في ظلال التّوحيد

الشيخ جعفر السبحاني

في ظلال التّوحيد

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: نشر مشعر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-6293-82-4

الصفحات: ٧١٢

الفصل السادس

الشفاعة

في الكتاب والسنّة

٤٨١
٤٨٢

تمهيد

يتّسم الدين الإسلامي في أبرز ما يتّسم به ، بأنّه دين الدنيا والآخرة ، ومن هنا يجب على المسلم أن يهتم بالجانبين ، فيعمل لآخرته كما يعمل لدنياه ، ويتزوّد من حياته الحاضرة لحياته الأبديّة المستقبلة كما قال تعالى : (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) (١)

ولهذا كان من الواجب على المسلم أن يعمل بالفرائض الدينية ، ويتجنّب المحرّمات الإلهية ، ويلتزم بقواعد الشرع الحنيف ، جهد إمكانه ، فيصلّي الخمس ، ويصوم شهر رمضان ، ويزكّي ماله ، ويحجّ بيت الله الحرام ، ويأمر بكل خير قَدِر عليه ، ويعتمد في تحصيل السعادة الأُخروية على العمل الصالح ، والطاعة لله تعالى ، كيف وقد نصّت الآيات القرآنية على أنّ كلّ امرئ مرهون بعمله ، إن خيراً فخير وإن شراً فشر؟!

كما نصّت الأحاديث الشريفة المأثورة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعترته الطاهرة وصرّحت بضرورة العمل والطاعة للحصول على النجاة والسعادة الأُخرويّتين.

__________________

(١) القصص : ٧٧.

٤٨٣

فقد روي أنّ الإمام الصادق عليه‌السلام أمر بحضور جميع أقربائه قبيل وفاته ، ثمّ التفت إليهم وأكّد على أهمية الصلاة. وإليك الحديث بأكمله :

روى أبو بصير عن أصحاب الإمام قال : دخلت على أُمّ حميدة (زوجة الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام) أُعزِّيها بأبي عبد الله عليه‌السلام فبكت وبكيت لبكائها ، ثمّ قالت : يا أبا محمد لو رأيت أبا عبد الله عليه‌السلام عند الموت لرأيت عجباً ، فتح عينيه ، ثمّ قال : «اجمعوا كلّ من بيني وبينه قرابة».

قالت : فما تركنا أحداً إلّا جمعناه ، فنظر إليهم ثمّ قال : «إنّ شفاعتنا لا تنال مستخفاً بالصلاة» (١).

فليس للمسلم أن يعول على شيء إذا أهمل الواجبات وترك الفرائض ، أو استهان بها.

نعم ، خلق الإنسان ضعيفاً ـ بحكم جبلته ـ محاصَراً بالشهوات ، محاطاً بالغرائز ، ولذلك ربما سها ولها ، وربّما بدرتْ منه معصية ، واستحوذ عليه الشيطان ، ووقع في شباكه وشراكه ، فعصى من حيث لا يريد ، وخالف من حيث لا يجب ، ثمّ تعرّض لضغط الوجدان ، ووخْزِ الضمير ، فهل له أن ييأس في هذه الحالة ويقنط ، وقد قال ربّ العزّة : (لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) (٢)

كلّا ليس له إلّا الرجاء في رحمة الله ، والأمل في عفوه ولطفه ، وقد فتح الإسلام نوافذ الأمل والرجاء أمام العاصي النادم ، ليعود إلى ربه ، ويواصل مسيرة تكامله في ثقة وطمأنينة.

ومن هذه النوافذ : التوبة والإنابة والاستغفار ، ومنها : الشفاعة للمذنبين ، الشفاعة التي تنالهم وفق معايير وردت في الكتاب والسنّة ، الشفاعة التي يبعث

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٧١.

(٢) يوسف : ٨٧.

٤٨٤

الأمل فيها بصيصاً من الرجاء في نفوس العصاة ، ويمنع من قنوطهم ويأسهم ، ويبعث فيهم روح العمل والنشاط.

