في ظلال التّوحيد

الشيخ جعفر السبحاني

في ظلال التّوحيد

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: نشر مشعر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-6293-82-4

الصفحات: ٧١٢

يخيّل لمن يطوف عليها أنّها بلد مستقل بذاته ، بإزائها الحمّام ، إلى غير ذلك من مرافقها ، والبناء فيها حتّى الساعة ، والنفقة عليها لا تُحصى ، تولّى ذلك بنفسه الشيخ الإمام الزاهد العالم المعروف بنجم الدين الحُبوشاني.

وسلطان هذه الجهات صلاح الدين ، يسمح له بذلك كلّه ويقول : زد احتفالاً وتأنّقاً وعلينا القيام بمئونة ذلك كله ، فسبحان الّذي جعله صلاح دينه كاسمه (١).

ثمّ يذكر مشاهد أُخرى ويقول :

مشهد المُزَنيّ صاحب الإمام الشافعي رضى الله عنه ، مشهد أشهب صاحب مالك رضى الله عنه ، مشهد عبد الرحمن بن القاسم صاحب مالك رضي الله عنهما ، مشهد أصبغ صاحب مالك رضي الله عنهما ، مشهد القاضي عبد الوهاب رضى الله عنه ، مشهد عبد الله بن عبد الحكم ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم رضي الله عنهما ، مشهد الفقيه الواعظ الزاهد أبي الحسن الدينوري رضى الله عنه ، مشهد بُنان العابد رضى الله عنه ، مشهد الرجل الصالح العابد الزاهد المعروف بصاحب الإبريق ، وقصّته عجيبة في الكرامة ، مشهد أبي مُسلم الخَوْلاني رضى الله عنه ، مشهد المرأة الصالحة المعروفة بالعيناء رضي الله عنها ، مشهد الروذباريّ رضى الله عنه ، مشهد محمد بن مسعود بن محمد بن هارون الرّشيد المعروف بالسّبتي رضى الله عنه ، مشهد الرجل الصالح مُقبل الحبشيّ رضى الله عنه ، مشهد ذي النون ابن إبراهيم المصري رضى الله عنه ، مشهد القاضي الأنباري ، قبر الناطق الّذي سُمع عند وضعه في لحده يقول : اللهمّ أنزلني مُنزلاً مباركاً وأنت خيرُ المنزلين رضى الله عنه ، مشهد العروس ولها أثر من الكرامة في حال جَلْوَتها على زوجها لم يُسمع أعجب منه ، مشهد الصامت الّذي يُحكى عنه أنّه لم يتكلّم أربعين سنة ، مشهد العصافيري ، مشهد عبد العزيز بن أحمد بن علي بن الحسن الخوارزمي ، مشهد الفقيه الواعظ الأفضل الجوهريّ ومشاهد أصحابه بإزائه رضي الله عنهم أجمعين ، مشهد شُقْران

__________________

(١) رحلة ابن جبير : ص ١٨ ـ ١٩ ، ط. بيروت ١٩٨٦.

٣٦١

شيخ ذي النّون المصري ، مشهد الرجل الصالح المعروف بالأقطع المغربيّ ، مشهد المقرئ وَرْش ، مشهد الطبري ، مشهد شيبان الراعي.

والمشاهد الكريمة بها أكثر من أن تُضبَط بالتقييد أو تتحصّل بالإحصاء ، وإنّما ذكرنا منها ما أمكنَتْنا مشاهدتهُ.

وبقبلة القرافة المذكورة بسيط متّسع يُعرف بموضع قبور الشهداء ، وهم الذين استُشهدوا مع سارية رضي الله عن جميعهم ، والبسيط المذكور مُسنّم كلّه للعيان على مثال أسنِمة القبور دون بناء (١).

القباب الرفيعة لأهل البيت في مكّة المكرّمة :

وعن مشاهد مكّة المكرّمة يقول ابن جبير : فمن مشاهدها الّتي عاينّاها قبّة الوحي ؛ وهي في دار خديجة أُمّ المؤمنين رضي الله عنها ، وبها كان ابتناء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بها ، وقبّة صغيرة أيضاً في الدار المذكورة فيها كان مولد فاطمة الزهراء رضي الله عنها ، وفيها أيضاً ولدت سيدي شباب أهل الجنّة ؛ الحسن والحسين رضي الله عنهما ، وهذه المواضع المقدّسة المذكورة مغلقة مصونة قد بنيت بناءً يليق بمثلها.

ومن مشاهدها الكريمة أيضاً مولد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والتربة الطاهرة الّتي هي أوّل تربة مسّت جسمه الطاهر بُني عليها مسجد لم يُر أحفل بناءً منه ، أكثره ذهب منزّل به ، والموضع المقدّس الّذي سقط فيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ساعة الولادة السعيدة المباركة الّتي جعلها الله رحمةً للأُمّة أجمعين محفوف بالفضة.

ثمّ يعد بعض المشاهد فيقول : دار الخيزران ؛ وهي الدار الّتي كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يعبد الله فيها سراً مع الطائفة الكريمة المبادرة للإسلام من أصحابه رضي الله عنهم ... دار أبي بكر الصديق ... قبّة بين الصفا والمروة تنسب

__________________

(١) رحلة ابن جبير : ص ٢١ ـ ٢٢ ، ط. بيروت ١٩٨٦.

