في ظلال التّوحيد

الشيخ جعفر السبحاني

في ظلال التّوحيد

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: نشر مشعر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-6293-82-4

الصفحات: ٧١٢

المبحث الأوّل

حقيقة الإنسان ؛ روحه ونفسه

لم يزل الإنسان عبر القرون يبحث عن الحياة وحدّها ومنشئها ومُنتهاها بحثاً حثيثاً ، كي يقف على معالمها وآثارها وكيفية حدوثها بين الموجودات الحيّة. وقد أدّى هذا البحث والولع الشديدان إلى نشوء قسم مختص يعرف ب «عالم الأحياء» ، وقد كرّس لفيف من العلماء جُلَّ أعمارهم في سبيل ذلك وخرجوا بنتائج باهرة معروفة.

والغاية القصوى من دراسة الظاهرة الحياتية ، هي الوقوف على واقعِ الإنسان ، وهل هو عبارة عن هيكل ماديّ متكوّن من عروق وأعصاب وعظام وغيرها من المكوّنات المادية فحسب ، أم أنّ هناك وراء هذا المظهر المادّي جوهراً آخرَ يكوِّن حقيقة الإنسان ويُشيّد واقعه والإنسان به يكون إنساناً؟

وبعبارة أُخرى : أنّ الباحث يحاول أن يقف على ذاته وواقعه ، وأنّه هل هو موجود آليّ مركب من أدوات مادية مختلفة تتفاعل أجزاؤه بعضها ببعض ، أو أنّ وراء هذا الموجود الآليّ حقيقة قدسية هي واقع الإنسان وهي المدبّرة لما تراه وتظنّه إنساناً؟

٤٠١

فالعلماء في هذا المجال على رأيين :

الأوّل : الإنسان موجود آلي مركّب من عرق وعصب ولحم وعظم ، وما الشعور إلّا نتيجة تفاعل هذه الأجزاء بعضها ببعض ، وليس وراءَ هذا التركيب المادّي أيّ وجود آخر باسم الروح والنفس ، وأنّ الإنسان يفنى بموته ، وبه تنتهي شخصيته و «ليس وراء عبّادان قرية» وقد انطلت هذه النظرية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر على كثير من الباحثين في الغرب ، وبذلك قاموا بنفي العوالم الغيبيّة وراء المادة ، وحسِبوا أنّ الوجود يساوي المادة وهي أيضاً تساويه ، وبذلك شيّدوا المذهب المادّي في ذينك القرنين.

الثاني : أنّ واقع الإنسان الذي به يعدّ إنساناً ، هو نفسه وروحه ، وليس جسمه إلا أداة بيد روحه وجهازاً يعمل به في هذا العالم المادّي ، وهذا لا يعني أنّه مركّب من جسم وروح ، بل أنّ الواقع فوق ذلك ، فالإنسان هو الروح ، والجسم كسوة عليه ، ونِعْمَ ما قيل :

يا خادَم الجسم كم تسعى لخِدمته

أتطلب الربح فيما فيه خسرانُ

أقبل على النفس واستكمل فضائلها

فأنت بالروح لا بالجسم إنسان

ومن حسن الحظ أنّه في الوقت الذي كان المادّي يرفع عقيرته وينادي بأنّه ليس وراء المادة شيءٌ أثبتت البحوث العلمية بطلان هذه النظرية ، فقام الروحيّون بنشر رسائل عديدة وكتب كثيرة تشتمل على تجاربهم وأدلّتهم في هذا المضمار ، وبذلك دمّروا ما بُني من تفكيرات مادية بمعاولهم العلمية.

وبما أنّ بحثنا في هذه الفصل يعتمد على الكتاب والسنّة فنترك أدلّتهم للقارئ

٤٠٢

الكريم للبحث عنها في مظانّها ، ولكن قبل أن ندرس قضاء الكتاب والسنّة في المقام نأتي ببعض الأدلّة العقلية التي تتجاوب وشعور قرّائنا فإنّها دلائل واضحة ـ على أنّ وراء الجسم واقعاً آخر باسم الروح ـ يخضع أمامها كل إنسان واع وإن لم يقرأ كتاباً فلسفياً ، ولم يقرع باب العلوم العقلية ، لأنّ ما يمرّ عليه كلّها أُمور وجدانية يحسّ بها كلّ إنسان إذا تجرّد عن رأي مسبق.

