في ظلال التّوحيد

الشيخ جعفر السبحاني

في ظلال التّوحيد

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: نشر مشعر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-6293-82-4

الصفحات: ٧١٢

(٢)

التوسّل بالقرآن الكريم

إنّ الإنسان مهما كان مبدعاً في الوصف والتعبير ، لا يستطيع أن يصف كلام الله العزيز بمثل ما وصفه به سبحانه ، فقد وصف هو كتابه بأنّه نور ، وكتاب مبين ، وهدًى للمتّقين ، نزل بالحق تبياناً لكل شيء ، إلى غير ذلك من المواصفات الواردة فيه.

وكتابه سبحانه ، فعله ، فالتوسّل بالقرآن والسؤال به ، توسّل بفعله سبحانه ورحمته التي وسعت كل شيء ، ومع ذلك كلّه يجب على المتوسّل ، التحقّق من وجود دليل على جواز هذا النوع من التوسّل ، لما عرفت من أنّ كل ما يقوم به المسلم من التوسّلات يلزم أن لا يخدش أصل التوحيد وحرمة التشريع ، ولحسن الحظ أنَّك ترى وروده في الشرع.

روى الإمام أحمد ، عن عمران بن الحصين ، أنّه مرّ على رجل يقصّ ، فقال عمران : إنّا لله وإنّا إليه راجعون سمعت رسول الله يقول : «اقرءوا القرآن واسألوا الله تبارك وتعالى به قبل أن يجيء قوم يسألون به الناس» (١). فعموم لفظ الحديث

__________________

(١) الإمام أحمد ، المسند ٤ : ٤٤٥. ورواه في كنز العمال عن الطبراني في الكبير ، والبيهقي في شعب الإيمان ، لاحظ ج ١ : ٦٠٨ / ٢٧٨٨.

٥٨١

يدلّ على جواز سؤاله سبحانه بكتابه المنزل ما شاء من الحوائج الدنيوية والأُخروية.

والإمعان في الحديث يرشدنا إلى حقيقة واسعة وهي جواز السؤال بكل من له عند الله منزلة وكرامة ، وما وجه السؤال بالقرآن إلّا لكونه عزيزاً عند الله ، مكرّماً لديه ، وهو كلامه وفعله ، وهذا أيضاً متحقّق في رسوله الأعظم وأوليائه الطاهرين عليهم سلام الله أجمعين.

وورد عن أئمة أهل البيت : أنّه يستحبّ في ليلة القدر أن يفتح القرآن فيقول : «اللهمّ إنّي أسألك بكتابك المنزل وما فيه ، وفيه اسمك الأكبر وأسماؤك الحسنى وما يخاف ويرجى أن تجعلني من عتقائك من النار» (١).

__________________

(١) إقبال الإعمال : ص ٤١. رواه حريز بن عبد الله السجستاني عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام.

٥٨٢

(٣)

التوسّل بالأعمال الصالحة

إذا كان التوسّل بمعنى تقديم شيء إلى ساحة الله ليستجيب الدعاء ، فلا شك في أنّ العمل الصالح أحسن شيء يتقرّب به الإنسان إلى الله تعالى ، وأحسنُ وسيلةٍ يُتمسّك بها فتكون نتيجة التقرّب هي نزول رحمته عليه وإجابة دعائه ، وفي بعض الآيات الكريمة تلميح إلى ذلك ، وإن لم يكن فيها تصريح إلّا أنّ السنّة النبويّة صرّحت بذلك ، أمّا الآيات فنأتي بنموذجين منها :

١ ـ (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (١).

ترى أنّ إبراهيم وولده الحليم قدّما إلى الله تبارك وتعالى وسيلة وهي بناء البيت ، فعند ذلك طلبا من الله سبحانه عدّة أُمور تجمعها الأُمور التالية :

تقبّل منّا ، واجعلنا مسلمين لك ، ومن ذريّتنا أُمّة مسلمة لك ، وأرنا مناسكنا ، وتب علينا.

__________________

(١) البقرة : ١٢٧ ـ ١٢٨.

