في ظلال التّوحيد

الشيخ جعفر السبحاني

في ظلال التّوحيد

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: نشر مشعر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-6293-82-4

الصفحات: ٧١٢

استعان بالله ـ في الحقيقة ـ لأنّه تعالى هو الذي منح هذه العوامل القدرة على إنماء ما أودع في بطن الأرض من بذر ومن ثمّ إنباته والوصول به إلى حدّ الكمال.

٢ ـ وإذا استعان بإنسان أو عامل طبيعي مع الاعتقاد بأنّه مستقلّ في وجوده ، أو في فعله عن الله ، فلا شكّ أنّ ذلك الاعتقاد يصير شركاً ، والاستعانة به عبادة.

فإذا استعان زارع بالعوامل المذكورة وهو يعتقد بأنّها مستقلّة في تأثيرها أو أنّها مستقلّة في وجودها ومادّتها كما في فعلها وقدرتها ، فالاعتقاد شرك ، والطلب عبادة.

وبذلك يظهر أنّ الاستعانة المنحصرة في الله المنصوص عليها في قوله تعالى (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) هي الاستعانة بالمعونة المستقلّة النابعة من ذات المستعان به ، غير المتوقّفة على شيء ، فهذا هو المنحصر في الله تعالى ، وأمّا الاستعانة بالإنسان الذي لا يقوم بشيء إلّا بحول الله وقوّته وإذنه ومشيئته ، فهي غير منحصرة بالله سبحانه ، بل إنّ الحياة قائمة على هذا الأساس ؛ فإنّ الحياة البشرية مليئة بالاستعانة بالأسباب التي تؤثّر وتعمل بإذن الله تعالى.

وعلى ذلك لا مانع من حصر الاستعانة في الله سبحانه بمعنى ، وتجويزها بغيره بمعنى آخر وهو ما له نظر في الكتاب العزيز.

ولإيقاف القارئ على هذه الحقيقة نلفت نظره إلى آيات تحصر جملة من الأفعال الكونية في الله تارة ، مع أنّها تنسب نفس الأفعال في آيات أُخرى إلى غير الله أيضاً ، وما هذا إلّا لعدم التنافي بين النسبتين لاختلاف نوعيّتهما فهي محصورة في الله سبحانه مع قيد الاستقلال ، ومع ذلك تنسب إلى غير الله مع قيد التبعية والعرضية.

الآيات التي تنسب الظواهر الكونية إلى الله وإلى غيره :

١ ـ يقول سبحانه : (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) (١). بينما يقول سبحانه في

__________________

(١) الشعراء : ٨٠.

٤١

العسل : (شِفاءٌ لِلنَّاسِ) (١).

٢ ـ يقول سبحانه : (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ) (٢) بينما يقول : (وَارْزُقُوهُمْ فِيها)(٣).

٣ ـ يقول سبحانه : (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) (٤). بينما يقول سبحانه: (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) (٥).

٤ ـ يقول تعالى : (وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ) (٦). بينما يقول سبحانه : (بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) (٧).

٥ ـ يقول تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) (٨). بينما يقول سبحانه: (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) (٩).

٦ ـ يقول سبحانه : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) (١٠). بينما يقول : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ) (١١).

إلى غير ذلك من الآيات التي تنسب الظواهر الكونية تارة إلى الله ، وتارة إلى غيره تعالى.

والحل أن يقال : إنّ المحصور بالله تعالى هو انتساب هذه الأُمور على نحو

__________________

(١) النحل : ٦٩.

(٢) الذاريات : ٥٨.

(٣) النساء : ٥.

(٤) الواقعة : ٦٤.

(٥) الفتح : ٢٩.

(٦) النساء : ٨١.

(٧) الزخرف : ٨٠.

(٨) يونس : ٣.

(٩) النازعات : ٥.

(١٠) الزمر : ٤٢.

(١١) النحل : ٣٢.