٤٠٣

الشخصيّة الإنسانيّة المعبّر عنها بال «أنا» :

لم يزل كلّ واحد منّا ينسُب جميعَ أفعاله إلى موجود نعبّر عنه بال «أنا» ويقول :«أنا فعلتُ» «أنا أكلتُ» و «أنا ضربتُ» وربما ينسبها إلى الضمائر المتصلة القائمة مكان «أنا» فيقول : «قرأت» ، «كتبت» ، «أردت» و «أجبت» ، فإذن يقع السؤال حول تعيين الموضوع الذي تنسب إليه هذه الأفعال ، فما هو إذن؟ هل هو هذا الجسم المادّي ، أو شيء آخر وراء ذلك؟ فلو كان الموضوع هو الجسم المادّي منه ، لا يكون دليلاً على وجود جوهر آخر مجرد عن المادة وآثارها ، ولو كان الموضوع أمراً غيره ، يثبت به موضوع وراء المادة ، مقترن بجسمه وحياته المادية.

ثمّ إنّنا ننسب أعضاءنا إلى شيء آخر وراء الجسم المادّي هذا ونقول : «رأسي» و «قلبي» و «بطني» و «قدمي» فهذه أعضاء رئيسية للجسم الماديّ «الإنسان» ، ومع ذلك فإنّنا ننسبها إلى شيء آخر وراء هذا الجسم المادّي.

وربما نتجاوز إلى أكثر من هذا فننسب نفس الجسم بأكمله إلى شيء آخر ، فنقول : «بدني» ، فإذن ما هذا المضاف إليه في جميع هذه الانتسابات ، من انتساب الأفعال والأعضاء والبدن بأكمله؟

وبما أنّ كلّ قضية تتركّب من موضوع ومحمول ، فبداهة العقل تحكم بأنّ لهذه المحمولات موضوعاً وإن لم يكن مرئياً إلّا أنّنا ندركه من خلال هذه المحمولات.

وبعبارة واضحة : أنّ الأفعال البشرية رغم صدورها من أعضاء مختلفة كالإبصار بالعين ، والرفع باليد ، والمشي بالرجل ، والسمع بالأُذن ، فالإنسان ينسبها جميعاً إلى مصدر واحد ، فيقول :

«أنا شاهدت» ، «أنا مشيت» و «أنا سمعت» كما ينسب كلّ عضو من جسمه

٤٠٤

إلى مصدر كذلك ، فإذن تطّلب هذه المحمولات موضوعاً واحداً لنفسها ، حتى لا تكون القضية مجرّد انتسابات بلا موضوع ، وعندئذ يكون هذا المصدر الواحد هو الشخصية الواقعية للإنسان التي نعبّر عنها بروحه ونفسه.

فالنتيجة : أنّ الشخصية الإنسانية تكمن وراء جسمه وصورته الظاهرية.

ثبات الشخصية الإنسانية في دوّامة التغييرات الجسدية :

إنّ كل واحد منّا يحس بأنّه باقٍ في دوّامة التغيّرات والتحوّلات التي تطرأ على جسمه ، فمع أنّه تمرّ عليه أحوال كثيرة وتبدّلات جوهرية عبر مراحل الطفولة ، والصّبي ، والشباب ، والشيخوخة ، إلا أنّه يجد أنّ شيئاً واحداً ينسب إليه جميع هذه الصفات والحالات وهو باق خلال هذه التغييرات ، غير متغير. فيقول : أنا الذي كنت طفلاً ، ثمّ يافعاً ، ثمّ شاباً ، ثمّ كهلاً ، ثمّ شيخاً ، فيدرك أنّ هناك حقيقة باقية ثابتة رغم تغيير كلّ هذه الأحوال والأوضاع وتصرّم الأزمنة وانقضاء الأوقات ، فقد تغير كل شيء خلال سبعين سنة ولكن هناك أمر باق لم يتغير ولم يتبدل ، وهو الذي يحمل تلك الصفات والأحوال ، فالمتغير غير الثابت ، والتغير آية المادية ، والثبات آية التجرّد عن أحكام المادة.

بل نرى أنه ينسب إلى نفسه الفعل الذي قام به قبل خمسين سنة ويقول : «أنا الذي كتبت هذا الخط يوم كنت طفلاً» وهذا يعرب عن إدراكه بوجدانه أنّه هو الذي كتب ذلك الخط سابقاً ، فلو لم يكن هناك شيء ثابت إلى زمان نطقه بهذا الكلام لزم كذب القضية وعدم صحّتها ، وذلك لأنّه لو كان الإنسان خلاصة الأجزاء المادية الظاهرة فالمفروض أنّها زالت وحدثت بعدها شخصيات جسمانية متعددة ، فأين الإنسان أيام صباه ، منه أيام شيخوخته ، وقد تحوّلت وتبدّلت عظامه وعروقه وأعصابه في دوامة التغيّرات وتحلّل منه كلّ شيء وتخلّفت عنه

٤٠٥

أشياء اخر ؛ مثلها شكلاً وغيرها حقيقة.