وهذا لا يعني تمهيد الطريق للعصاة ، لما للشفاعة من شروط وقيود ، بل هي عملية زرع الأمل ، والرجاء في النفوس ، ما دام الأصل هو العمل والإتيان بالواجبات واجتناب المحرمات.

وتوضيحاً لهذه الحقيقة ، وتبييناً لهذا المفهوم القرآني الإسلامي أعددنا هذا الفصل ، آملين أن نلقي الضوء على إحدى السبل الإسلامية لمعالجة اليأس والقنوط الذي يصيب المذنبين ويقع الكلام في مباحث.

٤٨٥

المبحث الأوّل

موقف علماء الإسلام من الشفاعة

أجمع علماء الأُمّة الإسلاميّة على أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أحد الشفعاء يوم القيامة مستدلّين على ذلك بقوله سبحانه : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) (١) والذي أُعْطي هو حقّ الشفاعة الذي يُرضيه ، وبقوله سبحانه : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (٢) واتّفق المفسّرون على أنّ المقصود من المقام المحمود ، هو مقام الشفاعة.

إنّ الشفاعة من المعارف القرآنية التي لا يصح لأحد من المسلمين إيجاد الخلاف والنقاش في أصلها ، وإن كان يمكن لهم الاختلاف في بعض فروعها ، فها نحن نورد آراء كبار علماء الإسلام ـ من القدامى والجدد ـ حتى يُعلَم موقفهم من هذا الأصل :

١ ـ أبو منصور الماتريدي السمرقندي (ت ٣٣٣ ه‍) ، إمام أهل السنّة في المشرق الإسلامي ، قال بعد أن أورد قوله سبحانه : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) (٣) ،

__________________

(١) الضحى : ٥.

(٢) الإسراء : ٧٩.

(٣) البقرة : ٤٨.

٤٨٦

وقوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (١) قال : إنّ الآية الأُولى وإن كانت تنفي الشفاعة ، ولكن هنا شفاعة مقبولة في الإسلام وهي التي تشير إليها هذه الآية (٢).

٢ ـ تاج الإسلام أبو بكر الكلاباذي (ت ٣٨٠ ه‍) قال : إنّ العلماء قد أجمعوا على أنّ الإقرار بجملة ما ذكر الله سبحانه وجاءت به الروايات عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الشفاعة واجب ، لقوله تعالى : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) (٣) ولقوله : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (٤) وقوله : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (٥). وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي» (٦).

٣ ـ الشيخ المفيد (٣٣٦ ـ ٤١٣ ه‍) قال : اتّفقت الإماميّة على أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يشفع يوم القيامة لجماعة من مرتكبي الكبائر من أُمّته ، وإنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام يشفع في أصحاب الذنوب من شيعته ، وإنّ أئمة آل محمد : كذلك ، وينجي الله بشفاعتهم كثيراً من الخاطئين (٧).

وقال في موضع آخر : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يشفع يوم القيامة في مذنبي أُمّته فيشفّعه الله عزوجل ، ويشفع أمير المؤمنين فيشفّعه الله عزوجل ، وتشفع الأئمة في مثل ما ذكرناه فيُشفّعهم الله ، ويشفع المؤمن البر لصديقه المؤمن المذنب فتنفعه شفاعته ، ويشفّعه الله. وعلى هذا القول إجماع الإمامية إلّا من شذّ منهم ، وقد نطق

__________________

(١) الأنبياء : ٢٨.

(٢) تفسير الماتريدي المعروف ب «تأويلات أهل السنّة» : ص ١٤٨ ، والمشار إليه هي الآية الثانية.

(٣) الضحى : ٥.

(٤) الإسراء : ٧٩.

(٥) الأنبياء : ٢٨.