٤٢

الاستقلال ، وأمّا المنسوب إلى غيره فهو على نحو التبعية ، وبإذنه تعالى ، ولا تعارض بين النسبتين ، ولا بين الاعتقاد بكليهما.

فمن اعتقد بأنّ هذه الظواهر الكونية مستندة إلى غير الله على وجه التبعية لا الاستقلال لم يكن مخطئاً ولا مشركاً ، وكذا من استعان بالنبيّ أو الإمام على هذا الوجه.

هذا مضافاً إلى أنّه تعالى الذي يعلّمنا أن نستعين به فنقول : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) يحثُّنا في آية أُخرى على الاستعانة بالصبر والصلاة فيقول : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) (١) وليس الصبر والصلاة إلّا فعل الإنسان نفسه.

حصيلة البحث :

إنّ الآيات الواردة حول الاستعانة على صنفين :

الصنف الأوّل : يحصر الاستعانة في الله فقط ويعتبره الناصر والمعين الوحيد دون سواه.

والصنف الثاني : يدعونا إلى سلسلة من الأُمور المعينة (غير الله) ويعتبرها ناصرة ومعينة ، إلى جانب الله.

أقول : اتّضح من البيان السابق وجه الجمع بين هذين النوعين من الآيات ، وتبيّن أنّه لا تعارض بين الصنفين مطلقاً ، إلّا أنّ فريقاً نجدهم يتمسّكون بالصنف الأوّل من الآيات فيخطِّئون أيّ نوع من الاستعانة بغير الله ، ثمّ يضطرّون إلى إخراج (الاستعانة بالقدرة الإنسانية والأسباب المادية) من عموم تلك الآيات الحاصرة للاستعانة بالله بنحو التخصيص ، بمعنى أنّهم يقولون :

إنّ الاستعانة لا تجوز إلّا بالله إلّا في الموارد التي أذن الله بها ، وأجاز أن يستعان

__________________

(١) البقرة : ٤٥.

٤٣

فيها بغيره ، فتكون الاستعانة بالقدرة الإنسانية والعوامل الطبيعية ـ مع أنّها استعانة بغير الله ـ جائزة ومشروعة على وجه التخصيص ، وهذا ممّا لا يرتضيه الموحّد.

في حين أنّ هدف الآيات هو غير هذا تماماً ؛ فإنّ مجموع الآيات يدعو إلى أمر واحد وهو : عدم الاستعانة بغير الله ، وأنّ الاستعانة بالعوامل الأُخرى يجب أن تكون بنحو لا يتنافى مع حصر الاستعانة في الله ، بل تكون بحيث تعدّ استعانة بالله لا استعانة بغيره.

وبتعبير آخر : إنّ الآيات تريد أن تقول : بأنّ المعين والناصر الوحيد والذي يستمدّ منه كلّ معين وناصر قدرته وتأثيره ، ليس إلّا الله سبحانه ، ولكنّه ـ مع ذلك ـ أقام هذا الكون على سلسلة من الأسباب والعلل التي تعمل بقدرته وأمر باستمداد الفرع من الأصل ، ولذلك تكون الاستعانة به كالاستعانة بالله ؛ ذلك لأنّ الاستعانة بالفرع استعانة بالأصل.

وإليك فيما يلي إشارة إلى بعض الآيات من الصنفين :

(وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (١).

(إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ) (٢).

(وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٣).

هذه الآيات نماذج من الصنف الأوّل ، وإليك فيما يأتي نماذج من الصنف الآخر الذي يدعونا إلى الاستعانة بغير الله من العوامل والأسباب :

(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) (٤).

__________________

(١) آل عمران : ١٢٦.

(٢) الحمد : ٥.

(٣) الأنفال : ١٠.

(٤) البقرة : ٤٥.

٤٤

(وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) (١).

(ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) (٢).

(وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) (٣).