فعملية التغيّر في جسمه مستمرة ؛ ولا زالت الخلايا تتلف وتُستعاض بأُخر ، ولكن الإنسان يرى نفسه ثابتاً في مهبّ تلك التحوّلات ، فكأنَّ هناك أمراً ثابتاً طيلة سبعين عاماً يحمل تلك التحولات ، فهو يشعر في جميع مراحل حياته أنه هو الإنسان السابق الذي وجد منذ عشرات السنين.

نفترض أنّ إنسانا جنى وله من العمر عشرون عاماً ، ولم يقع في قبضة السلطات إلى أن ألقت القبض عليه وله من العمر ستون عاماً ، فعند ذلك يقف في قفص الاتّهام ليُحاكم على جرمه ، فإذا به محكوم بالإعدام على ما جنت يداه بقتله أُناساً أبرياء ، فلا القاضي ولا الحاضرون في جلسة المحكمة يرون الحكم الصادر بحقّه جائراً ، بل يراه الجميع أنّه وفق العدالة.

ولو كان الإنسان عبارة عن جسم مادي ، فقد تغيّرت خلاياه مرات عديدة طيلة تلك الأعوام ، لكنّ الحاضرين والقاضي وكل سامع ، يرى أنّه نفس ذلك الإنسان الجاني ، فما هذا إلّا لأنّ هناك حقيقة ثابتة في دوّامة المتغيّرات ، لم يطرأ عليها أيّ تغيير ، بل بقيت محفوظة مع كل هذه التبدّلات ، وإذا كان التغيّر من صفات المادة ، والثبات والدوام من صفات الموجود غير المادّي ، نستكشف من ذلك أنّ واقع الإنسان غير مادّي وثابت في جميع الحالات ، وهذا ما نعبّر عنه بالروح المجرّدة ، أو النفس المجرّدة.

ولا يخفى أنّ هذا البرهان غير البرهان السابق ، فمنطلق الأوّل هو وجود الموضوع لجميع المحمولات ، ومنطلق البرهان الثاني هو ثبات الموضوع في دوّامة التحوّلات والتغيرات الطارئة على البدن.

وفي النهاية نقول : قد لخص الرازي هذا البرهان في تفسيره وقال : إنّ أجزاء هذا الهيكل أبداً في النموّ والذبول ، والزيادة والنقصان ، والاستكمال والذوبان ، ولا

٤٠٦

شكَّ أنّ الإنسان من حيث هو هو أمر باق من أوّل عمره ، والباقي غير ما هو غير باق ، والمشار إليه عند كل أحد بقوله «أنا» وجب أن يكون مغايراً لهذا الهيكل (١).

علم الإنسان بنفسه مع غفلته عن بدنه :

ترى الإنسان يغفل في ظروف خاصة عن كل شيء حتى عن بدنه وأعضائه ، لكنّه لا يغفل عن نفسه ، وهذا برهان تجريبي يمكن لكلّ منّا القيام به ، وبذلك يصح القول بأنّ للإنسان وراء جسمه الماديّ حقيقة أُخرى ، حيث إنّه يغفل عن الأُولى ولا يغفل عن الثانية ، وبتعبير علمي : المغفول ، غير المغفول عنه ، وإليك توضيح ذلك : إنّ إدراك هذه الحقيقة (يغفل عن كل شيء حتى جسمه ولا يغفل عن نفسه) يتوقف على ظروف خاصة بالشكل التالي :

١ ـ أن يكون في جوّ لا يشغله فيه شاغل ولا يلفت نظره لافت.

٢ ـ أن يتصور أنّه وجد في تلك اللحظة بالذات وأنّه كان قبل ذلك عدماً ، وما هذا إلّا ليقطع صلته بماضيه وخواطره قطعاً كاملاً.

٣ ـ أن يكون صحيح العقل سليم الإدراك ، في تلك اللحظة.

٤ ـ أن لا يكون مريضاً لا يلفت المرض انتباهه إليه.

٥ ـ أن يستلقي على قفاه ويفرّج بين أعضائه وأصابع يديه ورجليه حتى لا تتلامس فتجلب انتباهه إليها.

٦ ـ أن يكون في هواء طلق معتدل لا حار ولا بارد ويكون كأنّه معلّق في الفضاء حتى لا يشغله وضع المناخ ، أو يلفته المكان الذي يستند إليه.

ففي هذه الحالة التي يقطع الإنسان كل صلاته بالعالم الخارجي عن نفسه تماماً

__________________

(١) مفاتيح الغيب ٤ : ١٤٧.

٤٠٧

ويتجاهل حتى أعضاءه الداخلية والخارجية ويجعل نفسه في فراغ من كل شيء وعندئذ يستشعر بذاته ، أي سيدرك شيئاً غير جسمه وأعضائه وأفكاره وبيئته التي أحاطت به ، وتلك هي «الذات الإنسانية» أي الروح أو النفس الإنسانية التي لا يمكن أن تفسّر بشيء من الأعضاء والحواس والقوى.