٣٦٢

لعمر ابن الخطاب ... (١)

يقول ابن جبير : دخلنا مولد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو مسجد حفيل البنيان وكان داراً لعبد الله بن عبد المطلب ... إلى أن يقول : وعلى مقربةٍ منه أيضاً مسجد عليه مكتوب : هذا المسجد هو مولد عليّ بن أبي طالب ، رضوان الله عليه ، وفيه تربّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان داراً لأبي طالب عمّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وكافله (٢).

المشاهد المكرّمة ببقيع الغرقد :

وفي ذكر المشاهد المكرّمة ببقيع الغرقد يقول ابن جبير : فأوّل ما نذكر من ذلك مسجد حمزة رضى الله عنه ، وهو بقِبْلَي الجبل المذكور ، والجبل جوفي المدينة ، وهو على مقدار ثلاثة أميال ، وعلى قبره رضى الله عنه مسجد مبنيّ ، والقبر برحبة جوفي المسجد ، والشهداء رضي الله عنهم بإزائه ... وحول الشهداء تربة حمراء هي التربة الّتي تنسب إلى حمزة ويتبرّك الناس بها.

وبقيع الغرقد شرقي المدينة ، تخرج إليه على باب يعرف بباب البقيع ، وأوّل ما تلقى عن يسارك عند خروجك من الباب المذكور مشهد صفيّة عمّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أُمّ الزبير بن العوام رضى الله عنه ، وأمام هذه التربة قبر مالك بن أنس الإمام المدني رضى الله عنه وعليه قبّة صغيرة مختصرة البناء ، وأمامه قبر السلالة الطاهرة إبراهيم ابن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليه قبّة بيضاء ، وعلى اليمين منها تربة ابنٍ لعمر بن الخطاب رضى الله عنه اسمه عبد الرحمن الأوسط ، وهو المعروف بأبي شَحْمة ، وهو الّذي جَلَده أبوه الحدّ ، فمرض ومات ، رضي الله عنهما ، وبإزائها قبر عقيل بن أبي طالب رضى الله عنه ، وعبد الله بن جعفر الطيار رضى الله عنه ، وبإزائهم روضة فيها أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبإزائها روضة صغيرة فيها

__________________

(١) رحلة ابن جبير : ص ٨١ ـ ٨٢ ، ط. بيروت ١٩٨٦.

(٢) لا يخفى على ذي بصيرة أن ولادة أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام انّما كانت في جوف الكعبة المشرّفة ، وهو من الشهرة والشيوع بحيث لا يحتاج إلى ذكر مصادره.

٣٦٣

ثلاثة من أولاد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويليها روضة العبّاس بن عبد المطّلب والحسن بن علي رضي الله عنهما ، وهي قبّة مرتفعة في الهواء على مقربة من باب البقيع المذكور وعن يمين الخارج منه ، ورأس الحسن إلى رجلي العبّاس رضي الله عنهما ، وقبراهما مرتفعان عن الأرض متّسعان مُغشّيان بألواح ملصقة أبدَع إلصاق ، مرصّعة بصفائح الصُّفْر ، ومكوكَبة بمساميره على أبدع صفة وأجمل منظر ، وعلى هذا الشكل قبر إبراهيم ابن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويلي هذه القبّة العبّاسيّة بيت يُنسَب لفاطمة بنت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويعرف ببيت الحُزن ، يقال : إنّه الّذي أوت إليه والتزمت فيه الحزن على موت أبيها المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي آخر البقيع قبر عثمان الشهيد المظلوم ذي النّورين رضى الله عنه ، وعليه قبّة صغيرة مختصرة ، وعلى مقربةٍ منه مشهد فاطمة ابنة أسد أُمّ عليّ رضي الله عنها وعن بنيها.

ومشاهد هذا البقيع أكثر من أن تُحصى ؛ لأنّه مدفن الجمهور الأعظم من الصحابة المهاجرين والأنصار ، رضي الله عنهم أجمعين ، وعلى قبر فاطمة المذكورة مكتوب : ما ضمّ قبر أحد كفاطمة بنت أسد رضي الله عنها وعن بنيها (١).

مشاهد الكوفة :

ويقول ابن جبير عن مسجد الكوفة :

وبهذا الجامع المكرّم آثار كريمة : فمنها بيت بإزاء المحراب عن يمين المستقبل القبلة ، يقال : إنّه كان مصلّى إبراهيم الخليل ، وعليه ستر أسود صوناً له ، ومنه خرج الخطيب لابساً ثيابَ السواد للخطبة ، فالناس يزدحمون على هذا الموضع المبارك للصلاة فيه ، وعلى مقربة منه ممّا يلي الجانب الأيمن من القبلة ، محراب محلّق عليه بأعواد الساج مرتفع عن صحن البلاط كأنّه مسجد صغير ، وهو محراب أمير

__________________

(١) رحلة ابن جبير : ص ١٥٤ ـ ١٥٦ ، ط. بيروت ١٩٨٦.

٣٦٤

المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه ، وفي ذلك الموضع ضربه الشقيّ اللعين عبد الرحمن ابن ملجم بالسيف ، فالناس يصلّون فيه باكين داعين ، وفي الزاوية من آخر هذا البلاط القبليّ ، المتّصل بآخر البلاط الغربيّ ، شبيه مسجد صغير محلّق عليه أيضاً بأعواد الساج ، هو موضع مَفار التنّور الّذي كان آيةً لنوح عليه‌السلام ، وفي ظهره ، خارج المسجد ، بيته الّذي كان فيه ، وفي ظهره بيت آخر يقال إنّه كان متعبَّد إدريس عليه‌السلام ، ويتّصل بهما فضاء متّصل بالجدار القبلي من المسجد ، يقال إنّه مُنشأ السفينة ، ومع آخر هذا الفضاء دار عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه ، والبيت الّذي غسل فيه ، ويتّصل به بيت يُقال إنّه كان بيت ابنة نوح عليه‌السلام.

