في ظلال التّوحيد

الشيخ جعفر السبحاني

في ظلال التّوحيد

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: نشر مشعر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-6293-82-4

الصفحات: ٧١٢

عن أُناس صالحين ثمّ إنّها بكثرتها تدل على أنّ التوسّل كان أمراً رائجاً منذ عصر الصحابة إلى زماننا هذا ، ولم يكن أمراً غريباً عند المسلمين.

ولو فرضنا أنّ بعض هذه القضايا تخالف الواقع ، فلا ريب أنّه من باب استغلال الوضّاعين لأصل مسَلَّم صحيح بين المسلمين ، وهو صحّة التوسّل بدعاء النبي الأكرم بعد رحيله ؛ فانّهم نسجوا بعض القضايا في ظل ذلك الأصل.

ولو فرضنا أنّه لم يكن أمراً رائجاً بين المسلمين بل كان أمراً غريباً أو محظوراً لما تجرّأ المستغِل أن ينسج قضية كاذبة على نول الشرك أو المحرم ، فانّ الذي يحفّز الوضّاع على نسج الخرافة هو استعداد العامة لقبول تلك الخرافة ولولاه لما تجرّأ عليه لعدم حصول الغاية المتوخّاة من نسجها.

فهذه القضايا الكثيرة تدلّ ـ على كلا التقديرين ـ على المطلوب ، فإن كانت صادقة فبصدقها ، وإن كانت كاذبة فلأجل حكايتها عن وجود أصل مسلّم بين المسلمين وهو التوسّل بدعاء النبي الأكرم قبل وبعد موته ، وكان هذا الأصل ربما يستغل أحياناً من بعض المتاجرين بالدين.

على أنّ بعضها ممّا رواه الإمام البخاري وسائر أصحاب الصحاح فلنذكر نماذج :

١ ـ هذا أبو بكر : أقبل على فرسه من مسكنه بالسنخ حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلّم الناس حتى دخل على عائشة ـ رضي الله عنها ـ فتيمم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو مسجّى ببرد حبرة ، فكشف عن وجهه ثمّ أكب عليه فقبّله ثمّ بكى ، فقال : بأبي أنت يا نبي الله لا يجمع الله عليك موتتين أمّا الموتة التي كتبت عليك فقد مُتَّها (١).

فلو لم تكن هناك صلة بين الحياتين فما معنى قوله : «بأبي أنت يا نبي الله» لو لم يكن سماع فما ذا قصد ذلك الصحابي من قوله : «لا يجمع الله عليك موتتين».

__________________

(١) البخاري ، الصحيح ٢ : ١٧ ، كتاب الجنائز.

٦٠١

٢ ـ روى أبو القاسم عبد الرحمن السهيلي (٥٠٨ ـ ٥٨١ ه‍) في الروض الأنف : «دخل أبو بكر على رسول الله في بيت عائشة ورسول الله مسجّى في ناحية البيت ، عليه برد حبرة ، فأقبل حتى كشف عن وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ أقبل عليه فقبّله ، ثمّ قال : بأبي أنت وأُمّي أمّا الموتة التي كتب الله عليك فقد ذُقتها ثمّ لن تصيبك بعدها موتة أبداً» (١).

٣ ـ روى الحلبي علي بن برهان الدين (٩٧٥ ـ ١٠٤٤ ه‍) في سيرته وقال : «جاء أبو بكر من السنخ وعيناه تهملان فقبّل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : بأبي أنت وأُمّي طبت حيّاً وميتاً» (٢).

٤ ـ روى مفتي مكّة المشرّفة زيني دحلان في سيرته فذكر ما ذكراه ، وقال : قال أبو بكر : طبت حيّاً وميتاً ، وانقطع بموتك ما لم ينقطع للأنبياء قبلك ، فعظمت عن الصفة وجللت عن البكاء ، ولو أنّ موتك كان اختياراً لجدنا لموتك بالنفوس ، اذكرنا يا محمد عند ربك ولنكن على بالك (٣).

٥ ـ قال أمير المؤمنين علي عليه‌السلام عند ما ولي غسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «بأبي أنت وأُمّي يا رسول الله لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة والإنباء وأخبار السماء ـ إلى أن قال : ـ بأبي أنت وأُمّي اذكرنا عند ربك واجعلنا من بالك» (٤).

وقد أوضح السبكي أمر الإجماع على الزيارة قولاً وفعلاً ، وسرد كلام الأئمة في ذلك ، وبيّن أنّها قربة بالكتاب والسنّة ، والإجماع ، والقياس.

__________________

(١) الروض الأنف ٤ : ٢٦٠.

(٢) السيرة الحلبية ٣ : ٤٧٤ ط. دار المعرفة ، بيروت.

(٣) سيرة زيني دحلان بهامش السيرة الحلبية ٣ : ٣٩١ ، ط. مصر.

(٤) نهج البلاغة : الخطبة ٢٣٥.