٥٨٣

والآية وإن لم تكن صريحة فيما نبتغيه غير أنّ دعاء إبراهيم في الظروف التي كان يرفع فيها قواعد البيت مع ابنه ، ترشدنا إلى أنّ طلب الدعاء في ذلك الظرف ، لم يكن أمراً اعتباطياً ، بل كانت هناك صلة بين العمل الصالح والدعاء ، وأنّه في قرارة نفسه تمسك بالأوّل ليستجيب دعاءه.

٢ ـ قوله سبحانه : (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ)(١).

ترى أنّه عطف طلب الغفران بالفاء على قوله : (رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا) ، ففاء التفريع تعرب عن صلة بين الإيمان وطلب الغفران.

وأنت إذا سبرت الآيات الكريمة تقف على نظير ذلك فكلّها من قبيل التلميح لا التصريح ، غير أنّ في السنّة النبوية تصريح على أنّ ذكر العمل الصالح الذي أتى به الإنسان لله تبارك وتعالى ، يثير رحمته ، فتنزل رحمته على عبده ويُستجاب دعاؤه ، وقد روى الفريقان القصّة التالية وفيها غنى وكفاية :

روى البخاري عن ابن عمران عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «بينما ثلاثة نفر ممّن كان قبلكم يمشون إذ أصابهم مطر ، فآووا إلى غارٍ فانطبق عليهم ، فقال بعضهم لبعض : إنّه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلّا الصدق ، فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنّه قد صدق فيه.

فقال واحد منهم : اللهمّ إن كنت تعلم أنّه كان لي أجير عمِلَ لي على فرق من أرُز ، فذهب وتركه ، وإنّي عمدت إلى ذلك الفرق فزرعته ، فصار من أمره أنّي اشتريت منه بقراً ، وأنّه أتاني يطلب أجره ، فقلت : اعمد إلى تلك البقر فسقها ، فقال لي : إنّما لي عندك فَرَق من أرُز ، فقلت له : اعمد إلى تلك البقر فإنّها من ذلك

__________________

(١) آل عمران : ١٦.

٥٨٤

الفَرَق ، فساقها ، فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك من خشيتك ، ففرّج عنّا ، فانساحت عنهم الصخرة.

فقال الآخر : اللهمّ إن كنت تعلم كان لي أبوان شيخان كبيران ، فكنت آتيهما كل ليلة بلبن غنم لي فأبطأتُ عليهما ليلةً ، فجئتُ وقد رقدا ، وأهلي وعيالي يتضاغون من الجوع ، فكنت لا أسقيهم حتى يشرب أبواي ، فكرهت أن أُوقظهما وكرهت أن أدعهما فَيسْتَكنّا لشربتهما ، فلم أزل انتظر حتى طلع الفجر فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك من خشيتك ففرّج عنّا ، فانساحت عنهم الصخرة حتى نظروا إلى السماء.

فقال الآخر : اللهمّ إن كنت تعلم أنّه كان لي ابنة عم من أحبّ الناس إليّ وأنّي راودتها عن نفسها فأبت إلّا أن آتيها بمائة دينار ، فطلبتها حتى قدرتُ ، فأتيتها بها ، فدفعتها إليها ، فأمكنتني من نفسها ، فلمّا قعدت بين رجليها فقالت : اتّق الله ولا تفضّ الخاتم إلّا بحقّه ، فقمت وتركت المائة دينار ، فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك من خشيتك ففرّج عنّا ، ففرّج الله عنهم فخرجوا» (١).

لم تكن الغاية من تحديث النبي بما ذكر إلّا تعليم أُمّته حتى يتّخذوا ذكر العمل الصالح وسيلة لاستجابة دعوتهم. ولو كان ذلك من خصائص الأُمم الماضية لصرّح بها. وقد رواه الفريقان باختلاف في اللّفظ.

٣ ـ روى البرقي أحمد بن خالد (ت ٢٧٤ ه‍) في محاسنه ، عن عبد الرحمن بن أبي نجران ، عن المفضل بن صالح ، عن جابر الجعفي ، يرفعه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «خرج ثلاثة نفر يسيحون في الأرض ، فبينما هم يعبدون الله في كهف في قلّة جبل حتى بدت صخرة من أعلى الجبل حتى التقمت باب الكهف ، فقال بعضهم

__________________

(١) البخاري ، الصحيح ٤ : ١٧٣ ، كتاب الأنبياء ، الباب ٥٣ ؛ ورواه في كتاب البيوع ، الباب ٩٨ ، واللفظ لكتاب الأنبياء.

