في ظلال التّوحيد

الشيخ جعفر السبحاني

في ظلال التّوحيد

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: نشر مشعر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-6293-82-4

الصفحات: ٧١٢

فَاسْمَعُونِ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) (١).

اتّفق المفسرون على أنّ الآيات نزلت في رُسل عيسى ، وقد نزلوا بأنطاكية داعين أهلها إلى التوحيد وترك عبادة غيره سبحانه ، فعارضهم من كان فيها بوجوه مذكورة في القرآن.

فبينما كان القوم والرسل يتحاجّون إذ جاء رجل من أقصى المدينة يدعوهم إلى الله سبحانه وقال لهم :

اتّبعوا معاشر الكفار من لا يطلبون منكم الأجر ولا يسألونكم أموالكم على ما جاءوكم به من الهدى ، وهم مهتدون إلى طريق الحق ، سالكون سبيله ، ثمّ أضاف قائلاً :

وما لي لا أعبدُ الَّذي فَطرني وأنشأني وأنعم عليّ وهداني وإليه تُرجعون عند البعث ، فيجزيكم بكفركم ، أتأمرونني أن أتَّخذ آلهةً من دون الله مع أنّهم لا يُغنون شيئاً ولا يردّون ضرراً عنّي ، ولا تنفعني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذونني من الهلاك والضرر ، وعند ما مهّد الجوّ بإبطال حجّة المشركين وبيان أحقيّة منطقه ، فعندئذ خاطب الناس أو الرسل بقوله (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) فسواء أكان الخطاب للمشركين أو للرسل فإذا بالكفار قد هاجموه فرجموه حتى قتل.

ولكنّه سبحانه جزاه بالأمر بدخول الجنة بقوله : (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) فلمّا دخل الجنة خاطب قومه الذين قتلوه بقوله (يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ).

ثمّ إنّه سبحانه لم يمهل القاتلين طويلاً ولم يرسل جنداً من السماء لإهلاكهم ، بل

__________________

(١) يس : ٢٠ ـ ٢٩.

٤٢١

أهلكهم بالصّيحة يقول سبحانه : (وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ)

أي : كان إهلاكهم عن آخرهم بأيسر أمر وهي صيحة واحدة حتى هلكوا بأجمعهم فإذا هم خامدون ساكتون.

ودلالة الآية على بقاء النفس وإدراكها وشعورها وإرسالها الخطابات إلى من في الحياة الدنيا واضحة جداً ، حيث كانَ دخول الجنة (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) والتمنّي (يا لَيْتَ قَوْمِي) كان قبل قيام الساعة ، والمراد من الجنة هي الجنة البرزخية دون الأُخروية.

إلى هنا تمّ بيان بعض الآيات الدالة على بقاء أرواح الشهداء الذين بذلوا مهجهم في سبيل الله ، وهناك مجموعة من الآيات تدلّ على بقاء أرواح الكفار بعد انتقالهم عن هذه الدنيا ، لكن مقترناً بألوان العذاب والطائفة الأُولى منعّمة بألوان النعم ، وإليك الطائفة الثانية:

الآية الخامسة

قال سبحانه : (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ* النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (١).

والآية صريحة في أنّه سبحانه صرف عن مؤمن آل فرعون سوء مكرهم فَنَجا مع موسى ، لكن أحاط بآل فرعون سوء العذاب ، وأما كيفية عذابهم فتدلّ الآية على :

أوّلاً : أنّ هناك عرضاً لهم على النار وإدخالاً لهم فيها ، والثاني أشدّ من الأول.

__________________

(١) غافر : ٤٥ ـ ٤٦.

٤٢٢

ثانياً : أنّ العرض على النار قبل قيام الساعة ، كما أنّ الإدخال حين قيامها.

وثالثاً : أنّ التعذيب بعد الموت وقبل قيام الساعة (البرزخ) والتعذيب عند قيام الساعة ، بشيء واحد وهو نار الآخرة ، لكن العذاب قبل قيامها بالعرض على النار ، وبعد قيامها بالدخول فيها ، وينتج أنّ البرزخيّين يعذّبون من بعيد (١) وأهل الآخرة بالدخول.

ورابعاً : أنّ آل فرعون وإن ماتوا بالغرق في البحر ، لكن موتهم لم يكن بمعنى بطلانهم وفنائهم رأساً ، بل بمعنى خروج أرواحهم من أبدانهم وانتقالهم إلى عالم آخر حائل بين العالمين ، فقُضيَ عليهم بسوء العذاب إلى يوم القيامة بالعرض على النار ، والدخول فيها بعد قيامها ، ولو لم يكن إحياء ، فلا معنى لتعذيب الجماد الفاقد للشعور بالعرض على النار.

