِ أُمِّي بعد أُمِّي تجوعين وتشبعيني ، وتعرين وتكسينني ، وتمنعين نفسك طيب الطعام وتطعمينني ، تريدين بذلك وجه الله والدار الآخرة».

ثمّ أمر أن تغسل ثلاثاً ثلاثاً فلمّا بلغ الماء الذي فيه الكافور سكبه رسول الله بيده ، ثمّ خلع رسول الله قميصه فألبسها إيّاه وكفّنها ببرد فوقها ، ثمّ دعا رسول الله أُسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب وغلاماً أسود يحفرون فحفروا قبرها ، فلمّا بلغوا اللحد حفره رسول الله بيده وأخرج ترابه بيده ، فلمّا فرغ دخل رسول الله فاضطجع فيه وقال : «الله الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت

__________________

(١) تقريب التهذيب ٢ : ٢٤ / ٢١٦ ، وتهذيب التهذيب ٧ : ٢٢٧ / ٤١٣.

٦٢٧

لا يموت اغفر لأُمّي فاطمة بنت أسد ولقّنها حجتها ، ووسّع عليها مدخلها بحقّ نبيّك والأنبياء الذين من قبلي فإنّك أرحم الراحمين» وكبّر عليها أربعاً وأدخلها اللحد والعباس وأبو بكر.

والاستدلال بالرواية يتوقف على تمامية الرواية سنداً ومضموناً.

أمّا المضمون فلا مجال للخدشة فيه ، وأمّا السند فصحيح ، رجاله كلّهم ثقات ؛ لا يغمز في حقّ أحد منهم ، نعم فيه روح بن صلاح وثّقه ابن حبّان والحاكم ؛ وقد عرفت كلام الذهبي فيه (١).

وقد رواه أئمة الحديث وأساتذته ، وإليك أسماء من وقفنا على روايتهم :

١ ـ رواه الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني في المعجم الأوسط ص ٣٥٦ ـ ٣٥٧.

٢ ـ رواه أبو نعيم عن طريق الطبراني في حلية الأولياء ٣ : ١٢١.

٣ ـ رواه الحاكم في مستدركه ٣ : ١٠٨ وهو لا يروي في هذا الكتاب إلّا الصحيح على شرط الشيخين البخاري ومسلم.

٤ ـ رواه ابن عبد البرّ في الاستيعاب على هامش الإصابة ٤ : ٣٨٢.

٥ ـ نقله الذهبي في سير أعلام النبلاء ٢ : ١١٨ برقم ٧.

٦ ـ رواه الحافظ نور الدين الهيثمي المتوفّى ٧٠٨ في معجم الزوائد ومنبع الفوائد ٩ : ٢٥٦ ـ ٢٥٧ ، وقال : ورواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه روح بن صلاح وثّقه ابن حبان والحاكم.

٧ ـ رواه المتّقي الهندي في كنز العمال ١٣ : ٦٣٦ برقم ٣٧٦٠٨.

هؤلاء الحفّاظ نقلوا الحديث في جوامعهم ، وصرّحوا بأنّ رجال السند رجال الصحيح ، ولو كان هناك شيء ففي روح بن صلاح وقد عرفت توثيقه من أساتذة

__________________

(١) لاحظ للوقوف على حال روح بن صلاح المصري ميزان الاعتدال ٢ : ٨٥ / ٢٨٠١.

٦٢٨

الفن كابن حبان والحاكم.

وأمّا التوسّل بحقّ الأولياء والشخصيّات الإلهيّة ففي أدعية أئمة أهل البيت نماذج من أدعية التوسّل ، وهي كثيرة وموزعة في الصحيفة العلوية (١) ودعاء عرفة (٢) والصحيفة السجادية (٣) وغيرها من كتب الدعاء.

وفيما يلي نذكر نماذج من تلك الأدعية :

١ ـ يقول الإمام عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام في دعاء له :

«... بحقّ محمّد وآل محمّد عليك ، وبحقّك العظيم عليهم أن تصلّي عليهم كما أنت أهله ، وأن تعطيني أفضل ما أعطيت السائلين من عبادك الماضين من المؤمنين وأفضل ما تعطي الباقين من المؤمنين ..» (٤).