ومفتاح حلّ التعارض بين هذين الصنفين من الآيات هو ما ذكرناه ، وملخّصه :

إنّ في الكون مؤثّراً تامّاً ، ومستقلاًّ واحداً ، غير معتمد على غيره لا في وجوده ولا في فعله وهو الله سبحانه ، وأمّا العوامل الأُخر فجميعها مفتقرة ـ في وجودها وفعلها ـ إليه وهي تؤدّي ما تؤدّي بإذنه ومشيئته وقدرته ، ولو لم يعط سبحانه تلك العوامل ما أعطاها من القدرة ولم تجر مشيئته على الاستمداد منها لما كانت لها أيّة قدرة على شيء.

فالمعين الحقيقي في كلّ المراحل ـ على هذا النحو تماماً ـ هو الله ، فلا يمكن الاستعانة بأحد باعتباره معيناً مستقلاًّ. لهذه الجهة حصر هنا الاستعانة في الله وحده ، ولكن هذا لا يمنع بتاتاً من الاستعانة بغير الله باعتباره غير مستقلّ (أي باعتباره معيناً بالاعتماد على القدرة الإلهية) ومعلوم أنّ استعانة ـ كهذه ـ لا تنافي حصر الاستعانة في الله سبحانه لسببين :

أوّلاً : لأنّ الاستعانة المخصوصة بالله هي غير الاستعانة بالعوامل الأُخرى ؛ فالاستعانة المخصوصة بالله هي : ما تكون باعتقاد أنّه قادر على إعانتنا بالذات ، وبدون الاعتماد على غيرها ، في حين أنّ الاستعانة بغير الله سبحانه إمّا هي على نحو آخر أي مع الاعتقاد بأنّ المستعان قادر على الإعانة مستنداً على القدرة الإلهية ،

__________________

(١) المائدة : ٢.

(٢) الكهف : ٩٥.

(٣) الأنفال : ٧٢.

٤٥

لا بالذات ، وبنحو الاستقلال ، فإذا كانت الاستعانة ـ على النحول الأوّل ـ خاصّة بالله تعالى ، فإنّ ذلك لا يدل على أنّ الاستعانة بصورتها الثانية مخصوصة به أيضاً.

ثانياً : إنّ استعانة ـ كهذه ـ غير منفكّة عن الاستعانة بالله ، بل هي عين الاستعانة به تعالى ، وليس في نظر الموحّد (الذي يرى أنّ الكون كلّه من فعل الله ومستنداً إليه) مناص من هذا.

وأخيراً نذكّر القارئ الكريم بأنّ مؤلّف المنار حيث إنّه لم يتصوّر للاستعانة بالأرواح إلّا صورة واحدة لذلك اعتبرها ملازمة للشرك فقال :

«ومن هنا تعلمون : إنّ الذين يستعينون بأصحاب الأضرحة والقبور على قضاء حوائجهم وتيسير أُمورهم وشفاء أمراضهم ونماء حرثهم وزرعهم ، وهلاك أعدائهم وغير ذلك من المصالح هم عن صراط التوحيد ناكبون ، وعن ذكر الله معرضون» (١).

ويلاحظ عليه : أنّ الاستعانة بغير الله (كالاستعانة بالعوامل الطبيعية) على نوعين :

إحداهما عين التوحيد ، والأُخرى موجبة للشرك ؛ إحداهما مذكّرة بالله ، والأُخرى مبعدة عن الله.

إنّ حدّ التوحيد والشرك ليس هو كون الأسباب ظاهرية أو غير ظاهرية ، وإنّما هو استقلال المعين وعدم استقلاله. وبعبارة أُخرى المقياس : هو الغنى والفقر ، هو الأصالة وعدم الأصالة.

إنّ الاستعانة بالعوامل غير المستقلّة المستندة إلى الله ، التي لا تعمل ولا تؤثّر إلّا بإذنه تعالى غير موجبة للغفلة عن الله ، بل هو خير موجّه ، ومذكّر بالله. إذ معناها : انقطاع كلّ الأسباب وانتهاء كلّ العلل إليه.