وخامساً : أنّ شخصية آل فرعون بأرواحهم لا بأبدانهم ، بشهادة بطلان أجسادهم وتشتّت أجزائها ، لكنّهم معادون بعد الموت بالعرض على النار ، وبالدخول فيها بعد قيام الساعة.

الآية السادسة

(حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (٢).

وقبل أن ننوّه بدلالة الآية على بقاء الحياة بعد الموت نفسر لفظين من الآية :

أحدهما : «البرزخ» ، وهو الحاجز بين الشيئين ، قال سبحانه : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ

__________________

(١) يستفاد من الآية ٢٥ من سورة نوح ـ على القول بأنّها راجعة إلى البرزخ ـ أنّ الدخول لا يختص بيوم القيامة ، بل يعمّه والحقبة البرزخية ، ولعلّ هناك فرقاً بين النارين أعاذنا الله منهما.

(٢) المؤمنون : ٩٩ ـ ١٠٠.

٤٢٣

يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) (١) ذكر سبحانه عظيم قدرته ، حيث خلق البحرين ، العذب والمالح يلتقيان ثمّ لا يختلط أحدهما بالآخر لوجود حاجز بينهما.

والثاني : لفظة «وراء» وهو في الآية بمعنى أمام ، ومعنى قوله : (وَمِنْ وَرائِهِمْ) أي : من أمامهم وقدّامهم.

قال سبحانه : (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) (٢).

والاستدلال بهذه الآية من وجهين :

١ ـ إنّ الإنسان المذنب يرى حين الموت ما أُعدّ له في مستقبل أمره من عذاب أليم ، ولأجل ذلك يطلب من ملائكة الله أن يرجعوه إلى عالم الدنيا ، حتى يتدارك ما فاته ويتلافى ما فرّط ، وإلى هذا يشير قوله سبحانه : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ).

٢ ـ إنّ قوله تعالى : (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) تصريح لا غموض فيه بوجود حياة متوسطة بين الموت والبعث ، وإنّما سميت برزخاً لكونها حائلاً بين الدنيا والآخرة ، ولا تتحقق الحيلولة إلّا بأن يكون للإنسان واقعية في هذا الحدّ الفاصل ؛ إذ لو كان الإنسان بين هاتين الفترتين معدوماً لما صحّ أن يقال بين الحالتين برزخٌ ، وهو حائل وفاصل بين الإنسان في الدنيا والإنسان في الآخرة.

الآية السابعة

(وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِ

__________________

(١) الرحمن : ١٩ ـ ٢٠.

(٢) الكهف : ٧٩.

٤٢٤

وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) (١).

والاستدلال بالآية على بقاء الروح بعد فناء الجسد من طريقين :

أ ـ قوله (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) صريح في أنّ الملائكة تنتزع الروح من البدن ويعني هذا أنّ المتروك هو البدن ، وأمّا الروح فتؤخذ وتخرج من الجسد إخراجاً.

ب ـ إنّ ظاهر قوله : (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) هو الإشارة إلى يوم الموت ، وساعته ، ولو كان الموت فناءً كاملاً للإنسان لما كان لهذه العبارة معنى ، إذ بعد فناء الإنسان فناءً كاملاً شاملاً لا يمكن أن يحسّ بشيء من العذاب.

ومن هنا يتبيّن أنّ الفاني إنّما هو الجسد ، وأمّا الروح فتبقى وترى العذاب الهون وتذوقه وتحسّ به.

قال العلّامة الطباطبائي في تفسير هذه الآية : إنّ كلامه تعالى ظاهر في أنّ النفس ليست من جنس البدن ، ولا من سنخ الأُمور المادية الجسمانية ، وإنّما لها سنخ آخر من الوجود يتّحد مع البدن ويتعلّق به نوعاً من الاتحاد والتعلّق غير مادّي.

فالمراد بقوله : (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) قطع علقة أنفسهم من أبدانهم وهو الموت (٢).

الآية الثامنة

(وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ

__________________

(١) الأنعام : ٩٣.

(٢) تفسير الميزان ٧ : ٢٨٥.

٤٢٥

بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (١).

تدلّ الآية على أنّ الكافرين يعذَّبون حين الموت بوجهين :

الأوّل : بضرب الملائكةِ وجوهَهم وأدبارهم ، وقد أُشير إليه في آية أُخرى أيضاً ، قال سبحانه : (فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) (٢).