(٦) التعرّف لمذهب أهل التصوّف : ص ٥٤ ـ ٥٥ تحقيق د. عبد الحليم محمود ، شيخ الأزهر الأسبق.

(٧) أوائل المقالات ، ص ١٥.

٤٨٧

به القرآن ، وتظاهرت به الأخبار ، قال الله تعالى في الكفّار عند إخباره عن حسراتهم وعلى الفائت لهم ممّا حصل لأهل الإيمان : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) (١) ؛ وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله «إنّي أشفع يوم القيامة فأُشفّع ، ويشفع عليّ عليه‌السلام فيشفّع ، وإنّ أدنى المؤمنين شفاعة يشفع في أربعين من إخوانه» (٢).

٤ ـ الشيخ الطوسي (٣٨٥ ـ ٤٦٠ ه‍) قال : حقيقة الشفاعة عندنا أن يكون في إسقاط المضار دون زيادة المنافع ، والمؤمنون عندنا يشفع لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فَيشفِّعه الله تعالى ويسقط بها العقاب عن المستحقين من أهل الصراط لما روي من قوله عليه‌السلام : «ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي ، والشفاعة ثبت عندنا للنبي ، وكثير من أصحابه ولجميع الأئمة المعصومين وكثير من المؤمنين الصالحين» (٣).

٥ ـ الإمام أبو حفص النسفي (ت ٥٣٨ ه‍) قال : والشفاعة ثابتة للرسل والأخيار في حقّ الكبائر بالمستفيض من الأخبار (٤).

وقد أيّد التفتازاني في «شرح العقائد النسفية» هذا الرأي وصدّقه دون أي تردّد أو توقّف (٥).

٦ ـ الزمخشري (ت ٥٣٨ ه‍) قال في تفسير قوله تعالى : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) (٦) : كانت اليهود تزعم أنّ آباءهم الأنبياء يشفعون لهم فَأُويِسوا.

ثمّ أتى بكلام في حد الشفاعة وأنّها للمطيعين لا للعاصين ، وسنوافيك عن ذلك

__________________

(١) الشعراء : ١٠٠ ـ ١٠١.

(٢) أوائل المقالات : ص ٥٣.

(٣) التبيان ١ : ٢١٣ ـ ٢١٤.

(٤) العقائد النسفية : ص ١٤٨.

(٥) المصدر نفسه.

(٦) البقرة : ٤٨.

٤٨٨

في فصل خاص (١).

٧ ـ القاضي عياض بن موسى (ت ٥٤٤ ه‍) قال : مذهب أهل السنّة هو جواز الشفاعة عقلاً ووجودها سمعاً بصريح الآيات وبخبر الصادق ، وقد جاءت الآثار التي بلغت بمجموعها التواتر بصحّة الشفاعة في الآخرة لمذنبي المؤمنين ، وأجمع السلف الصالح ومن بعدهم من أهل السنّة عليها (٢).

٨ ـ الإمام ناصر الدين أحمد بن محمد بن المنير الاسكندري المالكي قال في كتابه «الانتصاف فيما تضمّنه الكشاف من الاعتزال» : وأمّا من جحد الشفاعة فهو جدير أن لا ينالها ، وأمّا من آمن بها وصدّقها وهم أهل السنّة والجماعة فأُولئك يرجون رحمةَ الله ، ومعتقدهم أنّها تنال العصاة من المؤمنين وإنما ادّخرت لهم ، وليس في الآية دليل لمنكريها ؛ لأنّ قوله «يوماً» في قوله : (٣) (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) أخرجه منكراً. ولا شك أنّ في القيامة مواطن ، يومها معدود بخمسين ألف سنة. فبعض أوقاتها ليس زماناً للشفاعة وبعضها هو الوقت الموعود ، وفيه المقام المحمود لسيّد البشر ، عليه أفضل الصلاة والسلام.

