في ظلال التّوحيد

الشيخ جعفر السبحاني

في ظلال التّوحيد

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: نشر مشعر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-6293-82-4

الصفحات: ٧١٢

عذاب القبر ومن عذاب النار ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة الشيخ الدجال» (١).

وفي صحيح مسلم وجميع السنن عن أبي هريرة أنّ النبيّ قال : «إذا فرغ أحدكم من التشهّد الأخير فليتعوذ بالله من أربع : من عذاب جهنم ، ومن عذاب القبر ، ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة الدجال».

وفي صحيح مسلم أيضاً وغيره عن ابن عباس أنّ النبيّ كان يعلّمهم هذا الدعاء كما يعلّمهم السورة من القرآن : «اللهمّ إنّي أعوذ بك من عذاب جهنم ، وأعوذ بك من عذاب القبر ، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات ، وأعوذ بك من فتنة الدجال» (٢).

كلام لابن عبد البرّ في المقام :

قال ابن عبد البر ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «ما من مسلم يمر على قبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلّم عليه إلّا ردّ الله عليه روحه حتّى يرد عليه‌السلام». فهذا نص في أنّه يعرفه بعينه ويرد عليه‌السلام.

وفي الصحيحين عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله من وجوه متعددة أنّه أمر بقتلى بدر فأُلقوا في قليب ، ثمّ جاء حتى وقف عليهم وناداهم بأسمائهم «يا فلان بن فلان ، ويا فلان بن فلان هل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقّاً ، فإنّي وجدت ما وعدني ربّي حقّاً» فقال له عمر : يا رسول الله ما تخاطب من أقوام قد جُيّفوا فقال : «والذي بعثني بالحقّ ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنّهم لا يستطيعون جواباً».

__________________

(١) البخاري ، الصحيح ٢ : ٩٩ ، ولاحظ في شرح الأحاديث فتح الباري لابن حجر ٣ : ١٨٨.

(٢) الروح : ص ٥٢ وقد بسط الكلام في إثبات الموضوع وأحاط بأطرافه ومن أراد التوسع فليرجع إلى كتابه.

٤٤١

وثبت عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ الميت يَسمع قرعَ نعال المشيّعين له إذا انصرفوا عنه.

وقد شرّع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لأُمّته إذا سلّموا على أهل القبور أن يسلّموا عليهم سلام من يخاطبونه فيقول : «السلام عليكم دار قوم مؤمنين» وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل ـ ولو لا ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة خطاب المعدوم والجماد.

والسلف مجمعون على هذا وقد تواترت الآثار عنهم بأنّ الميت يعرف زيارة الحيّ له ويستبشر به.

قال أبو بكر عبد الله بن محمّد بن عبيد بن أبي الدنيا في كتاب القبور باب معرفة الموتى بزيارة الأحياء :

(حدثنا) محمّد بن عون : حدثنا يحيى بن يمان ، عن عبد الله بن سمعان ، عن زيد ابن أسلم ، عن عائشة رضى الله تعالى عنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلّا استأنس به وردّ عليه حتى يقوم».

(حدثنا) محمّد بن قدامة الجوهري : حدثنا معن بن عيسى القزاز : أخبرنا هشام بن سعد : حدثنا زيد بن أسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه قال : إذا مرّ الرجل بقبر أخيه يعرفه فسلّم عليه ، ردّ عليه‌السلام وعرفه ، وإذا مرّ بقبر لا يعرفه فسلّم ردّ عليه‌السلام. إلى غير ذلك من الروايات المتضافرة في الصحاح والمسانيد.

٤٤٢

المبحث الرابع

الحياة البرزخية في كلمات العلماء

كلّ من يعبأ بعلمه وتعبّده أمام النصوص من علماء الإسلام صرّحوا باستمرار الحياة بعد الانتقال من الدنيا ، نذكر من كلماتهم ما يلي :

١ ـ الإمام أحمد بن حنبل (ت ٢٤١ ه‍) :

قال : والأعور الدّجال خارج لا شكّ في ذلك ولا ارتياب ، وهو أكذب الكذّابين ، وعذاب القبر حقّ ، ويُسأل العبد عن دينه وعن ربّه ويَرى مقعده من النار والجنة ، ومنكر ونكير حقّ ، وهما فتّانا القبور ، نسأل الله تعالى الثبات (١).

٢ ـ أبو جعفر الطحاوي (ت ٣٢١ ه‍) :

قال : (نؤمن) بعذاب القبر لمن كان له أهلاً ، وسؤال منكر ونكير في قبره عن ربّه ودينه ونبيّه ، على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله وعن الصحابة رضوان الله عليهم ، والقبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران (٢).

__________________

(١) السنّة : ص ٥٠.

(٢) شرح الرسالة الطحاوية لابن أبي العز ، قسم المتن : ص ٣٩٦.