الثاني : بعذاب الحريق ، الذي يدلّ عليه قوله سبحانه : (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) ، فالآية تدلّ على أنّ هناك عذابين منفصلين موضوعاً ومحمولاً ، فالعذاب الأوّل موضوعه الجسد ، والثاني موضوعه روح الإنسان المنتقل إلى الحياة غير الدنيوية.

الآية التاسعة

قال سبحانه : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً) (٣) والآية نازلة في شأن قوم نوح الذين غرقوا لخطيئاتهم أوّلاً ، (فَأُدْخِلُوا ناراً) ثانياً.

ومن المفسرين من فسر الجملة الثانية بنار الآخرة ويقول : جيء بصيغة الماضي لكون تحقّقه قطعياً (٤). ولكنّه بعيد ؛ لأنّ ظاهر الآية كون الدخول في النار متّصلاً بغرقهم لا منفصلاً ، بشهادة تخلّل لفظة «فاء» وإلّا كان اللازم التعبير ب «ثمّ».

__________________

(١) الأنفال : ٥٠ ـ ٥١.

(٢) محمد : ٢٧.

(٣) نوح : ٢٥.

(٤) مجمع البيان ٥ : ٣٦٤.

٤٢٦

الآية العاشرة

قوله سبحانه : (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) (١) الآية تدلّ بوضوح على أنّه مرّت على الإنسان المحشور يوم القيامة ، إماتتان وإحياءان.

فالإماتة الأُولى : هي الإماتة الناقلة للإنسان من الدنيا.

والإحياء الأوّل : هو الإحياء بعد الانتقال منها.

والإماتة الثانية : قُبيل القيامة عند نفخ الصور الأوّل.

والإحياء الثاني : عند نفخ الصور الثاني.

قال سبحانه : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (٢).

وعلى ما ذكرنا فكل من الإحياءَين لا صلة له بالدنيا ، بل يتحقّقان بعد الانتقال من الدنيا ، أحدهما في البرزخ بعد الإماتة في الدنيا ، والآخر يوم البعث بعد الإماتة بنفخ الصور الأوّل.

وعندئذٍ تتضح دلالة الآية على الحياة البرزخية بوضوح.

نعم لم يتعرض القائلون بالحياة الدنيوية ولم يقولوا (وأحييتنا ثلاثاً) وإن كانت إحياء لكونها واقعة بعد الموت الذي هو حال عدم ولوج الروح ، ولعلّ الوجه هو أنّ الغرض تعلّق بذكر الإحياء الذي يعدّ سبباً للإيقان بالمعاد ومورِّثاً للإيمان وهو الإحياء في البرزخ ثمّ يوم القيامة ، وأمّا الحياة الدنيوية ، فإنّها وإن كانت إحياء بلا

__________________

(١) غافر : ١١.

(٢) الزمر : ٦٨.

٤٢٧

شكّ لكنّها لا توجب بنفسها يقيناً بالمعاد ، فقد كانوا مرتابين في المعاد وهم أحياء في الدنيا(١).

تفسير خاطئ للآية :

إنّ بعض المفسّرين فسّروا الآية بالنحو التالي :

الإماتة الأُولى : حال النطفة قبل ولوج الروح.

الإحياء الأوّل : حال الإنسان بعد ولوجها فيها.

الإماتة الثانية : إماتته في الدنيا.

والإحياء الثاني : إحياؤه يوم القيامة للحساب.

وعندئذ تنطبق الآية على قوله سبحانه (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢).

ولكنّه تفسير خاطئ وقياس باطل.

أمّا كونه خاطئاً ، فلأنّ الحالة الأُولى للإنسان أي حالته قبل ولوج الروح في جسده لا تصدق عليها الإماتة ، لأنّه فرع سبق الحياة ، والمفروض عدمه.

وأمّا كونه قياساً باطلاً ، فلأنّ الآيتين مختلفتان موضوعاً ، إذ المأخوذ والوارد في الآية الثانية هو لفظة «الموت» ويصحّ تفسيره بحال النطفة قبل ولوج الروح ، بخلاف الوارد في الآية الأُولى ، إذ الوارد فيها «الإماتة» فلا يصح تفسيره بتلك الحالة التي لم يسبقها الإحياء.

ولأجل ذلك يصحّ تفسير الآية الثانية بالنحو التالي :

١ ـ كنتم أمواتاً : الحالة الموجودة في النطفة قبل ولوج الروح.

٢ ـ فأحياكم : بولوج الروح فيها ثمّ الانتقال من البطن إلى فسيح الدنيا.

__________________

(١) تفسير الميزان ١٧ : ٣١٣.