وهذه الآثار الكريمة تلقّيناها من ألسنة أشياخ من أهل البلد فأثبتناها حسبما نقلوها إلينا ، والله أعلم بصحّة ذلك كلّه.

وفي الجهة الشرقيّة من الجامع بيت صغير يُصعَد إليه فيه قبر مسلم بن عقيل بن أبي طالب رضى الله عنه ، وفي غربي المدينة على مقدار فرسخ منها المشهد الشهير الشأن المنسوب لعليّ بن أبي طالب رضى الله عنه ، وحيث بركت ناقته وهو محمول عليها مسجّى ميتاً على ما يُذكر ، ويقال : إنّ قبره فيه (١).

قبور العلماء والأولياء المشيّدة ببغداد :

يقول ابن جبير :

وبإحدى هذه المحلّات قبر معروف الكَرخي ، وهو رجل من الصالحين مشهور الذكر في الأولياء ، وفي الطريق إلى باب البصرة مشهد حفيل البنيان داخله قبر متّسع السّنام ، عليه مكتوب : هذا قبر عَون ومَعين ، من أولاد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه ، وفي الجانب الغربي أيضاً قبر موسى بن جعفر ، رضي الله عنهما.

__________________

(١) رحلة ابن جبير : ١٦٨ ـ ١٦٩ ، ط. بيروت ١٩٨٦.

٣٦٥

إلى مشاهد كثيرة ممّن لم تحضرنا تسميتُه من الأولياء والصالحين والسلف الكريم ، رضي الله عن جميعهم.

وبأعلى الشرقيّة خارج البلد محلّة كبيرة بإزاء محلّة الرّصافة ، وبالرصافة كان باب الطّاق المشهور على الشطّ ، وفي تلك المحلّة مشهد حفيل البنيان ؛ له قبّة بيضاء سامية في الهواء ؛ فيه قبر الإمام أبي حنيفة رضى الله عنه ، وبه تعرف المحلّة ، وبالقرب من تلك المحلّة قبر الإمام أحمد بن حنبل رضى الله عنه ، وفي تلك الجهة أيضاً قبر أبي بكر الشبلي رحمه‌الله ، وقبر الحسين بن منصور الحلّاج ، وببغداد من قبور الصالحين كثير ، رضي الله عنهم (١).

المشاهد المكرّمة والآثار المعظّمة في الشام :

يقول ابن جبير :

فأوّلها مشهد رأس يحيى بن زكريا عليه‌السلام ، وهو مدفون بالجامع المكرّم في البلاط القبلي قبالة الركن الأيمن من المقصورة الصحابيّة (٢) ، رضي الله عنهم ، وعليه تابوت خشب معترض من الأُسطوانة ، وفوقه قنديل كأنّه من بلّور مجوّف ، كأنّه القدح الكبير ، لا يُدرى أمن زجاج عراقيّ أم صُوريّ هو أم من غير ذلك.

ومولد إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى نبيّنا الكريم ، وهو بصفح جبل قاسيون عند قرية تُعرف بِبَرْزَة ؛ وهي من أجمل القرى ، وهذا الجبل مشهور بالبركة في القديم لأنّه مصعد الأنبياء ، صلوات الله عليهم ، ومطلعهم ، وهو في الجهة الشماليّة من البلد وعلى مقدار فرسخ ، وهذا المولد المبارك غار مستطيل ضيّق ، وقد بُني عليه مسجد كبير مرتفع مُقسّم على مساجد كثيرة كالغُرف المطلّة ، وعليه صومعة عالية ، ومن ذلك الغار رأى عليه‌السلام الكوكب ثمّ القمر ثمّ الشمس ، حسبما

__________________

(١) رحلة ابن جبير : ١٦٨ ـ ١٦٩ ، ط. بيروت ١٩٨٦.

(٢) هي أول مقصورة وضعت في الإسلام وضعها معاوية بن أبي سفيان.

٣٦٦

ذكره الله تعالى في كتابه عزوجل (١) ، وفي ظهر الغار مقامه الّذي كان يخرج إليه ، وهذا كلّه ذكره الحافظ محدّث الشام أبو القاسم بن هبة الله بن عساكر الدمشقي في تاريخه في أخبار دمشق ، وهو ينوف على مائة مجلّد.

وذكر أيضاً أنّ بين باب الفراديس ، وهو أحد أبواب البلد ، وفي الجهة الشماليّة من الجامع المبارك ، على مقربة منه إلى جبل قاسيون ، مدفن سبعين ألف نبي ، وقيل : سبعون ألف شهيد ، وأنّ الأنبياء المدفونين به سبعمائة نبيّ ، والله أعلم.

وخارج هذا البلد الجبّانة العتيقة ، وهي مدفن الأنبياء والصالحين ، وبركتها شهيرة ، وفي طرفها ممّا يلي البساتين وَهْدَة من الأرض متّصلة بالجبّانة ، ذكر أنّها مدفن سبعين نبيّاً ، وعصمها الله ونزّهها من أن يُدفن فيها أحد ، والقبور محيطة بها ، وهي لا تخلو من الماء حتّى عادت قرارة له ، كلّ ذلك تنزيه من الله تعالى لها.