٤٤٣

٣ ـ الإمام الأشعري (٢٦٠ ـ ٣٢٤ ه‍) :

قال : ونؤمن بعذاب القبر ، وبالحوض ، وأنّ الميزان حقّ والصراط حقّ ، والبعث بعد الموت حقّ ، وأنّ الله عزوجل يُوقِفُ العبادَ في الموقف يحاسب المؤمنين (١).

٤ ـ البغدادي :

قال : أنكرت الجهميّة والضرارية سؤال القبر ، وزعم بعض القدرية أنّ سؤال الملكين في القبر إنّما يكون بين النفختين في الصور وحينئذ يكون عذاب قوم في القبر.

وقالت السالمية بالبصرة : إنّ الكفّار لا يُحاسَبون في الآخرة.

وزعم قوم يقال لهم الوزنية : أنْ لا حساب ولا ميزان.

وأقرّت الكرّامية بكل ذلك كما أقرّ به أصحابنا ، غير أنّهم زعموا أنّ منكراً ونكيراً هما الملكان اللّذان وكّلا بِكلّ إنسان في حياته ، وعلى هذا القول يكون منكر ونكير كل إنسانٍ غير منكر ونكير صاحبه.

وقال أصحابنا : إنّهما ملكان غير الحافظين على كل إنسان (٢).

٥ ـ أبو اليسر محمد البزدوي (٤٢١ ـ ٤٩٣ ه‍) (وهو من الماتريدية) :

قال : سؤال منكر ونكير في القبر حقّ عند «أهل السنّة والجماعة» ، وهما ملكان يسألان من ماتَ بعد ما حُيِّي : مَنْ ربّك وما دينُك ومن نبيّك ، فيقدر المؤمن على الجواب ولا يقدر الكافر.

وفيه أحاديث كثيرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا الباب أنّ الملكين يجيئان في القبر إلى

__________________

(١) الإبانة ، الأصل : ص ٢٦.

(٢) أُصول الدين : ٢٤٥.

٤٤٤

الميت ويحيي الله تعالى الميت فيسألان عمّا ذكرنا (١).

٦ ـ الفخر الرازي :

قال : إنّ قوله : (ويَستبشِرونَ بالَّذينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ) (٢) دليل على حصول الحياة في البرزخ قبل البعث ، مضافاً إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «القبر روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حُفَرِ النيران» والأخبار في ثواب القبر وعذابه كالمتواترة ، وكان عليه‌السلام يقول في آخر صلاته : «وأعوذ بك من عذاب القبر» إلى أن قال : الإنسان هو الروح ؛ فإنّه لا يعرض له التفرّق والتمزّق ، فلا جرم يصل إليه الألم واللذة (بعد الموت).

ثمّ إنّه سبحانه وتعالى يردّ الروح إلى البدن يومَ القيامة الكبرى حتى تنضم الأحوال الجسمانية إلى الأحوال الروحانية (٣).

٧ ـ ابن أبي العزّ الدمشقي :

قال : إنّ الدور ثلاث : دار الدنيا ، ودار البرزخ ، ودار القرار.

وقد جعل الله لكلّ دارٍ أحكاماً تخصّها ، وركّب هذا الإنسانَ من بدن ونفس ، وجعلَ أحكام الدنيا على الأبدان والأرواح تبع لها ، وجعل أحكام البرزخ على الأرواح والأبدان تبع لها ، فإذا جاء يوم حشر الأجساد وقيام الناس من قبورهم ، صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد جميعاً.

فإذا تأملت هذا المعنى حقّ التأمل ، ظهر لك أنّ كون «القبر روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النار» مطابق للعقل ، وأنّه حقّ لا مِرية فيه ، وبذلك يتميز

__________________

(١) أُصول الدين : ١٦٥ / المسألة ٤٩.

(٢) آل عمران : ١٧٠.

(٣) التفسير الكبير ٤ : ١٤٦ و ١٤٩.

٤٤٥

المؤمنون بالغيب من غيرهم.

ويجب أن يعلم أنّ النار التي في القبر والنعيم ليس من جنس نار الدنيا ولا نعيمها ، وإن كان الله تعالى يَحمي عليه الترابَ والحجارةَ التي فوقه وتحته حتى يكون أعظم حراً من جمر الدنيا ، ولو مسّها أهل الدنيا لم يحسّوا بها.

والأعجب من هذا أنّ الرجلين يدفن أحدهما إلى جنب صاحبه ؛ وهذا في حفرة من النار ، وهذا في روضة من رياض الجنة ، لا يصل من هذا إلى جاره شيء من حرّ ناره ، ولا من هذا إلى جاره بشيء من نعيمه ، وقدرة الله أوسع من ذلك وأعجب (١).