(٢) البقرة : ٢٨ ، أنظر تفسير الكشاف ٣ : ٣٦٣ ط دار المعرفة ـ بيروت.

٤٢٨

٣ ـ ثمّ يُميتُكم : بالانتقال من الدنيا إلى صوب الآخرة.

٤ ـ ثمّ يُحييكُم : يوم البعث للحساب والجزاء.

وبما أنّ موقف الآيتين مختلف هدفاً وغاية ، اختلف السياقان ، فصارت احداهما تلمح بالحياة المتوسطة بين الدنيا والآخرة (البرزخ) دون الأُخرى ، ولا ملزم لتطبيق إحداهما على الأُخرى بعد اختلافهما في الموضوع والغاية.

تلك عشر كاملة تورث اليقين ، باستمرار الحياة بعد الانتقال من الدنيا ، ولا ينكر دلالتها إلّا الجاحد ، وليس ما يدل من الآيات على بقائها بعد الموت منحصراً في هذه الآيات العشر ، بل هناك مجموعة من الآيات تصلح للاستدلال على المقصود ، مثل : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (١) ، وقوله سبحانه : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (٢) لكنّا نقتصر عليها روماً للاختصار.

وأمّا الاستدلال بالسنّة الشريفة على أنّ الموت ليس بمعنى فناء الإنسان برأسه ، وإنّما هو الانتقال من دار إلى دار ، فسيوافيك قسم من الروايات في المبحث التالي المتكفّل لبيان وجود الصلة بين أهل الدنيا والنازلين في البرزخ ، بحيث يسمعون كلامهم ويجيبون دعاءهم وإن كنّا نحن غير سامعين ولا فاهمين.

ولا عجب في أن يكون هناك رنين أو صراخ وكنّا بمعزل عن السمع والفهم ، قال سبحانه : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) (٣).

__________________

(١) البقرة : ١٤٢.

(٢) النساء : ٤١ ، فلو قلنا : بأن موت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عبارة عن فنائِه المطلق ، فما معنى كونه شهيداً على أُمّته في تمام الأجيال؟.

(٣) الإسراء : ٤٤.

٤٢٩

المبحث الثالث

وجود الصلة بين الحياة الدنيوية والحياة البرزخيّة

لا أظنّ أنّ مسلماً ملمّاً بالقرآن والسنّة ينكر الحياة البرزخية ، وأنّ للإنسان بعد موته وقبل بعثه حياة متوسطة بين الدنيا والآخرة ، وهو فيها بين مرتاح ومنعَّم ، ومتعب معذّب.

ولكن الجدير بالدراسة ، في ضوء الكتاب والسنّة ، هو تبيين الصلة بين الحياتين ، وأنّ البرزخيّين غير منقطعين عمّا يجري في الحياة الدنيوية ، وإنهم يسمعون إذا دُعُوا ، ويجيبون إذا سُئلوا ، بإذنٍ منه سبحانه ، والبرزخ وإن كان بمعنى المانع والحائل ، لكنّه حائل عن الرجوع إلى الدنيا الذي نفاه سبحانه بصريح كلامه عند ما طلب لفيف من الظالمين الرجوعَ إلى الدنيا لتدارك ما فات منهم من العبادة والطاعة قائلين : (رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) (١) ، فأُجيبوا بالحرمان بقوله : «كلّا» وليس بمانع عن السماع والاستماع ولا عن السؤال والجواب ، كل ذلك بإذن منه سبحانه.

__________________

(١) المؤمنون : ٩٩ ـ ١٠٠.

٤٣٠

وتدلّ على وجود الصلة بين الحياتين بهذا المعنى ، مجموعة من الآيات وقسم وافر من الروايات نأتي في المقام بصريحهما ، حتى يُزال الشك عن المرتاب.

القرآن الكريم والصلة بين الحياتين

١ ـ النبيّ صالح يكلّم قومه بعد هلاكهم :

أخبر الله تعالى في القرآن الكريم عن النبيّ صالح عليه‌السلام أنّه دعا قومه إلى عبادة الله ، وترك التعرّض لمعجزته (الناقة) وعدم مسّها بسوءٍ ، ولكنّهم عقروا الناقة وعتوا عن أمر ربّهم:

(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) (١).

ترى أنّ الله تعالى يخبر على وجه القطع والبتّ بأنّ الرجفة أهلكت أُمّة صالح عليه‌السلام فأصبحوا في دارهم جاثمين ، وبعد ذلك يخبر أنّ النبيّ صالحاً تولّى عنهم ثمّ خاطبهم قائلا : (لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ).

