في ظلال التّوحيد

الشيخ جعفر السبحاني

في ظلال التّوحيد

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: نشر مشعر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-6293-82-4

الصفحات: ٧١٢

على بابه قول المسلمين ، والّذي يدلّ على ذلك أمران :

الأوّل : أنّ اتّخاذ المسجد دليل على أنّ القائل كان موحّداً مسلماً غير مشرك ؛ فأيّ صلة للمشرك ببناء مسجد على باب الكهف ، وإذا كان المشركون يهتمّون بعمارة المسجد الحرام فلأجل أنّه أُنيطَ بالبيت كيانهم وعظمتهم في الأوساط العربيّة ، بحيث كان التخلّي عنها مساوقاً لسقوطهم عن أعين العرب في الجزيرة كتكريمهم البيت الحرام.

أفبعدَ اتّفاق أكابر المفسّرين هل يصحّ لباحثٍ أن يشكّ في أنّ القائلين ببناء المسجد على قبورهم كانوا هم المسلمين الموحّدين؟!

الثاني : ما رواه الطبري في تفسير قوله : (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) (١) قال : إنّ المبعوث دخل المدينة فجعل يمشي بين سوقها فيسمع أُناساً كثيراً يحلفون باسم عيسى بن مريم ، فزاده فزعاً ورأى أنّه حيران ، فقام مسنِداً ظهرَه إلى جدار من جُدران المدينة ويقول في نفسه : أمّا عشيّة أمس فليس على الأرض إنسان يذكر عيسى بن مريم إلّا قُتل ، أمّا الغداة فأسمعهم وكلّ إنسان يذكر أمر عيسى لا يخاف!! ثمّ قال في نفسه : لعلّ هذه ليست بالمدينة الّتي أعرف (٢).

وهذا يعرب عن أنّ الأكثرية الساحقة كانت موحّدة مؤمنة متديّنة بشريعة المسيح ، رغم كونهم على ضدّه قبل ثلاثمائة سنة.

وقال في تفسير قوله تعالى : (فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً) (٣) فقال الّذين أعثرناهم على أصحاب الكهف : (ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) يقول : ربّ الفتية أعلم بشأنهم ، وقوله : (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ) يقول جلّ ثناؤه :

__________________

(١) الكهف : ١٩.

(٢) الطبري ، التفسير ١٥ : ٢١٩ في تفسير سورة الكهف ، الآية ١٩ ط. مصطفى الحلبي ، مصر.

(٣) الكهف : ٢١.

٣٤١

قال القوم الّذين غلبوا على أمر أصحاب الكهف : (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً).

وقد نُقل عن عبد الله بن عبيد بن عمير : فقال المشركون : نبني عليهم بنياناً ؛ فإنّهم أبناءُ آبائنا ونعبد الله فيها ، وقال المسلمون : نحن أحقّ بهم ، هم منّا ، نبني عليهم مسجداً نصلّي ونعبد الله فيه (١).

الرأي المسبق يضرب عرض الجدار

إنّ الشيخ الألباني ربيب الوهابيّة ومروّجها ، لمّا رأى دلالة الآية على أنّ المسلمين حاولوا أنْ يبنوا مسجداً على قبورهم ، وكان ذلك على طرف الخلاف من عقيدته ، حاول تحريف الكلم وقال : إنّ المراد من الغالبين هم أهل السلطة ، ولا دليل على حجيّة فعلهم! ولكنّه عزب عن رأيه أنّ البيئة قد انقلبت عن الشرك إلى التوحيد ومن الكفر إلى الإسلام حسبما نقله الطبري ، وليس القائل ببناء المسجد على بابهم الملك ، وإنّما القائل هم الّذين توافدوا على باب الكهف عند ما أعثرهم سبحانه على أحوالهم ، وطبع الحال يقتضي توافد الأكثرية الساحقة القاطنين في المدينة على باب الكهف لا خصوص الملك ، ولا وزراؤه ، بل الموحّدون بأجمعهم ، وهو في هذه النسبة عيال على ابن كثير حيث قال : والظاهر أنّهم أصحاب النفوذ (٢).

نحن نفترض أنّهم أصحاب النفوذ ، إلّا أنّهم نظروا إلى الموضوع من خلال منظار دينهم ومقتضى مذهبهم لا مقتضى سلطتهم.