وقال الرازي في تفسير قوله : (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) والقوم الذين لم يلحقوا بهم لا بد وأن يكونوا في الدنيا ، فاستبشارهم بمن يكون في الدنيا لا بد وأن يكون قبل قيام القيامة ، والاستبشار لا بد وأن يكون مع الحياة ، فدلّ هذا على كونهم أحياء قبل يوم القيامة (٢).

٨ ـ ابن تيمية :

قال : الأحاديث الصحيحة المتواترة تدلّ على عود الروح إلى البدن وقت السؤال ، وسؤال البدن بلا روح قول قاله طائفة من الناس ، وأنكره الجمهور ، قابلهم آخرون بأنّ السؤال للروح بلا بدن ، وهذا ما قاله ابن مرة وابن حزم ، وكلاهما غلط ، والأحاديث الصحيحة تردّه ، ولو كان ذلك على الروح فقط لم يكن للقبر بالروح اختصاص (٣).

__________________

(١) شرح الرسالة الطحاوية : ٣٩٦ ـ ٣٩٧.

(٢) مفاتيح الغيب ٤ : ١٤٦ و ٩ : ٩٠.

(٣) الروح : ٥٠ معبّراً عن ابن تيمية ب «شيخ الإسلام».

٤٤٦

٩ ـ التفتازاني :

قال : ويدلّ على الحياة بعد الموت قوله تعالى : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) (١) وقوله : (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) (٢) وقوله : (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) (٣).

وليست الثانية إلّا في القبر ، وقوله : (يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ) (٤).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «القبر روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النيران».

والأحاديث في هذا الباب متواترة المعنى.

وقال في موضع آخر :

اتّفق الإسلاميون على حقية سؤال منكر ونكير في القبر ، وعذاب الكفار وبعض العصاة فيه ، ونسب خلافه إلى بعض المعتزلة.

قال بعض المتأخرين منهم : حُكي إنكار ذلك عن ضرار بن عمرو ، وإنّما نسب إلى المعتزلة ، وهم براء منه لمخالطة ضرار إيّاهم ، وتبعه قوم من السفهاء المعاندين للحق.

لنا الآيات ، كقوله تعالى في آل فرعون : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) (٥) ، أي قبل القيامة ، وذلك في القبر ، بدليل قوله تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (٦) ، وكقوله تعالى في قوم نوح : (أُغْرِقُوا

__________________

(١) غافر : ٤٦.

(٢) نوح : ٢٥.

(٣) غافر : ١١.

(٤) آل عمران : ١٦٩ ـ ١٧٠.

(٥) غافر : ٤٦.

(٦) غافر : ٤٦.

٤٤٧

فَأُدْخِلُوا ناراً) (١) ، والفاء للتعقيب ، وكقوله تعالى : (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) (٢) ، وإحدى الحياتين ليست إلّا في القبر ، ولا يكون إلّا نموذج ثواب أو عقاب بالاتفاق ، وكقوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ) (٣).

والأحاديث المتواترة المعنى كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران» وكما روي أنّه مرّ بقبرين ، فقال : «إنّهما ليعذّبان ..» (٤) ، وكالحديث المعروف في الملكين اللّذين يدخلان القبر ومعهما مرزبتان ، فيسألان الميت عن ربه وعن دينه وعن نبيّه .. إلى غير ذلك من الأخبار والآثار المسطورة في الكتب المشهورة ، وقد تواتر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله استعاذته من عذاب القبر ، واستفاض ذلك في الأدعية المأثورة (٥).

١٠ ـ الشريف الجرجاني :

قال : إحياء الموتى في قبورهم ، مسألة منكر ونكير ، وعذاب القبر للكافر والفاسق كلّها حقّ عندنا ، اتّفق عليه سلف الأُمّة قبل ظهور الخلاف ، واتّفق عليه (الأكثر بعده) أي بعد ظهور الخلاف ، (وأنكره) مطلقاً «ضرار بن عمرو وبشر المريسي وأكثر المتأخرين من المعتزلة» ، وأنكر الجبّائي وابنه والبلخي تسمية الملكين منكراً ونكيراً وقالوا : إنّما المنكر ما يصدر من الكافر عند تلجلجه إذا سئل ، والنكير إنما هو تفريع الملكين له.

__________________

(١) نوح : ٢٥.

(٢) غافر : ١١.

(٣) آل عمران : ١٦٩.

(٤) أخرجه الإمام البخاري في كتاب الوضوء : ص ٥٥ ـ ٥٦ وكتاب الجنائز : ص ٨٩.

(٥) شرح المقاصد ٥ : ١١٢ ، ١١٤.