__________________

(١) تفسير المنار ١ : ٥٩.

٤٦

ومع هذا كيف يقول صاحب المنار : «أُولئك عن ذكر الله معرضون»؟ ولو كان هذا النوع من الاستعانة موجباً لنسيان الله والغفلة عنه للزم أن تكون الاستعانة بالأسباب المادية الطبيعية هي أيضاً موجبة للغفلة عنه.

على أنّ الأعجب من ذلك هو شيخ الأزهر الشيخ محمود شلتوت الذي نقل ـ في هذا المجال ـ نصّ كلمات عبده دون زيادة ونقصان ، وختم المسألة بذلك ، وأخذ بالحصر في (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) غافلاً عن حقيقة الآية وعن الآيات الأُخرى المتعرّضة لمسألة الاستعانة(١).

إجابة على سؤال

إذا كانت الاستعانة بالغير على النحو الذي بينّاه جائزة فهي تستلزم نداء أولياء الله والاستغاثة بهم في الشدائد والمكاره ، وهي غير جائزة ؛ وذلك لأنّ نداء غير الله في المصائب والحوائج تشريك الغير مع الله ، يقول سبحانه : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) (٢) ويقول تعالى : (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) (٣) ويقول عزّ من قائل : (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ)(٤). إلى غير ذلك من الآيات التي تخصّ الدعاء لله ولا تسيغ دعوة غيره.

وقد طرح هذا السؤال الشيخ الصنعاني حيث قال : وقد سمّى الله الدعاء عبادة بقوله: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي) (٥) فمن هتف

__________________

(١) راجع تفسير شلتوت : ٣٦ ـ ٣٩.

(٢) الجن : ١٨.

(٣) الأعراف : ١٩٧.

(٤) فاطر : ١٣.

(٥) سورة غافر : ٦٠.

٤٧

باسم نبيّ أو صالح بشيء فقد دعا النبيّ والصالح ، والدعاء عبادة بل مخُّها ، فقد عبد غير الله وصار مشركاً (١).

الجواب :

إنّ النقطة الحاسمة في الموضوع تكمن في تفسير الدعاء وهل كل دعاء ، عبادة وبينهما من النسب الأربع هي التساوي حتّى يصحّ لنا أن نقول كلّ دعاء عبادة ، وكلّ عبادة دعاء ، أو أنّ الدعاء أعمّ من العبادة وأنّ قسماً من الدعاء عبادة وقسماً منه ليس كذلك؟ والكتاب العزيز يوافق الثاني لا الأوّل ، وإليك التوضيح :

لقد استعمل القرآن لفظ الدعاء في مواضع عديدة ، ولا يصحّ وضع لفظ العبادة مكانه ، يقول سبحانه حاكياً عن نوح : (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً) (٢) وقال سبحانه حاكياً عن لسان إبليس في خطابه للمذنبين يوم القيامة : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) (٣) إلى غيرهما من الآيات التي ورد فيها لفظ الدعاء ، أفيصحّ القول بأنّ نوحاً دعا قومه أي عبدهم ، أو أنّ الشيطان دعا المذنبين أي عبدهم؟ كلّ ذلك يحفزنا إلى أن نقف في تفسير الدعاء وقفة تمعّن حتى نميّز الدعاء الذي هو عبادة عمّا ليس كذلك.

والإمعان فيما تقدّم في تفسير العبادة يميِّز بين القسمين ؛ فلو كان الداعي والمستعين بالغير معتقداً بألوهية المستعان ولو ألوهية صغيرة كان دعاؤه عبادة ، ولأجل ذلك كان دعاء عبدة الأصنام عبادة ؛ لاعتقادهم بألوهيتها ، قال سبحانه : (فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) (٤).

__________________

(١) تنزيه الاعتقاد كما في كشف الارتياب : ٢٨٤.

(٢) نوح : ٥.

(٣) إبراهيم : ٢٢.