تقرير القرآن على صحّة كلا الاقتراحين

إنّ الذكر الحكيم يذكر كلا الاقتراحين من دون أيّ نقدٍ ورد ، وليس صحيحاً

__________________

(١) الطبري ، التفسير ١٥ : ٢٢٥ وفي ط أُخرى : ص ١٤٩ ؛ ولاحظ تفسير القرطبي والكشاف للزمخشري وغرائب القرآن للنيسابوري في ذيل هذه الآية.

(٢) ابن كثير ، التفسير ٥ : ٣٧٥.

٣٤٢

قطعاً أن يذكر الله سبحانه عن هؤلاء الموجودين على باب الكهف أمراً باطلاً من دون أيّة إشارة إلى بطلانه ؛ إذ لو كان كذلك كأن يكون أمراً محرّماً أو مقدّمة للشرك والانحراف عن التوحيد ، لكان عليه أن لا يمرّ عليها بلا إشارة إلى ضلالهم وانحرافهم ، خصوصاً أنّ سياق الآية بصدد المدح ، وأنّ أهل البلد اتّفقوا على تكريم هؤلاء الّذين هجروا أوطانهم لأجل صيانة عقيدتهم ، غاية الأمر اختلفوا في كيفيّته ، فمن قائل ببناء البنيان إلى آخر قائلٍ ببناء المسجد.

إنّ القرآن كتاب نزل لهداية الإنسان وتربية الأجيال ، والهدف من عرض حياة الأُمم ووقائعهم هو الاعتبار ، فلا ينقل شيئاً إلّا فيه عبرة ، فلو كان الاقتراحان يمسّان كرامة التوحيد ، لِمَ سكت عنه؟!

وهذا ظاهر فيمن تدبّر في القرآن الكريم ، وسيوافيك بقيّة الكلام عند بيان النتيجة.

ولكن تعال معي لنقف على بعض ما قاله جمال الدين القاسمي الدمشقي (١٢٨٣ ـ ١٣٣٢ ه‍) الذي كان يصوّر نفسه مصلحاً إسلاميّاً يسعى إلى توحيد كلمة المسلمين ولَمِّ شَعْثِهم ، ومن شروط من يتبنّى لنفسه ذلك المقام الرفيع أن ينظر إلى المسائل من منظار وسيع ، ويستقبل الخلاف بين المسلمين بسعة صدر ، ولكنّه ـ عفا الله عنه ـ يريد توحيد الكلمة في ظلّ الأُصول الّتي ورثها عن ابن تيمية ، فزاد في الطين بلّة ، ويشهد لذلك ما علّقه على عبارة ابن كثير.

قال ابن كثير بعد تفسير الآية : هل هم كانوا محمودين أم لا؟ فيه نظر ؛ لأنّ النبيّ قال : «لعن الله اليهود والنصارى اتّخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد» يحذّر ما فعلوا.

وقال جمال الدين : وعجيب من تردّده في كونهم غير محمودين ، مع إيراده

٣٤٣

الحديث الصحيح بعده المسجّل بلعن فاعل ذلك ، والسبب في ذلك أنّ البناء على قبر النبيّ مَدعاة للإقبال عليه والتضرّع إليه ، ففيه فتح لباب الشرك ، وتوسّل إليه بأقرب وسيلة ...(١).

يلاحظ عليه : أنّ القرآن هو الحجّة الكبرى للمسلمين ، وفيه تبيان لكلّ شيء ، وهو المهيمن على الكتب ، فإذا دلّ القرآن على جوازه فما قيمة الخبر الواحد الّذي روي في هذا المجال إذا كان مضادّاً للوحي ، ومخالفاً لصريح الكتاب ، وإن كانت السنّة المحمديّة الواقعية لا تختلف عنه قيد شعرة ، إنّما الكلام في الرواية الّتي رواها زيد عن عمرو حتّى ينتهي إلى النبيّ ، فإنّ مثله خاضع للنقاش ، ومرفوض إذا خالف الكتاب ، لكن ما ذكره يعرب عن أنّ الأساس عنده هو الحديث لا الذكر الحكيم.

وكان عليه بعد تسليم دلالة القرآن أن يبحث في سند الحديث ودلالته ، وأنّ الحديث على فرض الصحّة ناظر إلى ما كان القبر مسجوداً له ، أو مسجوداً عليه أو قِبلة ، ومن المعلوم أنّ المسلمين لا يسجدون إلّا لله ، ولا يسجدون إلّا على ما صحّ السجود عليه ، ولا يستقبلون إلّا القِبلة ، وسيتّضح نصّ محقّقي الحديث ، على أنّ المراد هو ذلك ، فانتظر.

