في ظلال التّوحيد

الشيخ جعفر السبحاني

في ظلال التّوحيد

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: نشر مشعر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-6293-82-4

الصفحات: ٧١٢

إلى جميعهم (١) ، وكذلك نظامُ الدين القوشجي في شرحه على التجريد (٢).

وقد خالفهم أئمة المسلمين وعلماؤهم في هذا الموقف وقالوا بجواز العفو عن العصاة عقلاً وسمعاً.

أمّا العقل فلأنّ العقاب حق لله تعالى فيجوز تركه.

وأمّا السمع ، فللآيات الدالّة على العفو فيما دون الشرك ، قال سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (٣).

والآية واردة في حق غير التائب ؛ لأنّ الشرك مغفور بالتوبة أيضاً ، وقال سبحانه : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) (٤) أي تشملهم المغفرة مع كونهم ظالمين.

وقال سبحانه : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) (٥) ، إلى غير ذلك من النصوص المتضافرة على العفو في حق العصاة. ومع ذلك لا مانع من شمول أدلّة الشفاعة لهم.

وأوضح دليل على العفو بدون التوبة قوله سبحانه : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) (٦) فإنّ عطف قوله : (وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) على قوله : (يَقْبَلُ التَّوْبَةَ) ب «واو العطف» ، يدلّ على التغاير بين الجملتين ، وإنّ هذا العفو لا يرتبط بالتوبة وإلّا كان اللازم عطفُه بالفاء.

وقال سبحانه : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ

__________________

(١) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ص ٢٦١ ، ط صيدا.

(٢) شرح التجريد : ص ٥٠١.

(٣) النساء : ٤٨.

(٤) الرعد : ٦.

(٥) الزمر : ٥٣.

(٦) الشورى : ٢٥.

٥٢١

كَثِيرٍ) (١). فإنّ الآية واردةٌ في غير حق التائب ، وإلّا فإنّ الله سبحانه يغفر ذنوب التائب جميعها لا كثيرها مع أنّه سبحانه يقول : (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ).

فتلخّص من ذلك أنّه لا مانع من القول بجواز العفو في حق العصاة كما لا مانع من شمول آيات الشفاعة لهم.

نعم ، يجب إلفات النظر إلى نكتة وهي أنّ بعض الذنوب الكبيرة ربما تقطع العلائق الإيمانية بالله سبحانه ، كما تقطع الأواصر الروحية مع النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله فصاحب هذه المعصية لا تشمله الشفاعة ، فيجب عليه دخول النار حتى يتطهّر بالعذاب وتصفو روحه من آثار العصيان ، ويليق لشفاعة الشافعين.

__________________

(١) الشورى : ٣٠.

٥٢٢

المبحث السادس

طلب الشفاعة من المأذونين بالشفاعة

قد تجلّتِ الحقيقة بأجلى مظاهرها وتبيّن أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ولفيفاً من الأولياء والصالحين يشفعون عند الله في ظروف خاصة وأنّهم مأذونون من جانبه سبحانه يوم القيامة.

كما تبيّن أنّ المفهوم الواضح لدى العامّة من الشفاعة ، هو دعاء الرسول وطلبه من الله غفرانَ ذنوب عباده ، إذا كانوا أهلاً لها. إذن يرجع طلب الشفاعة من الشفيع إلى طلب الدعاء منه لتلك الغاية ، وهل ترى في طلب الدعاء من الأخ المؤمن إشكالاً؟! فضلاً عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الذي يُستجاب دعاؤه ولا يُردّ بنص الذكر الحكيم (١).

فعند ما كان النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله حيّاً في دار هجرته ، كان طلبُ أصحابِه الدعاءَ منه ، راجعاً إلى طلب الشفاعة منه والاختلاف في الاسم لا في الواقع والحقيقة.

وبعد انتقاله من الدنيا إلى عالم البرزخ ، يرجع طلب الشفاعة منه أيضاً إلى

__________________

(١) النساء : ٦٤ ، المنافقون : ٥.

٥٢٣

طلب الدعاء منه لا غير.

فلو أنّ أعرابياً جاء إلى مسجده فطلب منه أن يستغفر له ، فقد طلب منه الشفاعة عند الله. ولو جاء ذاك الرجل بعد رحيله ، وقال له : يا أيّها النبي ، استغفر لي عند الله. أو قال : اشفع لي عند الله ، فالجميع بمعنى واحدٍ لبّاً وحقيقةً ، وإنّما يختلفان صورةً وظاهراً. فالإذعان بصحة أحدِهما ، والشك في صحة الآخر كالتفكيك بين المتلازمين.