٤٤٨

لنا في إثبات ما هو حقّ عندنا وجهان : الأوّل قوله تعالى : (النّار يُعرضونَ عَليها غدوّاً وَعشياً ويومَ تقومُ الساعةُ أدخِلوا آلَ فِرعونَ أشدَّ العَذاب) ، عطف في هذه الآية عذابَ القيامة على العذاب الذي هو عرض النار صباحاً ومساءً ، فعلم أنّه غيره ، ولا شبهة في كونه قبل الإنشار من القبور ، كما يدلّ عليه نظم الآية بصريحه ، وما هو كذلك ليس غير عذاب القبر اتّفاقاً ، لأنّ الآية وردت في حقّ الموتى ، فهو هو (١).

١١ ـ الآلوسي :

قال : إنّ حياة الشهداء حقيقة بالروح والجسد ، ولكنّا لا ندركها في هذه النشأة (٢).

هذه كلمات أعلام السنّة ، وإليك كلام بعض مشايخ الشيعة الإمامية :

١٢ ـ الشيخ المفيد قدس‌سره :

قال في شرح عقائد الصدوق : فأمّا كيفية عذاب الكافر في قبره وتنعّم المؤمن فيه ، فإنّ الخبر أيضاً قد ورد بأنّ الله تعالى يجعل روح المؤمن في قالب مثل قالبه في الدنيا في جنة من جناته ، ينعّمه فيها إلى يوم الساعة ، فإذا نفخ في الصور أنشأ جسده الذي في التراب وتمزّق ، ثمّ أعاده إليه وحشره إلى الموقف وأمر به إلى جنة الخلد ولا يزال منعماً بإبقاء الله.

غير أنّ جسده الذي يعاد فيه لا يكون على تركيبه في الدنيا ، بل يعدل طباعه ، ويحسن صورته ولا يهرم مع تعديل الطباع ولا يمسّه نصب في الجنة ولا لغوب.

__________________

(١) شرح المواقف ٨ : ٣١٧ وقد مزَج كلامه مع عبارة المواقف للإيجي ، فما ذكره نظرية الماتن والشارح.

(٢) روح المعاني ٢ : ٢٠.

٤٤٩

والكافر يجعل في قالب كقالبه في محلّ عذاب يعاقب ، ونار يعذب بها حتى الساعة ثمّ ينشئ جسدَه الذي فارقه في القبر فيعاد إليه فيعذّب به في الآخرة عذاب الأبد ويركّب أيضاً جسده تركيباً لا يفنى معه (١).

هذه اثنتا عشرة كلمة من أعلام السنّة والشيعة تعرب عن اتفاق الأُمّة على استمرار الحياة بعد الانتقال عن الدنيا ، أو تجديد الحياة بعده ، وأنّ الموت ليس بمعنى بطلان الإنسان إلى يوم القيامة ، بل هناك مرحلة بين المرحلتين ، لها شئون وأحكام.

ويؤيد ما ذكره ، وما جرى عليه عمل الناس قديماً وإلى الآن من تلقين الميت في قبره ، ولو لا أنّه يسمع ذلك وينتفع به لم يكن فيه فائدة وكان عبثاً ، وقد سئل عنه الإمام أحمدرحمه‌الله فاستحسنه واحتجّ عليه بالعمل.

وقال ابن القيم ـ تلميذ ابن تيمية ـ بعد نقل ما ذكرنا عن الإمام أحمد : إنّ اتّصال العمل به في سائر الأمصار والأعصار من غير إنكار ؛ كاف في العمل به.

إلى أن قال : فلولا أنّ المخاطب يسمع ، لكان ذلك بمنزلة الخطاب للتراب والخشب والحجر والمعدوم ، وهذا وإن استحسنه واحد ، لكن العلماء قاطبة على استقباحه واستهجانه ، وقد روى أبو داود في سننه بإسناد لا بأس به : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حضر جنازة رجل فلمّا دفن قال : «سلوا لأخيكم التثبت فإنّه الآن يسأل» ، فأخبر أنّه يسأل حينئذ ، وإذا كان يسأل فانّه يسمع التلقين (٢).

وقال : إن إلّا رواح على قسمين : أرواح معذّبة ، وأرواح منعّمة ، فالمعذبة في شغل ما هي فيه من العذاب ، عن التزاور والتلاقي ، والأرواح المنعّمة المرسلة غير المحبوسة تتلاقى وتتزاور ، فتكون كل روح مع رفيقها الذي هو على مثل عملها ،

__________________

(١) أوائل المقالات : ص ٤٩ ط تبريز ؛ وشرح عقائد الصدوق : ص ٤٤ ط تبريز.

(٢) الروح : ١٣ ط. بيروت.

٤٥٠

وروح نبينا في الرفيق الأعلى ، قال الله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) وهذه المعية ثابتة في الدنيا وفي دار البرزخ وفي دار الجزاء ، والمرء مع من أحبّ في هذه الدور الثلاثة (١).