٥٨٥

لبعض : عباد الله والله ما ينجيكم ممّا وقعتم إلّا أن تصدقوا الله ، فهلمّوا ما عملتم لله خالصاً ، فانّما أُسلمتم بالذنوب.

فقال أحدهم : اللهمّ إن كنت تعلم أنّي طلبت امرأة لحسنها وجمالها ، فأعطيت فيها مالاً ضخماً ، حتى إذا قدرت عليها وجلست منها مجلس الرجل من المرأة وذكرت النار ، فقمت عنها فزعاً منك ، اللهمّ فارفع عنّا هذه الصخرة ، فانصدعت حتى نظروا إلى الصدع.

ثمّ قال الآخر : اللهمّ إن كنت تعلم أنّي استأجرت قوماً يحرثون كل رجل منهم بنصف درهم ، فلمّا فرغوا أعطيتهم أُجورهم ، فقال أحدهم : قد عملت عمل اثنين والله لا آخذ إلّا درهماً واحداً ، وترك ماله عندي ، فبذرت بذلك النصف الدرهم في الأرض ، فأخرج الله من ذلك رزقاً ، وجاء صاحب النصف الدرهم فأراده ، فدفعت إليه ثمن عشرة آلاف ، فإن كنت تعلم أنّما فعلته مخافة منك فارفع عنّا هذه الصخرة ، قال : فانفرجت منهم حتى نظر بعضهم إلى بعض.

ثمّ إنّ الآخر قال : اللهمّ إن كنت تعلم أنّ أبي وأُمّي كانا نائمين ، فأتيتهما بقعب من لبن ، فخفت أن أضعه أن تمج فيه هامة ، وكرهت أن أُوقظهما من نومهما ، فيشق ذلك عليهما ، فلم أزل كذلك حتى استيقظا وشربا ، اللهمّ فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك ابتغاء وجهك فارفع عنّا هذه الصخرة ، فانفرجت لهم حتى سهل لهم طريقهم ، ثمّ قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : من صدق الله نجا» (١).

٤ ـ وقال الإمام الطبرسي : أصحاب الرقيم هم النفر الثلاثة الذين دخلوا في

__________________

(١) نور الثقلين : الجزء ٣ في تفسير قوله : «أم حسبت أنّ أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً» (الكهف : ٩) نقلاً عن محاسن البرقي في تفسير الآية.

٥٨٦

غار ، فانسدّ عليهم ، فقالوا : ليدعُ الله تعالى كل واحد منّا بعمله حتى يفرّج الله عنّا ، ففعلوا ، فنجّاهم الله. رواه النعمان بن بشر مرفوعاً (١).

ولعل فيها غنىً وكفاية ومن أراد التوسّع فعليه السبر في غضون الروايات.

__________________

(١) مجمع البيان ٣ : ٤٥٢.

٥٨٧

(٤)

التوسّل بدعاء الرسول الأكرم

إنّ للنبي الأكرم مكانة مرموقة عند ربّه ليس لأحدٍ مثلها ، فهو أفضل الخليقة ، وقد بلغت عناية القرآن الكريم ببيان نواح من مناقبه إلى حد لا ترى مثل ذلك إلّا في حق القليل من أنبيائه ، وربما يطول بنا الكلام إذا قمنا بعرض جميع الآيات الواردة في حقّه ، وإنّما نشير إلى بعضها.

فقد أشار الذكر الحكيم إلى مكانته المرموقة ولزوم توقيره وتكريمه وأنّه لا يصلح دعاؤه كدعاء البعض للبعض بقوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (١) وقال سبحانه أيضاً : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) (٢).

وإلى كماله الرفيع وإمامته وكونه قدوة وأُسوة للمؤمنين يتأسّون به في قِيَمه ومُثُله العليا ، بقوله سبحانه : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ

__________________

(١) الحجرات : ٢.

(٢) النور : ٦٣.

٥٨٨

يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) (١).

وإلى عظمته وكرامته عند الله بحيث يصلّي عليه سبحانه وملائكته فأمر المؤمنين أن يصلّوا عليه بقوله : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٢).