نعم ، هناك سؤالٌ يطرح نفسَه وهو أنّه إذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حيّاً يُرزَق في هذه الدنيا ويسمع كلام السائل ، فلا فرق بين طلب الدعاء وطلب الشفاعة.

وأمّا بعد رحيله وانتقاله إلى رحمة الله الواسعة ، فلا يسمع كلام السائل ، بأيّ صفة خاطبَه وكلَّمه سواء أقال : استغفر لي ، أم قال : اشفع لي.

والإجابة واضحة ، لأنّ الكلام مركَّزٌ في تبيين معنى طلب الشفاعة منه حيّاً وميّتاً وأنّ حقيقته أمرٌ واحدٌ بجميع صوره ، وأمّا أنّه يسمع أو لا يسمع ، أو أنّ الدعوة تنفع أو لا تنفع ، فهو أمرٌ نرجع إليه بعد الفراغ من صميم البحث. ولإيضاح الأمر نورد بعض النصوص من المفسّرين في تفسير الشفاعة :

قال الإمام الرازي في تفسير قوله سبحانه : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) (١) إنّ الآية تدلّ على حصول الشفاعة للمذنبين ، والاستغفار طلب المغفرة ، والمغفرة لا تُذْكر إلّا في إسقاط العقاب ، أمّا طلب النفع الزائد فإنّه لا يسمّى استغفاراً. وقوله تعالى : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) يدلّ على أنّهم يستغفرون لكل

__________________

(١) غافر : ٧.

٥٢٤

أهل الإيمان ، فإذا دللنا على أنّ صاحب الكبيرة مؤمن ، وجب دخوله تحت هذه الشفاعة(١).

نرى أنّ الإمام الرازي جعل قول الملائكة في حق المؤمنين والتائبين ، من أقسام الشفاعة ، وفسّر قوله : (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا) بالشفاعة. وهذا دليل واضح على أنّ الدعاء في حق المؤمن ، شفاعة في حقّه ، وطلبه منه طلبُ الشفاعة.

ونقل نظام الدين النيسابوري ، في تفسير قوله تعالى : (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها) (٢) عن مقاتل : إنّ الشفاعة إلى الله إنّما هي دعوة الله لمسلمٍ ، لما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له ، وقال الملك : ولك مثل ذلك» (٣).

والذي يوضح أنّ شفاعة النبي عبارة عن دعائه في حقّ المشفوع له ، ما رواه مسلم في «صحيحه» عن النبي الأكرم أنّه قال : «ما من ميّت يُصلّي عليه أُمّة من المسلمين يبلغون مائة كلّهم يشفعون له إلّا شُفِّعوا فيه» (٤).

وفسّر الشارح قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يشفعون له» بقوله : أي يدعون له ، كما فسّر قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إلّا شُفِّعوا فيه» بقوله : أي قبلت شفاعتهم.

وروي أيضاً عن عبد الله بن عباس أنّه قال : سمعت رسول الله يقول : «ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلّا شفّعهم الله فيه» (٥) أي قبلت شفاعتهم في حق ذلك الميت فيغفر له.

فإذا كان مرجع الاستشفاع من الصالحين إلى طلب الدعاء ، فكل من يطلب

__________________

(١) مفاتيح الغيب ٧ : ٢٨٥ ـ ٢٨٦ ، ط. مصر ، الجزء ٢٧ : ٣٤ ط دار إحياء التراث الإسلامي ، بيروت.

(٢) النساء : ٨٥.

(٣) غرائب القرآن بهامش تفسير الطبري : ٥ : ١١٨.

(٤) صحيح مسلم ٤ : ٥٣ ، ط. مصر ، مكتبة محمد علي صبيح وأولاده.

(٥) المصدر نفسه.

٥٢٥

من النبي الشفاعة لا يقصد منه إلّا المعنى الشائع (١).

إلى هنا تبيّن أنّ طلب الشفاعة يرجع إلى طلب الدعاء ، وهو أمر مطلوب في الشرع من غير فرق بين طلبه من الشفيع في حال حياته أو مماته ، فهو لا يخرج عن حد طلب الدعاء ، وأمّا كونه ناجعاً أو لا؟ فهو أمر آخر نرجع إليه كما مرّ.