والخطاب صدر من صالح لقومه بعد هلاكهم وموتهم بشهادة جملة «فتولّى» المصدرة بالفاء المشعرة بصدور الخطاب عقيب هلاك القوم.

ثمّ إنّ ظاهر قوله : (وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) ، يفيد أنّهم بلغت بهم العنجهية أن كانوا لا يحبُّونَ النّاصحينَ حتى بعد هلاكِهِمْ.

٢ ـ النبي شعيب يخاطب قومه الهالكين :

لم تكن قصة النبيّ صالح هي القصة الوحيدة من نوعها في القرآن الكريم ، فقد

__________________

(١) الأعراف : ٧٨ ـ ٧٩.

٤٣١

تبعه في ذلك شعيب ؛ إذ خاطب قومه بعد أن عمّهم الهلاك قال سبحانه :

(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ* الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ* فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) (١).

وهكذا يخاطب شعيب قومه بعد هلاكهم ، فيكون صدور هذا الخطاب بعد هلاكهم بالرجفة.

فلو كان الاتصال غير ممكن ، وغير حاصل ، ولم يكن الهالكون بسبب الرجفة سامعين لخطاب صالح وشعيب فما معنى خطابهما لهم؟

أيصح أن يفسّر ذلك الخطاب بأنّه خطاب تحسّر وإظهار تأسّف؟

كلّا ، إنّ هذا النوع من التفسير على خلاف الظاهر ، وهو غير صحيح حسب الأُصول التفسيرية ، وإلّا لتلاعب الظالمون بظواهر الآيات وأصبح القرآن الكريم لعبة بيد المغرضين ، يفسرونه حسب أهوائهم وأمزجتهم.

على أنّ مخاطبة الأرواح المقدسة ليست أمراً ممتنعاً في العقل حتى تكون قرينة عليه.

٣ ـ النبي يأمر بالتكلّم مع الأنبياء :

جاء في الذكر الحكيم قوله تعالى لنبيّه :

(وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) (٢).

ترى أنّ الله سبحانه يأمر النبيّ الأكرم بسؤال الأنبياء الذين بُعِثُوا قبله ، ومن

__________________

(١) الأعراف : ٩١ ـ ٩٣.

(٢) الزخرف : ٤٥.

٤٣٢

التأويل الباطل إرجاعها إلى سؤال علماء أهل الكتاب استظهاراً من قوله سبحانه : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ* وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ) (١).

وقوله سبحانه : (فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) (٢).

ووجه البطلان هو : أنّ الخطاب في الآية الأُولى وإن كان متوجّهاً إلى النبيّ لكن المقصود هو الأُمّة بقرينة قوله : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) و (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا).

ومثلها الآية الثانية ، فالخطاب وإن كان للنبي وأمره سبحانه بأنّ يسأل بني إسرائيل عن الآيات النازلة إلى موسى ، ولكنّه من قبيل «إياك أعني واسمعي يا جارة» والنبيّ أجلّ وأعظم من أن يشكل عليه شيء ويسأل علماء بني إسرائيل عمّا أشكل عليه.

فهاتان الآيتان راجعتان إلى سؤال الأُمّة علماءَ بني إسرائيل وقرّاء كتبهم ، وهذا بخلاف قوله : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) فإنّه خطاب للنبيّ حقيقة.

وأمّا ما هو الوجه في سؤال الأنبياء في مجال التوحيد أي قوله : (أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) ، فقد ذكره المفسرون ، وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله تكلّم مع الأنبياء السالفين ليلة المعراج.

٤ ـ السلام على الأنبياء :

إنّ القرآن الكريم يسلّم على الأنبياء في مواضع متعدّدة ويقول :

__________________

(١) يونس : ٩٤ ـ ٩٥.

(٢) الإسراء : ١٠١.

٤٣٣

١ ـ (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ).

٢ ـ (سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ).

٣ ـ (سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ).

٤ ـ (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ).

٥ ـ (وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) (١).

ولا شك أنّ ما ورد فيها ليس سلاماً سطحيّاً أجوف ، بل هو سلام حقيقيّ وتحيّة جديدة يوجّهها القرآن إلى أنبياء الله ورسله.

وهل يصحّ التسليم الجدّي على الجماد الذي لا يَعرف ولا يُدرك ولا يشعر؟! وليس لنا تفسير المفاهيم القرآنية النابعة عن الحقيقة تفسيراً قشرياً ، بأن نقول :

إنّ كافة التحيات في القرآن والتي نتلوها في آناء الليل وأطراف النهار ليست إلّا مجاملات جوفاء وفي مستوى تحيات المادّيين لرفقائهم وزملائهم الذين أدركهم الموت.