وبجبل قاسيون أيضاً لجهة الغرب ، على مقدار ميل أو أزيد من المولد المبارك ، مغارة تعرف بمغارة الدم ؛ لأنّ فوقها في الجبل دم هابيل قتيل أخيه قابيل ابني آدم عليه‌السلام ، يتّصل من نحو نصف الجبل إلى المغارة ، وقد أبقى الله منه في الجبل آثاراً حُمراً في الحجارة تُحك فتستَحيل ، وهي كالطريق في الجبل ، وتنقطع عند المغارة ، وليس يوجد في النصف الأعلى من المغارة آثار تشبهها ، فكان يقال : إنّها لون حجارة الجبل ، وإنّما هي من الموضع الّذي جرّ منه القاتل لأخيه حيث قتله حتّى انتهى إلى المغارة ؛ وهي من آيات الله تعالى ، وآياته لا تُحصى.

وقرأنا في تاريخ ابن المعلّى الأسدي أنّ تلك المغارة صلّى فيها إبراهيم وموسى وعيسى ولوط وأيوب ، عليهم وعلى نبيّنا الكريم أفضل الصلاة والسلام.

وعليها مسجد قد أُتقن بناؤه ، ويُصعد إليه على أدراج ، وهو كالغرفة المستديرة ، وحولها أعواد مشرجبة مطيفة بها ، وبه بيوت ومرافق للسكنى ، وهو

__________________

(١) الأنعام : ٧٦ ـ ٧٨.

٣٦٧

يفتح كلّ يوم خميس ، والسُّرُج من الشمع والفتائل تَقِد في المغارة ، وهي متّسعة.

وفي أعلى الجبل كهف منسوب لآدم عليه‌السلام ، وعليه بناء ، وهو موضع مبارك ، وتحته في حضيض الجبل مغارة تعرف بمغارة الجُوع ، ذكر أنّ سبعين نبيّاً ماتوا فيها جوعاً ، وكان عندهم رغيف ، فلم يزل كلّ واحد منهم يؤثر به صاحبه ويدور عليه من يد إلى يد ، حتّى لحقتهم المنيّة ، صلوات الله عليهم. وعلى هذه المغارة أيضاً مسجد مبنيّ ، وأبصرنا فيه السُّرُج تَقِد نهاراً.

ولكلّ مشهد من هذه المشاهد أوقاف معيّنة من بساتين وأرض بيضاء ورباع ، حتّى إنّ البلد تكاد الأوقاف تستغرق جميع ما فيه.

وكلّ مسجد يُستحدث بناؤه أو مدرسة أو خانقة يُعيّن لها السلطان أوقافاً تقوم بها وبساكنيها والملتزمين لها ، وهذه أيضاً من المفاخر المخلّدة.

ومن النساء الخواتين ذوات الأقدار من تأمر ببناء مسجد أو رباط أو مدرسة وتُنفِق فيها الأموال الواسعة وتعيّن لها من مالها الأوقاف.

ومن الأُمراء من يفعل مثل ذلك ، لهم في هذه الطريقة المباركة مُسارعة مشكورة عند الله عزوجل.

وبآخر هذا الجبل المذكور ، في آخر البسيط البستاني الغربي من هذا البلد ، الربوة المباركة المذكورة في كتاب الله تعالى ، مأوى المسيح وأُمّه ، صلوات الله عليهما ، وهي من أبدع مناظر الدنيا حسناً وجمالاً وإشراقاً ، وإتقان بناء واحتفال تشييد وشرف وضع ، هي كالقصر المشيّد ، ويُصعَد إليها على أدراج ، والمأوى المبارك منها مغارة صغيرة في وسطها ، وهي كالبيت الصغير ، وبإزائها بيت يقال : إنّه مصلّى الخضر عليه‌السلام ، فيبادر الناس للصلاة بهذين الموضعين المباركين ، ولا سيّما المأوى المبارك ، وله باب حديد صغير ينغلق دونه ، والمسجد يطيف بها ، ولها شوارع دائرة ، وفيها سقاية لم يُرَ أحسن منها ، قد سِيقَ إليها الماء من علوّ ، وماؤها

٣٦٨

ينصبّ على شاذَرْوان (١) في الجدار متّصل بحوض من رخام يقع الماء فيه ، لم يُرَ أحسن من منظره ، وخلف ذلك مطاهر يجري الماء في كلّ بيت منها ويستدير بالجانب المتّصل بجدار الشاذروان.

وهذه الربوة المباركة رأس بساتين البلد ومَقْسِم مائه ، ينقسم فيها الماء على سبعة أنهار ، يأخذ كلّ نهر طريقه ، وأكبر هذه الأنهار نهر يُعرف بثوار ، وهو يشقّ تحت الربوة ، وقد نُقِر له في الحجر الصلد أسفلها حتّى انفتح له متسرّب واسع كالغار ، وربّما انغمس الجَسُور من سُبّاح الصبيان أو الرجال من أعلى الربوة في النهر واندفع تحت الماء حتّى يشقّ متسرّبه تحت الربوة ويخرج أسفلها ، وهي مخاطرة كبيرة.

ويُشرَف من هذه الربوة على جميع البساتين الغربية من البلد ، ولا إشراف كإشرافها حسناً وجمالاً واتّساعَ مسرح للأبصار ، وتحتها تلك الأنهار السبعة تتسرّب وتسيح في طرق شتّى ، فتحار الأبصار في حسن اجتماعها وافتراقها واندفاع انصبابها ، وشرفُ موضوع هذه الربوة ومجموع حسنها أعظم من أن يحيط به وصف واصف في غلوّ مدحه ، وشأنها في موضوعات الدّنيا الشريفة خطير كبير (٢).