وإلى صفاء نفسه وقوة روحه وجمال خلقه بقوله : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (٣).

وإلى عكوفه على عبادة ربّه وتهجّده في الليل وسهره في طريق طاعة الله بقوله : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) (٤).

وإلى غزارة علمه بقوله : (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً)(٥).

وإلى أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أحد الأمانين في الأرض بقوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (٦).

وقد بلغت كرامة الرسول ـ عند الله ـ إلى حدّ يتلو اسمه اسمَ الله وينسب إليهما فعل واحد ويقول : (وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ)

(ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) (٧).

وقال سبحانه : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) (٨).

__________________

(١) الأحزاب : ٢١.

(٢) الأحزاب : ٥٦.

(٣) القلم : ٤.

(٤) المزمل : ٢٠.

(٥) النساء : ١١٣.

(٦) الأنفال : ٣٣.

(٧) التوبة : ٩٤.

(٨) الأحزاب : ٧١.

٥٨٩

وقال الله سبحانه : (وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) (١).

إلى غير ذلك من الآيات التي اقترن فيها اسم نبيه باسمه سبحانه ونسب إليهما فعل واحد وشهدت بكرامته عند الله وقربه منه ، فإذا كانت هذه منزلته عند الله ، فلا يرد دعاؤه ، وتستجاب دعوته ، فيكون دعاء مثل تلك النفس غير مردود ، والمتمسك بدعائه متمسكاً بركن وثيق وعماد رصين ، ولأجل تلك الخصوصية نرى أنّه سبحانه يأمر المذنبين من المسلمين بالتمسّك بذيل دعائه ، ويأمرهم بأن يحضروا الرسول الأعظم ويستغفروا الله في مجلسه ويسألوه أن يستغفر لهم أيضاً ، فكان استغفاره لهم سبباً لنزول رحمته وقبوله توبتهم ، قال سبحانه : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (٢).

كما نرى أنّه سبحانه في آية أُخرى يندّد بالمنافقين بأنّه ، إذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله ، لوّوا رءوسهم ، يقول سبحانه : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) (٣).

وما هذا إلّا لأنّ دعاء الرسول دعاء مستجاب ، ودعوته مقبولة ، واستغاثته مستجابة ، لأنّه نابع من نفس طاهرة مؤمنة راضية مرضية.

إنّ من الظلم الواضح تسوية دعاء النبي بدعاء سائر المسلمين والتعبير عن دعائهصلى‌الله‌عليه‌وآله بدعاء الأخ المؤمن! وجعل الجميع تحت عنوان واحد ، فانّ لدعاء الأخ المؤمن مقاماً رفيعاً ، ولكن أين هو من دعاء الرسول؟!

إنّ التوسّل بدعاء الإنسان الأمثل كان رائجاً في الرسالات السابقة ، فنرى أنّ

__________________

(١) التوبة : ٧٤.

(٢) النساء : ٦٤.

(٣) المنافقون : ٥.

٥٩٠

أبناء يعقوب بعد ما كُشِفَ أمرهم وبان ظلمهم توسّلوا بدعاء أبيهم النبيّ وقالوا له : (يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ* قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(١).

ففي هذه الآيات دلالة واضحة على أنّ رحمة الله الواسعة تارة تنزل على العبد مباشرة وبدون واسطة ، واخرى تنزل عن طريق أفضل خلائقه وأشرف رسله ، بل مطلق رسله وسفرائه.

وفي ذلك دلالة على وهن ما يلوكه بعض أشداق الناس فيقولون : إنّه سبحانه أعرف بحال عبده وأقرب إليه من حبل الوريد يراه ويسمع دعاءه ؛ فلا حاجة لتوسط سبب والتوسّل بمخلوق و... هذه الكلمات تصدر عمّن ليس له إلمام بالقرآن الكريم ولا بالسنّة النبوية ولا بسيرة السلف الصالح ؛ إذ ليس الكلام في علمه سبحانه ، بل الكلام في أمر آخر وهو أنّ دعاء الإنسان الظالم لنفسه ربما لا يكون صاعداً إلى الله تبارك وتعالى ومقبولاً عنده ، ولكنّه إذا ضمّ إليه دعاء الرسول أصبح دعاؤه مستجاباً وصاعداً إليه سبحانه.