٦٠٢

وأمّا الكتاب فقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ) الآية دالّة على الحث بالمجيء إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والاستغفار عنده ، واستغفاره لهم وهذه رتبة لا تنقطع بموتهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد حصل استغفاره لجميع المؤمنين ، لقوله تعالى : (اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) فإذا وجد مجيئهم ، فاستغفارهم ، كملت الأُمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله ولرحمته. وقوله : (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) معطوف عليه قوله : «جاءوك» فلا يقتضي أن يكون استغفار الرسول بعد استغفارهم مع أنّا لا نسلّم أنّه لا يستغفر بعد الموت ، لما سبق الدليل على حياته وعلى استغفاره لأُمَّته بعد الموت عند عرض أعمالهم عليه ، ويعلم من كمال رحمته أنّه لا يترك ذلك لمن جاءه مستغفراً ربّه.

والعلماء فهموا من الآية العموم لحالتي الموت والحياة ، واستحبّوا لمن أتى القبر أن يتلوها ويستغفر الله تعالى ، وحكاية الأعرابي في ذلك نقلها جماعة من الأئمة عن العُتبى ، واسمه محمد بن عبد الله بن عمرو ، أدرك ابن عيينة وروى عنه ، وهي مشهورة حكاها المصنّفون في المناسك من جميع المذاهب ، واستحسنوها ، ورأوها من أدب الزائر ، وذكرها ابن عساكر في تاريخه ، وابن الجوزي في مثير الغرام الساكن ، وغيرهما بأسانيدهم إلى محمد بن حرب الهلالي ، قال : دخلت المدينة ، فأتيت قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فزرته وجلست بحذائه ، فجاء أعرابي فزاره ، ثمّ قال : يا خير الرسل إنّ الله أنزل عليك كتاباً صادقاً قال فيه : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) ـ إلى قوله ـ (رَحِيماً) وإنّي جئتك مستغفراً ربك من ذنوبي ، متشفعاً بك ، وفي رواية : وقد جئتك مستغفراً من ذنبي مستشفعاً بك إلى ربي ، ثمّ بكى وأنشأ يقول :

يا خير من دفنت بالقاع أعظمه

فطاب من طيبهنّ القاع والأكم

نفسي الفداء لقبرٍ أنت ساكنه

فيه العفاف وفيه الجود والكرم

ثمّ استغفر وانصرف ، قال : فرقدت فرأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في نومي وهو يقول : احق

٦٠٣

الرجل وبشّره بأنّ الله غفر له بشفاعتي ، فاستيقظت ، فخرجت أطلبه فلم أجده.

قلت : بل قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن موسى بن النعمان في كتابه «مصباح الظلام» : إنّ الحافظ أبا سعيد السمعاني ذكر فيما روينا عنه عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه قال : قدم علينا أعرابي بعد ما دفنّا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بثلاثة أيام ، فرمى بنفسه على قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحثا من ترابه على رأسه ، وقال : يا رسول الله قلت فسمعنا قولك ، ووعيت عن الله سبحانه وما وعينا عنك ، وكان فيما أُنزل عليك : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ ...) وقد ظلمت ، وجئتك تستغفر لي ، فنودي من القبر: انّه قد غفر لك ، انتهى.

وروى ذلك أبو الحسن علي بن إبراهيم بن عبد الله الكرخي عن علي بن محمد ابن علي ، قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن الهيثم الطائي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن سلمة بن كهيل ، عن ابن صادق ، عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه ، فذكره ، ولا منافاة بين النقلين ؛ لإمكان التعدّد ، وعلى فرض الوحدة فأحد الناقلين اقتصر ؛ والآخر أسهب في النقل ، فنقل جميع القصة. وقد أدرك ذلك الأعرابي بسلامة فطرته أنّ الآية الكريمة التي تدعو المسلمين إلى المجيء إلى النبي حتى يطلبوا منه أن يستغفر لهم ، ليست خاصة بحياة النبي الدنيوية ، بل تعم الحياة الأُخروية ، فلأجل ذلك قام يطلب من النبي أن يستغفر له.

وقال عياض في الشفاء بسند جيد عن ابن حميد ـ أحد الرواة ـ عن مالك فيما يظهر ، قال : ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكاً في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال له مالك : «يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد فانّ الله تعالى أدّب قوماً فقال : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) الآية ، ومدح قوماً فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) الآية ، وذمّ قوماً فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) الآية ، وإنّ حرمته ميتاً كحرمته حيّاً ، فاستكان لها

٦٠٤

أبو جعفر ، فقال : يا أبا عبد الله أستقبلُ القبلة وأدعو أم أستقبلُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ فقال : لِمَ تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه‌السلام إلى الله تعالى يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به ، فيشفّعه الله تعالى قال الله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) الآية (١).

فانظر هذا الكلام من مالك ، وما اشتمل عليه من أمر الزيارة والتوسّل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله واستقباله عند الدعاء وحسن الأدب التام معه.

وقال أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الحسين السامري الحنبلي في المستوعب «باب زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله» وذكر آداب الزيارة ، وقال : ثمّ يأتي حائط القبر فيقف ناحيته ويجعل القبر تلقاء وجهه ، والقبلة خلف ظهره ، والمنبر عن يساره ، وذكر كيفية السلام والدعاء.

منه : اللهم إنّك قلت في كتابك لنبيك عليه‌السلام : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ) الآية ، وإنّي قد أتيت نبيّك مستغفراً ، فأسألك أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حياته ، اللهمّ إنّي أتوجه إليك بنبيّك صلى‌الله‌عليه‌وآله وذكر دعاءً طويلاً (٢).