والذي يحقّق هذا الأمر هو صدور مثله من السلف الصالح في العصور المتقدمة وإليك نزراً منه :

السلف وطلب الشفاعة من النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله

١ ـ الأحاديث الإسلامية وسيرة المسلمين تكشفان عن جواز هذا الطلب ، ووجوده في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد روى الترمذي في «صحيحه» عن أنس قوله : سألت النبي أن يشفع لي يوم القيامة ، فقال : «أنا فاعل» ، قال : قلت : يا رسول الله فأنّى أطلبك ، فقال : «اطلبني أوّل ما تطلبني على الصراط» (٢).

فالسائل يطلب من النبي الأعظم ، الشفاعة دون أن يخطر بباله أنّ هذا الطلب يصطدم مع أُصول العقيدة.

٢ ـ هذا سواد بن قارب ، أحد أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول مخاطباً إيّاه :

فكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة

بمغن فتيلاً عن سواد بن قارب (٣)

٣ ـ روى أصحاب السير والتاريخ ، أنّ رجلاً من قبيلة حمير عرف أنّه سيولد

__________________

(١) لو كان للشفاعة معنى آخر من التصرف التكويني في قلوب المذنبين ، وتصفيتهم في البرزخ ، ومواقف القيامة فهو أمر عقلي لا يتوجّه إليه إلّا الأوحدي من الناس.

(٢) صحيح الترمذي ٤ : ٦٢١ ، كتاب صفة القيامة ، الباب ٩.

(٣) الإصابة ٢ : ٩٥ ، الترجمة ٣٥٧٦ ، وقد ذكر طرق روايته البالغة إلى ست ، وراجع أيضاً الروض الأنف ١ : ١٣٩ ؛ بلوغ الإرب ٣ : ٢٩٩ ؛ عيون الأثر ١ : ٧٢

٥٢٦

في أرض مكة نبي الإسلام الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولما خاف أن لا يدركه ، كتب رسالة وسلّمها لأحد أقاربه حتى يسلّمها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حينما يبعث ، وممّا جاء في تلك الرسالة قوله : «وإن لم أدرك فاشفع لي يوم القيامة ولا تنسني» (١) ولمّا وصلت الرسالة إلى يد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «مرحباً بتُبَّع الأخ الصالح» فإنّ وصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لطالب الشفاعة بالأخ الصالح ، أوضح دليل على أنّه أمر لا يتعارض وأُصول العقيدة.

٤ ـ وروى المفيد عن ابن عباس أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام لمّا غسّل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وكفّنه كشف عن وجهه وقال : «بأبي أنت وأُمّي طبتَ حيّاً وطبت ميتاً ... اذكرنا عند ربك»(٢).

وروى الشريف الرضي في «نهج البلاغة» : أنّ عليّاً عليه‌السلام قال عند ما ولي غسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «بأبي أنت وأُمّي اذكرنا عند ربك واجعلنا من بالك» (٣).

٥ ـ روي أنّه لمّا توفي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أقبل أبو بكر فكشف عن وجهه ثمّ أكبّ عليه فقبّله وقال : «بأبي أنت وأُمّي طبت حيّاً وميتاً اذكرنا يا محمد عند ربّك ولنكن من بالك»(٤).

وهذا استشفاع بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في دار الدنيا بعد موته.

٦ ـ وختاماً نذكر ما ذكره الدكتور عبد الملك السعدي في كتابه «البدعة في مفهومها الإسلامي الدقيق» : أمّا طلب الشفاعة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بصورة عامّة وبدون قيد بعد أذان أو غيره فقد ورد في السنّة ، حيث قد طلبها منه بعض الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ دون نكير من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. والأحاديث الواردة بهذا

__________________

(١) ابن شهرآشوب ١ : ١٢ ؛ السيرة الحلبية : ٢ : ٨٨.

(٢) مجالس المفيد ، المجلس الثاني عشر : ص ١٠٣.

(٣) نهج البلاغة : الخطبة ٢٣٥.

(٤) السيرة الحلبيّة ٣ : ٤٧٤ ، ط دار المعرفة بيروت.

٥٢٧

الخصوص وبمواضع ومناسبات عديدة كثيرة جداً نذكر منها :

عن مصعب الأسلمي قال : انطلق غلام منّا فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : إنّي سائلك سؤالاً قال : «وما هو؟» قال : أسألك أن تجعلني ممَّن تشفع له يوم القيامة ، قال : «من أمرك هذا؟» أو «من علّمك هذا؟» أو «من دلّك على هذا؟» قال : ما أمرني به أحد إلّا نفسي ، قال : «فإنّك ممّن أشفع له يوم القيامة». أورده الهيتمي في مجمع الزوائد وقال : رواه الطبراني.