(٤) هود : ١٠١.

٤٨

وما ورد من الآيات في السؤال كلّها من هذا القبيل ؛ فإنّها وردت في حقّ المشركين القائلين بألوهية أصنامهم وأوثانهم باعتقاد استقلالهم في التصرّف والشفاعة وتفويض الأُمور إليهم ولو في بعض الشئون. ففي هذا المجال يعود كلّ دعاء عبادة ، ويفسر الدعاء في الآيات الماضية والتالية بالعبادة ، قال تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) (١). (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً) (٢). (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) (٣). (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ) (٤). (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ) (٥). وما ورد في الأثر من أنّ الدعاء مُخّ العبادة ، أُريد منه دعاء الله أو دعاء الآلهة لا مطلق الدعاء وإن كان المدعوّ غير إله لا حقيقةً أو اعتقاداً.

وفي روايات أئمّة أهل البيت إلماع إلى ذلك ، يقول الإمام زين العابدين في ضمن دعائه : «... فسمّيتَ دعاءك عبادة وتركه استكباراً وتوعّدت على تركه دخول جهنم داخرين» (٦) وهو يشير في كلامه هذا إلى قوله سبحانه : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) (٧).

هذا هو الدعاء المساوي للعبادة ، وهناك قسم آخر منه لا صلة بينه وبين

__________________

(١) الأعراف : ١٩٤.

(٢) الإسراء : ٥٦.

(٣) الإسراء : ٥٧.

(٤) يونس : ١٠٦.

(٥) فاطر : ١٤.

(٦) الصحيفة السجادية ، دعاؤه برقم ٤٥.

(٧) غافر : ٦٠.

٤٩

العبادة ، وهو فيما إذا دعا شخصاً بما أنّه إنسان وعبد من عباد الله غير أنّه قادر على إنجاز طلبه بإقدار منه تعالى وإذن منه ، فليس مثل هذه الدعوة عبادة ، بل سنّة من السنن الإلهية في الكون ، هذا هو ذو القرنين يواجه قوماً مضطهدين يطلبون منه أن يجعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج سدّاً فعند ذلك يخاطبهم ذو القرنين بقوله : (ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) (١) وها هو الذي من شيعة موسى يستغيث به ، يقول سبحانه : (فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ) (٢) وهذا هو النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يدعو قومه للذبِّ عن الإسلام في غزوة أُحد وقد تولّوا عنه ، قال سبحانه : (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ)(٣) فهذا النوع من الدعاء قامت عليه الحياة البشرية ، فليس هو عبادة ، وإنّما هو توسّل بالأسباب ، فإن كان السبب قادراً على إنجاز المطلوب كان الدعاء أمراً عقلائياً وإلّا يكون لغواً وعبثاً.

ثمّ إنّ القائلين بأنّ دعاء الصالحين عبادة ، عند مواجهتهم لهذا القسم من الآيات وما تقتضيه الحياة الاجتماعية ، يتشبّثون بكلّ طحلب حتّى ينجيهم من الغرق ويقولون إنّ هذه الآيات تعود على الأحياء ولا صلة لها بدعاء الأموات ، فكون القسم الأول جائزاً وأنّه غير عبادة ؛ لا يلازم جواز القسم الثاني وكونه غير عبادة.

ولكن عزب عن هؤلاء أنّ الحياة والموت ليسا حدّين للتوحيد والشرك ولا ملاكين لهما ، بل هما حدّان لكون الدعاء مفيداً أو لا ، وبتعبير آخر ملاكان للجدوائية وعدمها.

__________________

(١) الكهف : ٩٥.

(٢) القصص : ١٥.

(٣) آل عمران : ١٥٣.

٥٠

فلو كان الصالح المدعوّ غير قادر لأجل موته مثلاً تكون الدعوة أمراً غير مفيد لا عبادة له ، ومن الغريب أن يكون طلب شيء من الحيِّ نفس التوحيد ومن الميت نفس الشرك.