هذه نماذج قدمناها إليك لتكون على بيّنة من هذا الأمر وأنّه لم يكن هناك فرق بين الحياتين ، وقد نقل المؤرّخون أُموراً كثيرة يضيق الوقت بنقلها ولو كنّا شاكّين في صدق بعض هذه التوسّلات ، ولكن نقل علماء السيرة والتاريخ المقدار الهائل من التوسّلات بدعاء النبي ـ بعد رحيله ـ يكشف عن أنّ التوسّل بدعاء النبي الأكرم كان أمراً رائجاً بين المسلمين ولم يكن أمراً غريباً ولا محظوراً وإلّا لما صحّ أن ينقل المؤرّخ ما يراه المسلمون أمراً مرغوباً عنه. وقد ذكرها بعض من المحقّقين في

__________________

(١) الشفا بتعريف حقوق المصطفى ٢ : ٩٢.

(٢) وفاء الوفا ٤ : ١٣٦٠ ـ ١٣٦٢.

٦٠٥

كتبهم فراجعها (١).

وليس لنا أن نترك السيرة المستمرة الهائلة التي يلمسها من توقف هنيئة لدى القبر الشريف النبوي وقد قال سبحانه : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) (٢).

وقد نقل السمهودي نبذاً ممّا وقع لمن استغاث بالنبي أو طلب منه شيئاً عند قبره فأُعطي مطلوبه ونال مرغوبه ممّا ذكره الإمام محمد بن موسى بن النعمان في كتابه «مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام» (٣).

التلوّن في الاستدلال

نرى أنّ المانعين عن التوسّل بدعاء النبي في حياته البرزخية يتلوّنون في الاستدلال ، فتارة ينفون حياة النبي بعد الموت ، وأُخرى ينفون إمكان الاتصال ، وثالثة يدعون لغوية هذا العمل ، ونعوذ بالله من قولهم الرابع إذ يعدّون العمل شركاً وعبادة للرسول ، أمّا الثلاث الأُول فقد ظهرت حالها ، وأمّا الشرك فلا يدرى كيف يوصف به ، مع أنّ هذا عمل واحد يُطلَب في حياة النبي ويُطلَب بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى أفيمكن أن يكون شيء واحد توحيداً في حالة وشركاً في أُخرى؟ مع أنّه لا يسأل الرسولُ بما أنّه إله أو ربّ ، أو بيده مصير الداعي ، وإنّما يسأله بما أنّه عبد صالح ذو نفس طاهرة وكريمة وهو أفضل الخلائق وأحد الأمانين في الأرض يستجاب دعاؤه ولا يرد.

__________________

(١) لاحظ شفاء السقام في زيارة خير الأنام للسبكي ، والدرر السنية لزيني دحلان ، والمبرد المبكي في ردّ الصارم المنكي لابن علان ، ونصرة الإمام السبكي برد الصارم المنكي للسمهودي.

(٢) النساء : ١١٥.

(٣) وفاء الوفا ٤ : ١٣٨٠ ـ ١٣٨٧. طالع ذلك الفصل تجد فيه حكايات وقضايا كثيرة تدل على جريان السيرة بين المسلمين على التوسّل بدعاء النبي الأكرم.

٦٠٦

(٦)

التوسّل بدعاء الأخ المؤمن

التوسّل بدعاء الأخ المؤمن تمسّك بما جعله الله سبحانه سبباً لاستجابة الدعاء ، وقد دلّت الآيات على أنّ الملائكة يستغفرون للّذين آمنوا ، وأنَّ المؤمنين اللاحقين يستغفرون للسابقين ، وهذا يدلّ على أنّ دعاء الأخ في حقّ أخيه ، أمر مرغوب فيه ومطلوب ومستجاب ، فإذا كان كذلك فعلى المذنب أن يتوسّل بهذا السبب المشروع ويطلب من أخيه الدعاء له ، قال سبحانه : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) (١).

وقال سبحانه : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٢).

__________________

(١) غافر : ٧.

(٢) الحشر : ١٠.

٦٠٧

فدعاء حملة العرش واللاحقين من المؤمنين سبب صالح لإجابة الدعاء ، فعلى المسلم الواعي التمسك بمثل هذا السبب وطلب الدعاء منهم.

وفي السنّة الشريفة ما يدلّ على ذلك ، روى مسلم والترمذي عن عبد الله عن عمرو بن العاص أنّه سمع رسول الله يقول : «إذا سمعتم المؤذّن ، فقولوا مثلما يقول ، ثمّ صلّوا عليّ ؛ فانّه من صلّى عليّ صلاة ، صلّى الله عليه بها عشراً ، ثمّ سلوا الله لي الوسيلة ؛ فإنّها منزلة في الجنّة لا تنبغي إلّا لعبدٍ من عباد الله ، وأرجو أن أكون أنا هو ، فمن سأل لي الوسيلة حلّت له الشفاعة» (١).