وقد وردت آيات كثيرة ترشد إلى تعدّد أيامها واختلاف أوقاتها ، منها قوله تعالى : (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) (٤) ، مع قوله : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) (٥) ، فيتعيّن حمل الآيتين على يومين مختلفين ووقتين متغايرين ، أحدهما محل للتساؤل ، والآخر ليس له ، وكذلك الشفاعة ، وأدلّة

__________________

(١) الكشاف ١ : ٣١٤ ـ ٣١٥.

(٢) صحيح مسلم بشرح النووي ٣ : ٣٥ ، ط دار إحياء التراث العربي.

(٣) البقرة : ٤٨.

(٤) المؤمنون : ١٠١.

(٥) الصافات : ٢٧.

٤٨٩

ثبوتها لا تُحصى كثرة (١).

٩ ـ البيضاوي قال في تفسير قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) (٢) : ربّما تجعل الآية ذريعة على نفي الشفاعة لأهل الكبائر. وأُجيبوا بأنّها مخصوصة بالكفّار ، للآيات والأحاديث الواردة في الشفاعة. ويؤيده أنّ الخطاب هنا مع الكفّار ، والآية نزلت ردّاً لما كانت اليهود تزعم أنّ آباءهم تشفع لهم (٣).

١٠ ـ الفتال النيسابوري ـ من علماء القرن السادس الهجري ـ قال : لا خلاف بين المسلمين أنّ الشفاعة ثابتة مقتضاها إسقاط المضار والعقوبات (٤).

١١ ـ الرصاص ـ من علماء القرن السادس الهجري ـ قال في كتابه «مصباح العلوم في معرفة الحي القيوم» : إنّ شفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم القيامة ثابتة قاطعة (٥).

١٢ ـ ابن تيمية الحرّاني الدمشقي (ت ٧٢٨ ه‍) قال : للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في يوم القيامة ثلاث شفاعات ـ إلى أن قال : ـ وأمّا الشفاعة الثالثة فيشفع في من استحقّ النار وهذه الشفاعة له صلى‌الله‌عليه‌وآله ولسائر النبيّين والصدّيقين وغيرهم في من استحق النار أن لا يدخلها ويشفع في من دخلها (٦).

١٣ ـ ابن كثير الدمشقي (ت ٧٧٣ ه‍) قال في تفسير قوله سبحانه : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (٧) : هذا من عظمته وجلاله وكبريائه عزوجل أنّه لا

__________________

(١) الانتصاف المطبوع بهامش الكشاف ١ : ٢١٤ ، ط ١٣٦٧ ه‍.

(٢) البقرة : ٤٨.

(٣) أنوار التنزيل وأسرار التأويل ١ : ١٥٢.

(٤) روضة الواعظين : ٤٠٦.

(٥) مصباح العلوم في معرفة الحي القيوم المعروف ب (ثلاثين مسألة).

(٦) مجموعة الرسائل الكبرى ١ : ٤٠٣ ـ ٤٠٤.

(٧) البقرة : ٢٥٥.

٤٩٠

يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده إلّا بإذنه له في الشفاعة كما في حديث الشفاعة عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : «آتي تحت العرش فأخرّ ساجداً ، فيدعني ما شاء الله أن يدعني ، ثمّ يقال : ارفع رأسك وقل تسمع ، واشفع تشفع. قال : فيحدّ لي حدّاً فأدخلهم الجنّة» (١).

١٤ ـ نظام الدين القوشجي (ت ٨٧٩ ه‍) قال في شرحه على «تجريد الاعتقاد»: اتفق المسلمون على ثبوت الشفاعة لقوله تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) وفسّر بالشفاعة (٢).

١٥ ـ المحقّق الدواني قال : الشفاعة لدفع العذاب ، ورفع الدرجات حق لمن أذن له الرحمن من الأنبياء ، والمؤمنين بعضهم لبعض ، لقوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) (٣).