ومن أحفل هذه المشاهد مشهد منسوب لعليّ بن أبي طالب رضى الله عنه ، قد بُني عليه مسجد حفيل رائق البناء ، وبإزائه بستان كلّه نارنج ، والماء يطرد فيه من سقاية معيّنة ، والمسجد كلّه ستور معلّقة في جوانبه صغار وكبار.

ومن المشاهد المكرّمة مشهد سعد بن عُبادة رئيس الخزرج ، صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو بقرية تعرف بالمَنِيحة شرقي البلد وعلى مقدار أربعة أميال منه ،

__________________

(١) الشاذروان : حائط صغير بجوار الجدار الأصلي لتقويته.

(٢) المصدر السابق : ص ٢٢١ ـ ٢٢٤.

٣٦٩

وعلى قبره مسجد صغير حسن البناء ، والقبر في وسطه ، وعند رأسه مكتوب : هذا قبر سعد بن عبادة رأس الخزرج ، صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ومن مشاهد أهل البيت رضي الله عنهم : مشهد أُمّ كلثوم ابنة عليّ بن أبي طالب ، رضي الله عنهما ، ويقال لها زينب الصغرى ، وأُمّ كلثوم كنية أوقعها عليها النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لشبهها بابنته أُمّ كلثوم ، رضي الله عنها ، والله أعلم بذلك ، ومشهدها الكريم بقرية قبليّ البلد تعرف ب «راوية» على مقدار فرسخ ، وعليه مسجد كبير ، وخارجه مساكن ، وله أوقاف ، وأهل هذه الجهات يعرفونه بقبر الستّ أُمّ كلثوم ، مشَينا إليه وبتنا به وتبرّكنا برؤيته ، نفعنا الله بذلك.

وبالجبّانة الّتي بغربي البلد ، من قبور أهل البيت كثير ، رضي الله عنهم ، منها قبران عليهما مسجد يقال إنّهما من ولد الحسن والحسين ، رضي الله عنهما ، ومسجد آخر فيه قبر يقال إنّه لسكينة بنت الحسين ، رضي الله عنهما ، أو لعلّها سُكينة أُخرى من أهل البيت.

ومن المشاهد أيضاً قبر بجامع النَّيْرب ، في بيت بالجهة الشرقيّة منه ، يقال إنّه لأُمّ مريم ، رضي الله عنها.

وبقرية داريّا قبر أبي مسلم الخولاني رضى الله عنه ، وعليه قبّة هي علامة القبر ، وبها أيضاً قبر أبي سليمان الداراني رضى الله عنه.

وبين هذه القرية وبين البلد مقدار أربعة أميال ، وهي لجهة الغرب منه.

ومن المشاهد الكريمة الّتي لم نعاينها ووصفت لنا قبرا شيث ونوح عليهما‌السلام ، وهما بالبِقاع ، وهي على يومين من البلد ، وحدّثنا من ذَرَع قبر شيث فألفى فيه أربعين باعاً ، وفي قبر نوح ثلاثين ، وبإزاء قبر نوح قبر ابنة له ، وعلى هذه القبور بناء ، ولها أوقاف كثيرة ، ولها قيّم يلتزمها.

ومن المشاهد المباركة أيضاً ، بالجبّانة الغربيّة وبمقربة من باب الجابية ، قبر

٣٧٠

أُويس القرني رضى الله عنه ، وقبور خلفاء بني أُمية ، يقال : إنّها بإزاء باب الصغير بمقربة من الجبّانة المذكورة ، وعليها اليوم بناء يُسكَن فيه.

والمشاهد المباركة في هذه البلدة أكثر من أن تنضبط بالتقييد ، وإنّما رُسِم من ذلك ما هو مشهور ومعلوم.

ومن المشاهد الشهيرة أيضاً مسجد الأقدام ، وهو على مقدار ميلين من البلد ممّا يلي القبلة على قارعة الطريق الأعظم الآخذ إلى بلاد الحجاز والساحل وديار مصر ، وفي هذا المسجد بيت صغير فيه حجر مكتوب عليه : كان بعض الصالحين يرى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في النوم فيقول : هاهنا قبر أخي موسى صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والكثيب الأحمر على الطريق بمقربة من هذا الموضع ، وهو بين غالية وغُويلية كما ورد في الأثر ، وهما موضعان.

وشأن هذا المسجد في البركة عظيم ، ويقال : إنّ النور ما خلا قطّ من هذا الموضع الّذي يذكر أنّ القبر فيه حيث الحجر المكتوب ، وله أوقاف كثيرة.

فأمّا الأقدام ففي حجارة في الطريق إليه مُعْلَم عليها ، تَجد أثر القدم في كلّ حجر ، وعدد الأقدام تسع ، ويقال : إنّها أثر قدم موسى عليه‌السلام ، والله أعلم بحقيقة ذلك ، لا إله سواه (١).

هذا وقد أخذنا من رحلة ابن جبير المواضيع اللّازمة ، وإلّا فالذي يسبر الكتاب يقف على أُمور لم نذكرها ، والكلّ يدلّ على أنّ البناء على القبور وصيانتها عن الانطماس وزيارتها في فترات مختلفة كان أمراً رائجاً في خير القرون الّذي جُعِل مقياساً بين الحقّ والباطل.

__________________

(١) رحلة ابن جبير : ٢٢٦ ـ ٢٢٩ ، ط. بيروت ١٩٨٦.