وهذه البينونة أظهر دليل على أنّ للإنسان وراء جسمه وأعضائه المغفول عنها في بعض الظروف ، حقيقة واقعية غير مغفول عنها أبداً ، وأنّ الإنسان ليس هو جسمه وأعضاؤه وخلاياه.

وقد لخّص الرازي هذا البرهان وقال : إنّي أكون عالماً بأنّي «أنا» حال ، أكون غافلاً عن جميع أجزائي وأبعاضي ، والمعلوم ، غير ما هو غير معلوم فالذي أُشير إليه بقولي مغاير لهذه الأعضاء والأبعاض (١).

إلى هنا اكتفينا بالبراهين الواضحة التي يسهل التمعّن فيها لكل إنسان واع وإن لم يدخل مدرسة كلامية أو فلسفية ، وبذلك استغنينا عن البراهين المعقدة التي أقامها الفلاسفة على وجود الروح في كتبهم ، وبما أنّ رسالتنا في هذه البحوث مقتصرة على الاعتماد على الكتاب والسنّة ، لذلك ندرس واقع الإنسان وحقيقته على ضوء ذينك المصدرين ونكتفي في هذا الحقل بآيات ثلاث.

القرآن وحقيقة الشخصية الإنسانية :

إذا استعرضنا آيات القرآن الكريم نقف على أنها تدلّ تارة بوضوح وأُخرى بالإشارة على أنّ واقع الإنسان وشخصيته غير جسمه الماديّ ، ونحتج في المقام بآيات :

__________________

(١) مفاتيح الغيب ٤ : ١٤٩.

٤٠٨

الآية الأُولى :

قال سبحانه : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)(١).

الآية تردّ على ادّعاء المشركين القائلين بأنّ الموت بطلان الشخصية وانعدامها ، وأنّها منوطة بجسده المادي ، بأنّ شخصيته قائمة بشيء آخر لا يضلّ ولا يبطل ، بل يؤخذ عن طريق ملك الموت إلى أن يحشره الله يوم القيامة.

وإليك بيان الشبهة والإجابة ، في ضمن تفسير آيتين :

قال سبحانه :

١ ـ (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ)(٢).

٢ ـ (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ).

تدلّ هاتان الآيتان على «خلود الروح» بعد انحلال الجسد وتفكّكه وذلك بالبيان الآتي :

كان المشركون يستبعدون إمكانية عودة الإنسان بعد تفكّك جسمه الماديّ وتبدّده في التراب.

ولهذا اعترضوا على فكرة الحشر والنشر يوم القيامة ، وقد عبّر القرآن الكريم عن اعتراضهم بقوله :

(قالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ).

يعني أنّ الموت يوجب فناء البدن ، وتبعّض أجزائه ، وضياعها في ذرات التراب ، فكيف يمكن جمع هذه الأجزاء الضّالة المتبعثرة ، وإعادة تكوين الإنسان

__________________

(١) السجدة : ١١.

(٢) السجدة : ١٠.

٤٠٩

مرة أُخرى من جديد؟

فردّ القرآن الكريم هذا الاستبعاد والاعتراض بجملتين هما :

١ ـ (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) (١).

٢ ـ (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) (٢).

فلا شك أنّ الجملة الأُولى ليست هي الجواب على اعتراضهم حول إمكانية إعادة المعدوم من أجزاء الجسد ، بل هي توبيخ لهم على إنكارهم لقاء الله وكفرهم بذلك ، وإنّما ترى الجواب الواقعي على ذلك في الجملة الثانية ، وحاصله هو : أنّ ما يضلّ من الآدمي بسبب الموت إنّما هو الجسد وهذا ليس حقيقةُ شخصيته ، فجوهر شخصيته باقٍ ، وإنّ الذي يأخذه ملك الموت وينتزعه من الجسد ليس إلّا الجانب الأصيل الذي به تناط شخصيته وهو محفوظ عندنا.

إذن فالضال في التراب من الإنسان ـ بسبب الموت ـ هو القشر والبدن ، وأمّا حقيقته وهي الروح الإنسانية التي بها قوام شخصيته ، فلا يطالها الفناء ولا ينالها الدثور.

التوفّي في الآية ليس بمعنى الإماتة ، بل بمعنى الأخذ والقبض والاستيفاء ، نظير قوله سبحانه : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) (٣) وقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) (٤) ومن قولهم «وافاه الأجل» وبعبارة أُخرى : لو ضلّ بالموت كلّ شيء من وجودكم لكان لاستبعادكم إمكان إعادة الإنسان وجه مقبول.

__________________

(١) السجدة : ١٠.

(٢) السجدة : ١١.

(٣) الزمر : ٤٢.

(٤) الأنعام : ٦٠.