٢ ـ ويقول الإمام سيد الشهداء الحسين عليه‌السلام في دعاء عرفة :

«... اللهمّ إنّا نتوجّه إليك ـ في هذه العشية التي فرضتها وعظّمتها ـ بمحمد نبيّك ورسولك وخيرتك من خلقك».

٣ ـ ويقول الإمام زين العابدين عليه‌السلام في دعائه بمناسبة حلول شهر رمضان :

«... اللهمّ إنّي أسألك بحقّ هذا الشهر وبحقّ من تعبّد فيه» (٥).

إلى هنا تمّت بعض الأدلّة على جواز التوسّل بالشخصيات الطاهرة التي لها منزلة ومكانة ، وهناك روايات أُخرى في هذا الصدد نتركها لئلّا يطول بنا الكلام ؛ فإنّ الغرض الإيجاز لا الإطناب.

__________________

(١) وهي المجموعة التي تضم بعض أدعية الإمام علي أمير المؤمنين عليه‌السلام جمعها الشيخ عبد الله السماهيجي.

(٢) وهو دعاء الإمام الحسين عليه‌السلام في عرفات ، يوم عرفة.

(٣) هي بعض أدعية الإمام زين العابدين عليه‌السلام.

(٤) الصحيفة العلوية : ٥١.

(٥) الصحيفة السجادية : دعاء رقم ٤٤.

٦٢٩

٣ ـ توسّل آدم بحقّ النبي

قد تعرّفت على حقيقة حقّ العبد على الله وربّما يحتمل أن يراد منه منزلته وجاهه عند الله وكرامته لديه قال نور الدين السمهودي :

اعلم أنّ الاستغاثة والتشفّع بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبجاهه وبركته عند ربّه تعالى من فعل الأنبياء وسير السلف الصالح ، واقع في كلّ حال ، قبل خلقه صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعد خلقه صلى‌الله‌عليه‌وآله في حياته الدنيوية ومدّة البرزخ وعرصات القيامة.

«وإذا جاز السؤال بحق الأعمال ـ كما في حديث الغار الصحيح وهي مخلوقة ـ فالسؤال بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أولى. وفي العادة أنّ من له عند شخص قدر فتوسّل به إليه من غيبته فإنّه يجيب إكراماً للمتوسل به وقد يكون ذكر المحبوب أو المعظّم سبباً للإجابة» (١).

قال الدكتور عبد الملك السعدي : «إذا قلت : اللهمّ إنّي توسّلت إليك بجاه فلان ، لنبي أو صالح فهذا أيضاً مما ينبغي أن لا يحصل بجوازه خلاف ؛ لأنّ الجاه ليس له ذات المتوسّل به بل مكانته ومرتبته عند الله وهي حصيلة الأعمال الصالحة ؛ لأنّ الله تعالى قال عن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ (وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) (٢) وقال عن عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ (وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) (٣) فلا ينكر على من يتوسّل بالجاه إذا كنّا منصفين ؛ لأنّه لا يحتمل نسبة التأثير إلى المتوسّل به إذ ليس هو المقصود بل المتوسّل به جاهه ومكانته عند الله لا غير (٤).

__________________

(١) وفاء الوفا ٤ : ١٣٧٢.

(٢) الأحزاب : ٦٩.

(٣) آل عمران : ٤٥.

(٤) البدعة : ص ٤٥.

٦٣٠

وقال أيضاً في قصة استسقاء الخليفة بالعباس : «إنّ عمر لم يقل واليوم نستسقي بالعباس بن عبد المطلب بل قال : بالعباس عمّ نبيّك ، فالوجاهة حصلت له لأنّه عمّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الميّت ، وهذا اعتراف بأنّ جاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد موته ما زال باقياً حتى سرى إلى عمّه العباس (١).

ونحن نضيف إلى ذلك : أنّه إذا جاز التوسّل بالقرآن ـ كما مرّ في الفصل الثاني ـ لمكانته عند الله ومنزلته لديه وهو كلام الله الصامت ، فالتوسّل بالنبي الأكرم وهو كلام الله الناطق بطريق أولى.

عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اقترف آدم الخطيئة قال : ربّي أسألك بحقّ محمّد لما غفرتَ لي ، فقال الله عزوجل : يا آدم ، كيف عرفت محمّداً ولم أخلقه؟ قال : لأنّك يا ربّ لمّا خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً : لا إله إلّا الله محمّد رسول الله ، فعلمت أنّك لم تُضِفْ إلى اسمك إلّا أحبّ الخلق إليك ، فقال الله عزوجل : صدقت يا آدم إنّه لأحبّ الخلق إليَّ ، وإذا سألتني بحقّه فقد غفرت لك ، ولو لا محمّد لما خلقتك» (٢).

يقع الكلام في سند الحديث أوّلاً ومتنه ثانياً.

أمّا الأوّل : فرجاله ثقات ، نعم وقع الكلام في واحد منهم وهو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، فقد قال البيهقي : وهو ضعيف ، ولكن الحاكم صحّح الحديث على شرط الشيخين ، ولو قلنا بأنّه لا يعتمد على تصحيح الحاكم وحده فتكون الرواية مؤيّدة ؛ إذ ليس معنى كون الراوي ضعيفاً أن الرواية مكذوبة.

__________________

(١) المصدر نفسه : ٤٩.

(٢) دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة ، ٥ : ٤٨٩ ط دار الكتب العلمية بيروت. لاحظ الدر المنثور ١ : ٥٩ ، ونقله كثير من المفسرين في قصة توبة آدم.

٦٣١

وهناك نكتة أشرنا إليها سابقاً ، وهي أن لو كان التوسّل بشخص النبي أمراً منكراً بين المسلمين لما تجرّأ الواضع بوضع الحديث الذي يتضمّن ذلك الأمر المنكر ؛ لأنّ هدفه من الوضع إقبال الناس إلى كلامه وتسليمهم بالرواية ، وهذا لا يجتمع مع كون المضمون أمراً مخالفاً لما عليه المسلمون في ظرف النقل ، وبذلك يُعلم أنّ الرواية سواء أكانت صحيحة أم لا ، تُثْبت ما بيّناه في جواز التوسّل بذات النبي.

نعم هنا شبهات حول الرواية ، تجب الإجابة عنها :

الشبهة الأُولى

إنّ الحديث يتضمّن الإقسام على الله بمخلوقاته ، فالأقسام على الله بمحمد وهو مخلوق بل وأشرف المخلوقين لا يجوز ؛ لأنّ حلف المخلوق لمخلوق حرام ، فالحلف لله بمخلوقاته من باب أولى.

يلاحظ عليه : أنّ ما استدلّ به على حرمة الإقسام على الله بمخلوقاته عن طريق أنّ الحلف بمخلوق لمخلوق حرام ، مردود جداً ، لأنّ القرآن مليء بالحلف بمخلوق لمخلوق ، قال سبحانه :

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ* وَطُورِ سِينِينَ* وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) (١).

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى * وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) (٢).

(وَالْفَجْرِ* وَلَيالٍ عَشْرٍ* وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ* وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) (٣).

ففي هذه الآيات حلف بمخلوق على مخلوق ، والحالف هو الله والمحلوف به هو هذه الموجودات والمحلوف لهم هم الناس أو المسلمون قاطبة.

فلو كان الحلف بمخلوق لمخلوق أمراً خطيراً وبمقربة من الشرك أو هو نفسه كما

__________________

(١) التين : ١ ـ ٣.

(٢) الليل : ١ ـ ٢.

(٣) الفجر : ١ ـ ٤.

٦٣٢

يقوله بعض الناس (١) لما حلف به سبحانه ؛ لأنّ ماهية العمل إذا كانت ماهية شركيّة فلا يفرق بينه وبين عباده كما أنّه إذا كانت ماهية الشيء ظلماً وتجاوزاً على البريء ، فالله وعباده فيه سيّان ، قال الله تعالى : (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٢).

إنّ الحلف بهذه العظائم ذات الأسرار إنّما لأجل أحد الأمرين : إمّا للدعوة إلى التدبّر والدقة في صنعها والنواميس السائدة عليها واللطائف الموجودة فيها ، أو لإظهار عظمة المحلوف به وكرامته عند الله كما هو الحال في حلفه سبحانه بحياة النبي ، قال : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) (٣).