وللشيخ محمد الفقي ـ من علماء الأزهر الشريف ـ كلام في المقام نأتي بملخّصه.

لقد شرّف الله تعالى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بأسمى آيات التشريف ، وكرّمه بأكمل وأعلى آيات التكريم ، فأسبغ عليه نِعَمه ظاهرة وباطنة ، وتوّجه بأعظم أنواع التيجان قدراً وذكراً ، وأرفع الأكاليل شأناً وخطراً. فذكر منزلته منه جلّ شأنه حيّاً وميتاً في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٢) فأيّ تشريف أرفع وأعظم من صلاته سبحانه وتعالى هو وملائكته عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ وأيّ تكريم أسمى بعد ذلك من دعوة عباده وأمره لهم بالصلاة

__________________

(١) يوسف : ٩٧ ـ ٩٨.

(٢) الأحزاب : ٥٦.

٥٩١

والسلام عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

ولم يقف تقدير الله تعالى له عند هذا التقدير الرائع ، بل هناك ما يدعو إلى الإعجاب ويلفت الأنظار إلى تعظيم على جانب من الأهمية ، ألم تر في قوله تعالى : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١) ما يأخذ بالألباب ويدهش العقول ، فقد أقسم سبحانه وتعالى بنبيّه في هذه الآية : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) (٢) قال ابن عباس رضى الله عنه : ما خلق الله ولا ذرأ ولا برأ نفساً أكرم على الله من محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وما سمعتُ أنّه تعالى أقسم بحياة أحد غيره ، والقرآن الكريم تفيض آياته بسموّ مقامه ، وتوحي بعلوّ قدره ، وجميل ذكره ، فقد جعل طاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله طاعة له تعالى وقوله عزّ من قائل : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (٣) وعلّق حبّه تعالى لعباده على اتّباعه صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما بعث به وأرسل للعالمين ، إذ يقول سبحانه : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) (٤).

وممّا يدل على مبلغ تقديره ، ومدى محبة الله تعالى ، وتشريفه لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) (٥) الآية ، قال عليّ رضى الله عنه : «لم يبعث الله نبياً من آدم فمن بعده إلّا أخذ عليه العهد في محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله لئن بعث وهو حيّ ليؤمننّ به ولينصرنّه ويأخذ العهد».

ففي ملازمة جبريل له صلى‌الله‌عليه‌وآله من مكّة إلى بيت المقدس أكبر مظهر من مظاهر الشرف والفخار ، وأسمى آية من آيات التقدير للرسول الأعظم في حياة الأُمم

__________________

(١) الحجر : ٧٢.

(٢) الواقعة : ٧٦.

(٣) النساء : ٨٠.

(٤) آل عمران : ٣١.

(٥) آل عمران : ٨١.

٥٩٢

وتأريخها. فهذه الآيات التي قصصتها وجئتكم بها وإن كانت كلّها بصائر وهدى ورحمة لقوم يؤمنون لا أرى مانعاً من ذكر ما عداها ، ففيها تنبيه الغافلين إلى مزيد من النظر فيما عساه أن يقنعهم ويهديهم إلى الإيمان بما جاءت به الآيات البيّنات ، وما يوحي به الدين وتعاليمه القويمة ، فمن روائع ما يتمتع به من العظمة الصلاة عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله عند بدء الدعاء وختمه ؛ فانّ في ذلك القبول والاستجابة ، فقد صحّ عن عمر وعليّ ـ رضي الله عنهما ـ أنّهما قالا لرجل دعا ولم يصلِّ على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يرفع ولا تفتح له الأبواب حتى يصلّي الداعي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ومثل هذا لا يقال من قبيل الرأي فهو في حكم المرفوع ، بل قد ثبت هذا مرفوعاً إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وأخيراً قد دلّ قوله تعالى : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) (١) على علوّ مكانته وجليل قدره وعظم شأنه ؛ إذ المعنى في ذلك أنّنا قرنّا اسمك باسمنا ، وجعلنا الإيمان لا يتحقّق إلّا بالنطق بالشهادتين ، وغير ذلك من براهين الشريعة وأدلّتها التي لا تحصى ولا يمكن أن تستقصى.