٤١٠

وأمّا إذا بقي ما به واقعيتكم وحقيقتكم وهي النفس الإنسانية والروح التي بها قوام الجسد ، فلا يكون لهذا الاستبعاد مبرّر ؛ إذ تكون الإعادة حينئذ أمراً سهلاً وممكناً لوجود ما به قوام الإنسان.

قال العلّامة الطباطبائي في تفسير هذه الآية :

«إنّه تعالى أمر رسوله أن يجيب عن حجتهم المبنيّة على الاستبعاد ، بأنّ حقيقة الموت ليس بطلاناً لكم ، وضلالاً منكم في الأرض ، بل ملَكُ الموت الموكَّل بكم يأخذكم تامّين كاملين من أجسادكم أي ينزع أرواحكم من أبدانكم ، بمعنى قطع علاقتها من الأبدان ، وأرواحكم تمام حقيقتكم ، فأنتم أي ما يعنى بلفظة «كُم» : محفوظون لا يَضلّ منكم شيء في الأرض ، وإنّما تَضَلّ الأبدان ، وتتغيّر من حال إلى حال ، وقد كانت في معرض التغيّر من أوّل كينونتها ، ثمّ إنّكم محفوظون حتى ترجعوا إلى ربكم بالبعث ورجوع الأرواح إلى أجسادها.

وبهذا تندفع حجّتهم على نفي المعاد بضلالهم سواء أقُرّرت على نحو الاستبعاد أم قُرّرت على أنّ تلاشي البدن يُبطل شخصية الإنسان فينعدم ، ولا معنى لإعادة المعدوم ، فإنّ حقيقة الإنسان هي نفسه التي يحكي عنها يقول «أنا» وهي غير البدن ، والبدن تابع لها في شخصيته ، وهي تتلاشى بالموت ولا تنعدم ، بل محفوظة في قدرة الله حتى يؤذن في رجوعها إلى ربها للحساب والجزاء فيبعث على الشريطة التي ذكر الله سبحانه» (١).

الآية الثانية :

قال سبحانه : (يأيَّتُها النَّفسُ المُطمئِنَّةُ* ارجِعِي إلى ربِّكِ راضيةً مَرضيَّةً* فادخُلي في عِبادي* وَادْخُلِي جَنَّتي) (٢).

__________________

(١) تفسير الميزان ١٦ : ٢٥٢.

(٢) الفجر : ٢٧ ـ ٣٠.

٤١١

فالآية لم تخاطب جسد الإنسان وأعضاءه كما ترى ، بل واقعه وحقيقته التي يعبِّر عنها الذكر الحكيم بالنفس ، واختار من بين النفوس الكثيرة النفس المطمئنة وهي التي تسكن إلى ربِّها ، وترضى بما رضي به لها ، فترى نفسها عبداً لا يملك لنفسه شيئاً من خير أو شرّ ، أو نفعٍ أو ضرّ.

ويرى الدنيا دار مجاز وما يستقبله فيها من غنى أو فقر ، أو أيّ نفع وضرٍّ ابتلاءً وامتحاناً إلهياً ؛ فلا يدعوه تواترُ النعم عليه إلى الطغيان وإكثار الفساد ، والعلوّ والاستكبار ، ولا يوقعه الفقر والفقدان في الكفر وترك الشكر.

ثمّ يخاطبها بخطاب آخر ويقول : (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) ، وظرف الخطابين من حين نزول الموت إلى دخول جنة الخلد ، ثمّ يخاطبها بخطاب ثالث ورابع ويقول: (فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) وهما تفريعان على الخطاب الثاني الماضي أعني : (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ ...) وقوله : (فِي عِبادِي) يدلّ على أنّها حائزة مقام العبودية وفي قوله : (جَنَّتِي) تعيين لمستقرّها وفي إضافة الجنة إلى ضمير التكلّم ، تعريف خاص ، ولا يوجد في كلامه تعالى إضافة الجنّة إلى نفسه تعالى وتقدّس إلّا في هذه الآية (١).

والمخاطب في هذه الخطابات الأربعة ، ليس جسده البارد الذي صار بالموت بمنزلة الجماد ، ولا عظامه الرميمة الدفينة في طبقات الثرى ، بل نفسه وروحه الباقية غير الداثرة.

ولو خُصَّ ظرف الخطاب بيوم البعث من لدن إحيائها إلى استقرارها في الجنة ، لما ضرّ بالاستدلال وإن كان على الوجه الأوّل أظهر.

والحاصل : فسواء قلنا بأنّ ظرف الخطاب هو زمان الموت أو زمان البعث ،

__________________

(١) تفسير الميزان ٢٠ : ٢١٣ ؛ مجمع البيان ٥ : ٤٨٩.

