في ظلال التّوحيد

الشيخ جعفر السبحاني

في ظلال التّوحيد

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: نشر مشعر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-6293-82-4

الصفحات: ٧١٢

بدنة ، وإنّ هشام بن العاص نحر خمساً وخمسين ، وإنّ عمراً سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ذلك فقال: «أمّا أبوك فلو أقرّ بالتوحيد فصمت وتصدّقت عنه نفعه ذلك». ورواه الإمام أحمد.

و ـ انتفاع الميت بالذكر والدعاء والقراءة والتحية :

١٦ ـ روى ابن ماجة في صحيحه : إنّ رسول الله قال : «اقرءوا (يس) على موتاكم».

١٧ ـ وعن أبي هريرة : «زوروا موتاكم ب (لا إله إلّا الله)».

١٨ ـ «ما من رجل يزور قبر حميمه فيسلّم عليه ويقعد عنده إلّا ردّ عليه‌السلام وأنس به حتى يقوم من عنده».

١٩ ـ «ما من رجل يمرّ بقبر كان فيه (من) يعرفه في الدنيا فيسلّم عليه إلّا عرفه وردّ عليه‌السلام».

٢٠ ـ «ما الميت في قبر إلّا شبه الغريق المتغوث ينتظر دعوة من أب أو أُمّ أو ولد أو صديق ثقة ، فإذا لحقته كانت أحبّ إليه من الدنيا وما فيها ، وإنّ الله عزوجل ليدخل على أهل القبور من دعاء أهل الدنيا أمثال الجبال ، وإنّ هدية الأحياء إلى الأموات الاستغفار لهم والصدقة عنهم».

٢١ ـ من حديث أبي هريرة رضى الله عنه : قال : قال رسول الله : «إذا صلّيتم على الميت فأخلصوا له الدعاء».

٢٢ ـ وفي صحيح مسلم من حديث عوف بن مالك : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على جنازة ، فحفظت دعاءه وهو يقول : «اللهمّ اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه ، وأكرم نزله وأوسع مدخله ، وأغسله بالماء والثلج والبرد ، ونقّه من الخطايا كما نقّيت الثوب الأبيض من الدنس ، وأبدله داراً خيراً من داره ، وأهلاً خيراً من

٤٦١

أهله ، وزوجاً خيراً من زوجه ، وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر وعذاب النار».

٢٣ ـ وفي السنن عن واثلة بن الأسقع قال : صلّى رسول الله على رجل من المسلمين فسمعته يقول : «اللهم إنّ فلاناً ابن فلان في ذمّتك وحبل جوارك ، فقهِ فتنة القبر وعذابه ، وأنت أهل الوفاء والحقّ ، فاغفر له وارحمه إنّك أنت الغفور الرحيم».

٢٤ ـ وفي السنن من حديث عثمان بن عفان (رض) كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال : «استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبت فإنّه الآن يسأل».

ولو استقصيت الصحاح والسنن لوقفت على روايات كثيرة من هذا القسم.

أضف إلى ذلك ما ننقله عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عند ما زار بقيع الغرقد ، من دعائه لأهله وترحيمه لهم.

إلى غير ذلك من الأحاديث والأخبار الواردة في هذا المجال ، ومن أراد التبسط فليرجع إلى مظانّها (١).

موقف المذاهب الإسلامية من هذه المسألة

وهؤلاء هم أئمة المذاهب الثلاثة (الحنبلي والشافعي والحنفي) يفتون بانتفاع الميت بعمل الحي حتى إذا لم يوص به ولم يكن له فيه سعي.

فهؤلاء هم فقهاء الحنابلة يقولون : ومن توفّي قبل أن يحجّ الواجب عليه سواء

__________________

(١) لاحظ للوقوف على مصادر هذه الروايات : صحيح مسلم ، كتاب النذر ٥ : ٧٣ ـ ٧٨ وكنز العمال ٦ : ٥٩٨ ـ ٦٠٢ / ١٧٠٥٠ ـ ١٧٠٧١ ، والروح لابن القيم : ص ١١٨ ـ ١٢١ وغيره ، والتوسل والزيارة في الشريعة الإسلامية للشيخ الفقي : ص ٢٢٩ وغيرها.

٤٦٢

أكان ذلك بعذر أو بغير عذر ، وجب عليه أن يخرج من جميع ماله نفقة حجة وعمرة ولو لم يوص (١).

وهذا هو الفقه الحنفي يقول : أمّا إذا لم يوص وتبرّع أحد الورثة أو غيرهم فإنّه يرجى قبول حجتهم عنه إن شاء الله (٢).