وإليك ما قاله حسان بن ثابت صاحب الرسول وشاعره :

أغرَّ عليه للنبوّة خاتم

من الله من نور يلوح ويشهد

وضمّ الإله اسم النبيّ إلى اسمه

إذا قال في الخمس المؤذن أشهد

وشقَّ له من اسمه لِيُجلَّه

فذو العرش محمود وهذا محمد (٢)

إنّ السبب الواقعي لاستجابة دعائه إنّما هو روحه الطاهرة ونفسه الكريمة

__________________

(١) الانشراح : ٤.

(٢) التوسّل والزيارة ص ١٥٦ ـ ١٦٠ ، وقد أورد في بحثه كثيراً من الآيات التي تشهد على عظمة رسول الله ومكانته وقربه وقد لخّصنا كلامه

٥٩٣

وقربها من الله سبحانه ، وهي التي تضفي على الدعاء أثراً وتجعله صاعداً ومدعماً لدعاء الغير.

نعم هناك كلام في اختصاص ذلك الأمر بحياة النبي الجسمانية ، أو يعمّ حياته البرزخية التي فيها يُرزق ويفرح ويستبشر ، فهناك من يخص الآية بحياته الجسمانية بحجة وروده فيها ، ولكن الأدلة التي سنبيّنها توقفك على جلي الحال ، فانتظر ...

٥٩٤

(٥)

التوسّل بدعاء النبيّ في حياته البرزخية

ذكرنا لك دعوة القرآن الكريم المذنبين للتوسّل بدعاء النبي الأكرم ، وهناك من يخصّ مفاد الآيات بحياة النبي الجسمانية قائلاً بانقطاعه عنّا بموته وانتقاله إلى الحياة البرزخية ، وما ذلك إلّا أخذاً بظاهر الآية الواردة في حياته الدنيوية ، وهذه الفكرة لها قيمتها لدى أصحابها ، ولكن للمناقشة فيها مجال واسع. فاذا دلّت الآيات الكريمة والسنّة النبوية على امتداد حياته بعد انتقاله إلى البرزخ ووجود الصلة بينه وبيننا ، لزم القول بعموم مفاد الآية وشمولها لما بعد الموت ، خصوصاً إذا دعمها عمل السلف الصالح والتابعين لهم بإحسان ، فهناك مواضيع من البحث لا يمكن القضاء البات فيها إلّا بعد دراستها في ضوء الكتاب والسنّة ، وهذه المواضيع هي :

١ ـ حياة الأنبياء والأولياء بعد انتقالهم إلى البرزخ.

٢ ـ وجود الصلة بيننا وبينهم ، حيث يسمعون كلامنا ويجيبون دعوتنا.

٣ ـ سيرة السلف الصالح على التوسّل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد انتقاله إلى البرزخ.

وإليك دراسة المواضيع واحداً تلو الآخر.

٥٩٥

الأوّل : حياة الأنبياء والأولياء بعد انتقالهم إلى البرزخ :

هذا الموضوع هو المهم بين المواضيع التي ذكرت ، ويمكن الاستدلال عليه من خلال أُمور بعضها يدلّ على حياتهم بصورة مباشرة وأُخرى غير مباشرة ، وإذا لاحظنا مجموع الأدلّة نقطع بحياتهم البرزخية بلا ريب ، وإليك هذه الأُمور :

أ ـ دلّت الآيات الشريفة على حياة الشهداء ؛ حياة حقيقية مقترنة بآثارها من الرزق والفرح والاستبشار ودرك المعاني والحقائق ، قال سبحانه : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) (١).

فالآية تدل على حياة الشهداء وارتزاقهم عند ربهم مقترنة بالآثار الروحية من الفرح والاستبشار بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ، وتبشيرهم على أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، إلى غير ذلك ممّا جاء في الآيتين.

إنّ الله سبحانه يطرح حياتهم لأجل إظهار إكرامه ونعمته عليهم ، وبذلك يرد الفكرة السائدة في صدر الرسالة من أن موت الشهيد انتهاءُ حياته. وإذا كان الشهداء أحياءً لأجل استشهادهم في سبيل دين الله الذي جاء به النبي الأكرم ، فهل يُتصوّر أن يكون الشهداء أحياءً ، ولا يكون النبيّ ـ الأفضل ـ القائد حيّاً ، وهذا ما لا تقبله الفطرة السليمة ، وأيّ مسلم لهج بخلافه فانّما يلهج بلسانه وينكره بقلبه وعقله.