١٦ ـ الشعراني قال في المبحث السبعين : إنّ محمداً هو أوّل شافع يوم القيامة ، وأوّل مشفّع وأولاه فلا أحد يتقدّم عليه ، ثمّ نقل عن جلال الدين السيوطي : إنّ للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم القيامة ثمان شفاعات ، وثالثها : فيمن استحقّ دخول النار أن يدخلها (٤).

١٧ ـ العلّامة المجلسي (ت ١١١٠ ه‍) قال : أمّا الشفاعة فاعلم أنّه لا خلاف فيها بين المسلمين بأنّها من ضروريات الدين وذلك بأنّ الرسول يشفع لأُمّته يوم القيامة ، بل للأُمم الأُخرى ، غير أنّ الخلاف إنّما هو في معنى الشفاعة وآثارها هل هي بمعنى الزيادة في المثوبات ، أو إسقاط العقوبة عن المذنبين؟ والشيعة ذهبت إلى

__________________

(١) تفسير ابن كثير ١ : ٣٠٩. والحديث مروي في صحيح البخاري في تفسير سورة الإسراء ، ج ٦ ، لكن بلفظ آخر.

(٢) شرح التجريد : ص ٥٠١ ، ط ١٣٠٧ ه‍.

(٣) شرح العقائد العضدية : ص ٢٠٧ ، ط مصر.

(٤) اليواقيت والجواهر ٢ : ١٧٠.

٤٩١

أنّ الشفاعة تنفع في إسقاط العقاب وإن كانت ذنوبهم من الكبائر ، ويعتقدون أيضاً بأنّ الشفاعة ليست منحصرة في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة من بعده ، بل للصالحين أن يشفعوا بعد أن يأذن الله لهم بذلك (١).

١٨ ـ محمد بن عبد الوهاب (١١١٥ ـ ١٢٠٦ ه‍) قال : وثبتت الشفاعة لنبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم القيامة ولسائر الأنبياء والملائكة والأولياء والأطفال حسبما ورد ، ونسألها من المالك لها والآذن فيها بأن نقول : اللهمّ شفِّعْ نبينا محمداً فينا يوم القيامة أو اللهمّ شَفِّعْ فينا عبادك الصالحين ، أو ملائكتك ، أو نحو ذلك مما يطلب من الله لا منهم ـ إلى أن قال : ـ إنّ الشفاعة حقّ في الآخرة ، ووجب على كلّ مسلم الإيمان بشفاعته ، بل وغيره من الشفعاء إلّا أنّ رجاءها من الله ، فالمتعيّن على كل مسلم صرف وجهه إلى ربّه ، فإذا مات استشفع الله فيه نبيه (٢).

١٩ ـ السيد سابق قال : المقصود بالشفاعة سؤال الله الخير للناس في الآخرة. فهي نوع من أنواع الدعاء المستجاب ، ومنها الشفاعة الكبرى ، ولا تكون إلّا لسيّدنا محمد رسول الله ؛ فانّه يسأل الله سبحانه أن يقضي بين الخلق ليستريحوا من هول الموقف ، فيستجيب الله له فيغبطه الأوّلون والآخرون ، ويظهر بذلك فضله على العالمين وهو المقام المحمود الذي وعد الله به في قوله سبحانه : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (٣). ثمّ نقل الآيات والروايات الخاصة بالشفاعة والمثبتة لها وقد ذكر بعض شروط قبولها (٤).

٢٠ ـ الدكتور سليمان دنيا قال : والشفاعة لدفع العذاب ورفع الدرجات حقّ

__________________

(١) بحار الأنوار ٨ : ٢٩ ـ ٦٣ ؛ حق اليقين : ص ٤٧٣.

(٢) الهدية السنية ، الرسالة الثانية : ص ٤٢.

(٣) الإسراء : ٧٩.

(٤) العقائد الإسلامية : ص ٧٣.

٤٩٢

لمن أذن له الرحمن من الأنبياء : والمؤمنين بعضهم لبعض لقوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) (١) وقوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (٢) (٣).