فهذا الحديث يدلّ بظاهره على أنّ الرسول يتوسّل إلى الله تعالى بدعاء أُمّته له ، أن يؤتيه الوسيلة والمقام المحمود في الجنة ، ويكون جزاؤه شفاعتَه في حقّهم. فإذا كان هذا حال النبي فنحن من باب أولى يحقّ لنا أن نتمسك بهذه الوسيلة :

وفي روايات أئمة أهل البيت تصاريح بذلك ، نذكر بعضها لتتجلّى الحقيقة بأجلِّ مظاهرها ، فانّ العترة الطاهرة أحد الثقلين اللّذين أمر النبي بالتمسّك بهما والمتمسّك بهما لن يضل :

١ ـ روى أبو بصير ، عن أبي جعفر ، قال : «إنّ عليّ بن الحسين قال لأحد غلمانه : يا بنيّ اذهب إلى قبر رسول الله فصلِّ ركعتين ، ثمّ قل : اللهمّ اغفر لعليّ بن الحسين خطيئته يوم الدين ، ثمّ قال للغلام : اذهب فأنت حرّ لوجه الله» (٢).

٢ ـ روى محمد بن عجلان قال : سمعت أبا عبد الله يقول : «كان علي بن الحسين إذا دخل شهر رمضان لا يضرب عبداً له ولا أمة ، وكان إذا أذنب العبد يكتب عنده : أذنب فلان ، أذنبت فلانة يوم كذا وكذا ولم يعاقبه ، فيجتمع عليهم الأدب

__________________

(١) مسلم : الصحيح ٢ : ٤ ، كتاب الصلاة ، الباب ٦ ؛ الترمذي الجامع الصحيح ٥ : ٥٨٩ ، كتاب المناقب ، الباب الأوّل ، واللفظ للأوّل.

(٢) البحار ٤٦ : ٩٢ ، نقلاً عن كتاب الزهد لحسين بن سعيد الأهوازي.

٦٠٨

حتى إذا كان آخر ليلة من شهر رمضان دعاهم وجمعهم حوله ثمّ أظهر الكتاب ، ثمّ قال يا فلان : فعلت كذا وكذا ولم أُؤدِّبك أتذكر ذلك؟ فيقول : بلى يا ابن رسول الله ، ويقررهم جميعاً ، ثمّ يقوم وسطهم ويقول لهم : ارفعوا أصواتكم وقولوا : يا علي بن الحسين إنّ ربّك قد أحصى عليك كل ما عملت كما أحصيت علينا ... فاعف واصفح كما ترجو من المليك العفو ، وكما تحب أن يعفو المليك عنك ، فاعف عنّا تجده عفوّاً ربك رحيماً ـ إلى أن قال : ـ فيقول لهم : قولوا اللهمّ اعف عن علي بن الحسين كما عفا عنّا ، فأعتِقه من النار كما أعتق رقابنا من الرقّ ، فيقولون ذلك ، فيقول : اللهمّ آمين ربّ العالمين ، اذهبوا فقد عفوتُ عنكم وأعتقتُ رقابكم رجاءً للعفو عنّي وعتق رقبتي» (١).

٣ ـ وكان أصحاب أئمة أهل البيت يتوسّلون بدعائهم ، وهذا هو علي بن محمد الحجال كتب إلى أبي الحسن الإمام الهادي وجاء في كتابه : «أصابتني علّة في رجلي ولا أقدر على النهوض والقيام بما يجب فإن رأيت أن تدعو الله أن يكشف علّتي ويعينني على القيام بما يجب عليّ وأداء الأمانة في ذلك ...» (٢).

__________________

(١) البحار ٤٦ : ١٠٢ ، نقلاً عن كتاب الإقبال للسيد ابن طاوس المتوفّى عام ٦٦٤ ه‍.

(٢) كشف الغمة ٣ : ٢٥١.

٦٠٩

(٧)

التوسّل بالأنبياء والصالحين أنفسهم

هناك قسم آخر من التوسّل وهو التوسّل بذوات الأنبياء والصالحين وجعلهم وسيلة لاستجابة الدعاء ، والتنويه بما لهم من المقام والمنزلة عند الله سبحانه ، وهذا غير القسم الخامس ، ففي القسم الماضي كنّا نتوسّل بدعاء النبي ونجعل دعاءه وسيلة إلى الرب وفي هذا القسم نجعل نفس الرسول وكرامته عند الله وسيلة إلى الرب.

ومن الإمعان في القسم السابق يُعرف مفهوم هذا التوسّل ؛ لأنّ التوسّل بدعائه لأجل أنّه دعاء روح طاهرة ، ونفس كريمة ، وشخصية مثالية وأفضل الخلائق ، ففي الحقيقة ليس الدعاء بما هو دعاء وسيلة ، وإنّما الوسيلة هي الدعاء النابع عن تلك الشخصية الإلهية التي كرّمها الله وعظّمها ورفع مقامها وذكرها وقال : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) (١).

وأمر المسلمين بتكريمه وتعزيره حيث قال : (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ

__________________

(١) الانشراح : ٤.

٦١٠

وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١) فقوله «عزَّروه» بمعنى أكرموه.

فإذا كان رصيد استجابة الدعاء هو شخصيته الفذّة المثالية ، ومنزلته عند الله فالأولى أن يتوسّل بها الإنسان كما يتوسّل بدعائه ، فمن اعترف بجواز الأوّل ومنع الثاني فقد فرّق بين أمرين متلازمين ، وما دعاهم إلى التفريق بينهما إلّا صيانة لمعتقدهم.