وقد أورد الهيتمي بهذا الموضوع كثيراً من الأحاديث (١). هذا في حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله.

أمّا بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى فهل يصح طلب الشفاعة منه لا سيما أمامَ قبره الشريف وعند السلام عليه؟ بما أنّه ثبت بما لا يقبل الشك أنّ الأموات يسمعون ويتكلّمون ويدعون في عالم البرزخ وبخاصة هو صلى‌الله‌عليه‌وآله عند ما يُسلَّم عليه تردّ إليه روحه الشريفة ، فلا موجب للتفرقة في طلب الشفاعة بين حياته قبل انتقاله وبين حياته ؛ الحياة البرزخية بعد انتقاله. ومن ادّعى المنع فعليه بالدليل والله الموفق (٢).

كل هذه النصوص تدلّ على أنّ طلب الشفاعة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان أمراً جائزاً وشائعاً ، وذلك لأنّهم يرونه مثل طلب الدعاء منه ، ولا فرق بينها وبينه إلّا في اللّفظ ، وقد عرفت صحّة إطلاق لفظ الشفاعة على الدعاء ، والاستشفاع على طلب الدعاء ، وممّا يدلّ على ذلك أنّ البخاري عقد بابين بهذين العنوانين ، وهما :

١ ـ إذا استشفعوا ليستسقى لهم لم يردهم.

٢ ـ وإذا استشفع المشركون بالمسلمين عند القحط (٣).

فنرى أنّ البخاري يطلق لفظ الاستشفاع على الدعاء وطلبه من الإمام في

__________________

(١) مجمع الزوائد ١٠ : ٣٦٩ ؛ صحيح مسلم ١ : ٢٨٩.

(٢) البدعة في مفهومها الإسلامي : ص ١٠٥ ـ ١٠٦.

(٣) البخاري الصحيح : الجزء ٢ ، كتاب الاستسقاء ، الباب ١١ ـ ١٢.

٥٢٨

العام المجدب ، من دون أن يخطر بباله أنّ هذا التعبير غير صحيح.

وعلى العموم أنّ طلب الشفاعة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله داخل فيما ورد من الآيات التالية : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (١) ، (قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) (٢).

وقوله سبحانه : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) (٣) فكلّ ما يدلّ على جواز طلب الدعاء من المؤمن الصالح يمكن الاستدلال به على صحة ذلك.

__________________

(١) النساء : ٦٤.

(٢) يوسف : ٩٧ ـ ٩٨.

(٣) المنافقون : ٥.

٥٢٩

المبحث السابع

أسئلة حول طلب الشفاعة

قد اتّضح أنّ طلب الشفاعة بمعنى طلب الدعاء ؛ ليس ممّا يرتاب في جوازه مؤمن واعٍ، عارفٌ بالكتاب والسنّة ، نعم ربما تُثار هنا شبهات أو أسئلة يجب رفعها أو الإجابة عليها وليست الأسئلة مطروحة على صعيد واحد ، ولأجل ذلك نذكر كلّ واحدٍ بعنوان يُعرّف مغزاه ، والجميع يرجع إلى طلب الدعاء من الشفيع بعد رحيله بعد تجويزه في حياته.

السؤال الأوّل : الشفيع ميّت كيف يُطلبُ منه الدّعاء؟

إنّ طلب الشفاعة وإن كان طلب الدعاء لكنّه لا جدوى فيه لكون الشفيع بعد الموت لا يستطيع أن يقوم بالدعاء.

على هامش السؤال :

السؤال جدير بالدراسة والتحليل ، وهو عالق في ذهن لفيف من الناس فهم يناجون في أنفسهم كيف يُطلَب الدّعاء والشفاعة من النبي الأكرم وهو ميّت

٥٣٠

لا يستطيع على إجابة طلب الطالب؟

أوّلاً : إنّ الرجوع إلى القرآن المجيد ، واستنطاقه في هذا المجال يوقفنا على جليّة الحال ، وهو يعترف بموتهم ماديّاً لا موتهم على الإطلاق ، بل يصرّح بحياة لفيف من الناس الذين انتقلوا من هذه الدنيا إلى الدار الآخرة من صالحٍ وطالحٍ ، وسعيدٍ وشقيٍّ ، وها نحن نتلو على القارئ الكريم قسماً منها ليقف على أنّ الموت أمرٌ نسبي ، وليس بمطلق ، ولو صار بدن الإنسان جماداً ، ليس معناه بطلانه وانعدام شخصيته ، وليس الموت إلّا انتقالاً من دارٍ إلى دارٍ ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة وإليك لفيفاً من الآيات :

١ ـ قال سبحانه : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (١).