إجابة عن سؤال

إنّ هنا سؤالاً أثاره كثير من المفسرين وكلّ تخلّص منه بوجه : وهو أنّا نشاهد أجساد الموتى ميتة في القبور ، فكيف يصحّ ما ذهبتم إليه من التنعيم والتعذيب ، والسؤال والإجابة؟

هناك من تخلّص منه زاعماً أنّ الحياة البرزخية حياة مادية بحتة ، قائمة بذرات الجسد المادّي المبعثرة في الأرض ، منهم الرازي قال :

أمّا عندنا فالبنية ليست شرطاً في الحياة ، ولا امتناع في أن يعيد الله الحياة إلى كل واحد من تلك الذرات والأجزاء الصغيرة من غير حاجة إلى التركيب والتأليف (٢).

يلاحظ عليه : أنّ الاعتراف بأنّ الحياة البرزخية من أقسام الغيب الذي يجب الإيمان به وإن لم نعرف حقيقتها ، أولى من هذا الجواب الغامض الذي لا يفيد القارئ شيئاً سوى أنَّ التعبّد ورد بذلك.

لكن الظاهر من أكثر أهل السنّة المعتمدين في العقائد على الأخبار والآثار ، أنّ هنا جسداً على صورة الطير تتعلّق به الروح ، وقد استدلّ له بما أخرجه عبد الرزاق ، عن عبد الله بن كعب بن مالك قال : قال رسول الله : «إنّ أرواح الشهداء في

__________________

(١) الروح : ١٧ ط. بيروت. والآية من سورة النساء : ٦٩.

(٢) التفسير الكبير ٤ : ١٤٥ ـ ١٤٦.

٤٥١

صور طير خضر معلّقة في قناديل الجنة حتى يرجعها الله تعالى إلى يوم القيامة».

وفي بعض الروايات : «أنّ أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تعلّق من ثمر الجنة أو شجر الجنة».

أخرج مسلم في صحيحه عن ابن مسعود : مرفوعاً : «أن أرواح الشهداء عند الله في حواصل طيور خضر تسرح في أنهار الجنة حيث شاءت ثمّ تأوى إلى قناديل تحت العرش»(١).

ويبدو أنّ الروايات إسرائيليات ، وقد رُدّ مضمون هذه الروايات في روايات أئمة أهل البيت ، فعالجوا مشكلة الحياة البرزخية بشكل قريب إلى الأذهان ، وهو خلق جسد آخر على صور أبدانهم في الدنيا بحيث لو رأى الرائي أحدهم لقال «رأيت فلاناً».

روى الشيخ أبو جعفر الطوسي في تهذيب الأحكام مسنداً إلى علي بن مهزيار ، عن القاسم بن محمّد ، عن الحسين بن أحمد ، عن يونس بن ظبيان قال : كنت عند أبي عبد الله (الإمام الصادق) عليه‌السلام جالساً فقال : «ما يقول الناس في أرواح المؤمنين؟» قلت : يقولون : في حواصل طير خضر في قناديل تحت العرش ، فقال أبو عبد الله : «سبحان الله ، المؤمن أكرم على الله أن يجعل روحه في حوصلة طائر أخضر ، يا يونس المؤمن إذا قبضه الله تعالى صيّر روحه في قالب كقالبه في الدنيا فيأكلون ويشربون ، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا».

روى ابن أبي عمير ، عن حماد ، عن أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن أرواح المؤمنين؟ فقال : «في الجنة على صور أبدانهم لو رأيته لقلت : فلان» (٢).

__________________

(١) روح المعاني ٢ : ٢١.

(٢) مجمع البيان ١ : ٢٣٦ ط صيدا لاحظ الكافي ٣ : ٢٤٥ وبما أنّ الشيخ الطبرسي نقل الرواية عن الكافي ، ذكرنا موضع الرواية منه.

٤٥٢

المبحث الخامس

البرزخيّون ينتفعون بأعمال المؤمنين

إذا كانت حقيقة الإنسان هو روحهُ ونفسه الباقية غير الداثرة ، وكانت الصلة بين الدارين (دار الدنيا ودار البرزخ) موجودة ، وكانت متعلقة بأجسام تناسبها وهم بين منعّم ومعذّب ، يقع الكلام في انتفاع أهل البرزخ بأعمال المؤمنين الموجودين في دار الدنيا إذا قاموا بالاستغفار لهم بأعمال نيابة عنهم ، وعدمه.

وقبل الدخول في صلب الموضوع لنا كلامٌ نقدّمه : هو أنّ الإيمان إنّما ينتفع به الإنسان إذا انضمّ إليه العمل الصالح ، ولا ينفع إيمان إذا خلا عنه ، ولأجل ذلك يذكر سبحانه العمل الصالح إلى جانب الإيمان في أكثر آيات الكتاب العزيز.

وقد أخطأت «المرجئة» لمّا زعموا أنّ الإيمان المجرّد وسيلة نجاة ومفتاح فلاح ، فقدّموا الإيمان وأخّروا العمل.