كلّ ذلك يوقفنا على أنّ القوم لم يدرسوا ملاكات التوحيد والشرك ، بل لم يدرسوا الآيات الواردة في النهي عن دعاء غيره ، فأخذوا بحرفيّة الآيات من دون تدبّر مع أنّه سبحانه يقول : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) (١).

ثمّ إنّ الكلام في أنّ دعاء الصالحين بعد انتقالهم إلى رحمة الله مفيد أو لا؟ يتطلّب مجالاً آخراً ، وسوف نستوفي الكلام عنه في بحث خاص حول وجود الصلة بيننا وبين أولياء الله في ضوء الكتاب والسنة.

__________________

(١) ص : ٢٩.

٥١
٥٢

الفصل الثاني :

البدعة

وآثارها الموبقة

٥٣
٥٤

تمهيد

تعدّ البدعة في الدين من المعاصي الكبيرة والمحرّمات العظيمة ، التي دلّ على حرمتها الكتاب والسنّة ، كما وأُوعِد صاحبُها النار على لسان النبيّ الأكرم ، وذلك لأنّ المبتدع ينازع سلطان الله تبارك وتعالى في التشريع والتقنين ، ويتدخّل في دينه ويُشرِّع ما لم يشرِّعه ، فيزيد عليه شيئاً وينقص منه شيئاً في مجالي العقيدة والشريعة ، كلّ ذلك افتراء على الله.

وقد بُعث النبيّ الأكرم بحبل الله المتين ، وأمر المسلمين بالاعتصام به ، ونهى عن التفرّق ، وقال : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) (١).

ولكن المبتدع يستهدف حبلَ الله المتين ؛ ليوهنه ويخرجه من متانته بما يزيد عليه أو ينقص منه ، وبالتالي يجعل من الأُمّة الواحدة أُمماً شتّى ، يبغض بعضهم بعضاً ويلعن بعضهم بعضاً ، فيتحوّلون إلى شيعٍ وطوائف متفرّقين ، فرائس للشيطان وأذنابه ، وعلى شفا حفرة من النار ، على خلاف ما كانوا عليه في عصر الرسالة.

__________________

(١) آل عمران : ١٠٣.

٥٥

إنّ المسلمين بعد رحيل الرسول تفرّقوا إلى أُمم ومذاهبَ مختلفة ، ولم يكن ذلك إلّا اثْر تلاعب المبتدعين في الدين والشريعة ، بإدخال ما ليس من الدين ، في الدين. وكان عملهم تحويراً لصميم العقيدة الإسلامية وشريعتها ، فلولا البدعة والمبتدعون وانتحالُ المبطلين ، لكانت الأُمّة الإسلامية أُمّة واحدة ؛ لها سيادتها على جميع الأُمم والشعوب في أنحاء المعمورة ، وما أثنى ظهورهم إلّا دبيبُ المبتدع بينهم ، فشتَّتهم وفرَّقهم بعد ما كانوا صامدين كالجبل الأشم.

والحروب الدموية ـ التي خاضها المسلمون في عصر الخلافة وبعدها ، وخضّبت الأرض بالدماء الطاهرة ، وسلّ المسلمون سيوفهم في وجه بعضهم ، فسقط منهم آلاف القتلى والجرحى على الأرض ـ هي من جرّاء البدع النابعة عن الأهواء والميول النفسانية ؛ حيث كانوا يتحاربون باسم الدين ، والحال أنّ الدين كان في جانب واحد ، لا في جوانب متكثّرة.

إنّ صراط النجاة في الإسلام هو صراط واحد مستقيم دعا إليه المؤمنين عامّة وقال : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١).

وأمر المسلمين أن يدعوا الله سبحانه ، أن يثبتهم على هذا الصراط كي لا ينحرفوا يميناً وشمالاً كما يقول سبحانه تعليماً لعباده : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (٢) ولكن المبتدع يسوق الناس إلى سبل منحرفة لا تنتهي إلى السعادة التي أراد الله سبحانه لعباده.