٣٧١

٥ ـ ابن الحجّاج والقبّة البيضاء على قبر الإمام علي عليه‌السلام

إنّ الحسين بن أحمد بن محمد المعروف بابن الحجّاج البغدادي أحد الشعراء المفلقين في القرنين الثالث والرابع (المتوفّى ٣٩١ ه‍) أنشأ قصيدته الفائيّة في مدح الإمام أمير المؤمنين ، وأنشدها في الحضرة العلويّة عند ما زارها يقول في مستهلّها :

يا صاحبَ القبّة البيضا على النجفِ

من زارَ قبرَك واستشفى لديك شُفي

زوروا أبا الحسن الهادي لعلّكمُ

تحظون بالأجرِ والاقبالِ والزُّلَفِ (١)

والقصيدة تعرب عن وجود البناء والقبّة البيضاء على القبر ، والزلف والتفاف الزائرين حوله في عصره ، ومع ذلك يدّعي بعض الوهابيين ؛ أنّ البناء على القبور لم يكن في خير القرون وأنّه من البدع المستحدثة.

ولأجل شيوع البناء على القبور في جميع الأقطار الإسلاميّة نجد أنّ الأمير محمد بن إسماعيل اليماني (ت ١١٨٦ ه‍) الّذي توهّب مع كونه زيدياً يفترض على نفسه ويقول في كتابه : وهذا أمر عمّ البلاد وطبق الأرض شرقاً وغرباً بحيث لا بلدة من بلاد الإسلام إلّا فيها قبور ومشاهد ، ولا يسع عقل عاقل أنّ هذا منكر يبلغ إلى ما ذكرت من الشناعة ويسكت علماء الإسلام (٢).

__________________

(١) اقرأ ترجمته في يتيمة الدهر ٣ : ٣٥ ؛ معجم الأُدباء ٤ : ٦ ؛ المنتظم ٧ : ٢١٦ ؛ تاريخ بغداد ٨ : ١٤ ؛ وفيات الأعيان ١ : ١٦٨ ؛ الكامل لابن الأثير ٩ : ٦٣ إلى غير ذلك من مصادر الترجمة ؛ وفي روضات الجنّات ٣ : ١٤٨ ـ ١٥٥ له ترجمة ضافية

(٢) تطهير الاعتقاد : ص ١٧ ، ثمّ إنّه حاول أن يُجيب عن هذا الاستنكار بما الإعراض عن ذكره أحسن.

٣٧٢

فلو كانت هذه سيرة المسلمين من خير القرون إلى عصرنا فلما ذا لا تكون حجّة؟ فلو كان التهديم أمراً واجباً فلما ذا ترك الخلفاء تلك الفريضة؟! وهل يصحّ لنا اتّهامهم بالتسامح في أمر الدين مع أنّ الصحابة والتابعين مرّوا على تلك الآثار ولم ينبسوا فيها ببنت شفة؟ وإذا لم يكن ذلك الإجماع حجّة ، فأيّ إجماع يكون حجّة شرعيّة؟

فهذه النصوص من المؤرّخين تدلّ بوضوح على جريان السيرة على بناء القباب والأبنية على قبور الأولياء من دون أن يخطر ببال أحد أنّه مقدّمة للشرك ومفضٍ إليه ، فإذا لم يكن مثل هذا الإجماع حجّة فأيّ إجماعٍ حجّة؟

والعجب من ابن بليهد قاضي الحكومة السعودية أيام تدمير آثار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عام (١٣٤٤ ه‍). فبعد ما نفّذ ما أُمر به من قبل المشايخ ، نشر بياناً في جريدة أُمّ القرى في عددها الصادر في شهر جمادى الآخرة من شهور سنة (١٣٤٥ ه‍). وممّا جاء فيه قوله : إنّ القِباب على مراقد العلماء صار متداولاً منذ القرن الخامس الهجري.

فهل هذا صحيح أو افتراء أمام كلّ هذه النصوص من المسعودي وغيره؟ وليس البحث في خصوص العلماء ، بل مطلق قبور المسلمين ، نبيّاً كان أو وليّاً ، صحابيّاً كان أو تابعياً ، فقيهاً كان أو محدّثاً.

السيّد محسن الأمين والردّ على ابن تيميّة

ونعم ما قال السيد المحقّق محسن الأمين في قصيدته المسمّاة بالعقود الدُّريّة في ردّ شبهات الوهابية :

أو ليس أُمّة أحمد إجماعُها

فيه الصوابُ وحجّةٌ لم تردد

٣٧٣

وعلى ضلالٍ كلّها لم تجتمع

فيما رويتم في الحديث المسندِ

مضت القرون وذي القباب مَشِيدةٌ

والناس بين مؤسّسٍ ومجدّدِ

في كلّ عصر فيه أهل الحلّ و

 ـ العقد الّذين بغيرهم لم يُعقد

لم يُنكروا أبداً على من شادها

شيدت ولا من منكر ومفنّدِ

مِنْ قبل أنْ تلد ابنها تيميةٌ

أو يخلق الوهّاب بعضَ الأعبدِ

أفأيّ إجماع لكم أقوى على

أمثاله من مورد لم يوردِ

فبسيرة للمسلمين تتابعت

في كلّ عصر نستدلّ ونقتدي

أقوى من الإجماع سيرتهم ومن

قد حاد عنها فهو غير مسدّد

هيهات ليس نبيّاً ابن بليهد

في الناس لم يُخطئ ولم يتعمّدِ

كلّا ولا العلماء قد حصرت به

هي في بقاع الأرض ذات تعدّدِ

كلّا ولا من وافقوه لخوفهم

أو جهلهم من خائف ومقلّدِ

والجُلُّ من علماء طيبة ساكت

للخوف مكفوف اللسان مع اليدِ (١)

كيف يدّعي الإجماع على التحريم مع أنّ فقهاء المذاهب الأربعة في العصر الحاضر اتّفقوا على الكلمة التالية : يكره أن يبنى القبر ببيت أو قبّة أو مسجد (٢) ، أين الكراهة من الحرمة ، وأين هي من الشرك؟

وهذا النووي شارح صحيح مسلم يقول في شرح حديث أبي الهياج الّذي سيوافيك نصّه : أمّا البناء فإن كان في ملك الباني فمكروه وإن كان في مقبرة مسبلة فحرام ، نصّ عليه الشافعي والأصحاب (٣).