إنّ المادّي لمّا يساوي الوجودَ بالمادة ولا يرى أنّ وراءها حقيقة ، فعند ما يسلّم في محاضراته وشعاراته على زملائه الميّتين يعود ويفسره بالتكريم الأجوف.

وأمّا نحن المسلمين ، فبما أنّ الوجود عندنا أعمّ من المادة وآثارها ، فليس علينا تفسير الآيات تفسيراً مادّيّاً خارجاً عن الإطار المحدّد في الكتاب والسنّة لتفسير الذكر الحكيم ، وهذا ما يبعثنا على تفسير تلك التسليمات بنحو حقيقي ، وهو يلازم حياة المسلَّم عليهم ووجود الصلة بيننا وبينهم ، سلام الله عليهم أجمعين.

هذا هو ما يرشدنا إليه الوحي في مجال إمكان ارتباط الأحياء بالأرواح.

__________________

(١) الصافّات : ٧٩ ، ١٠٩ ، ١٢٠ ، ١٣٠ ، ١٨١ على الترتيب.

٤٣٤

السنّة الشريفة والصلة بين الحياتين

ما تلوناه عليك كان مجموعة من الآيات الناصعة الدالّة على وجود الصلة بين الحياتين ، وأنّ قسماً من الأنبياء تكلّموا مع البرزخيين.

وأمّا السنّة الشريفة ، فهناك روايات وافرة دالّة على ما نتوخّاه نأتي بقسم منها :

١ ـ النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يكلّم أهل القليب :

لقد انتهت معركة بدر بانتصار عظيم للمسلمين وهزيمة نكراء للمشركين ؛ فقد غادر المشركون ساحة القتال هاربين صوبَ مكة مخلِّفين وراءهم سبعين قتيلاً من صناديدهم وساداتهم ، ووقف النبيّ يخاطب القتلى واحداً واحداً ويقول :

«يا أهل القليب ، يا عتبة بن ربيعة ، ويا شيبة بن ربيعة ، ويا أُمية بن خلف ، ويا أبا جهل (وهكذا عدّد من كان منهم في القليب) هل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقّاً؟ فإنّي قد وجدتُ ما وعدني ربّي حقّاً».

فقال له بعض أصحابه : يا رسول الله أتنادي قوماً موتى؟

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكنّهم لا يستطيعون أن يجيبوني».

وكتب ابن هشام يقول : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أضاف بعد هذه المقالة وقال :

«يا أهل القليب ، بئس عشيرة النبيّ كنتم لنبيكم ، كذّبتموني وصدّقني الناس ، وأخرجتموني وآواني الناس ، وقاتلتموني ونصرني الناس».

ثمّ قال : «هل وجدتم ما وعدكم ربّي حقّاً» (١).

__________________

(١) السيرة النبوية ١ : ٦٤٩ ؛ السيرة الحلبية ٢ : ١٧٩ و ١٨٠ وغيرهما.

٤٣٥

روى البخاري عن نافع أنّ ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أخبره قال : اطّلع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على أهل القليب فقال : «وجدتم ما وعد ربكم حقّاً» ، فقيل له : تدعو أمواتاً ، فقال : «ما أنتم بأسمعَ منهم ، ولكن لا يجيبون».

ثمّ روى عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ قالت : إنما قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّهم ليعلمون الآن أنّ ما كنت أقول حقّ» ، وقد قال الله تعالى : (إنّك لا تُسمِعُ المَوتى) (١).

ولا يذهب عليك أنّ السيدة عائشة سلّمت الحياة البرزخية لهم ، ولذلك قالت : إنّ النبيّ قال : «إنهم ليعلمون الآن أنّ ما كنت أقول حق» ولكنّها نفت أن يقول النبيّ «ما أنتم بأسمع منهم ولكن لا يجيبون» من دون أن تسنده إلى قائل حاضر في الواقعة ، وإنّما استنبطت قولها من الآية الكريمة ، ومن المعلوم أنّ ابن عمر يدّعي السماع عن النبيّ ، أو عمّن سمعه منه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا يعارضه استنباطها ، وإنما يكون نظرها حجة على نفسها لا على من عاين وشهد تكلّم النبي معهم.

أضف إلى ذلك أنّه لا صلة للآية بما تدّعيه ، كما سيوافيك.