وقد فنَّد أهل البيت عليهم‌السلام هذه الفكرة الباطلة حيث حذّروا الآباء ودعوهم إلى حفظ أبنائهم منهم : «بادروا أولادكم بالأدب قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة» (١).

فالاعتماد على الإيمان مجرداً عن العمل فعل النوكى والحمقى ، وهو لا يفيد

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤٧ / ٥.

٤٥٣

ولا ينفع أبداً.

ولقد كانت لهذه الفكرة الباطلة صيغة أُخرى عند اليهود ، فهم كانوا يعتمدون على مسألة الانتساب إلى الآباء وبيت النبوة ، فزعموا أنّ الثواب لهم والعقاب على غيرهم حيث قالوا : (نَحنُ أبناءُ اللهِ وأحبّاؤُهُ) (١) أو قالوا : (لَنْ تَمَسَّنا النّارُ إلّا أيّاماً مَعدودَة) (٢) ، وفي ظلّ هذه الفكرة اقترفوا المنكرات واستحلّوا سفك دماء غيرهم من الأقوام والأُمم والاستيلاء على أموالهم.

والحق الذي عليه الكتاب والسنّة هو : أنّ المنجي هو الإيمان المقترن بالعمل الصالح ، كما أنّ التسويف في إتيان الفرائض باطل جداً ، وهو أن يؤخّر الإنسان الواجب ويقول سوف أحجّ مثلاً ، ويقول ذلك كلّ سنة ويؤخر الفريضة.

وهذا هو الإمام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام يؤكّد في خطبته على العمل إذ يقول : «وإنّ اليوم عمل ولا حساب ، وغداً حساب ولا عمل» (٣).

ويقول : «ألا وإنَّ اليومَ المِضمارَ وغداً السباق ، والسَّبَقةُ الجنّة ، والغايةُ النار ، أفلا تائب من خطيئته قبل منيته ، أَلا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه» (٤).

وهذا هو ما اتّفقت عليه الأُمّة الإسلامية وتضافرت عليه الأحاديث والأخبار.

انتفاع الإنسان بعمله وبعمل غيره

لكنّه سبحانه بفضله وجوده الواسعين وسّع على الإنسان دائرة الانتفاع بالأعمال بحيث شمل الانتفاع بعد الموت ، بالأعمال التي تتحقّق بعد الموت ، وهي

__________________

(١) المائدة : ١٨.

(٢) آل عمران : ٢٤.

(٣) نهج البلاغة ، الخطبة ٤٢.

(٤) نهج البلاغة ، الخطبة ٢٨.

٤٥٤

على نوعين :

الأوّل : ما إذا قام الإنسان بعمل مباشرة في زمانه ومات ولكن بقي العمل يستفيد منه الناس كصدقة جارية أجراها ، أو إذا ترك علماً ينتفع به ، ويقرب منه ما إذا ربّى ولداً صالحاً يدعو له ، فهو ينتفع بصدقاته وعلومه ؛ لأنّها أعمال مباشرية باقية بعد موته وليست كسائر أعماله الفانية بفنائه الزائلة بموته ، فالجسر الذي بناه ، والنهر الذي أجراه ، والمدرسة التي شيّدها ، والطريق الذي عبّده ، إنّما تحقّق بسعيه ، فهو ينتفع به.

وقد وردت في هذا المجال روايات كثيرة ، قام بنقل بعضها ابن القيم في المسألة السادسة في كتاب له باسم «الروح» قال :

وذهب بعض أهل البدع من أهل الكلام أنّه لا يصل إلى الميت شيء البتة لا بدعاء ولا غيره ، ثمّ قال : فالدليل على انتفاعه بما تسبّب إليه في حياته ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضى الله عنه : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلّا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له» فاستثناء هذه الثلاث من عمله يدلّ على أنّها منه ، فإنّه هو الذي تسبّب إليها.

وفي سنن ابن ماجة في حديث أبي هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته : علمٌ علّمه ونشره ، أو ولدٌ صالحٌ تركه ، أو مصحفٌ ورثه ، أو مسجدٌ بناه ، أو بيتٌ لابن السبيل بناه ، أو نهرٌ أكراه ، أو صدقةٌ أخرجها من ماله في صحّته وحياته يلحقه من بعد موته».

وفي صحيح مسلم أيضاً من حديث جرير بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أُجورهم شيء ، ومن سنّ في الإسلام سنّة سيئة كان عليه وزرها ووزر

٤٥٥

من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء».

وهذا المعنى روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من عدة وجوه صحاح وحسان.

وفي المسند عن حذيفة قال : سأل رجل على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأمسك القوم ، ثمّ إنّ رجلاً أعطاه فأعطى القوم ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من سنّ خيراً فاستنّ به كان له أجره ومن أُجور من تبعه غير منتقص من أُجورهم شيئاً ، ومن سنّ شراً فاستنّ به كان عليه وزره ومن أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم شيئاً».