والآية صريحة في المقصود ، صراحةً لا تتصوّر فوقها صراحة ، حيث أخبرت الآية عن حياتهم ورزقهم عند ربهم وتبشيرهم لمن لم يلحقوا بهم ، وما يتفوهون به في حقّهم بقولهم : (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

وعلى ذلك فلو كان الشفيع أحد الشهداء في سبيل الله تعالى فهل يكون هذا المطلب لغواً؟!

٢ ـ إنّ القرآن يعدّ النبي شهيداً على الأُمم جمعاء ، ويقول سبحانه : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (٢).

فالآية تصرّح بأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله شاهد على الشهود الذين يشهدون على أُممهم فإذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله شاهداً على الأُمم جمعاء ، أو على شهودهم فهل تعقل الشهادة بدون

__________________

(١) آل عمران : ١٦٩ ـ ١٧٠.

(٢) النساء : ٤١.

٥٣١

الحياة ، وبدون الاطلاع على ما يجري فيهم من الأُمور من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان؟!

ولا يصح لك أن تفسّر شهادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بشهادته على معاصريه فقط ، وذلك لأنّه سبحانه عدّ النبي شاهداً في عداد كونه مبشّراً ونذيراً ، وهل يتصوّر أحدٌ أن يختص الوصفان الأخيران بمن كان يعاصر النبي؟!

كلّا. فإذن لا وجه لتخصيص كونِهِ شاهداً على الأُمّة المعاصرة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٣ ـ الآيات القرآنية صريحة في امتداد حياة الإنسان إلى ما بعد موته ، يقول سبحانه في حقّ الكافرين : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (١).

فهذه الآية تصرّح بامتداد الحياة الإنسانية إلى عالم البرزخ ، وإنّ هذا العالم وعاءٌ للإنسان يعذّب فيها مَن يُعذّب وينعَّم فيها من ينعَّم.

أمّا التنعُّم فقد عرفت التصريح به في الآية الواردة في حقّ الشهداء.

وأمّا العقوبة ، فيقول سبحانه : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (٢).

٤ ـ هذا هو الذكر الحكيم ينقل بياناً عن الرجل الذي جاء من أقصى المدينة ، وأيّد رسل المسيح ، فلمّا قتل خوطب باللّفظ التالي : (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) فأجاب بعد دخوله الجنة : (يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ* بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) (٣) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على امتداد الحياة ، واستشعار لفيف

__________________

(١) المؤمنون : ٩٩ ـ ١٠٠.

(٢) غافر : ٤٦.

(٣) يس : ٢٦ ـ ٢٧.

٥٣٢

من عباد الله لما يجري هنا وهناك ، غير أنّا لا نَسمع بيانَهم ولا نفهم خِطابهم ، وهم سامعون ، عارفون بإذن الله سبحانه.

ثانياً : إنّ الأحاديث الواردة في هذا المورد فوق الحصر فحدِّث عنها ولا حرج ، وقد روى المحدِّثون عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما من أحد يسلّم عليّ إلّا ردّ الله روحي حتى أردّ عليه‌السلام» (١). كما نَقَلوا قوله : «إنّ لله ملائكةً سيّاحين في الأرض يبلّغوني من أُمّتي السلام» (٢).

ثالثاً : نرى أنّه سبحانه يسلّم على أنبيائه في آيات كثيرة ، ويقول : (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) ، (سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ) ، (سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ) ، (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) ، (وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) (٣).

كما يأمرنا بالتسليم على نبيّه والصلوات عليه ويقول بصريح القول : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٤) ، فلو كان الأنبياء والأولياء أمواتاً غير شاعرين بهذه التسليمات والصلوات فأيّ فائدة في التسليم عليهم وفي أمر المؤمنين في الصلاة ؛ بالسلامِ على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ والمسلمون أجمع يسلّمون على النبي في صلواتهم بلفظِ الخطاب ، ويقولون : السلامُ عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته ، وحَمْلُ ذلك على الشعارِ الأجوف والتحية الجوفاء ، أمرٌ لا يجترئ عليه من له إلمامٌ بالقرآن والحديث.

__________________

(١) وفاء الوفا ٤ : ١٣٤٩.

(٢) المصدر نفسه : ص ١٣٥٠.

(٣) الصافات : ٧٩ ، ١٠٩ ، ١٢٠ ، ١٣٠ ، ١٨١ على الترتيب.

(٤) الأحزاب : ٥٦.