وهذا هو الشافعي يقول : فإن عجز عن مباشرة الحج بنفسه يحج عنه الغير بعد موته من تركته (ولم يقيد بالإيصاء وعدمه) (٣).

وقال ابن القيم : واختلفوا في العبادة البدنية كالصوم والصلاة وقراءة القرآن والذكر : فذهب الإمام أحمد وجمهور السلف إلى وصولها ، وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة ، نصّ على هذا الإمام أحمد في رواية محمّد بن أحمد الكحال قال : قيل لأبي عبد الله : الرجل يعمل الشيء من الخير من صلاة أو صدقة أو غير ذلك فيجعل نصفه لأبيه أو أُمّه ، قال : أرجو ، أو قال : الميت يصل إليه كل شيء من صدقة أو غيرها ، وقال : أيضاً اقرأ آية الكرسي ثلاث مرات وقل هو الله أحد وقل : اللهمّ إنّ فضله لأهل المقابر.

وقال : فقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنّفه والخلال في جامعه عن الشعبي بسند صحيح ، قال : كانت الأنصار إذا مات لهم الميت اختلفوا إلى قبره ، يقرءون القرآن.

وقال النووي في شرح المهذب : يستحب (أي للزائر للأموات) أن يقرأ ما تيسّر ويدعو لهم عقبها ، نص عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب.

وقال في الأذكار : قال الشافعي والأصحاب : يستحب أن يقرءوا عند الميت شيئاً من القرآن قالوا : فإن ختموا القرآن كلّه كان حسناً.

__________________

(١) الفقه على المذاهب الأربعة للجزري ١ : ٥٧١.

(٢) المصدر نفسه ١ : ٥٦٧.

(٣) المصدر نفسه ١ : ٥٦٩.

٤٦٣

ثمّ قال : وقد روي عن بعض الشافعية أنه لا يصل ثوابها للميت.

ونقل عن جماعات من الشافعية أنّهم أوّلوه بحمله على ما إذا لم يقرأ بحضرة الميت ، أو لم ينو ثواب قراءته له ، أو نواه ولم يدع (١).

وهذه الروايات وإن أمكن المناقشة في إسناد بعضها ، لكن المجموع متواتر مضموناً ، فلا يمكن ردّ الكل.

أضف إلى ذلك وجود روايات صحيحة قاطعة للنزاع ، والفقيه إذا لاحظ مع ما أفتى به أئمة المذاهب الثلاثة ينتزع ضابطة كلية ، وهو وصول ثواب كلّ عمل قربى إلى الميت إذا أتى به نيابة عنه ، سواء كان العمل داخلاً فيما ذكر من الموضوعات أو خارجاً عنها ؛ لأنّ الظاهر أنّ الموضوعات كالصوم والحج وغيرهما من باب المثال ، لا من باب الحصر.

فتلك الآيات والروايات وهذه الفتاوى صريحة في جواز القيام بعمل ما عن الميت من دون إيصاء ، وبعبارة أُخرى : من دون سعي له فيه ، فإذا لم ينتفع الميت بعمل الغير فكيف جاز الحج عنه أو وجب ، وكذا في سائر الأُمور الأُخرى كالاستغفار والدعاء له وشفاعته والتصدّق والعتق عنه.

وقال الدكتور عبد الملك السعدي : لم يثبت أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقرأ شيئاً من القرآن إذا زار المقابر سوى ما ورد أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «يس قلب القرآن اقرءوها على موتاكم» إذا حملنا لفظ الموتى على المعنى الحقيقي وهو خروج الروح من الجسد ، لأنّ حمله على حالة النزع حمل اللفظ على معناه المجازي ، والحمل على الحقيقة أولى ، ومع هذا فلا مانع من قراءة القرآن في المقبرة لعدم ورود المنع من ذلك ، ولأنّ الأموات يسمعون القراءة فيستأنسون بها ، ولأنّ الإمام أحمد كان يرى ذلك حيث قد نهى ضريراً يقرأ عند القبور ثمّ أذن له بعد أن سمع أنّ ابن عمر رضى الله عنه أوصى أن يقرأ

__________________

(١) الروح : ص ٢٣٥ ـ ٢٣٦.

٤٦٤

إذا دفن عنده بفاتحة البقرة وخاتمتها ، كما جاء في المغني لابن قدامة في مسألة زيارة القبور(١).