وبدورنا نغض النظر عن هذا الدليل ونذكر ما ورد في السنّة النبوية مروياً عن طريق صحيح أقرّ به الأقطاب من أهل الحديث.

توسل الضرير بنبيّ الرحمة

عن عثمان بن حنيف أنّه قال : إنّ رجلاً ضريراً أتى النبي فقال : ادعُ الله أن يعافيني فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إن شئتَ دعوتُ وإن شئتَ صبرتَ وهو خير».

قال : فادعه ، قال : فأمره أن يتوضّأ فيُحسن وضوءه ويصلّي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء : «اللهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك محمّد نبي الرحمة ، يا محمد إنّي أتوجه بك إلى ربّي في حاجتي لتُقضى ، اللهمّ شفّعه فيَّ».

قال ابن حنيف : فو الله ما تفرّقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا كأن لم يكن به ضرّ (٢).

إنّ الاستدلال بالرواية مبني على صحّتها سنداً وتمامية دلالتها مضموناً.

أمّا الأوّل : فلم يناقش في صحّتها إلّا الجاهل بعلم الرجال ، حتى أنّ ابن تيمية

__________________

(١) الأعراف : ١٥٧.

(٢) الترمذي ، الصحيح كتاب الدعوات ، الباب ١١٩ ، برقم ٣٥٧٨ ؛ وسنن ابن ماجة ١ : ٤٤١ برقم ١٣٨٥ ؛ مسند أحمد ٤ : ١٣٨ إلى غير ذلك من المصادر وسيأتي في المتن نصوصهم حول وصف الحديث.

٦١١

قال : قد روى الترمذي حديثاً صحيحاً عن النبي أنّه علّم رجلاً أن يدعو فيقول : اللهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك. وروى النسائي نحو هذا الدعاء» (١).

وقال الترمذي : هذا حديث حق حسن صحيح.

وقال ابن ماجة : هذا حديث صحيح.

وقال الرفاعي : لا شك أنّ هذا الحديث صحيح ومشهور (٢).

وبعد ذلك فلم يبق لأحد التشكيك في صحّة سند الحديث إنّما الكلام في دلالته وإليك البيان :

إنّ الحديث يدل بوضوح على أنّ الأعمى توسّل بذات النبي بتعليم منه صلى‌الله‌عليه‌وآله والأعمى وإن طلب الدعاء من النبي الأكرم في بدء الأمر إلّا أنّ النبي علّمه دعاء تضمن التوسّل بذات النبي ، وهذا هو المهم في تبيين معنى الحديث.

وبعبارة ثانية : أنّ الذي لا ينكر عند الإمعان في الحديث أمران :

الأوّل : أنّ الرجل طلب من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الدعاء ولم يظهر منه توسّل بذات النبي.

الثاني : أنّ الدعاء الذي علّمه النبي ، تضمّن التوسّل بذات النبي بالصراحة التامة ، فيكون ذلك دليلاً على جواز التوسّل بالذات.

وإليك الجمل والعبارات التي هي صريحة في المقصود.

١ ـ اللهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك :

إنّ كلمة «بنبيّك» متعلقة بفعلين هما «أسألك» و «أتوجّه إليك» والمراد من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه القدسية وشخصيته الكريمة لا دعاؤه.

وتقدير كلمة «دعاء» قبل لفظ «بنبيّك» حتى يكون المراد هو «أسألك بدعاء نبيّك أو أتوجّه إليك بدعاء نبيّك» تحكّم وتقدير بلا دليل ، وتأويل بدون مبرّر ، ولو

__________________

(١) مجموعة الرسائل والمسائل ١ : ١٣.

(٢) التوصل إلى حقيقة التوسّل : ص ١٥٨.

٦١٢

أنّ محدثاً ارتكب مثله في غير هذا الحديث لرموه بالجَهْمية والقدريّة.

٢ ـ محمد نبي الرحمة :

لكي يتّضح أنّ المقصود هو السؤال من الله بواسطة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وشخصيته فقد جاءت بعد كلمة «بنبيّك» جملة «محمد نبي الرحمة» لكي يتّضح نوع التوسّل والمتوسّل به بأكثر ما يمكن.

٣ ـ يا محمد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي :

إنّ جملة «يا محمد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي» تدلّ على أنّ الرجل الضرير ـ حسب تعليم الرسول ـ اتّخذ النبي نفسَه ، وسيلة في دعائه أي أنّه توسّل بذات النبي لا بدعائهصلى‌الله‌عليه‌وآله.

٤ ـ وشفّعه في :

إنّ قوله «وشفّعه في» معناه يا رب اجعل النبي شفيعي ، وتقبّل شفاعته في حقّي ، وليس معناه تقبل دعاءه في حقّي ؛ فإنّه لم يرد في الحديث أنّ النبي دعا بنفسه حتى يكون معنى هذه الجملة : استجب دعاءه في حقّي.

ولو كان هناك دعاء من النبي لذكره الراوي ؛ إذ ليس دعاؤه صلى‌الله‌عليه‌وآله من الأُمور غير المهمّة حتى يتسامح الراوي في حقّه.