٥٣٣

السؤال الثاني : الشفيع ميّت وهو لا يسمع؟

هذا هو السؤال الثاني الذي ربّما يُطرَح في المقام ، وهو أيضاً جديرٌ بالدراسة ، ولكنّه في التحقيق صورةٌ صغيرة من السؤال السابق ، فالتركيز ـ هنا ـ على خصوص عدم السماع ، ولكنّه في السابق على معنىً أعم وهو عدم الاستطاعة على شيء سماعاً كان أو غيره.

ونقول : ربما يقال : ظاهر الذكر الحكيم على أنّ الموتى لا يسمعون ، حيث شبّه المشركين بهم. ووجه الشبه هو عدم السماع. قال : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) (١) ، فالآية تصف المشركين بأنّهم أموات وتشبِّهُهُم بها ، ومن المعلوم أنّ صحة التشبيه تتوقّف على وجود وجه الشبه في المشبَّه به بوجهٍ أقوى وليس وجه الشبه إلّا أنّهم لا يسمَعون ، فعند ذلك تُصبح النتيجة : إنّ الأموات مطلقاً غير قابلين للإفهام ، ويدل على ذلك أيضاً قوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (٢).

ووجه الدلالة في الآيتين واحد.

على هامش السؤال

القرآن الكريم منزّه عن التناقض والاختلاف وكيف لا يكون كذلك وهو يقول : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (٣) وهو يصرّح في

__________________

(١) النمل : ٨٠.

(٢) فاطر : ٢٢.

(٣) النساء : ٨٢.

٥٣٤

غير واحد من آياته على أنّ الأنبياء كانوا يكلّمون الموتى ويخاطبونهم. ونلمس ذلك بوضوح في قصتي صالح وشعيب.

أمّا الأُولى : فالقرآن يحكي خطابَه لقومه ـ بعد هلاكهم وأخذ الرجفة لهم ـ فيقول : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ* فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) (١).

أمعن النظر في قوله : (فَتَوَلَّى) حيث تصدَّر بالفاء الدالة على الترتيب : أي بعد ما عمّهم الهلاك أعرض صالح بوجهه عنهم وخاطبهم بقوله : يا قوم ...

أمّا الثانية فهي أيضاً قرينة الأُولى ونظيرتها قال سبحانه : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ* الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ* فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) (٢).

إنّ الأُوليين من الآيات صريحتان في نزول البلاء عليهم وإبادتهم وإهلاكهم جميعاً ـ فبعد ذلك ـ يخاطبهم نبيُّهم شعيب معرِضاً بوجهه عنهم ، مشعراً بالتبرّي ويقول : يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ... وليس لنا ، ولا لغيرنا تأويل القرآن لأخذ موقف مسبق في الموضوع ، بل يجب عرض الرأي عليه لا عرض القرآن على الفكر الإنساني.

ونكتفي من الآيات بما تلوناه عليك وهناك آيات أُخرى موحدة في المضمون نترك نقلها للاختصار.

__________________

(١) الأعراف : ٧٨ ـ ٧٩.

(٢) الأعراف : ٩١ ـ ٩٣.

٥٣٥

السنّة لا تتفق مع عدم السماع

إنّ السنّة الكريمة ، عدل القرآن ، يُحتَجُّ بها كما يُحتجّ به ، فقد أخذت موقف الإيجاب فهي لا تتفق مع عدم السماع وإليك نزراً يسيراً منها :

١ ـ ما أنتم بأسمعَ منهم

هذه الكلمة ألقاها النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عند ما كان بمقربة من قتلى قريش ، وقد تقدّم ذكرها مفصّلاً في فصل : الحياة البرزخية فراجع (١).

٢ ـ رواية الصحابي الجليل : عثمان بن حنيف

روى الحافظ الطبراني عن الصحابي الجليل عثمان بن حنيف : أنّ رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له ، وكان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته ، فلقى ابنَ حنيف فشكا إليه ذلك ، فقال له ابنُ حنيف : ائت الميضاة ، فتوضّأ ثمّ ائتِ المسجد فصلِّ ركعتين ، ثمّ قل : اللهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّنا محمد نبيّ الرحمة ، يا محمد إنّي أتوجّه بك إلى ربّك أن تقضي حاجتي ، وتذكر حاجتك.