أمّا القول بأنّ القراءة عند القبور بدعة ، فغير مسلّم ؛ لأنّ البدعة هي التي لم يرد بها نص خاص أو لم تدخل تحت القواعد العامة للإسلام ، والقراءة مشروعة على الإطلاق في الإسلام بغضّ النظر عن مكان القراءة وزمانها ما لم يرد نهي عنها بوقت معين وزمان معين أو مكان معين (٢).

__________________

(١) المغني ٢ : ٥٦٧.

(٢) البدعة : ص ١٣٦.

٤٦٥

المبحث السادس

حول الشبهات المطروحة

لقد وقفت بفضل الآيات الكريمة الناصعة ، والسّنة النبوية المطهّرة ، وكلمات العلماء الأبرار على أنّ الموت ليس بمعنى فناء الإنسان وبطلانه ، أو القضاء على حقيقته وشخصيته ، بل هو قنطرة تعبر بالإنسان من دار إلى أُخرى إمّا محفوفة بالنعمة والراحة ، أو ملفوفة بالنقمة والتعذيب.

كما وقفت على أنّ الصلة بين الدارين غير منقطعة ، وأنّ هناك مبادلة كلام بكلام حتى إنّ البرزخيين يسمعون خفق نعال المشيِّعين.

كما اتّضح أنّ المؤمنين ينتفعون بخير الأعمال التي يقوم بها أقرباؤهم وأصدقاؤهم.

كلّ ذلك بفضل منه سبحانه على عباده حتى ينتفعوا بما يُقدّم لهم إخوانُهم ـ بعد انتقالهم من الدنيا ـ من أدعية صالحة ، وأعمال طيبة تهدى ثوابها إلى آبائهم وإخوانهم وأساتذتهم الذين وجبت حقوقهم عليهم.

غير أنّ تبعية الأهواء ربما تصدّ الإنسان عن البخوع للحق ، والخضوع أمام الحقيقة فيقدِّم رأيه الساقط على البراهين الواضحة ، فتارة يُنكر الحياة البرزخية ،

٤٦٦

وأُخرى يردّ الصلة بين الدارين ، وثالثة يَجحد انتفاع البرزخيين بأعمال إخوانهم المؤمنين ، كلّ ذلك في قوالب شبه ضئيلة نمّقته الأهواء والتقليد الأعمى ولا يقام له في سوق الاعتبار وزن ولا في مبوّأ الحق مقيل ، «فظُنَّ خيراً ولا تسأل عن الخبرِ» وإليك تلكم الشبهات مع أجوبتها :

الشبهة الأُولى

إنّ الحياة البرزخية حياة لا يعلمها إلّا الله ، فهي حياة مستقلّة نؤمن بها ولا نعلم ماهيتها ، وإن بين الأحياء والأموات حاجزاً يمنع الاتّصال فيما بينهم ، وعلى هذا فيستحيل الاتصال بينهم لا ذاتاً ولا صفاتٍ ، واللهُ سبحانه يقول : (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (١).

الجواب : هذه العبارة تتضمن أمرين قد خلط الكاتب بينهما :

أ ـ إنّ الحياة البرزخيّة لا نعلم حقيقتها.

ب ـ إنّ البرزخ حاجز مانع عن الاتصال.

فعلى هامش الأمر الأوّل نقول : إنّ حقيقة الحياة مطلقاً ـ مادية كانت أم برزخية ـ أمر مجهول لا يعلمها إلّا خالقها ، والذي يعود إلى إمكاننا هو التعرّف على آثارها وخصوصياتها ، فكما أنّ الحياة المادية معلومة لنا ببعض آثارها ، وكلّما يتقدّم العلم يتقدّم الإنسان في ميادين التعرّف على آثارها ، فهكذا الحياة البرزخية فهي مجهولة الحقيقة ولكنّها معلومة بآثارها ، وقد ذكر الكتاب العزيز بعضها ، وأنّ الشهداء الأحياء بحياتهم البرزخية يُرزَقون ، يَفْرحون بما آتاهم الله ، يَستبشِرون بالذين لم يلحقوا بهم ، ويستبشِرون بنعمة من الله ، وأنّهم ربّما يتمنّون أُموراً كتمنّي

__________________

(١) التوصّل إلى حقيقة التوسل : ص ٢٦٧ ، سورة المؤمنون : ١٠٠.

٤٦٧

حبيب النجار عرفان قومه بمصيره كما قال سبحانه : (قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ* بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) (١).

إنّ الحياة البرزخية لا تختص بالمؤمنين ، بل هناك من المذنبين الكافرين من تعمّهم كآل فرعون إذ يعرضون على النار غدواً وعشياً ، قال سبحانه : (وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ* النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (٢).