٤١٢

فالمخاطب هو نفس الإنسان لا بدنه ولا أعضاؤه فتدلّ على أنّها واقعهُ والباقي كسوة عليها.

الآية الثالثة :

قال سبحانه : (فَلَو لا إذا بَلغتِ الحُلْقومَ* وأنتم حِينئذٍ تَنظُرُونَ) (١).

وجه الدلالة : أنّ الحلقوم جزء من جسمه فهناك أمر آخر يبلغ الحلقوم عند الموت وليس إلّا النفس التي تنتقل من دار إلى دار. ولو كانت حقيقة الإنسان هو جسده المادّي ، فلا معنى للبلوغ ولا للنزوع والخروج.

وبذلك يُعلم أنّ بعض ما سنستدل به في الفصل الآتي ، يدل ضمناً على ما نحن الآن بصدد بيانه ، ولأجل ذلك نقتصر في المقام على الآيات الثلاث ، ونحيل الاستدلال بغيرها إلى ما سيوافيك في المبحث القادم.

ما هي حقيقة النفس الإنسانية؟

إنّ كثيراً من القوى الطبيعية معروفة بآثارها لا بحقائقها ، فالكهرباء نعرفها بآثارها ، كما أنّ الذرّة أيضاً كذلك ، فالعالِم بالحقائق هو الله سبحانه ، وليس حظّ الإنسان في ذلك الباب إلّا الوقوف على الآثار ، فإذا كانت هي حال القوى الكامنة في الطبيعة ، فالروح أولى بأن تكون كذلك ، غير أنّ كثيراً من المتكلّمين وبعض المحدّثين خاضوا في هذا الباب ولم يأتوا بشيء واضح ، وأقصى ما عندهم : أنّها جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس ، وهو جسم نوراني ، علوي ، خفيف ، حي ، متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء ويسري فيها سريان الماء في الورد ، والدهن في الزيتون ، والنار في الفحم ، فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة

__________________

(١) الواقعة : ٨٣ ـ ٨٤.

٤١٣

عليها من هذا الجسم اللطيف ، بقي ذلك الجسم اللطيف مشابكاً لهذه الأعضاء وأفادها هذه الآثار من الحس والحركة الإرادية.

وإذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها ، وخرجت عن قبول تلك الآثار فارق الروح البدن ، وانفصل إلى عالم الأرواح.

قال ابن قيم الجوزية : وهذا القول هو الصواب في المسألة ، وهو الذي لا يصح غيره ، وكل الأقوال سواه باطلة ، وعليه دلّ الكتاب والسنّة وإجماع الصحابة وأدلّة العقل والفطرة(١).

أقول : ما قاله ونقله ابن قيم ، أحسن ما نقل عنهم في المقام ، ولكن واقع الروح ومنزلته أرفع بكثير مما جاء في هذا الكلام ، وتشبيهه بسريان الماء في الورد والدهن في الزيتون والنار في الفحم يعرب عن سطحية الدراسة في المعارف الغيبية ، وعدم التفريق بين مراتب الروح ؛ فإنّ مرتبة منها يشبه بما ذكر ، وأمّا المرتبة العليا أعني المخاطب بقوله سبحانه : (يأيّتها النفسُ المطمئنَّةُ* ارجِعي إلى ربِّكِ راضيةً مَرضيةً* فادخُلي في عِبادي* وادخُلي جَنَّتي) (٢) فهي أرفع كرامة من أن يكون شأنها شأن الأُمور المادّية اللطيفة ، والتفصيل موكول إلى محلِّه.

__________________

(١) الروح : ص ١٧٨.

(٢) الفجر : ٢٧ ـ ٣٠.

٤١٤

المبحث الثاني

استمرار الحياة بعد الانتقال من الدنيا

أو بقاء الروح بعد الموت

قد تعرّفت في الفصل السابق على أنّ واقع الإنسان روحه ونفسه ، وأنّ الجسم المادّي منه ليس إلّا كسوة عليه ، والنفس هي اللبّ ، والبدن قشره ، وقد قرّبناه إلى ذهن القارئ تقريباً سهلاً مستندين في ذلك على ما ورد في الكتاب العزيز مضافاً إلى ما مرّ من قضاء العقل الصريح في هذا المضمار.

ونركّز في فصلنا هذا على خلود الروح بعد الموت ، وأنّها باقية بإذنه سبحانه إلى أن يرث الله سبحانه الأرض ومن عليها وما فيها ، ونقتصر في المقام ـ بدل الاستدلال بالبراهين العقلية ـ على صريح الآيات ونصوص الذكر الحكيم حتى لا يبقى لمريب ريب ولا لمشكّك شكّ.