ولا عتب علينا إذا عرضنا المسألة على السنّة النبويّة ، فقد جاءت فيها موارد قد ورد فيها الحلف بمخلوق على مخلوق ، نكتفي بما رواه مسلم في صحيحه ، وما ظنّك برواية مسلم في جامعه!

١ ـ روى مسلم في صحيحه :

جاء رجل إلى النبي فقال : يا رسول الله أيّ الصدقة أعظم أجراً؟ فقال : «أما وأبيك لَتُنَبَّأنَّهُ : أن تَصَدَّق وأنت صحيح شحيح ، تخشى الفقر وتأمل البقاء» (٤).

٢ ـ روى مسلم أيضاً :

وجاء رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ من نجد ـ يسأل عن الإسلام ، فقال رسول الله : «خمس صلوات في اليوم والليل».

فقال : هل عليّ غيرهنّ؟

__________________

(١) التوصل إلى حقيقة التوسّل : ص ٢١٧.

(٢) الأعراف : ٢٨.

(٣) الحجر : ٧٢.

(٤) صحيح مسلم ٣ : ٩٤ كتاب الزكاة ، باب أفضل الصدقة.

٦٣٣

قال : «لا ... إلّا أن تطّوع ، وصيام شهر رمضان».

فقال : هل عليّ غيره؟

قال : «لا ... إلّا أن تطّوع» ، وذكر له رسول الله الزكاة.

فقال الرجل : هل عليَّ غيرها؟

قال : «لا ... إلّا أن تطّوع».

فأدبر الرجل وهو يقول : لا أزيد على هذا ولا أنقص.

فقال رسول الله : «أفلح وأبيه (١) إن صدق».

أو قال : «دخل الجنة ـ وأبيه ـ إن صدق» (٢).

فإذ بطل الأصل : حرمة الحلف بمخلوق على مخلوق ، بطل ما بُني عليه من حرمة الإقسام على الله بحقّ مخلوقه.

إلى هنا تمّ بيان أنّ الشبهة شبهة غير صحيحة ، وإنّما دعا القائل إلى التمسّك بها لدعم رأيه المسبق.

الشبهة الثانية

إنّ الحوار الوارد في الحديث كان بعد اقتراف الخطيئة ولكنّه قبل أن يخطأ ، علّمه الله الأسماء كلّها ، ومن جملة الأسماء اسم محمد وعَلِم أنّه نبيّ ورسول وأنّه خير الخلق أجمعين ، فكان أحرى أن يقول آدم : ربّي إنّك أعلمتني به أنّه كذلك لما علّمتني الأسماء كلّها (٣).

نقول على هامش الشبهة : إنّ ردّ السنّة الشريفة بمثل هذه التشكيكات جرأة عليها ؛ إذ أيّ مانع أن يكون هنا عِلْمان : علم جزئي وقف عليه عند ما فتح عينيه على

__________________

(١) أي حلفاً بأبيه ، فالواو للقسم.

(٢) صحيح مسلم ١ : ٣٢ ، باب ما هو الإسلام.

(٣) التوصل إلى حقيقة التوسّل : ص ٢١٨.

٦٣٤

الحياة في الجنّة ، وعلم واسع علّمه سبحانه بعد ذلك الظرف ، عند ما أراد سبحانه إثبات كرامته على الملائكة.

إنّ هذا النوع من التشكيك يستمد من إثبات الرأي والصمود على العقيدة وإن كان الحديث على خلافها.

وهناك نكتتان ننبّه عليهما :

الأُولى : إنّ أحاديث التوسّل وإن كانت تتراوح بين الصحيح والحسن والضعيف ، لكن المجموع يعرب عن تضافر المضمون وتواتره ، فعند ذلك تسقط المناقشة في أسنادها بعد ملاحظة ورود كمية كبيرة من الأحاديث في هذا المجال ، وأنت إذا لاحظت ما مضى من الروايات ، وما يوافيك تذعن بتضافر المضمون أو تواتره.