وهذا المقدار من المعرفة يكفينا في القضاء بأنّ لهم شعوراً واستشعاراً ودركاً وتعقّلاً وظواهر نفسية من الفرح والألم وغير ذلك ، ولا تتطلب مسألة التوسّل سوى كون المتوسّل به عاقلاً حيّاً مدركاً شاعراً ملتفتاً إلى الدنيا وما يجري فيها.

وعلى هامش الأمر الثاني نقول : إنّ البرزخ بمعنى الحاجز لا بمعنى انقطاع الصلة بين أهل الدنيا وأهل الآخرة ومن فسّره بالمعنى الثاني فإنّما أراد دعم مذهبه ، وإنّما هو مانع من رجوع الناس إلى حياتهم الدنيا.

ويدلّ على ذلك : أنّه سبحانه ذكر أمر البرزخ بعد ما ذكر تمنّي العصاة الرجوع إلى الدنيا ، قال سبحانه : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) (٣).

فقوله : «كلّا» ردع لتمنّي رجوعهم ، يعني لا يستجاب دعاؤهم ، ثمّ عاد سبحانه يؤكده بقوله : (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي حائل مانع من الرجوع إلى الدنيا إلى يوم يبعثون.

إنّ اتّخاذ موقف مسبق في المسألة يشكّل مانعاً من الوصول إلى الحقيقة ، ويعد

__________________

(١) يس : ٢٦ ـ ٢٧.

(٢) غافر : ٤٥ ـ ٤٦.

(٣) المؤمنون : ٩٩ ـ ١٠٠.

٤٦٨

من موانع المعرفة الصحيحة ، فبما أنّ القائل يقتفي أثر من يقول لا يصح التوسّل بدعاء النبي الأكرم في البرزخ ، فقد أراد نحتَ دليل لقوله ، ففسّر البرزخ في الآية بمعنى المانع عن الاتصال لا المانع عن انتقال أهل البرزخ إلى الدنيا ، فكأنّه يصوّر أنّ بين الحياتين ستاراً حديدياً أو جداراً ضخماً يمنع من اللقاء والسماع ، وليس لما يتخيّله دليل ، بل الدليل على خلافه ، ترى أنّه سبحانه يحكي عن ماء البحرين أحدهما عذب فرات والآخر ملح أُجاج ثمّ يقول : (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) أي مانع يمنع عن اختلاط الماءين ، يقول سبحانه : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ* بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) (١) ولم يكشف العلم عن وجود سدّ مادّي بين البحرين.

الشبهة الثانية

إنّ الله سبحانه يقول : «وأن ليسَ للإنسانِ إلّا ما سَعَى» (٢) فالآية تحصر الانتفاع في العمل الذي سعى فيه الإنسان قبل موته ، ومعه كيف ينتفع بعمل الغير الذي لم يسع فيه؟

والجواب على هذه الشبهة من وجوه متعددة ، ولكنّنا نذكر قبل الجواب ما يفيد القارئ في المقام ، وهو : أنّه لو كان ظاهر الآية هو ما يرومه المستدل وهو : أنّ الغير لا ينتفع بعمل الغير ما لم يكن قد تسبب إليه في الحياة ، لعارَض هذا ظاهر الآيات الأُخر والروايات المتضافرة في ذلك المجال ؛ إذ لو كان كذلك فما معنى استغفار المؤمنين لإخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان؟! وما معنى استغفار حملة العرش ومن حوله لأهل الإيمان؟! وما معنى هذه الروايات الواردة في مجالات مختلفة ، الدالة على انتفاع الميت بعمل الغير؟

__________________

(١) الرحمن ١٩ ـ ٢٠.

(٢) النجم : ٣٩.

٤٦٩

كل ذلك يعرب عن أنّ للآية مفاداً آخر وهو غير ما يرومه المستدل ، وإليك تفسير الآية بالإمعان فيها ، وذلك بوجوه :

الوجه الأوّل :

إنّ سياق الآيات المحيطة بهذه الآية سياق ذمّ وتنديد ، وسياق إنذار وتهديد ، فإنّ الله سبحانه يبدأ كلامه العزيز بقوله : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى* وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى * أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى * أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى * وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى* أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى * ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى * وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) (١).

فإنّك ترى أنّ الآيات الحاضرة مثل سبيكة واحدة صيغت لغرض الإنذار والتهديد ، خصوصاً قوله : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) فإنّ هذه الآية وقعت بين آيتين صريحتين في التهديد المتقدمة قوله : (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) والمتأخّرة قوله : (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) ثمّ قوله : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى).