إنّ التحريم في الصورة الثانية لكونه مزاحماً للانتفاع ، وعلى خلاف أهداف

__________________

(١) كشف الارتياب : ص ٤١١

(٢) الفقه على المذاهب الأربعة ١ : ٤٣١.

(٣) صحيح مسلم بشرح النووي ج ٧ ، ص ٤٢ شرح الحديث رقم ٩٦٩ كتاب الجنائز ط مصر.

٣٧٤

الواقف وأغراضه ، وأين هو من البناء على أرض مشتراة أو مهداة أو موات ؛ فلا تترتّب عليها تلك الحرمة.

دُفن النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيته الرفيع ولم يخطر ببال أحد من الصحابة الحضور أنّ البناء على القبر حرام وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عنه نهياً مؤكداً ، ولمّا كان البيت متعلّقاً بالسيدة عائشة جعلوا في وسطه ساتراً ، ولمّا توفّي الشيخان أوصيا بدفنهما في حجرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله تبرّكاً بذاته ومكانه ، ولم تُسْمَع عن أيّ ابن أُنثى نعيرةُ أنّه حرام ولا مكروه ، وعلى ذلك استمرّت سيرة المسلمين في حقّ العلماء والأولياء ، يدفنونهم في البيوت المعدّة لذلك ، أو يرفعون لمراقدهم قواعد وسقفاً بعد الدفن ، تكريماً لهم وتقديراً لتضحياتهم ، ولم يخطر ببال أحد أنّه على خلاف الدين والشرع.

وهذا عمل المسلمين وسيرتهم القطعيّة في جميع الأقطار والأمصار ، على مرأى ومسمع الجميع وإنْ اختلفت نزعاتهم ، من بدء الإسلام إلى هذا العصر ، من الشيعة والسنّة ، وأيّ بلاد من بلاد الإسلام من مصر والعراق أو الحجاز أو سورية ، وتونس ومراكش وإيران ، وهلم جرّاً ، ليس فيها قبور مشيّدة ، وضرائح منجدة ، وهؤلاء أئمة المذاهب : الشافعي في مصر ، وأبو حنيفة في بغداد ، ومالك بالمدينة ، وتلك قبورهم من عصرهم إلى اليوم شاهقة القباب ، شامخة المباني ، غير أنّ الوهابيّين لمّا استولوا على المدينة هدموا قبر مالك.

وهذه القبور قد شُيّدت وبنيت في الأزمنة الّتي كانت حافلة بالعلماء وأرباب الفتاوى ، وزعماء المذاهب ، فما أنكر منهم مُنكِر ، وليس هذا رائجاً بين المسلمين فقط ، بل جرى على هذا جميع عقلاء العالم ، بل يعدّ تعمير قبور الشخصيات من غرائز البشر ومقتضيات الحضارة وشارة الرقيّ ، فكلّ هذا دليل على الجواز لو لم نقل يفوق ذلك ، ولو لم تكن السيرة المسلّمة بين المسلمين والعقلاء

٣٧٥

عامّة غير مفيدة في المقام ، فلا يصحّ الاستناد إلى أيّة سيرة قاطعة بين المسلمين أو الناس.

وليس يصحّ في الأذهان شيءٌ

إذا احتاج النهار إلى دليلِ

ثمّ إنّ الوهابيّين تمسّكوا بروايات ، إمّا عديمة الدلالة ، أو ضعيفة السند ، وسنذكر في المبحث الآتي بشكل عام مجملَ ما تمسّكوا به ليتبيّن مدى وعيهم.

٣٧٦

المبحث الرابع :

ذرائع الوهابية في هدم الآثار

استدلّت الوهابية بروايات نذكرها واحدةً بعد الأُخرى :

الأُولى : رواية أبي الهياج الأسدي

روى مسلم في صحيحه قال : حدّثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن الحرب ، قال يحيى : أخبرنا ، وقال الآخران : حدّثنا وكيع عن سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي وائل ، عن أبي الهياج الأسدي قال : قال لي عليّ ابن أبي طالب : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله .. أن لا تدع تمثالاً إلّا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلّا سوّيته(١).

زعم المستدلّ أنّ معناه : ولا قبراً عالياً إلّا سوّيته بالأرض.

أقول : الاستدلال بالحديث فرع صحّة سنده ، وتماميّة دلالته ، ولكنّه موهون من كلا الجانبين.

__________________

(١) مسلم ، الصحيح ٣ : ٦١ كتاب الجنائز ؛ الترمذي ، السنن ٢ : ٢٥٦ باب ما جاء في تسوية القبور ؛ النسائي ، السنن ٤ : ٨٨ باب تسوية القبر.

٣٧٧

سند الرواية وأقوال العلماء فيه :

أمّا السند ، فيكفي أنّ علماء الرجال تحدّثوا في رجال الحديث ونقلوا تصريح الأئمة بضعفهم ، وهم عبارةً عن :

١ ـ وكيع.