ولأجل التأكيد على صحة القصة نأتي أيضاً بنصّ صحيح البخاري في باب معركة بدر (غير كتاب الجنائز) ونردفه بذكر مصادر أُخرى ، وما ظنّك بأمر يرويه الإمام البخاري ولفيف من المحدّثين قال : وقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على قليب «بدر» وخاطب المشركين الذين قُتلوا وأُلقيت جثثهم في القليب : «لقد كنتم جيران سوء لرسول الله ، أخرجتموه من منزله ، وطردتموه ، ثمّ اجتمعتم عليه فحاربتموه ، فقد وجدت ما وعدني ربّي حقّاً» ، فقال له رجل: يا رسول الله ما خطابك لهم؟!

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «والله ما أنتم بأسمع منهم ، وما بينهم وبين أن تأخذهم الملائكة

__________________

(١) البخاري : الصحيح الجزء ٩ ، كتاب الجنائز ، باب ما جاء في عذاب القبر ، ص ٩٨.

٤٣٦

بمقامع من حديد إلّا أن أعرض بوجهي عنهم».

وقد أنشد حسان قصيدة بائية رائعة حول وقعة بدر الكبرى يشير في بعض أبياتها إلى هذه الحقيقة أعني قصة القليب إذ يقول :

يناديهم رسول الله لمّا

قذفناهم كباكب في القليبِ

ألم تجدوا كلامي كان حقّا

وأمر الله يأخذ بالقلوبِ

فما نطقوا ولو نطقوا لقالوا

صدقت وكنت ذا رأي مصيبِ

على أنّه لا توجد عبارة أشدّ صراحة ممّا قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المقام حيث قال : «ما أنتم بأسمع منهم» ، وهل ثمة بيان أكثر إيضاحاً وأشد تقريراً لهذه الحقيقة من مخاطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لواحد واحد من أهل القليب ، ومناداتهم بأسمائهم ، وتكليمهم كما لو كانوا على قيد الحياة؟!

فلا يحق لأيّ مسلم مؤمن بالرسالة والرسول أن يسارع إلى إنكار هذه القضية التاريخية الإسلامية المسلّمة ويبادر قبل التحقيق ويقول : إنّ هذه القضية غير صحيحة لأنّها لا تنطبق على عقلية المادّي المحدودة.

وقد نقلنا هنا نصّ هذا الحوار ، لكي يرى المسلمون الناطقون باللغة العربية كيف أنّ حديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يصرّح بهذه الحقيقة بحيث لا توجد فوقه عبارة في الصراحة والدلالة على هذه الحقيقة.

ومن أراد الوقوف على مصادر هذه القصة فعليه أن يراجع ما ذكرناه في الهامش أدناه(١).

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٥ معركة بدر ص ٧٦ ، ٧٧ ، ٨٦ ، ٨٧ ؛ صحيح مسلم ج ٨ كتاب الجنة باب معتمد الميت : ١٦٣ ؛ سنن النسائي ج ٤ باب أرواح المؤمنين ص ٨٩ ـ ٩٠ ؛ مسند الإمام أحمد ٢ : ١٢١ ؛ المغازي للواقدي غزوة بدر وغيرها.

٤٣٧

٢ ـ الإمام عليّ عليه‌السلام يكلّم رؤساء الناكثين :

إنّ الإمام علياً عليه‌السلام بعد أن وضعت الحرب في معركة الجمل أوزارها مرّ على كعب بن سور وكان قاضي البصرة فقال لمن حوله : «أجلسوا كعب بن سور» فاجلسوه بين شخصين يمسكانه ـ وهو صريع ـ فقال عليه‌السلام : «يا كعب بن سور قد وجدت ما وعدني ربّي حقّا فهل وجدت ما وعدك ربُّك حقّا»؟ ثمّ قال : «أضجعوه».

ثمّ سار قليلاً حتى مرّ بطلحة بن عبيد الله صريعاً فقال : «أجلسوا طلحة» فأجلسوه ، فقال عليه‌السلام : «يا طلحة قد وجدت ما وعدني ربّي حقّاً فهل وجدت ما وعدك ربّك حقّا»؟ ثمّ قال : «أضجعوا طلحة».

فقال له رجل : يا أمير المؤمنين ما كلامك لقتيلين لا يسمعان منك؟! فقال عليه‌السلام : «يا رجل ، والله لقد سمعا كلامي ، كما سمع أهل القليب كلام رسول الله» (١).

٣ ـ السلام على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في ختام الصلاة :

إنّ جميع المسلمين في العالم ـ بالرغم من الخلافات المذهبية بينهم في فروع الدين ـ يسلّمون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الصلاة عند ختامها فيقولون :

«السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته»

وقد أفتى الشافعي وآخرون بوجوب هذا السلام بعد التشهد ، وأفتى الآخرون باستحبابه ، لكن الجميع متفقون على أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله علّمهم السلام وأنّ سنّة النبي ثابتة في حياته وبعد وفاته (٢).