فإنّ كلّ ذلك يعطي أنّ موضوع هذه الآية والآيات السابقة واللاحقة هو العقاب لا الثواب ، والسيئة لا الحسنة ، فالآية تصرّح بأنّ كل إنسان يحمل وزر نفسه ويعاقب بالعمل السيّئ الذي سعى فيه ، وأمّا العمل السيّئ الذي اقترفه الغير ولم يكن للإنسان سعي فيه فلا يؤخذ به ولا يعاقب عليه.

وعلى ذلك فاللام في قوله : «للإنسان» ليس للانتفاع بل اللام لبيان الاستحقاق ، وهو أحد معانيها (٢) مثل قوله : (وَيلٌ لِلمُطفّفينَ) (٣) وقوله : (لَهُمْ في

__________________

(١) النجم : ٣٣ ـ ٤٢.

(٢) قال ابن هشام في مغني اللبيب ١ : ٢٠٨ وللّام الجارة اثنان وعشرون معنى ، أحدها : الاستحقاق ، وهي الواقعة بين معنى وذات .. مثل : (لهم في الدنيا خزي).

(٣) المطففين : ١.

٤٧٠

الدُّنيا خِزيٌ ولَهمْ في الآخرةِ عذابٌ عَظيمٌ) (١) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الولد للفراش وللعاهر الحجر».

وعلى ذلك فالموضوع الذي تركّز عليه الآيات هو العقاب لا الثواب ، ولهذا تكون الآية خارجة عن مصبّ البحث ، وهذا ظاهر لمن أمعن النظر.

الوجه الثاني :

لو فرضنا أنّ محور البحث في هذه الآيات هو الأعم من الثواب والعقاب ، وأنّ اللّام في الآية للانتفاع ، ولكن الآية مع ذلك لا تنفي انتفاع الإنسان بعمل غيره إذا كان للإنسان المنتفع سعي فيه ولو بإيجاد أرضية صالحة للانتفاع به في ذاته ، في قبال من لا توجد في نفسه وذاته مثل هذه الأرضية والاستعداد والقابلية والمقتضى.

فمثلاً الإنسان ينتفع بشفاعة النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم القيامة باتفاق جميع المسلمين حتى الوهابيين ، ولكن انتفاعه هذا ناشئ من أنّه سعى لهذا الانتفاع حيث دخل في حظيرة الإيمان بالله وآياته.

وكذلك الأمر في استغفار المؤمنين للمؤمن بعد موته ، وكذا الأعمال الصالحة التي يهدى ثوابها إلى أحد وتكون على وجه يرتبط بسعيه في الدخول في زمرة المؤمنين.

ولذلك لو كان مشركاً أو ممّن تحبط أعماله ، لا يصل إليه ذلك الثواب ولا ينتفع بعمل الغير.

وقد تفطّن لهذا الجواب بعض أئمة أهل السنّة.

قال أبو الوفاء بن عقيل : إنّ الإنسان بسعيه وحسن معاشرته اكتسب الأصدقاء وأولد الأولاد وتزوّج وأسدى الخير وتودّد للناس ، فنشأ عن ذلك أنّهم ترحّموا عليه وأهدوا له العبادات ، وقد كان ذلك من آثار سعيه كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ

__________________

(١) البقرة : ١١٤.

٤٧١

أطيب ما أكل الرجل من كسبه» ويدلّ على ذلك الحديث الآخر : «وإذا مات العبد انقطع عمله إلّا من ثلاث ..».

وقال الشيخ الفقي : «هذا جواب يحتاج إلى إتمام ؛ فإنّ العبد بإيمانه وطاعته لله ورسوله قد سعى في انتفاعه بعمل إخوانه المؤمنين مع عمله ، كما ينتفع بعملهم في الحياة مع عمله ؛ فإنّ المؤمنين ينتفع بعضهم بعمل بعض في الأعمال التي يشتركون فيها ، كالصلاة في جماعة ؛ فإنّ كلّ واحد منهم تضاعف صلاته إلى سبع وعشرين ضعفاً لمشاركة غيره له في الصلاة ، فعمل غيره كان سبباً لزيادة أجره ، كما أنّ عمله كان سبباً لزيادة أجر الآخر.

أضف إلى ذلك أنّ القرآن لم ينف انتفاع الرجل بسعي غيره ، وإنّما نفى ملكه لغير سعيه ، وبين الأمرين فرق كبير ، فأخبر تعالى أنّه لا يملك إلّا سعيه ، فإن شاء أن يبذله لغيره ، وإن شاء أن يبقيه لنفسه ، فهو سبحانه لم يقل لا ينتفع إلّا بما سعى (١).