٢ ـ سفيان الثوري.

٣ ـ حبيب بن أبي ثابت.

٤ ـ أبو وائل الأسدي.

وإليك أقوال العلماء في حقّهم :

١ ـ وكيع :

هو وكيع بن الجراح بن مليح الرواسي الكوفي ، روى عن عدّة ، منهم : سفيان الثوري ، وروى عنه جماعة منهم : يحيى بن يحيى وهو كما ورد في حقّه المدح ، ورد في حقّه الجرح كثيراً ، وهذا ابن حجر يعرّفه في تهذيب التهذيب بالنحو التالي : عن الإمام ابن حنبل : كان وكيع أحفظ من عبد الرحمن بن مهدي كثيراً ، وقال في موضع آخر : ابن مهدي أكثر تصحيفاً من وكيع ووكيع أكثر خطأً منه.

وقال ابن عمار : قلت له : عدّوا عليك بالبصرة أربعة أحاديث خلطتَ فيها؟ فقال: حدّثتهم بعبادان بنحو من ألف وخمسمائة ، وأربعة ليس بكثير في ألف وخمسمائة.

وقال عليّ بن المديني : كان وكيع يلحن ولو حدّثَ بألفاظه لكان عَجَباً.

وقال محمد بن نصر المروزي : كان يُحدّث بآخره من حفظه فيغيّر ألفاظ الحديث كأنّه يحدّث بالمعنى ولم يكن من أهل اللسان (١).

__________________

(١) تهذيب التهذيب ١١ : ١٢٣ ، ١٣١.

٣٧٨

وقال الذهبي في ميزان الاعتدال بعد ما مدحه : قال ابن المديني : كان وكيع يلحن ولو حدّث بألفاظه كان عجباً (١).

٢ ـ سفيان الثوري :

وهو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي ، فقد مدحوه ، ولكن الذهبي يقول : إنّه كان يدلِّس عن الضعفاء ، ولكن كان له نقد وذوق ، ولا عبرة بقول من قال يدلِّس ويكتب عن الكذّابين (٢).

وقال ابن حجر : قال ابن المبارك : حدّث سفيان بحديث فجئته وهو يدلِّس ، فلمّا رآني استحيا وقال : نرويه عنك؟ (٣).

وقال في ترجمة يحيى بن سعيد بن فروخ : قال أبو بكر وسمعت يحيى يقول : جهد الثوري أن يدلِّس عليّ رجلاً ضعيفاً فما أمكنه (٤).

والتدليس هو أن يروي عن رجل لم يلقه وبينهما واسطة فلا يذكر الواسطة.

وقال أيضاً في ترجمة سفيان : قال ابن المديني عن يحيى بن سعيد : لم يلق سفيان أبا بكر بن حفص ولا حيان بن إياس ، ولم يسمع من سعيد بن أبي البردة ، وقال البغوي : لم يسمع من يزيد الرقاشي ، وقال أحمد : لم يسمع من سلمة بن كهيل حديث المسائية (٥) يضع ماله حيث يشاء ، ولم يسمع من خالد بن سلمة بتاتاً ولا من ابن عون إلّا حديثاً واحداً (٦).

__________________

(١) ميزان الاعتدال ٤ : ٣٣٦.

(٢) ميزان الاعتدال ٢ : ١٦٩ برقم ٣٣٢٢.

(٣) تهذيب التهذيب ٤ : ١٥ في ترجمة سفيان.

(٤) تهذيب التهذيب ١١ : ٢١٨.

(٥) العبد المعتق.

(٦) تهذيب التهذيب ٤ : ١١٥.

٣٧٩

وهذا تصريح من ابن حجر بكون الرجل مُدلِّساً ، ربّما يروي عن اناس يوهم أنّه لقيهم ولم يلقَهُم ولم يسمع منهم.

٣ ـ حبيب بن أبي ثابت :

هو حبيب بن أبي ثابت قيس بن دينار ، وَثّقهُ بعض ، ولكن قال ابن حبّان في الثّقات : كان مدلّساً ، وقال العقيلي : غمزه ابن عون ، وقال القطّان : له غير حديث عن عطاء ، لا يُتابع عليه وليست محفوظة.

وقال ابن خزيمة في صحيحه : كان مدلّساً (١).

وقال ابن حجر أيضاً في موضع آخر : كان كثير الإرسال والتدليس ، مات سنة ١١٩ ه‍.

ونقل عن كتاب الموضوعات لابن الجوزي من نسخة بخطّ المنذري أنّه نقل فيه حديثاً عن أُبيّ بن كعب في قول جبرئيل : لو جلست معك مثلما جلس نوح في قومه ما بلغت فضائل عمر ، وقال : لم يُعِلْه ابن الجوزي إلّا بعبد الله بن عمّار الأسلمي شيخ حبيب بن ثابت (٢).

٤ ـ أبو وائل الأسدي :

هو شقيق بن سلمة الكوفي ، كان منحرفاً عن عليّ بن أبي طالب ، قال ابن حجر : قيل لأبي وائل : أيّهما أحبُّ إليك عليّ أو عثمان؟ قال : كان عليّ أحبّ إليّ ثمّ صار عثمان (٣).

ويكفي في قدحه أنّه كان من ولاة عبيد الله بن زياد ، قال ابن أبي الحديد : قال

__________________

(١) تهذيب التهذيب ٢ : ١٧٩.

(٢) تهذيب التهذيب ١ : ١٤٨.

(٣) تهذيب التهذيب ٤ : ٣٦٢.

٣٨٠