الآية الأُولى

قال سبحانه : (اللهُ يَتوفّى الأنفُسَ حِينَ مَوتها والتي لَمْ تَمُتْ في منَامِها فَيُمسِكُ الّتي قَضَى عَليها الموتُ ويُرسِلُ الأُخرى إلى أجلٍ مُسمًّى إنّ في ذلكَ

٤١٥

لآياتٍ لِقومٍ يتَفكَّرون) (١).

توضيح الاستدلال يتوقف على التمعّن في أمرين :

١ ـ المراد بالأنفس هي الأرواح المتعلّقة بالأبدان لا مجموعهما ؛ لأنّ المقبوض عند الموت ليس هو المجموع ، بل المقبوض هو الروح ، والآية تدلّ على أنّ الأنفس تغاير الأبدان حيث تفارقها وتستقلّ عنها وتبقى بحيالها.

٢ ـ أنّ لفظة «يتوفّى» و «يمسك» و «يرسل» تدلّ على أنّ هناك جوهراً غير البدن المادّي في الكيان الإنساني ، يتعلّق به كل من «التوفّي» و «الإمساك» و «الإرسال» وليس المراد من التوفّي في الآية إلّا أخذ الأنفس وقبضها ، ومعناها أنّه سبحانه يقبض الأنفس إليه ، وقت موتها ومنامها ، بيد أنّ من قضى عليه بالموت يمسكها إلى يوم القيامة ولا تعود إلى الدنيا ، ومن لم يقض عليه به يرسلها إلى الدنيا إلى أجل مسمّى ، فأيّة دلالة أوضح من قوله أنّه سبحانه يمسك الأنفس ، فهل يمكن إمساك المعدوم أو أنّه يتعلّق بالأمر الموجود؟ وليس ذلك إلّا الأنفس.

الآية الثانية

قوله سبحانه : (ولا تَقولُوا لِمَنْ يُقتَلُ في سَبيلِ اللهِ أمواتٌ بَلْ أحياءٌ ولكنْ لا تَشعُرون) (٢).

وقد جاء في أسباب نزولها ، أنّ المشركين كانوا يقولون : إنّ أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله يقتلون أنفسهم في الحروب بغير سبب ثمّ يموتون فيذهبون ، فأعلمهم الله أنه ليس

__________________

(١) الزمر : ٤٢.

(٢) البقرة : ١٥٤.

٤١٦

الأمر على ما قالوه ، بل هم أحياء على الحقيقة إلى يوم القيامة (١).

وأدب التفسير الصحيح يبعثنا على أن نفسّر الحياة بمعناها الحقيقي أي ما يفهمه عموم الناس من لفظة «حيّ» خصوصاً بقرينة الآية الثالثة ؛ حيث أثبتت للشهداء الرزق والفرح والاستبشار كما سيجيء ، فتفسير الآية بأنّهم سيحيون يوم القيامة تفسير باطل ؛ لأنّ الإحياء في ذلك اليوم عامّ لجميع الناس ولا يختصّ بالشهداء ، كما أنّ تفسير الحياة في الآية بمعنى الهداية والطاعة قياساً لها بقوله سبحانه : (أوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأحيَيناهُ وجَعلْنا لَهُ نُوراً يَمشي بهِ في النّاس) (٢) حيث جعل الضلال موتاً والهداية حياة قياس باطل ؛ لوجود القرينة على تفسير الحياة بالهداية والموت بالضلال فيها دون هذه الآية.

وسيوافيك تفنيد هذين الرأيين عن الرازي في تفسير الآية الثالثة.

ومعنى الآية (ولا تَقولوا لِمَنْ يُقتلُ فِي سبيلِ اللهِ أمواتٌ) أي لا تعتقدوا فيهم الفناء والبطلان ، فليسوا بأموات بمعنى البطلان ، بل أحياء ولكن حواسّكم لا تنال ذلك ولا تشعر به.

وعلى ذلك فالآيتان تثبتان للشهداء حياة برزخية غير الحياة الدنيوية وغير الأُخروية ، بل حياة متوسطة بين العالمين.

الآية الثالثة

قال سبحانه :

١ ـ (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ

__________________

(١) الواحدي ، أسباب النزول : ص ٢٧. ط. دار الكتب العلمية ـ بيروت.

(٢) الأنعام : ١٢٢.

٤١٧

رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ).

٢ ـ (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

٣ ـ (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) (١).

والآيات هذه صريحة ـ كلّ الصراحة ـ في بقاء الأرواح بعد مفارقتها الأبدان ، وبعد انحلال الأجسام وتفكّكها كما يتّضح ذلك من التمعّن في المقاطع الأربعة الآتية :

١ ـ (أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ).

٢ ـ (يُرْزَقُونَ).

٣ ـ (فَرِحِينَ ...).

٤ ـ (يَسْتَبْشِرُونَ ...).