الوجه الثالث :

إنّ الآية بصدد بيان أنّ عمل كل إنسان راجع إليه دون غيره ، وأين هذا من عدم انتفاع الإنسان بعمل الغير؟ فإنّه غير داخل في منطوق الآية ولا في مفهومها ، ولا الآية ناظرة إلى نفيه.

وإن شئت قلت : إنّ الآية بصدد بيان أنّ كلّ إنسان رهن عمله ، فإن عمل شراً فلا يتحمّله غيره (ولا تَزرُ وازرةٌ وِزرَ أُخرى) (٢) ، وإن عمل خيراً فيسعد به ويرى عمله وسعيه ف «الناس مجزيّون بأعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر» و (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) (٣) ، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً

__________________

(١) التوسّل والزيارة : ٢٣٤.

(٢) الإسراء : ١٥.

(٣) الجاثية : ١٥.

٤٧٢

يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (١) ، وهذه هي الضابطة الأصلية في حياة الإنسان عاجلاً وآجلاً ، وليس لأحد رفضها والاعتماد على غيرها ، ولكنّ هذا لا ينافي جواز أن يهدي العامل ثواب عمله إلى غيره ويسعد الغير به ، فهو خارج عن مفاد الآية إيجاباً وسلباً.

وهذا مثل قول الوالد لولده : إنّما تنتفع بتجارتك وسعيك ، وإنّ سعي كلّ إنسان له نفسه لا للغير ، وهذا لا ينافي أن ينتفع هذا الولد بعمل غيره إذا أهدى إليه ذلك الغير شيئاً من الطعام والفواكه والألبسة بنيّات مختلفة ، فليس للولد حينئذ أن يعترض على والده ويقول : إنّك قلت إنّك تنتفع بسعيك مع أنّني انتفعت بسعي الغير ؛ إذ للوالد أن يقول : إنّ كلامي في نفس العمل الصادر منك ومن غيرك ، فكلّ يملك عمل نفسه ولا يتجاوزه ، ولكن كلامي هذا ليس ناظراً إلى ما لو وهب أحد حصيلة سعيه إليك بطيبة نفسه.

وكيف يمكن أن نقول بما يقوله هذا الوهابي ونظراؤه وقد تضافرت الآيات والأحاديث ـ كما مر عليك بعضها ـ بانتفاع الإنسان بعمل الغير في ظروف معيّنة ، وتحت شرائط خاصة وإن لم يكن له أدنى سعي فيها.

هذه الآية تشير إلى نكتة وهي : أنّه يجب على الإنسان الاعتماد على السعي والعمل لا على الحسب والنسب ، وإلّا يكون المسلم مثل اليهود الذين كانوا يتمنّون تمنّي الحمقى إذ كانوا يعتمدون على صلتهم وانتمائهم إلى الأنبياء بقولهم : (نَحنُ أبناءُ اللهِ وأحبّاؤهُ) (٢) أو قولهم : (لَنْ تَمسَّنا النّار إلّا أيّاماً مَعدودَة) (٣).

__________________

(١) الزلزلة : ٨ ـ ٧.

(٢) المائدة : ١٨.

(٣) البقرة : ٨٠.

٤٧٣

نعم ، هذه ـ كما قلنا ـ ليست ضابطة أصلية في سعادة الإنسان في دنياه وأُخراه ، وليس له أن يعتمد عليها ويتّخذها سنداً ، وإن كان أمراً صحيحاً في نفسه ، وليس كل أمر صحيح يصح أن يعتمد عليه الإنسان ويعيش عليه كشفاعات الأنبياء والأولياء ، فلا يجوز ترك العمل بحجة أنّهم يشفعون.

الشبهة الثالثة

دلّت السنّة على أنّ الإنسان ينقطع عملُه بعد موتهِ إلّا عن أُمور ثلاثة ؛ إذ يقولصلى‌الله‌عليه‌وآله :

«إذا ماتَ الإنسان انقطع عملُه إلّا من ثلاث : صدقةٍ جاريةٍ ، أو علمٍ يُنتفع به ، أو ولدٍ صالح يدعو له» وليس عمل الغير أحد هذهِ الأُمور الثلاثة ، فلا ينتفع به.