وقد دلّ على هذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا تُقتل نفس ظلماً إلّا كان على ابن آدم الأوّل كفل من دمها ؛ لأنّه أوّل من سنّ القتل» فإذا كان هذا في العذاب والعقاب ففي الفضل والثواب أولى وأحرى (١).

ويؤيده ما ورد في شأن صلاة الجماعة حيث تُفضَّل بسبع وعشرين درجة أو خمس وعشرين درجة على صلاة بغير جماعة (٢).

فكيف ينتفع المصلّون بعضهم ببعض؟ وكلّما زاد المصلّون ازدادوا انتفاعاً.

الثاني : فيما إذا لم يكن للميت في العمل سعي ولا تسبيب ، فهل يصل ثواب عمل الغير إليه؟

الظاهر من الكتاب والسنّة هو أنّه سبحانه بعميم فضله وواسع جوده يوصل ثواب عمل الغير إلى الميت ، فيما إذا قام الغير بعمل صالح نيابة عن الميت ، وبعث ثوابه إليه ، ويدلّ على ذلك طائفة كبيرة من الآيات والأحاديث والأخبار.

عرض المسألة على الكتاب :

لقد صرّحت الآيات بأنّ الإنسان المؤمن ينتفع بعمل غيره ، وإن لم يكن له فيه

__________________

(١) كتاب الروح ، المسألة السادسة عشرة ، ونقلها برمتها محمّد الفقي من علماء الأزهر في كتابه التوسل والزيارة : ص ٢٢٦ ـ ٢٢٧.

(٢) صحيح مسلم ٢ : ١٢٨ ، باب فضل صلاة الجماعة.

٤٥٦

سعي ، ونحن نشير إلى بعض هذه الموارد على سبيل المثال لا الحصر :

١ ـ استغفار الملائكة للمؤمن ، قال تعالى :

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) (١).

وقال تعالى أيضاً :

(تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٢).

٢ ـ دعاء المؤمنين للذين آمنوا :

(وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٣).

الأحاديث الدالة على انتفاع الميت بفعل الحيّ :

تدلّ روايات كثيرة على أنّ الميت ينتفع بعمل الغير ، إمّا بدعائه فيكفي في ذلك ما تواتر عن النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله من زيارته لأهل بقيع الغرقد ودعائه لهم ، وزيارته لشهداء أُحد وتعميمهم بالدعاء ، وتكرار ذلك منه ، ولو لم ينتفعوا بدعائه لما قام به عليه‌السلام ، وقد عرفتَ الآيات الدالة على انتفاع الميت بدعاء الحي.

إنّما الكلام فيما إذا قام بعمل (لا بدعاء) قربي نيابة عن الميت ، فالروايات المتضافرة تدلّ على صحة العمل ووصول ثوابه إليه وانتفاع الميت به ، وقد وزّعت

__________________

(١) غافر : ٧.

(٢) الشورى : ٥.

(٣) الحشر : ١٠.

٤٥٧

الروايات في الصحاح والمسانيد في مختلف الأبواب كالصوم والحج والعتق والنذر والتصدّق والسقي وقراءة القرآن ، فنحن نذكر هذه الروايات على هذا الترتيب ، ولعلّ المتتبِّع في الصحاح والمسانيد يقف على أكثر من ذلك.

أ ـ انتفاع الميت بصوم الغير نيابة عنه :

١ ـ روى الشيخان عن عائشة : أنّ رسول الله قال : «من مات وعليه صيام ، صام عنه وليّه».

٢ ـ روى الشيخان أيضاً عن ابن عباس ، قال : جاء رجل إلى النبيّ وقال : يا رسول الله إنّ أُمّي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضي عنها؟ قال : «نعم فدين الله أحق أن يقضى».

٣ ـ وفي رواية : جاءت امرأة إلى رسول الله وقالت : يا رسول الله إنّ أُمّي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها؟ قال : «أفرأيتِ لو كان على أُمّك دين فقضيْتيهِ أكان يؤدّى ذلك عنها؟ قالت : نعم قال : «فصومي عن أُمّك».

٤ ـ روى بريدة قال : بينا أنا جالس عند رسول الله إذ أتته امرأة وقالت : «إني تصدّقت على أُمّي بجارية وإنّها ماتت ، فقال : «وجب أجرك ، وردّها عليك الميراث».

فقالت : يا رسول الله إنّه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها؟ قال : «صومي عنها» قالت : إنّها لم تحجّ قطّ ، أفأحج عنها؟ قال : «حجّي عنها».