٢١ ـ الشيخ محمد الفقي قال : وقد أعطى الله الشفاعة لنبيه ولسائر الأنبياء والمرسلين وعباده الصالحين وكثير من عباده المؤمنين ؛ لأنّه وإن كانت الشفاعة كلّها لله كما قال : (لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) (٤) إلّا أنّه تعالى يجوز أن يتفضّل بها على من اجتباهم من خلقه واصطفاهم من عباده وكما يجوز أن يعطي من ملكه ما شاء لمن شاء ولا حرج (٥).

هذا نزر من كثير ، وغيض من فيض أوردناه ليكون القارئ على بصيرة من موقف علماء الإسلام من هذه المسألة المهمة. والاستقصاء لكلمات المفسّرين والمحدّثين والمتكلّمين ، يدعونا إلى تأليف مفرد في خصوص هذا الفصل والغرض إراءة نماذج من كلماتهم. وهي نصوص وتصريحات لا تترك ريباً لمرتاب ، ولا شكاً لأحد بأنّ الشفاعة أصل من أُصول الإسلام نطق بها الكتاب الكريم ، وصرّحت بها السنّة النبوية والأحاديث المعتبرة من العترة الطاهرة ، وأنّ الاختلاف إنّما هو في معناها وبعض خصوصياتها وسنوافيك بالتفاصيل.

__________________

(١) طه : ١٠٩.

(٢) البقرة : ٢٥٥.

(٣) محمد عبده ، بين الفلاسفة والكلاميين ٢ : ٦٢٨.

(٤) الزمر : ٤٤.

(٥) التوسل والزيارة في الشريعة المقدسة ، ص ٢٠٦ ، ط. مصر.

٤٩٣

المبحث الثاني

الشفاعة في القرآن الكريم

وردت مادة الشفاعة في القرآن الكريم بصورها المتنوعة ثلاثين مرّة في سور شتّى ، ووقعت فيها مورداً للنفي تارة والإثبات أُخرى. هذا وينمّ كثرة ورودها والبحث حولها عن مدى اهتمام القرآن بهذا الأصل سواء في مجال النفي أو في مجال الإثبات. غير أنّ الاستنتاج الصحيح من الآيات يحتاج إلى جمع الآيات على صعيد واحد ، حتى يفسّر بعضها بعضاً ويكون البعض قرينة على الأُخرى.

ومن الواضح أنّ الآيات المتعلّقة بالشفاعة على أصناف ، يرمي كلّ صنف إلى هدف خاص كالآتي :

١ ـ الصنف الأوّل : ما ينفي الشفاعة

وهو آية واحدة ، يقول سبحانه وتعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (١) :

__________________

(١) البقرة : ٢٥٤.

٤٩٤

إلّا أنّ الآية اللاحقة لهذه الآية تصرّح بوجود الشفاعة عند الله سبحانه ، إلّا أنّها مشروطة بإذنه : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (١).

قال العلّامة الطباطبائي : «إنّ لوازم المخالّة إعانة أحد الخليلين الآخر في مهام أُموره ، فإذا كانت لغير وجه الله كان نتيجتها الإعانة على الشقوة الدائمة والعذاب الخالد كما قال تعالى بشأن الظالمين يوم القيامة : (يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً ٢٨ لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي) (٢). أمّا الأخلّاء من المتقين فإنّ خُلَّتهم تتأكد وتنفعهم يومئذٍ. وفي الخبر النبوي : إذا كان يوم القيامة انقطعت الأرحام وقلّت الأنساب وذهبت الإخوة إلّا الأخوة في الله ، وذلك قوله : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)(٣) (٤).