يلاحظ عليه :

أنّ الحديث يدلّ على أنّ عمل الإنسان ينقطع بموته إلّا عن ثلاثة ، ولا يدلّ على أنّه لا ينتفع بشيء من غير هذه الثلاثة ، وكم فرق بين القول بالانقطاع وعدم الانتفاع ؛ فإنّ الأوّل ناظر إلى الأعمال التي يقوم بها الإنسان في حال حياته ؛ فإنّها تنقطع بالموت بالضرورة إلّا ما كان له وجود استمراري كالأُمور الثلاثة ، وأمّا الثاني فهو تعبير أعمّ ممّا يقوم به الإنسان بنفسه ، أو يقوم به الغير ، فلا ينفي الحديث انتفاع الإنسان بعمل قام به الغير وأهدى ثوابَه إليه.

بعبارة أُخرى : الموضوع في الحديث هو الأعمال التي للإنسان فيها دور مباشر ، أو تسبيباً كالولد ، وأَمّا الأعمال الخارجة عن هذا الإطار ، التي ليست للإنسان فيها أية مدخلية إلّا بإيجاد الأرضية الصالحة فهي خارجة عن موضوع الحديث.

٤٧٤

الشبهة الرابعة

الحوالة إنّما تكون بحق لازم ، وهي تتحقّق في حوالة المخلوق على المخلوق ، وأمّا حوالة المخلوق على الخالق فأمر آخر ؛ لا يصح قياسه على حوالة العبيد بعضهم على بعض.

الجواب : إن هذا الموقف وهذا الكلام اجتهاد في مقابل النص ، فقد تضافرت الأدلّة على أنّ الميت ينتفع بعمل الحي ، وقد عرفت نصوصه كتاباً وسنّة ، وبعد هذا فما معنى هذا الاستدلال؟

أضف إليه أنه ليس هناك حوالة مخلوق على الخالق ، وإنما هو امتثال لأمره سبحانه بأن نستغفر للمؤمنين ونصوم ونصلّي عنهم ونحجّ وننحر عنهم ، وإنّا لو فعلنا ذلك لانتفع الأموات ، ونحن نقوم بذلك حَسب أمر النبي ، وليس هناك حوالة مخلوق على الله.

ثمّ هَبْ أنّ الثواب على العمل تفضلي لا استحقاقي وله سبحانه أن لا يعطي شيئاً للعامل ، ولكنّه سبحانه تفضّل وجعل ثواباً على العمل ثمّ رخص في أن يؤتى العمل بنية الميت ومن جانبه وأنه سيصل إليه الثواب ، بل وتبرأ ذمته ، فلا يصح لنا اللجاج والعناد في مقابل النصوص تعصّباً للمنهج.

الشبهة الخامسة

أنّ العبادات على قسمين : قسم يمكن فيه النيابة كالصدقة والحج ، وقسم لا يمكن فيه النيابة كالإسلام والصلاة وقراءة القرآن والصيام ، فهذا النوع يختصّ ثوابه بفاعله لا يتعدّاه ولا ينتقل عنه لغيره.

٤٧٥

والجواب : إنّ هذا أيضاً اجتهاد في مقابل النص ، فما الدّليل على هذه التفرقة وقد شرّع النبي الصومَ عن الميتِ مع أَنّ الصوم لا تدخله النيابة؟ والله الذي وعد الثواب للحج والصدقة والعتق يتفضّل بإيصال ثواب الصيام والصلاة والقراءة وغيرها مما يصح أن يفعله الغير تبرّعاً إلى الميت.

وما ذا تقولون في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أيّما ميّت مات وعليه صيام فليصمه عنه وليُّه» (١) وهو حديث صحيح.

وقال البيهقي : قد ثبت جواز القضاء عن الميت برواية سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، عن ابن عباس ، وفي رواية بعضهم : «صومي عن أُمّك».

وقد روى أبو بكر بن أبي شيبة عن ابن عباس : جاء رجل إلى النبي فقال : يا رسول الله إنّ أُمّي ماتت ، وعليها صيام شهر أفَأَقْضِي عنها؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لو كان عليها دين أكنتَ قاضيه عنها؟» قال : نعم ، قال : «فدين الله أحق أنْ يُقضى».

وأخرج أصحاب السنن ، وابن حبان ، والحاكم في المستدرك ، والبيهقي في «الشعب» والإمام أحمد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يس قلب القرآن ولا يقرؤُها رجل يريد الله والدار الآخرة إلّا غفر له واقرأوها عند موتاكم».

وروى البيهقي : أنّ ابن عمر استحب أن يقرأ على القبر بعد الدفن أول سورة البقرة وخاتمتها.

الشبهة السادسة

إنّ اللام في قولهم : هذا للنبي أو للإمام أو للولي أو للوالد ، هو نفس اللام الموجودة في قولنا : نذرت لله ، أو لله عليّ.

__________________

(١) مسند أحمد ٦ : ٦٩.