ب ـ انتفاع الميت بحجّ الغير نيابة عنه :

٥ ـ قال سعد بن عبادة : يا رسول الله ، إنّ أُمّ سعد في حياتها كانت تحجّ من مالي وتتصدّق وتَصِل الرحم وتنفق من مالي ، وإنّها ماتت فهل ينفعها أن أفعل ذلك عنها؟ قال : «نعم» (١).

__________________

(١) هذه الروايات (١ ـ ٥) رواها مسلم في صحيحه ، ج ٣ ، باب قضاء الصيام عن الميت : ص ١٥٥ ـ ١٥٦.

٤٥٨

٦ ـ وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لو كان مسلماً فَأَعْتقتم عنه أو حججتم عنه بلغه ذلك».

وقد مضى جواز الحج نيابة في الرواية الرابعة.

ج ـ انتفاع الميت بعتق الغير عنه :

٧ ـ عن عطاء بن رباح قال : قال رجل : يا رسول الله أعتق عن أُمّي؟ قال : «نعم» قال : أينفعها؟ قال : «نعم».

٨ ـ عن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري : أنّ أُمّه أرادت أن تعتق فأخّرت ذاك إلى أن تصبح فماتت؟ قال عبد الرحمن : قلت للقاسم بن محمّد : أينفعها أن أعتق عنها؟ قال القاسم : أتى سعد بن عبادة رسول الله فقال : إنّ أُمّي هلكت فهل ينفعها أن أعتق عنها؟ فقال رسول الله : «نعم».

وقد مضى في الرواية السادسة ما يدلّ على جواز العتق عن الغير.

د ـ انتفاع الميت بعمل الغير فيما إذا نذر ولم يعمل :

٩ ـ جاء سعد بن عبادة إلى رسول الله فقال : إنّ أُمّي كان عليها نذر ، أفأقضيه؟

قال : «نعم» قال : أينفعها؟ قال : «نعم».

ورواه مسلم بلفظ آخر قال : استفتى سعد بن عبادة رسول الله في نذر كان على أُمّه توفيت قبل أن تقضيه؟ قال رسول الله : «فاقضه عنها».

ه ـ انتفاع الميت بصدقة الغير نيابة عنه :

١٠ ـ عن أبي هريرة : أنّ رجلاً قال للنبيّ : إنّ أبي مات وترك مالاً ولم يوص ، فهل يكفّر عنه أن أتصدّق عنه؟ قال : «نعم».

١١ ـ عن معاذ قال : «أعطاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عطية ، فبكيت فقال : «ما يبكيك يا معاذ»؟ قلت : يا رسول الله كان لأُمّي من عطاء أبي نصيب تتصدّق به وتقدّمه لآخرتها وإنّها ماتت ولم توص بشيء قال : «فلا يبك الله عينك يا معاذ ، أتريد أن

٤٥٩

تُؤجر أُمّك في قبرها؟» قلت : نعم يا رسول الله ، قال : «فانظر الذي كان يصيبها من عطائك فامضه لها ، وقل اللهم تقبّل من أُمّ معاذ».

فقال قائل : يا رسول الله لمعاذ خاصة أم لأُمّتك عامة؟ قال : «لأُمّتي عامة».

١٢ ـ عن سعد أنّه سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : يا نبيّ الله إنّ أُمّي قد افتلتت وأعلم أنّها لو عاشت لتصدّقت ، أفإن تصدَّقتُ عنها أينفعها ذلك؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «نعم» فسأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أيّ الصدقة أنفع يا رسول الله؟ قال : «الماء» ، فحفر بئراً ، وقال : هذه لأُمّ سعد.

واللام في قوله : «هذه لأُمّ سعد» هي اللام الداخلة على الجهة التي وجهت إليه الصدقة ، وليست من قبيل اللام الداخلة على المعبود المتقرّب إليه ، مثل قولنا : نذرت لله ، وإن شئت قلت : اللام في قوله «لأُمّ سعد» مثل اللام الواردة في قوله تعالى : (إنَّما الصَّدقاتُ للفُقراءِ) (١).

١٣ ـ وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عباس رضى الله عنه : «إنّ رجلاً أتى النبيّ فقال : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّ أُمّي افتلتت نفسها ولم توصِ ، وأظنّها لو تكلّمت تصدقت ، أفلها أَجر إن تَصدّقتُ عنها؟ قال : «نعم».

١٤ ـ وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عباس رضى الله عنه : «إنّ سعد بن عبادة توفّيت أُمّه وهو غائب ، فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا رسول الله إنّ أُمّي توفّيت وأنا غائب عنها فهل ينفعها إن تصدّقتُ عنها؟ قال : «نعم» ، قال : فإنّي أشهدك إنّ حائطي المخراف صدقة عنها. والمراد بالحائط البستان ، والمخراف عبارة عن اسم ذلك الحائط.

١٥ ـ وعن عبد الله بن عمر : إنّ العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن ينحر مائة

__________________

(١) التوبة : ٦٠.

٤٦٠