فحقّ التشريع والتقنين لله تبارك وتعالى ، وقد استأثر به وقال : (إِنِ الْحُكْمُ

__________________

(١) الأنعام : ١٥٣.

(٢) الفاتحة : ٦.

٥٦

إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (١). والمراد من الحكم هو التشريع بقرينة قوله : (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ). فالبدعة هو تشريك الناس في ذلك الحقّ المستأثر ، ودفع زمام الدين إلى أصحاب الأهواء ، كي يتلاعبوا في الشريعة كيفما شاءُوا ، وكيفما اقتضت مصلحتهم ومصلحة أسيادهم وأربابهم ، فذلك الحق المستأثر يقتضي ألّا يتدخّل أحد في سلطان الله وحظيرته ، قال سبحانه : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (٢).

والمبتدع يتصرّف في التشريع الإسلامي فيجعل منه حلالاً وحراماً بدون إذن منه سبحانه في ذلك. يقول تعالى :

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) (٣) فالآية واردة في عمل المشركين ؛ حيث جعلوا ما أنزل الله لهم من الرزق بعضه حراماً وبعضه حلالاً ، فحرّموا السائبة والبحيرة والوصيلة ونحوَها ، لذا يردّ عليهم سبحانه : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) أي أنّه لم يأذن لكم في شيء من ذلك ، بل أنتم تكذبون على الله ، ثمّ يهدّدهم بالعذاب فيقول : (وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) (٤). ويؤكد عليه في آية أُخرى ويقول : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) (٥).

__________________

(١) يوسف : ٤٠.

(٢) الأحزاب : ٣٦.

(٣) يونس : ٥٩.

(٤) يونس : ٦٠.

(٥) النحل : ١١٦.

٥٧

إنّ أصحاب الأهواء في كلّ زمان حتّى في عصر الرسالة ، كانوا يقترحون على النبيّ الأكرم أن يغيّر دينه ، ويأتي بقرآن غير هذا ، لكي يكون مطابقاً لما تستهويه أنفسهم ، فأمر الله سبحانه أن يردّ اقتراحهم بقوله : (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (١).

وكان في عصر الرسالة من يتقدّم على الله ورسوله ، لا مشياً وإنّما يقدّم رأيه على الوحي فنزل الوحي مندِّداً بهم وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢).

والكذب من المحرّمات الموبقة التي أوعدَ اللهُ عليها النار ، والبدعة من أفحش الكذب ؛ لأنّها افتراء على الله ورسوله ، قال سبحانه : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (٣). فالمبتدع يَظهر بزيّ المحق عند المسلمين ؛ فيفتري على الله تعالى دون أن يكشفه الناس فيضلّهم عن الصراط المستقيم.

ومن المسلّم به أنّ لله في كلّ واقعة حكماً إلهيّاً لا يتبدّل ولا يتغيّر الى يوم القيامة ، فاذا حكم الحاكم وِفق ذلك الحكم فهو حاكم عادل معتمد على منصَّة الحق ، إلّا أنّ المبتدع يحكم على خلاف ذلك الحق ، لذلك يصفه سبحانه بكونه كافراً وظالماً وفاسقاً ، قال تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) وقال عزّ من قائل : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) وقال تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٤).

__________________

(١) يونس : ١٥.

(٢) الحجرات : ١.

(٣) الأنعام : ٢١.

(٤) المائدة : ٤٤ ، ٤٥ ، ٤٦.

٥٨

فما حال إنسان يحكم عليه القرآن بالكفر تارة ، والظلم ثانياً والفسق ثالثاً؟ فهل ترجى له النجاة بعد أن أضلّ كثيراً من الناس ، وشقّ صفوف المسلمين ، وجعل السبيل الواحد سُبُلاً كثيرة تضلّهم إلى مهاوي الهالكين.