وحتى لو فرضنا أنّ معناه «تقبّل دعاءه في حقّي» فلا يضر ذلك بالمقصود أيضاً ؛ إذ يكون على هذا الفرض هناك دعاءان : دعاء الرسول ولم يُنْقَل لفظه ، والدعاء الذي علّمه الرسول للضرير ، وقد جاء فيه التصريح بالتوسّل بذات النبي وشخصه وصفاته ، وليس لنا التصرّف في الدعاء الذي علّمه الرسول للضرير ، بحجّة أنّه كان هناك للرسول دعاء.

لقد أورد هذا الحديث النسائي والبيهقي والطبراني والترمذي والحاكم في مستدركه ، ولكن الترمذي والحاكم ذكرا جملة «اللهمّ شفّعه فيه» بدل «وشفّعه في».

٦١٣

إجابة عن سؤال

إنّ من يمنع التوسّل بشخصية الرسول المثالية لمّا وقع أمام هذا الحديث تعجّب عاضّاً على أُنملته ، فحمل الحديث على أنّه من قبيل التوسّل بدعاء الرسول لا بشخصه وذاته الكريمة مستدلّاً بقول الضرير «ادع الله أن يعافيني» وقد خلط بين أمرين :

الأوّل : المحاورة الابتدائية التي وقعت بين النبي والضرير ، فكان المطلوب بلا شك هو طلب الدعاء من النبي ، وهذا ما لا ينكره أحد ، إنّما الكلام فيما يأتي.

الثاني : الدعاء الذي علّمه الرسول للضرير ؛ فإنّه تضمّن التوسّل بذات النبي ولا يمكن لأحد أن ينكر التصاريح الموجودة في الحديث.

والتصرّف في النصّ الثاني بحجة أنّ الموضوع في المحاورة الأُولى هو طلب الدعاء ، تصرف نابع من اتخاذ موقف مسبق قبل النظر إلى الحديث ؛ فإنّ الأعمى لم يدر في خلده في البداية سوى دعاء الرسول المستجاب ، ولكن الدعاء الذي علّمه الرسول أن يدعوَ به بعد التوضّؤ ، مشتمل على التوسّل بذات النبي.

قال الدكتور عبد الملك السعدي : وقد ظهر في الآونة الأخيرة أُناس ينكرون التوسّل بالذات مطلقاً ، سواء كان صاحبها حيّاً أو ميّتاً ، وقد أوّلوا حديث الأعمى وقالوا : إنّ الأعمى لم يتوسّل ولم يأمره النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله به بل قال له : صلِّ ركعتين ثمّ اطلب منّي أن أدعو لك ففعل.

وأنت يا أخي عليك أن تقرأ نص الحديث هل يحتمل هذا التأويل ، وهل فيه هذا المدّعى؟ أم أنّه أخذ يطلب من الله مستشفعاً بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يدع له صلى‌الله‌عليه‌وآله. ولو أراد منه ذلك لاستجاب له أوّل مرّة حيث طلب منه الدعاء بالكشف عن بصره فأبى إلّا أن يصلّي ويتولّى الأعمى بنفسه الدعاء (١).

__________________

(١) البدعة في مفهومها الإسلامي الدقيق : ص ٤٦ ط بغداد.

٦١٤

التوسّل بذات النبيّ بعد رحيله

إنّ الصحابي الجليل عثمان بن حنيف فهم من الحديث السابق أنّ التوسّل بذات النبي وشخصه يعمّ حياته ومماته ، فلأجل ذلك عند ما رجع إليه بعضُ أصحاب الحاجة علّمه نفس الدعاء الذي علّمه الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله للضرير لحسن الحظ كان ما توصّل إليه ناجحاً.

روى الحافظ سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني (ت ٣٦٠ ه‍) عن أبي أُمامة بن سهل بن حنيف عن عمّه عثمان بن حنيف ، أنّ رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان رضى الله عنه في حاجة له ، فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته ، فلقى ابن حنيف فشكا ذلك إليه فقال له عثمان بن حنيف : ائت الميضاة فتوضّأ ، ثمّ ائت المسجد فصلّ فيه ركعتين ثمّ قل : «اللهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّنا محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله نبي الرحمة ، يا محمد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي فتقضي لي حاجتي» فتذكر حاجتك ورح إليَّ حتى أروح معك.

فانطلق الرجل فصنع ما قال له ، ثمّ أتى باب عثمان بن عفان رضى الله عنه ، فجاء البوّاب حتى أخذ بيده ، فأدخله على عثمان بن عفان رضى الله عنه ، فأجلسه معه على الطنفسة ، فقال : ما حاجتك؟ فذكر حاجته ، فقضاها له ، ثمّ قال له : ما ذكرتُ حاجتك حتى كانت الساعة ، وقال : ما كانت لك من حاجة فاذكرها.

ثمّ إنّ الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له : جزاك الله خيراً ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إليّ حتى كلّمته في ، فقال عثمان بن حنيف : والله ما كلّمته ، ولكنّي شهدت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أفتبصر؟ فقال : يا رسول الله ليس لي قائد وقد شقّ عليّ.