__________________

(١) آل عمران : ١٦٩ ـ ١٧١.

٥٩٦

ب ـ هذا هو حبيب النجار لم يكن له شأن سوى أنّه صدّق المرسلين ولقى من قومه أذىً شديداً حتى قضى نحبه شهيداً. فنرى أنّه بعد موته خوطب بقوله سبحانه : (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) ثمّ إنّه بعد دخوله الجنة يتمنّى عرفان قومه مقامه ومصيره بعد الموت فيقول : (قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ* بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) (١) فهو يتمنّى في ذلك الحال لو أنّ قومه الموجودين في الدنيا علموا أنّ الله سبحانه غفر له وجعله من المكرمين ، يتمنّى ذلك لأجل أن يرغب قومه في مثل ثوابه وليؤمنوا لينالوا ذلك.

ومن المعلوم أنّ الجنة التي حلّ فيها حبيب النجار كانت قبل يوم القيامة ، بشهادة أنّه تمنّى عرفان أهله مقامه وإكرام الله له وهم على قيد الحياة الدنيوية ، وإن لحقهم العذاب بعد ذلك ، قال : (وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ* إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) (٢) فإذا كان الشهداء والصالحون ـ أمثال حبيب النجار المصدِّق للرسل ـ أحياءً يرزقون فما ظنّك بالأنبياء والصدّيقين المتقدّمين على الشهداء ، قال سبحانه : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (٣) فلو كان الشهيد حيّاً يرزق فالرسول الأكرم الذي ربّى الشهداءَ واستوجب لهم تلك المنزلة العليا ، أولى بالحياة بعد الوفاة وبعدهم الصدّيقون.

ج ـ دلّت الآيات الكريمة والبراهين العقلية على أنّ الموت ليس فناء الإنسان ونفاده ، وإنّما هو انتقال من عالم إلى آخر ، نعم الماديون المنكرون لعالمِ الأرواح ،

__________________

(١) يس : ٢٦ ـ ٢٧.

(٢) يس : ٢٨ ـ ٢٩.

(٣) النساء : ٦٩.

٥٩٧

والنافون لما وراء الطبيعة يعتقدون بأنّ الموت فناء الإنسان وضلاله في الأرض بحيث لا يبقى شيء من بعد ذلك إلّا الذرّات المادية المبعثرة في الأرض ، ولهذا كانوا ينكرون إمكان إعادة الشخصية البشرية ؛ إذ ليس هناك شيء متوسط بين المبتدأ والمعاد.

ولهذا جاء الوحي يندد بتلك الفكرة ويفنِّد دليلهم المبني على قولهم : (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) فردّهم بقوله : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (١).

وتوضيح الردّ أنّ الموت ليس ضلالاً في الأرض وأنّ شخصية الإنسان ليست هي الضالة الضائعة في ثنايا التراب ، وإنّما الضال في الأرض هو أجزاء البدن المادّي ، فهذه الأجزاء هي التي تتبعثر في الأجواء والأرض ، ولكن هذه لا تشكّل شخصية الإنسان ، بل شخصيته شيء آخر هو الذي يأخذه ملك الموت ، وهو عند الله محفوظ ، كما يقول : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) فإذاً لا معنى للتوفّي إلّا الأخذ وهو أخذ الأرواح والأنفس ونزعها من الأبدان وحفظها عند الله.

وهناك آية أُخرى تفسّر لنا معنى التوفّي بوضوح وأنّه ليس بمعنى الموت والفناء ، بل الأخذ والقبض أي قبض شيء موجود وأخذ شيء واقعي ، يقول سبحانه : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٢) فمفاد الآية أنّ الله يقبض الأنفس ويأخذها في مرحلتين : حين الموت وحين النوم ، فما قضى عليها بعدم الرجوع إلى الدنيا أمسكها ، ولم يردّها إلى الجسد ، وما لم يقض

__________________

(١) السجدة : ١٠ ـ ١١.

(٢) الزمر : ٤٢.