الثانية : نحن نفترض أنّ الحديث الراهن مجعول موضوع ، ولكنّه يعرب عن أنّ التوسّل بالمخلوق والإقسام على الله بمخلوقاته ليس شركاً ولا ذريعة إليه ، بل ولا حراماً. وذلك لأنّه لو كان شركاً وذريعة إليه أو حراماً ، لما رواه الثقات واحد عن واحد ، وهم أعرف بموازين الشرك ومعاييره ، ولما أورده الأكابر من العلماء في المعاجم الحديثية ، كالبيهقي في دلائل النبوة والحاكم في مستدركه ، والسيوطي في تفسيره ، والطبراني في المعجم الصغير ، وأكابر المفسّرين في القرون الغابرة ؛ لأنّ الشرك أمر بيّن الغي ، فلا معنى ولا مسوغ لنقله بحجة أنّه رواية.

فكل ذلك يعرب عن الفكرة الخاطئة في الحكم على الحلف على الله بمخلوقاته شركاً.

٦٣٥

(٩)

التوسّل بمقام النبيّ ومنزلته عند الله

إنّ هذا النوع من التوسّل ليس قسماً آخر بل يرجع إلى التوسّل بحقّهم ، بل التحقيق هو : أنّ التوسّل ليس له إلّا قسم واحد وهو توسيط قداسة النبي وشخصيته وحرمته عند الله تبارك وتعالى ، حتى يستجيب دعاء الإنسان لأجلها ، ولو كان لدعاء النبي أثر هو الإجابة فإنّما هو في ظلّ قداسته وشخصيته ، وهناك كلمة قيّمة للشيخ محمد الفقي على هذا الصعيد نأتي بنصّها :

يمتاز الأنبياء والرسل عن سواهم بمميزات لها خطورتها وعِظَم شأنها ، ويتمتعون بخصوصيات تجل عن التقدير والتعبير ، فهم يتفاوتون عن الخلائق بشتّى الخوارق ، ويختصّون بأنواع رائعة من المعجزات وأسمى المقامات : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (١).

والذي وهبهم هذه العطايا وأنعم عليهم بهذه الامتيازات ، كتب لهم في سجل الحوائج قضاء ما يطلبون وما يرجون ؛ لأنّهم رسله إلى خلقه يُلجأ إليهم عند الشدائد ، ويستغاث بهم في الملمّات ، وقد أكرم الله كذلك من بين خلقه رجالاً لا

__________________

(١) الحديد : ٢١.

٦٣٦

تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، يخافون يوماً تتقلّب فيه القلوب والأبصار ، وهم أولياؤه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، فلهم الحظوة لديه ، والقبول عنده بتفضيل عليهم بالاستجابة لدعائهم وقبول الاستغاثة منهم.

وفي جواز التشفّع والاستغاثة بجاهه تواترت الأحاديث ، واستفاضت الأخبار ، خصوصاً عند ما يطول الموقف ويشتدّ الكرب ويعظم الهول ، يوم تذهل كل مرضعة عمّا أرضعت ، وتضع كل ذات حملٍ حملها ، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى. فتطلب الخلائق في هذا الموقف من الأنبياء إغاثتهم ، والاستشفاع بهم ، فيحيلونهم كل بدوره إلى خير شفيع ، وأعظم مغيث فيقصدون كعبة الشفاعة وقبلة الإغاثة ، فيستجيب لرغباتهم ويسارع لإغاثتهم وإنقاذهم ويهمّ لمرضاتهم بما عهد فيه من فضل ، وما عرف عنه من كرم (١).

روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله : «أنا سيّد الناس يوم القيامة. هل تدرون بِمَ ذلك؟ يجمع الله يوم القيامة الأوّلين والآخرين في صعيد واحد ويسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنوا الشمس فيبلغ الناس من الغمّ والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون فيقول الناس : ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربّكم؟ فيقول بعض الناس لبعض : عليكم بآدم ، فيأتون آدم فيقولون له : أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك اشفع لنا إلى ربّك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم : إنّ ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله ، وإنّه نهاني عن الشجرة فعصيته ، نفسي نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح.