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ائت الميضاة فتوضّأ ثمّ صلّ ركعتين ، ثمّ ادع بهذه الدعوات.

٦١٥

قال ابن حنيف : فو الله ما تفرّقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنّه لم يكن به ضرّ قط (١).

إنّ دلالة الحديث على جواز التوسّل بذوات الصالحين وأخصّ منهم الأنبياء أمر لا سترة فيه ، نعم بعض من لا يروقه هذا النوع من التوسّل ، أراد التشكيك في الرواية بوجهين ، فقال :

أوّلاً : إنّ معنى التوسّل عند الصحابة هو دعاء الشخص المتوسّل به إلى الله تعالى بقضاء حاجة المتوسّل لا كما يعرفه القوم في زماننا هذا من التوسّل بذات المتوسّل به.

ثانياً : لو كان دعاء الأعمى الذي علّمه رسول الله دعاءً ينفع في كلّ زمان ومكان لما رأينا أيّ أعمى على وجه البسيطة (٢).

يلاحظ على كلامه الأوّل : بأنّه من غرائب الكلام فقد جعل من مذهبه دليلاً على ضعف الرواية ، وهو أنّ معنى التوسّل عند الصحابة هو التوسّل بدعاء الشخص لا بذاته. فمن أين علم أنّه مذهب الصحابة؟! وهل يعرف مذهبهم إلّا من خلال أحاديثهم ، مع أنّ الحديثين المرويين عن طريق الصحابي الجليل عثمان بن حنيف يدلّان على خلافه؟

وأمّا الثاني : فهو اطّراح للوحي ، وازدراء به ، ولو صحّ ما ذكره فلقائل أن يقول : لو صحّ قوله سبحانه : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (٣) يجب أن لا يبقى على وجه البسيط ذو عاهة.

والجواب عن تلك الوسوسة في كلا المقامين واحد ، وهو أنّ الدعاء مقتض

__________________

(١) المعجم الكبير ٩ : ١٦ ـ ١٧ ، باب ما أُسند إلى عثمان بن حنيف ، برقم ٨٣١٠ ، والمعجم الصغير له أيضاً ١ : ١٨٣ ـ ١٨٤.

(٢) التوصل إلى حقيقة التوسّل : ص ٣٣٥.

(٣) غافر : ٦٠.

٦١٦

لنزول الرحمة ودفع الكُربة ولكن ليس السبب تامّاً لنجاح المقصود ، بل له شروط وله موانع وعوائق ، ولأجل ذلك نرى أنّ بعض الأدعية لا تستجاب ، مع أنّه سبحانه يحثّ على الدعاء وأنّه يستجيب دعاء من دعاه ، ويقول : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (١).

مناقشة في سند الرواية

لقد تعرّفت على تمامية دلالة الرواية وهناك من يريد المناقشة في سندها ، ولا يخدش فيها إلّا لأنّ الرواية تضاد عقيدته فيقول :

إنّ في سند هذا الحديث رجلاً اسمه روح بن صلاح وقد ضعّفه الجمهور وابن عديّ وقال ابن يونس : يروي أحاديث منكرة (٢).

أظنّ أنّ الكاتب لم يرجع إلى مصدرها وإنّما تبع تقوّل الآخرين ، ونحن نضع أمامك سند الحديث من المصدرين اللّذين روي عنهما الحديث ولا ترى فيهما أثراً من روح بن صلاح وإليك السند :

روى الطبراني في المعجم الكبير ، قال : حدّثنا طاهر بن عيسى بن قريش المصري المقري : حدثنا أصبغ بن الفرح : حدثنا ابن وهب عن أبي سعيد المكي ، عن روح ابن القاسم ، عن أبي جعفر الخطمي المدني ، عن أبي أُمامة بن سهل بن حنيف ، عن عمّه عثمان بن حنيف (٣).

ورواه البيهقي بالسند التالي :

أخبرنا أبو سعيد عبد الملك بن أبي عثمان الزاهد رحمه‌الله : أنبأنا الإمام أبو بكر محمد ابن علي بن الشاشي القفال قال : أنبأنا أبو عروبة : حدّثنا العباس بن الفرج : حدّثنا

__________________

(١) غافر : ٦٠.

(٢) التوصل إلى حقيقة التوسّل : ص ٢٣٧.

(٣) المعجم الكبير ٩ : ١٧ ، وفي المعجم الصغير له «أصبغ بن الفرج» مكان «أصبغ بن الفرح».

٦١٧

إسماعيل بن شبيب : حدّثنا أبي ، عن روح بن القاسم ، عن أبي جعفر المديني ... إلخ السند(١).

وأنت ترى أنّه ليس في طريق الرواية روح بن صلاح بل هو روح بن القاسم والكاتب صرّح بأنّ الرواية رواها الطبراني والبيهقي ، وهذا يعرب عن أنّ الكاتب لم يرجع إلى المصدرين وإنّما اعتمد على تقوّل الآخرين.

نحن نفترض أنّه ورد في سند الرواية روح بن صلاح ولكن ما ذكره من أنّ الجمهور ضعّفوه أمر لا تصدّقه المعاجم الموجودة فيما بين أيدينا ، وإنّما ضعّفه ابن عدي وفي الوقت نفسه وثّقه ابن حِبّان والحاكم. قال الذهبي : روح بن صلاح المصري يقال له ابن سيّابة ضعّفه ابن عدي ، يكنّى أبا الحارث وقد ذكره ابن حبان في الثقات وقال الحاكم : ثقة مأمون (٢).