٥٩٨

عليها كذلك أرسلها إلى أجل مسمّى. كل ذلك يكشف عن أنّ الموت ليس فناءَ الإنسانِ وآية العدم ، بل هناك انخلاع عن الجسد وارتحال إلى عالم آخر.

د ـ وهناك كلمة قيّمة لأبي الشهداء الحسين بن علي عليه‌السلام توضح هذه الحقيقة إذ قال لأصحابه في يوم عاشوراء : «صبراً يا بني الكرام فما الموت إلّا قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضراء ، إلى الجنان الواسعة والنعم الدائمة ، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر ، وما هو لأعدائكم إلّا كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب ، إنّ أبي حدّثني عن رسول الله : أنّ الدنيا سجن المؤمن ، وجنّة الكافر ، والموت جسر هؤلاء إلى جنانهم ، وجسر هؤلاء إلى جحيمهم ما كذبتُ ولا كُذِّبتُ» (١).

وفي هذه الآيات غنى وكفاية لثبوت الحياة البرزخية للأنبياء والشهداء والصدّيقين ، بل لغيرهم وقد شهدت بذلك الآيات الكريمة التي لا مجال لنقلها (٢) ، وهذه الحقيقة ممّا أجمع عليها أئمة أهل السنّة ، فهذا الإمام الأشعري يقول : «ومن عقائدنا أنّ الأنبياء : أحياءٌ» وقد ألّف كتاباً أسماه «حياة الأنبياء» (٣).

فلنقتصر بهذا البيان في إثبات الموضوع الأوّل وقد تركنا الاحتجاج على حياتهم بما ورد في السنّة النبويّة وسيوافيك بعضها في المستقبل.

الثاني : الصلة بين الحياة الدنيوية والحياة البرزخية :

هذا هو الموضوع الثاني من المواضيع الثلاثة التي يتوقف عليها إثبات ما هو المقصود في هذا المبحث.

__________________

(١) بلاغة الحسين : ص ٤٧.

(٢) وقد أشبعنا الكلام في ذلك عند البحث في الحياة البرزخيّة فلاحظ.

(٣) طبقات الشافعية ٣ : ٤٠٦.

٥٩٩

القول بالحياة البرزخية للأنبياء والصدّيقين لا يفي وحده بما هو المهم هنا ما لم يثبت أنّ هناك صلة بيننا وبينهم في البرزخ ، بحيث يسمعوننا ويستطيعون أن يردّوا علينا ، وهذا هو الموضوع الثاني الذي أشرنا إليه وهنا نكتفي بأبرز الآيات الواردة في هذا المضمار التي تدلّ على إمكان الاتصال بالأرواح المقدسة الموجودة في عالم البرزخ ، وهذا وإن أثبته علم النفس بعد تجارب كثيرة ، ولكنّنا أخذنا على أنفسنا أن نستدلّ بالكتاب والسنّة ، ولو كان هناك شيء في العلم فهو أيضاً يدعم مدلول الكتاب والسنّة.

إنّ الكتاب والسنّة تضافرا على إمكان اتصال الإنسان الموجود في الدنيا بالإنسان الحي في عالم البرزخ وقد مرّت البرهنة على وجود الصلة بين الحياتين عند البحث في الحياة البرزخية فراجع (١).

الثالث : سيرة السلف الصالح في التوسّل بدعاء النبي بعد رحيله :

النظر إلى سيرة المسلمين بعد لحوق النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بالرفيق الأعلى يثبت أنّهم كانوا يتوسّلون بدعائه ، كتوسّلهم به قبل لحوقه به فما كانوا يرون فرقاً بين الحالتين ، فمن تصفّح سيرة المسلمين ورجع إلى غضون الكتب وشاهد عملهم في المسجد النبوي قرب مزاره الشريف ، يلمس بسهولة استقرار السيرة على التوسّل بدعائه من غير فرق بين حياته وانتقاله ، وها نحن نذكر من أعمال بعض الصحابة والتابعين شيئاً يسيراً ونترك الباقي للمتصفّح في غضون الكتب.

إنّنا لا يمكننا تصديق جميع ما روي لكنّ بين المرويات قضايا صادقة صدرت

__________________

(١) يراجع ص ٤٣٠ من هذا الكتاب.

٦٠٠