__________________

(١) الجمل للمفيد ؛ حقّ اليقين ٢ : ٧٣.

(٢) راجع كتاب تذكرة الفقهاء ٣ : ٢٣٣ المسألة ٢٩٤ ، وكتاب الخلاف للشيخ الطوسي ١ : ٤٧ ، لمعرفة أقوال المذاهب والفقهاء في هذا المجال.

٤٣٨

والسؤال الآن : اذا كانت صلتنا وعلاقتنا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد انقطعت بوفاته ، فما معنى مخاطبته والسلام عليه يومياً؟!

٤ ـ الميت يسمع قرع النعال :

الميت يسمع كلام من يتكلم قرب قبورهم لا بجسمه ، بل بروحه التي كانت لها ارتباط وإشعاع على الجسم ، ولا يعني أنّها داخلة في قبره كما كانت في حياته ملازمة لجسمه ومعلّقة به ، بل المراد أنّ لها ارتباطاً وإشعاعاً على الجسم الذي فارقه ، ويدلّ على ذلك :

ما رواه البخاري عن أنس بن مالك أنّه حدّثهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «إنّ العبد إذا وضع في قبره وتولّى عنه أصحابه حتى أنّه ليسمع قرعَ نعالهم ، أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له : ما كنت تقول في هذا الرجل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ فيقول : أشهد أنّه عبد الله ورسوله ، فيقال له : انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مَقعداً في الجنة فيراهما جميعا ، وأمّا الكافر والمنافق فيقول : لا أدري ، كنت أقول كما يقول الناس ، فيقال : لا دَريتَ ولا تَلَيتَ ، ثمّ يُضرب بمطارق من حديد ضربة بين أُذنيه ، فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلّا الثقلين»(١).

وجه الاستدلال به أنّه قال : «أنّه ليسمع قرع نعالهم» فالميت إذاً يسمع قرع النعال ، فالكلام من باب أوْلى.

٥ ـ قول الميت عند حمل الجنازة :

روى البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدريّ (رض) : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: «إذ وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقهم ؛ فإن كانت صالحة

__________________

(١) البخاري ، الصحيح ٢ : ٩٠ باب الميت يسمع خفق النعال ، ولاحظ في تفسير الحديث فتح الباري لابن حجر العسقلاني ٣ : ١٦٠ ، وشرح الكرماني ٧ : ١١٧.

٤٣٩

قالت قدّموني ، وإنّ كانت غير صالحة قالت : يا ويلي أين تذهبون بها ، يسمع صوتها كل شيء إلّا الإنسان ولو سمعه لصعق» (١).

٦ ـ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يسلّم على الأموات :

روى مسلم عن عائشة أنّها قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّما كان ليلتَها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يخرج آخر الليل إلى البقيع فيقول : «السلام عليكم دارَ قوم مؤمنين وآتاكم ما توعدون ، غداً مؤجلون وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون ، اللهمّ اغفر لأهل بقيع الغرقد» (٢).

فلو كان الأموات لا يسمعون كالجماد يكون السلام عليهم عبثاً ، وأين منزلة نبيّ الحكمة من العبث وقد تضافر أنّ النبيّ كان يمارس زيارة البقيع؟!

وبذلك يعلم أنّ المقصود من الموت في المقام هو وقف سريان الدم في الأوردة ، والشرايين في جسم الإنسان ، وهو الممد بجوارحه وحواسه بالحركة والشعور والإحساس ، والمحرّك الرئيس لها هو القلب والرئتان بواسطة التنفّس.

وأمّا ما يرجع إلى واقع الإنسان وشخصيته الحقيقية وهو الجوهر ؛ المدرك المفكر فهو باق عالم شاعر.

٧ ـ تعذيب الميت في القبر :

روى البخاري عن ابنة خالد بن سعيد بن العاص أنّها سمعت النبيّ وهو يتعوّذ من عذاب القبر.

وروى عن أبي هريرة كان رسول الله يدعو : «اللهمّ إنّي أعوذ بك من

__________________

(١) البخاري ، الصحيح ٢ : ٨٦ رواه في ما بين : حمل الرجال الجنازة دون النساء ص ٨٥ وباب قول الميت وهو على الجنازة «قدموني» ، لاحظ شرح الحديث في فتح الباري ٣ : ١٤٤ وشرح الكرماني ٧ : ١٠٤.

(٢) مسلم : الصحيح ٧ : ٤١.

٤٤٠