فانطلق الرجل فصنع ما قال ، ثمّ أتى باب عثمان فجاءَه البوّاب حتى أخذ بيده ، فأُدخِلَ على عثمان فأجلسه معه على الطنفسة فقال : حاجتك؟ فذكر حاجته وقضى له ، ثمّ قال له : ما ذكرتُ حاجتك حتى كانت الساعة ، وقال : ما كانت لك من حاجة فاذكرها ، ثمّ إنّ الرجل خرج من عنده فلقى ابن حنيف فقال له : جزاك الله خيراً ، ما

__________________

(١) إنّ تكلّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع رءوس الشرك الموتى الذين أُلقيت أجسادُهم في البئر من مسلّمات التاريخ والحديث ، وقد أشار إلى هذا من بين المحدّثين والمؤرّخين : صحيح البخاري ٥ : ٧٦ و ٧٧ ـ ٨٧ في معركة بدر ؛ صحيح مسلم ٨ : ١٦٣ كتاب الجنة باب مقعد الميت ؛ سنن النسائي ٤ : ٨٩ و ٩٠ باب أرواح المؤمنين ؛ مسند الامام أحمد ٢ : ١٣١ ؛ السيرة النبوية ١ : ٦٣٩ ؛ المغازي ١ : ١١٢ غزوة بدر ؛ بحار الأنوار ١٩ : ٣٤٦.

٥٣٦

كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إليّ حتى كلّمتَه في.

فقال ابن حنيف : والله ما كلّمته ، ولكن شهدتُ رسول الله ، وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن شئت دعوتُ أو تصبر ، فقال : يا رسول الله إنّه ليس لي قائدٌ وقد شقّ عليّ ، فقال له النبي : ائت الميضاة فتوضّأْ ثمّ صلّ ركعتين ثمّ ادعُ بهذه الدَعَوات. قال ابنُ حنيف : فو اللهِ ما تفرَّقْنا وطال بنا الحديثُ حتى دَخَلَ علينا الرجلُ كأنّه لم يكن به ضر (١).

قال الترمذي : هذا حديث حقٌّ حسنٌ صحيحٌ.

وقال ابن ماجة : هذا حديثٌ صحيحٌ.

وقال الرفاعي : لا شك أنّ هذا الحديث صحيحٌ ومشهورٌ (٢).

السؤال الثالث : الشفاعة فعل الله

الشفاعة فعل الله سبحانه ، ولا يُطلب فعلُه من غيره ، قال سبحانه : (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٣).

فاذا كانت الشفاعة مملوكة لله وهو المالك لها ، فكيف يُطلَب ما يرجع إليه من غيره؟

على هامش السؤال

لا شك أنّ الشفاعة لله كما هو صريح الآية وما يرجع إليه سبحانه لا يُطلَب من غيره. مثلاً إنّ الرزق والإحياء والإماتة له لا تُطلَب من عباده. غير أنّ المهم

__________________

(١) صحيح الترمذي ج ٥ كتاب الدعوات ، الباب ١١٩ ، رقم ٣٥٧٨ ؛ سنن ابن ماجة ١ : ٤٤١ / ١٣٨٥ ؛ مسند أحمد ٤ : ١٣٨ وغير ذلك.

(٢) التوصل إلى حقيقة التوسل : ص ١٥٨.

(٣) الزمر : ٤٤.

٥٣٧

تشخيص ما يرجع إليه سبحانه ، وتمييزه ما أعطاه لعباده الصالحين.

إنّ الشفاعة المطلقة ملك لله سبحانه ، فلا شفيع ولا مشفوع له ، بلا إذنه ورضاه ؛ فهو الذي يسنُّ الشفاعة ويأذن للشافع ، ويبعث المذنب إلى باب الشافع ليستغفر له ، إلى غير ذلك من الخصوصيات. فلا يملك الشفاعة بهذا المعنى إلّا هو ، وبذلك يردّ القرآن على المشركين الذين كانوا يزعمون أنّ أربابهم يملكون الشفاعة المطلقة فالشفاعة بهذا المعنى غير مسئولة ولا مطلوبة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

والمسئول والمطلوب من النبي والصالحين هو الشفاعة المرخّصة المحدّدة ، من الله سبحانه ، أي ما رخّص لهم في أن يشفعوا ويطلبوا لعباده الغفران ، فمثل هذه الشفاعة المرخّصة المأذونة ليست له ؛ لأنّه سبحانه فوق كل شيء ، لا يَستأذن ولا يُؤذن ولا يُحدّد فعله.