__________________

(١) التوسّل والزيارة : ص ١٦١.

٦٣٧

فيأتون نوحاً ، فيقولون : يا نوح إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض وقد سمّاك الله عبداً شكوراً اشفع لنا إلى ربّك ، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول : إنّ ربّي عزوجل قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنّه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي ، نفسي نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم.

فيأتون إبراهيم فيقولون : يا إبراهيم أنت نبيّ الله وخليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربّك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول لهم : إنّ ربّي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعد مثله (وإنّي قد كنت كذبت ثلاث كذبات ـ فذكرهنّ أبو حيان (١) ـ في الحديث) ، نفسي نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى.

فيأتون موسى فيقولون : يا موسى أنت رسول الله فضّلك الله برسالته وبكلامه على الناس ، اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول : إنّ ربّي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ، وإنّي قد قتلت نفساً لم أُومر بقتلها ، نفسي نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى عيسى.

فيأتون عيسى فيقولون : يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، وكلّمت الناس في المهد صبيّاً ، اشفع لنا ، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول عيسى : إنّ ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله (ولم يذكر ذنباً) ، نفسي نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فيأتون محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله فيقولون : يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء ، وقد

__________________

(١) ما تفرّد به أبو حيان مخالف للكتاب والعقل فلا عبرة به.

٦٣٨

غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر ، اشفع لنا إلى ربّك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فأنطلق فآتي تحت العرش فأقَعُ ساجداً لربّي عزوجل ثمّ يفتح الله عليَّ من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي ثمّ يقال : يا محمد ارفع رأسك سل تعطه واشفع تشفّع ، فأرفَعُ رأسي فأقولُ : أُمّتي يا ربّ أُمّتي يا ربّ ، فيقال : يا محمد أدخل من أُمّتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة ، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب ، ثمّ قال : والذي نفسي بيده إنّ ما بين المصراعين من مصاريع الجنّة كما بين مكة وحميرا وكما بين مكّة وبصرى» (١).

فالحديث يدلّ على جواز التوسّل بالمقام والمنزلة لقولهم : يا من أنت رسول وخاتم الأنبياء ، كما أنّ فيه دلالة على طلب الشفاعة منه لقولهم اشفع لنا إلى ربك.

إنّ التوسّل بالأنبياء والأولياء ليس بملاك جسمانيتهم فإنّهم وغيرهم في ذلك المجال سواسية ، وإنّما يتوسّل بهم بروحانيتهم العالية ؛ وهي محفوظة في حال الحياة وبعد الارتحال إلى البرزخ وإلى الآخرة.

فالتفريق في التوسّل بين الحياة والممات ينشأ من نظرة مادية تعطي الأصالة للجسم والمادة ولا تقيم للمعنى والروحانية وزناً ولا قيمةً.

فالنبي الأكرم مدار الفضائل والكمالات وهو يتمتع بأروع الكرامات وكلّها ترجع إلى روحانيته ومعنويته القائمة المحفوظة في جميع الحالات.

فما هذا التفريق بين الحياة المادية والبرزخية والأُخروية؟

فمن اتّخذ الأنبياء والأولياء وغيرهم ممّن باتوا لربّهم سجّداً وقياماً ، أسباباً حال حياتهم أو بعد مماتهم ، ووسائل لقضاء حوائجهم ووسائط لجلب الخير ودفع

__________________

(١) البخاري ، الصحيح ٦ : ٨٤ ـ ٨٥ ، صحيح مسلم ١ : ١٢٧ ـ ١٣٠ ، مسند أحمد ٢ : ٤١٢.

٦٣٩

الشر ، لم يحيدوا عمّا تهدف إليه الشريعة ولم يتجاوزوا الخط المشروع ولم يتعدّوا مقصود الرسالة النبوية وغاياتها.

فالأسباب لا يمكن إنكارها ، ولا يعقل تجاهلها ، ولا يتأتّى جحودها ؛ لأنّه تعالى هو الذي خلق الأسباب والمسبّبات ورتّب النتائج على المقدّمات فمن تمسك بالأسباب فقد تمسّك بما أمر الله سبحانه.

٦٤٠