ولعلّ هذا القدر من التقديم يكفي في بيان موضع البدعة وموقِف الله تعالى من المبتدع ، ولأجل ذلك نرى أنّ النبيّ الأكرم قد شدّد على البدعة أو ندّد بالمبتدع بأفصح العبارات وأبلغها كما سيتّضح ذلك في الروايات الآتية.

وقد ألّف العلماء قديماً وحديثاً كتباً ورسائل حول البدعة نذكر بعضها :

١ ـ البدع والنهي عنها ، لابن وضّاح القرطبي.

٢ ـ الحوادث والبدع ، للطرطوشي.

٣ ـ الباعث ، لأبي شامة.

٤ ـ الاعتصام ، لأبي إسحاق الشاطبي الغرناطي في جزءين وقد أسهبَ الكلام فيها.

٥ ـ البدعة أنواعها وأحكامها ، لصالح بن فوزان بن عبد الله فوزان طبع الرياض.

٦ ـ البدعة تحديدها وموقف الإسلام منها ، تأليف الدكتور عبد الملك السعدي طبع بغداد.

٧ ـ البدعة في مفهومها الإسلامي الدقيق ، تأليف الدكتور عبد الملك السعدي طبع بغداد.

٨ ـ البدع ، تأليف أبي الحسين محمّد بن بحر الرُّهني الشيباني ، ذكرها النجاشي في رجاله برقم ١٠٤٤.

٩ ـ البدع المحدثة ، للشريف أبو القاسم الكوفي المتوفّى بفسا سنة ٣٥٢ ه‍ وطبع باسم الاستغاثة ، في النجف الأشرف.

٥٩

١٠ ـ البدع ، تأليف الدكتور الشيخ جعفر الباقري ، وهي دراسة موضوعية لمفهوم البدعة وتطبيقاتها على ضوء منهج أهل البيت.

ومع احترامنا وتكريمنا لجهودهم ، إلّا أنّ أغلب هؤلاء الكُتّاب نظروا إلى المسألة على أساس إمام مذهبهم. فالأوّل والثاني من هذه الكتب اعتمدا على رأي الإمام مالك رضى الله عنه كما أنّ الكتاب الخامس اتّخذ من مذهب ابن تيمية مقياساً في حكمه ، فخرج بنفس النتيجة التي خرج بها إمام مذهبه.

وأمّا الإمام الشاطبي فقد أطنب وأسهب كثيراً في تأليفه ولم يركّز على نفس البدعة تحديداً ومصداقاً.

ودراسة البدعة تتوقّف على دراسة منهجيّة غير منحازة لمذهب خاص ، وهذا يتوقّف على الاجتهاد الحرّ ، من دون أن يتّخذ رأي إمام مِحوراً ، ورأي إمام آخر مسنداً ، بل ينظر إلى الكتاب والسنّة وسيرة المسلمين نظرة عامة شمولية فاحصة.

نعم لا تفوتنا الإشارة إلى المِيزة الموجودة فيما كتبه الدكتور السعدي ، فقد أفاض الكلام في الجزئيات التي ربّما وصفت بالبدعة ، وأثبت بدليل قاطع كونها غير بدعة ، كما لا تفوتنا الإشادة بمنهجيّة البحث في كتاب الدكتور عزّت علي عطية ، والذي نال به درجة الدكتوراة بمرتبة الشرف الأُولى ، ولكنّه في بعض المواضيع افتقد الشجاعة الأدبيّة ولم يتجرّأ على تجاوز الخطوط الحمراء التي فرضتها عليه البيئة ، فتراه يتوقّف في التوسّل بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مع تضافر الروايات على جوازه.

وللجميع منّا الشكر الجزيل ، ولكن الحقيقة بنت البحث فلا عتب علينا إذا ناقشنا بعض آرائهم نتيجة الاجتهاد الحرّ ، رزقنا الله توحيد الكلمة كما رزقنا كلمة التوحيد.

٦٠