وبعبارة واضحة : المراد من قوله سبحانه : (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) (١) ليس أنّه سبحانه هو الشفيع دون غيره ؛ إذ من الواضح أنّه سبحانه لا يشفع عند غيره ، بل المراد أنّ المالك لمقام الشفاعة هو سبحانه وأنّه لا يشفع أحد في حقّ أحد إلّا بإذنه للشفيع وارتضائه للمشفوع له ، ولكن هذا المقام ثابت لله سبحانه بالأصالة والاستقلال ، ولغيره بالاكتساب والإجازة ، قال سبحانه : (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٢).

فالآية صريحة في أنّ من شهد بالحق يملك الشفاعة ولكن تمليكاً منه سبحانه وفي طول ملكه.

وعلى ذلك فالآية أجنبية عن طلب الشفاعة من الأولياء الصالحين الذين شهدوا بالحق وملكوا الشفاعة ، وأُجيزوا في أمرها في حقّ من ارتضاهم لها.

__________________

(١) الزمر : ٤٤.

(٢) الزخرف : ٨٦.

٥٣٨

وأنت أيّها الأخ المتحرر من كل رأي مسبق ، إذا لاحظتَ ما ذكرته سابقاً في تفسير الآية ، يتضح لك ، أنّ طلب الشفاعة من الصالحين ، ليس طلبَ فعله سبحانه من غيره.

السؤال الرابع : طلب الشفاعة يشبه عمل المشركين

إنّ طلب الشفاعة يشبه عمل عَبَدة الأصنام في طلبهم الشفاعة من آلهتهم الكاذبة الباطلة ، وقد حكى القرآن ذاك العمل منهم ، قال سبحانه : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) (١) وعلى ذلك فالاستشفاع من غيره سبحانه عبادة لهذا الغير.

على هامش السؤال

ما كنت أُفكّر أيّها الأخ أن تغتر بظواهر الأعمال وتقضي بالبساطة والسذاجة ، مع أن القرآن أمر بالتدبّر والتفكّر والدقّة في مصادر الأعمال وجذورها ، لا بالاغترار بظاهرها.

فالفرق واضحٌ بين عمل المسلم والمشرك لأنّك إذا أمعنتَ النظر في مضمون الآية تقف على أنّ المشركين كانوا يقومون بعملين :

١ ـ عبادة الآلهة ويدلّ عليه : (وَيَعْبُدُونَ ...).

٢ ـ طلب الشفاعة ويدل عليه : (وَيَقُولُونَ ...).

وكان علّة اتّصافهم بالشرك هو الأوّل لا الثاني ؛ إذ لو كان الاستشفاع بالأصنام عبادة لها بالحقيقة ، لما كان هناك مبرّرٌ للإتيان بجملة أُخرى ، أعني قوله :

__________________

(١) يونس : ١٨.

٥٣٩

(وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا) بعد قوله : (وَيَعْبُدُونَ ...) إذ لا فائدة لهذا التكرار ، وتوهم أنّ الجملة الثانية توضيحٌ للأُولى خلاف الظاهر ؛ فإنّ عطف الجملة الثانية على الاولى يدلّ على المغايرة بينهما.

إذاً لا دلالة للآية على أنّ الاستشفاع بالأصنام كان عبادة ، فضلاً عن كون الاستشفاع بالأولياء المقربين عبادة لهم.

وهناك فرق واضح بين طلب شفاعة الموحِّد من أفضل الخليقة ـ عليه أفضل التحية ـ وطلب شفاعة المشرك ، حيث إنّ الأوّل يطلب الشفاعة منه بما أنّه عبدٌ صالح أذن له سبحانه ليشفع في عباده تحت شرائط خاصة ، بخلاف المشرك ؛ فإنّه يطلب الشفاعة منه ، بما أنّه ربّ يملك الشفاعة يعطيها من يشاء ويمنعها عمّن يشاء. أفيصح عطفُ أحدهما على الآخر والحكم بوحدتهما جوهراً وحقيقة؟!

كيف يصح لمسلم واع اتخاذ المشابهة دليلاً على الحكم ، فلو صح ذلك لزم عليه الحكم بتحريم أعمال الحج والعمرة فانّها مشابهة لأعمال المشركين ، أمام أربابهم وآلهتهم.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (١).

السؤال الخامس : إن طلب الشفاعة دعاء الغير ، وهو عبادة له

طلب الحاجة من غيره سبحانه حرام ؛ فانّ ذلك دعاء لغير الله وهو حرام. قال سبحانه : (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) (٢) وإذا كانت الشفاعة ثابتة لأوليائه وكان طلب الحاجة من غيره حراماً فالجمع بين الأمرين يتحقّق بانحصار جواز طلبها

__________________

(١) ق : ٣٧.

(٢) الجن : ١٨.

٥٤٠