٤٧٦

وعلى ذلك فإنّ النذر للأموات شرك وعبادة لهم ، بحجة اشتراك العملين في الصورة.

ولكن المتوهم غفل عن اختلاف معنى اللام في الموردين : فاللّام في قوله هذا للنبي ، نفس اللام الواردة في قوله تعالى : (إنّما الصدقاتُ للفقراء والمساكين ...) (١) ويختلف معناها مع الموجود في قوله : (ربِّ إنّي نذرتُ لكَ ما في بطني محرَّراً) (٢) ، فإن اللام فيه للغاية ، وبين المعنيين بون بعيد ، والذي يضفي على العمل لون العبادة كون الشخص هو الغاية والمقصد لا المهدى إليه.

ثمّ يجب أن لا نحصر جواز إهداء الثواب في الأعمال المذكورة في الروايات ، بل نعمّم الجواز بحيث يشمل جميع الأعمال ، وذلك بإلغاء الخصوصية ، فكما يجوز إهداء ثواب الصدقة والحج والعتق يجوز إهداء ثواب قراءة القرآن إلى الموتى.

خاصة وأنّ هناك أحاديث مروية عن أهل البيت عليهم‌السلام جوّزت مثل هذا العمل ، وسوّغت إهداء ثواب قراءة القرآن إلى الميت ، وصرّحت بوصوله إليه وانتفاعهِ به ، فلما ذا يترك رأي أهل البيت عليهم‌السلام ويكتفى بقول أحد أئمة المذاهب الأربعة؟!

أفلا ينبغي الرجوع إلى قول أهل البيت عليهم‌السلام إلى جنب أقوال أئمة المذاهب الأربعة على قدم المساواة؟!

وأظن إن للقوم وراء هذا الإنكار أهدافاً خطيرة ، وهو : أن القول بعدم انتفاع الموتى من عمل الأحياء ذريعة لإنكار حياتهم ، وبالتالي فإنّ الأنبياء والأولياء أموات لا ينتفعون بشيء مما يقدم إليهم من أحبائهم وشيعتهم.

فإذا كانوا كذلك فما معنى التوسل والاستغاثة بهم وندائهم؟

__________________

(١) التوبة : ٦٠.

(٢) آل عمران : ٣٥.

٤٧٧

كلمة في النذور

قد تفضّل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فضحّى عن أُمّته أَحياءً وأَمواتاً وضحّى الصحابة والتابعون عن نبيهم ، فقد أخرج ابن ماجة وعبد الرزاق وغيرهما عن عائشة وأبي هريرة : أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا أراد أن يُضحِّي اشترى كبشين عظيمين سمينين أقرنين ... فذبح أحدهما عن محمّدٍ وآل محمّد والآخر عن أُمّته من شهد لله بالتوحيد وله بالبلاغ.

وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي : أنّ النبي ذبح بيده وقال : «اللهمّ هذا عنّي وعمّن لم يُضحِّ من أُمّتي» وصريح ذلك وصول الثواب إليهم وانتفاعهم.

روى أبو داود بسنده في باب الأضحية عن الميت ، عن علي بن أبي طالب : إنّه كان يضحي عن النبي بكبش وكان يقول : «أوصاني أن أُضحي عنه فأنا أُضحي عنه» (١).

ما يترتّب على هذا الأصل :

ويترتب على هذا الأصل صحة عمل المسلمين ؛ حيث يقومون بأعمال حسنة صالحة ، وربما أهدوا ثوابها إلى أحبائهم وأعزّتهم الموتى ، وهو أمر يوافق عليه الكتاب والسنّة ، بل صرّحا به تصريحاً.

فما يقوم به المسلمون لموتاهم من إهداء ثواب الأعمال الصالحة لهم ، أو ما يفعلونه عند قبور الأنبياء والأولياء من إطعام الطعام ، وتسبيل الماء بنيّة أن يصل ثوابُها إليهم إنّما يقتدون فيها بسعد بن عبادة الذي سأل النبي عن حكم الصدقة عن

__________________

(١) سنن أبي داود ج ٢ ص ٩٤ رقم الحديث ٢٧٩٠ ، كتاب الضحايا.

٤٧٨

أُمِّه أينفعها؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «نعم» ، فقال : فأيّ الصدقة أفضل؟ قال : «الماء» ، فحفر بئراً ، وقال : هذه لأُمّ سعدٍ.

فهم في هذا سعديون لا وثنيون ، لا يريدون عبادة الموتى ، بل يريدون إيصال الثواب إليهم كما فعل سعد.

٤٧٩
٤٨٠