فالمقطع الثاني يشير إلى التنعم بالنعم الإلهية ، والثالث والرابع يشيران إلى النعم الروحية والمعنوية ، وفي الآية دلالة واضحة على بقاء الشهداء بعد الموت إلى يوم القيامة.

وقد نزلت الآية إمّا في شهداء بدر ؛ وكانوا أربعة عشر رجلاً ؛ ثمانية من الأنصار ، وستّة من المهاجرين ، وإمّا في شهداء أُحد ؛ وكانوا سبعين رجلاً ؛ أربعة من المهاجرين : حمزة بن عبد المطلب ، ومصعب بن عمير ، وعثمان بن شماس ، وعبد الله بن جحش ، والبقية من الأنصار ، وعلى قول نزلت في حقّ كلتا الطائفتين.

قال الرازي في تفسير الآية : إنهم في الوقت أحياء كأنّ الله أحياهم ، لإيصال الثواب إليهم ، وهذا قول أكثر المفسرين ، وهذا دليل على أن المطيعين يصل ثوابهم إليهم وهم في القبور.

ثمّ أشار إلى التفسيرين الآخرين اللّذين أوعزنا إليهما :

__________________

(١) آل عمران : ١٦٩ ـ ١٧١.

٤١٨

أحدهما : للأصمّ ؛ حيث فسّر الحياة بالحياة الدينية ، وأنّهم على هدى من ربّهم ونور.

وثانيهما : لبعض المعتزلة ، وأنّ المراد من كونهم أحياء أنّهم سيُحيون.

ثمّ قال : إنّ أكثر العلماء على ترجيح القول الأوّل ، ثمّ فنّد الرأيين الأخيرين بوجوه نذكر بعضها :

١ ـ لو كان المراد ما قيل في القول الثاني والثالث لم يكن لقوله : (ولكن لا تشعرون) معنى ؛ لأنّ الخطاب للمؤمنين وقد كانوا يعلمون أنّهم سيحيون يوم القيامة ، وأنّهم على هدى ونور.

٢ ـ أنّ قوله : (ويستبشرون بالَّذِين لم يلحقوا بهم) دليل على حصول الحياة في البرزخ قبل البعث ، أي : ويستبشرون بأُناس لم يلحقوا بهم وهم في الدنيا ، فإذا كان هذا ظرف الاستبشار فيكون هو ظرف الحياة ويكون قبل البعث.

٣ ـ لو كان المراد أحد المعنيين لا يبقى لتخصيص الشهداء بهذا فائدة ؛ فإنّ غيرهم وكثيراً من غير الشهداء على نور وهدى من ربّهم.

وما أجاب به أبو مسلم أنّه سبحانه إنّما خصّهم بالذكر ؛ لأنّ درجتهم في الجنّة أرفع ومنزلتهم أرفع ضعيف ؛ لأنّ منزلة النبيّين والصدّيقين أعظم من الشهداء مع أنّه سبحانه ما خصّهم بالذكر (١).

بقي الكلام في أمرين :

أ ـ في إعراب الظرف أي «عند» في قوله (عِنْدَ رَبِّهِمْ) وفيه وجوه :

١ ـ أن يكون حالاً في محل النصب من الضمير في «أحياء».

٢ ـ أن يكون خبراً ثانياً والتقدير : هم أحياء عندهم.

__________________

(١) مفاتيح الغيب ٤ : ١٤٦.

٤١٩

٣ ـ أن يكون ظرفاً للفعل المتأخر أي يرزقون.

والأوّل أقرب.

وعلى أيّ تقدير فليس «عند» هنا للقرب المكاني ؛ لاستحالته ؛ إذ ليس له سبحانه مكان ، ولا بمعنى في علمه وحكمه ، لعدم مناسبته ، بل يعني القرب والشرف أي ذو زلفى ورتبة سامية (١).

ب ـ معنى قوله : (ويستبشرون) وأصل الاستبشار وإن كان بمعنى طلب البشارة ، ولكن الظاهر أنّ اللفظة مجرّدة عن معنى الطلب ، والمراد : ويسرّون ويفرحون ، استعمالاً للفظ في لازم معناه هي معطوفة على قوله سبحانه : (فرحين) أي : يسرّون ويفرحون بإخوانهم الذين لم يلحقوا بهم في سبيل الله تعالى بأن يلحقوا بهم من خلفهم ، لما تبيّن لهم حسن حال إخوانهم الذين تركوهم أحياء ، وهو أنّهم عند قتلهم في سبيل الله تعالى يفوزون كما فازوا ويحوزون من النعم ما حازوا بدلالة قوله : (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

ويمكن أن يكون المراد : يسرّون بقدوم إخوانهم الباقين بالشهادة أو بالموت الطبيعي والله العالم.

الآية الرابعة

قوله سبحانه : (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ

__________________

(١) روح المعاني ٢ : ١٢٢.

٤٢٠