وعلى ذلك ، فكما أنّ المنفيّ هو قسم خاص من المخالة دون مطلقها ، فهكذا الشفاعة ، فالمنفيّ بحكم السياق ، قسم خاص من الشفاعة. أضف إلى ذلك أنّ الظاهر هو نفي الشفاعة في حق الكفّار بدليل ما ورد في ذيل الآية ، حيث قال : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

٢ ـ الصنف الثاني : ما يفنّد عقيدة اليهود في الشفاعة

وهو الآيات التي خاطبت اليهودَ الذين كانوا يعتقدون بأنّ أنبياءهم وأسلافهم يشفعون لهم وينجُّوهم من العذاب سواء كانوا عاملين بشريعتهم أو عاصين ، وأنّ مجرد الانتماء والانتساب يكفيهم في ذلك المجال. يقول تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ

__________________

(١) البقرة : ٢٥٥.

(٢) الفرقان : ٢٨ ـ ٢٩.

(٣) الزخرف : ٦٧.

(٤) تفسير الميزان ١٨ : ١٢٨.

٤٩٥

اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (١).

إنّ وحدة السياق تقضي بأنّ الهدفَ من نفي قبول الشفاعة هو الشفاعة الخاطئة التي كانت تعتقدها اليهود في تلك الفترة من دون أن يشترطوا في الشفيع والمشفوع له شرطاً أو أمراً. ولا صلة لها بالشفاعة المحدودة المأذونة.

٣ ـ الصنف الثالث : ما ينفي شمولَ الشفاعة للكفّار

وهو الآيات التي يستشف منها نفي وجود الشفيع يوم القيامة للكفّار الذين انقطعت علاقتهم عن الله لأجل الكفر به وبرسله وكتبه ، كما انقطعت علاقتهم الروحية عن الشفعاء الصالحين لأجل انهماكهم في الفسق والأعمال السيّئة ، فانّه ما لم يكن بين الشفيع والمشفوع له ، ارتباطٌ روحي لا يقدر أو لا يقوم الشفيع على إنقاذه وتطهيره وتزكيته. يقول تعالى : (يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٢) ويقول تعالى أيضاً : (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ* وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ* فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ* وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) ويقول أيضاً : (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ* حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ* فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) (٣).

__________________

(١) البقرة : ٤٧ ـ ٤٨.

(٢) الأعراف : ٥٣.

(٣) المدثر : ٤٦ ـ ٤٨.

٤٩٦

٤ ـ الصنف الرابع : ما ينفي صلاحية الأصنام للشفاعة

وهذا الصنف يرمي إلى نفي صلاحية الأصنام للشفاعة ، وذلك لأنّ عرب الجاهلية كانت تعبد الأصنام لاعتقادها بشفاعتها عند الله ، وهذه الآيات هي :

أ ـ (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (١).

ب ـ (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(٢).

ج ـ (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ) (٣).

د ـ (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ)(٤).

ه ـ (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ) (٥).

والحاصل أنّ القرآن مع أنّه فنّد العقائد الجاهلية وعقائد الوثنيين في باب الشفاعة ، وأبطل كون النظام السائد في الآخرة عين النظام السائد في الدنيا ، لم يُنكِر الشفاعة بالمرّة ، بل أثبتها لأوليائها ، في إطار خاص وبمعايير خاصة. وعلى ذلك فالآيات النافية نزلت بشأن تلك العقيدة السخيفة التي التزمت بها الوثنية وزعمت

__________________

(١) الأنعام : ٩٤.

(٢) يونس : ١٨.

(٣) الروم : ١٣.

(٤) الزمر : ٤٣.

(٥) يس : ٢٣.

٤٩٧

بموجبها وحدة النظامين ، وأنّ تقديم القرابين والصدقات إلى الأصنام والخشوع والبكاء لديهم، يُصحِّح قيامهم بالشفاعة وأنّهم قادرون على ذلك بتفويض منه سبحانه إليهم ، بحيث صاروا مستقلين في الفعل والترك.

والآيات المثبتة تشير إلى الشفاعة الصحيحة التي ليست لها حقيقةٌ سوى جريان فيضه سبحانه ومغفرته من طريق أوليائه إلى عباده بإذنه ومشيئته تحتَ شرائط خاصة.