سيرة الأُمم في توسّلهم بالذوات الطاهرة

لم يكن التوسّل بالصالحين والطيبين والمعصومين والمخلصين من عباد الله أمراً جديداً في زمن النبي وبعده ، بل كان ذلك امتداداً للسيرة الموجودة قبل الإسلام ، ونحن نضع أمامك قسماً من هذه التوسلات لتكون على علم بأنّ الفطرة السليمة تدعو الإنسان إلى التوسّل بالموجودات الطاهرة لجلب رحمته تعالى.

١ ـ استسقاء عبد المطلب بالنبي وهو رضيع

إنّ عبد المطلب استسقى بالنبي الأكرم وهو طفل صغير ، حتى قال ابن حجر : إنّ

__________________

(١) دلائل النبوة ٦ : ١٦٨.

(٢) ميزان الاعتدال ٢ : ٨٥ / ٢٨٠١.

٦١٨

أبا طالب يشير بقوله :

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمةٌ للأرامل

إلى ما وقع في زمن عبد المطلب حيث استسقى لقريش والنبي معه غلام (١).

٢ ـ استسقاء أبي طالب بالنبي وهو غلام

أخرج ابن عساكر عن أبي عرفة ، قال : قدمت مكة وهم في قحط ، فقالت قريش ، يا أبا طالب أقحط الوادي ، وأجدب العيال ، فهلم فاستسق ، فخرج أبو طالب ومعه غلام يعني النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كأنّه شمس دجى تجلّت عن سحابة قتماء ، وحوله أُغيلمه ، فأخذ النبيَّ أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة ، ولاذَ إلى الغلام وما في السماء قزعة ، قأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا وأغدق واغدودق ، وانفجر له الوادي ، وأخصب النادي والبادي ، وفي ذلك يقول أبو طالب :

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمةٌ للأرامل (٢)

وقد كان استسقاء أبي طالب بالنبي وهو غلام ، بل استسقاء عبد المطلب به وهو صبي أمراً معروفاً بين العرب ، وكان شعر أبي طالب في هذه الواقعة ممّا يحفظه أكثر الناس.

ويظهر من الروايات أنّ استسقاء أبي طالب بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان موضع رضا منه صلى‌الله‌عليه‌وآله فانّه بعد ما بعث للرسالة استسقى للناس فجاء المطر وأخصب الوادي فقال النبي : لو كان أبو طالب حيّاً لقرّت عيناه ، ومن ينشدنا قوله؟ فقام علي عليه‌السلام وقال : يا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كأنّك أردت قوله :

__________________

(١) فتح الباري ٢ : ٣٩٨ ؛ دلائل النبوة ٢ : ١٢٦.

(٢) فتح الباري ٢ : ٤٩٤ ؛ السيرة الحلبية ١ : ١١٦

٦١٩

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمةٌ للأرامل (١)

إنّ التوسّل بالأطفال في الاستسقاء أمر ندب إليه الشارع ، قال الدكتور عبد الملك السعدي : من السنّة أن نُخرج معنا إلى الصحراء الشيوخ والصبيان والبهائم لعلَّ الله يسقينا بسببهم (٢).

وهذا هو الإمام الشافعي يقول في آداب صلاة الاستسقاء : «وأُحب أن يخرج الصبيان ، ويتنظفوا للاستسقاء ، وكبار النساء ، ومن لا هيبة منهنّ ، ولا أُحبّ خروج ذات الهيبة ، ولا آمر بإخراج البهائم» (٣).

فما الهدف من إخراج الصبيان والنساء الطاعنات في السن ، إلّا استنزال الرحمة بهم وبقداستهم وطهارتهم؟ كل ذلك يعرب عن أنّ التوسّل بالأبرياء والصلحاء والمعصومين مفتاح استنزال الرحمة وكأنّ المتوسّل يقول : ربّي وسيّدي!! الصغير معصوم من الذنب ، والكبير الطاعن في السن أسيرك في أرضك ، وكلتا الطائفتين أحقّ بالرحمة والمرحمة. فلأجلهم أنزل رحمتك علينا ، حتى تعمّنا في ظلّهم.

إنّ الساقي ربّما يسقي مساحة كبيرة لأجل شجرة واحدة ، وفي ظلّها تُسقى الأعشاب وسائر الخضراوات غير المفيدة.

٣ ـ توسّل الخليفة بعمّ النبي : العباس

روى البخاري في صحيحه قال : كان عمر بن الخطاب إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب رضى الله عنه وقال : اللهمّ إنّا كنّا نتوسّل إليك بنبيّنا فتسقينا ، وإنّا نتوسّل إليك بعمّ نبيّنا فاسقنا ، قال : فيُسقون (٤).

__________________

(١) إرشاد الساري ٢ : ٣٣٨

(٢) البدعة : ص ٤٩.

(٣) الأُم ١ : ٢٣٠.

(٤) البخاري ، الصحيح ٢ : ٣٢ باب صلاة الاستسقاء.

٦٢٠