٥ ـ الصنف الخامس : يخصّ الشفاعة به سبحانه

وهذه الآيات تبيّن أنّ الشفاعة مختصّة بالله سبحانه لا يشاركه فيها غيره ، والآيات الكريمة هي :

أ ـ (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (١).

ب ـ (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) (٢).

ج ـ (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) (٣).

د ـ (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٤).

وجدير بالذكر أنّ الله سبحانه لا يشفع لأحد عند أحد ؛ فإنّه فوق كل شيء ،

__________________

(١) الأنعام : ٥١.

(٢) الأنعام : ٧٠.

(٣) السجدة : ٤.

(٤) الزمر : ٤٤.

٤٩٨

وذلّ كل شيء لديه ، وبذلك يُصبح معنى قوله سبحانه : (لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) رفضاً لعقيدة المشركين التي أشار إليها سبحانه في آية سابقة ، أعني : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ) (١) ، فيكون المراد أنّ كل شفاعة فانّها مملوكة لله فانّه المالك لكل شيء ومنه شفاعتهم ، فلا يشفع أحد إلّا بإذنه.

فهنا شفاعتان : إحداهما لله ، والأُخرى لعباده المأذونين. فما لله فمعناها : مالكيّته لكل شفاعة مأذونة بالأصالة لا أنّه سبحانه يشفع لأحد لدى أحد. وأما ما لعباده المأذونين ، فهي شفاعتهم لمن ارتضاه سبحانه : وسنوافيك توضيحه في الصنف السادس من الآيات.

٦ ـ الصنف السادس : يثبت الشفاعة لغيره سبحانه بشروط

إنّ هذا الصنف من الآيات يصرّح بوجود شفيع غير الله سبحانه وأن شفاعته تقبل عند الله تعالى في إطار خاص وشرائط معيّنة في الشفيع والمشفوع له. وهذه الآيات وإن لم تتضمن أسماء الشفعاء ، أو أصناف المشفوع لهم ، إلّا أنّها تحدّد كلّاً منهما بحدود واردة في الآيات :

أ ـ (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (٢).

ب ـ (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) (٣).

ج ـ (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) (٤).

والضمير في قوله (لا يَمْلِكُونَ) يرجع إلى الآلهة التي كانت تعبد ، وأُشير إليه

__________________

(١) الزمر : ٤٣.

(٢) البقرة : ٢٥٥.

(٣) يونس : ٣.

(٤) مريم : ٨٧.

٤٩٩

في قوله سبحانه : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا* كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) (١).

د ـ (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) (٢).

ه ـ (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (٣).

و ـ (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(٤).

والضمير المتّصل في «يدعون» يرجع إلى الآلهة الكاذبة كالأصنام فهؤلاء لا يملكون الشفاعة إلّا من شهد بالحق وهم يعلمون ، أي شهد بعبوديّة ربّه ووحدانيّته كالملائكة والمسيح.

ويستفاد من هذه الآيات الأُمور التالية :

١ ـ إنّ هذه الآيات تصرّح بوجود شفعاء يوم القيامة يشفعون بشروط خاصة وإن لم تصرّح بأسمائهم وسائر خصوصياتهم.

٢ ـ إنّ شفاعتهم مشروطة بإذنه سبحانه ، حيث يقول : (إلّا بإذنه).

٣ ـ يشترط في الشفيع أن يكون ممّن يشهد بالحق ، أي يشهد بالله سبحانه ووحدانيته وسائر صفاته.

٤ ـ أن لا يظهر الشفيع كلاماً يبعث غضب الله سبحانه ، بل يقول قولاً مرضياً عنده ، ويدلّ عليه قوله : (وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً).

__________________

(١) مريم : ٨١ ـ ٨٢.

(٢) طه : ١٠٩.

(٣) سبأ : ٢٣.

(٤) الزخرف : ٨٦.

٥٠٠