وأعجب منه ما في ذيل كلامه : من أنّه رأى التوسّل بالنبيّ شركاً ، مع أنّ النصوص الصحيحة في الصحاح تدلّ على جوازه ، فقد توسّل الصحابي الضرير بالنبيّ الأكرم حسب تعليمه وقال : اللهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك نبيّ الرحمة ، يا محمد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي في حاجتي لتُقضى (٢).

__________________

(١) محاسن التأويل ٧ : ٣٠ ـ ٣١.

(٢) الترمذي ، الصحيح ٥ : كتاب الدعوات ، الباب ١١٩ / ح ٢٥٧٨ ؛ ابن ماجة ، السنن ١ : ٤٤١ / ح ١٣٨٥ ؛ الإمام أحمد ، المسند ٤ : ١٣٨ ، إلى غير ذلك من المصادر.

٣٤٤

وقد اتّفقوا على صحّة الحديث ، حتّى أنّ ابن تيمية ـ مُثيرَ هذه الشكوك ـ اعترف بصحّته وقال : وقد روى الترمذي حديثاً صحيحاً عن النبيّ أنّه علّم رجلاً يدعو فيقول : ... ، وقد أوردنا نصوص القوم في بحث «التوسّل» (١).

ومن زعم أنّ هذه التوسّلات أساس الشرك ، فلينظر إلى المسلمين طيلة أربعة عشر قرناً ؛ فإنّهم ما برحوا يتوسّلون بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما عدلوا عن سبيل التوحيد قيد شعرة.

إنّ إنشاء البناء على قبر نبيّ التوحيد تأكيدٌ على مبدأ التوحيد ورسالته العالمية الّتي يشكّل أصلها الأوّل قوله سبحانه : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (٢).

وقد خرجنا عن هذه الدراسة بالنتيجتين التاليتين :

١ ـ جواز البناء على قبور الأولياء والصالحين ودعاة التوحيد فضلاً عن النبيّ ، وما ذلك إلّا أنّ القرآن ذكر ذلك من دون أن يغمض فيه ، وليس القرآن كتاباً قصصيّاً ولا مسرحيّاً للتمثيل ، بل هو كتاب هداية ونور ، فإن نقل شيئاً ولم يغمض عليه فهو دليل على أنّه محمود عنده.

نرى أنّه سبحانه يحكي كيفيّة غرق فرعون ويقول : (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٣).

ولمّا كانت تلك الفكرة باطلة عنده سبحانه ، أراد إيقاف المؤمنين على أنّ الإيمان في هذا الظرف غير مفيد ، فلأجل ذلك عقّب عليه بقوله : (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (٤).

__________________

(١) راجع ص ٦١١ من هذا الكتاب.

(٢) النحل : ٣٦.

(٣) يونس : ٩٠.

(٤) يونس : ٩١.

٣٤٥

فالإنسان العارف بالكتاب يقف على أنّه لم يترك على صعيد العقائد أُموراً إلّا وذكر أوضحها وبيّنها بطرق مختلفة ، ومن تلك الطرق القصص الواردة في الكتاب العزيز ؛ فكلّ ما وقع في الأُمم السالفة وصار القرآن بصدد ذكره فهو على أقسام ثلاثة : كونه بيّن الصحة ، أو بيّن البطلان ، أو المردّد بين الأمرين.

فقد يترك البيان في الأوّلين لعدم الحاجة ، وأمّا الثالث فلا يتركه إلّا إذا كان مقبولاً لديه.

٢ ـ جواز بناء المسجد على قبور الصالحين فضلاً عن الأنبياء وجواز الصلاة فيها والتبرّك بتربته ، فلو كانت الصلاة في المقابر مكروهة فالأدلّة المرغّبة إلى الصلاة في جِوار الصالحين والأنبياء تخصّص تلك العمومات ؛ وذلك لأنّ للصلاة في مشاهدهم مصلحة تغلب على المضاضة الموجودة في الصلاة في المقابر المطلقة.

٣٤٦

الآية الثالثة : صيانة الآثار وتعظيم الشعائر

قال سبحانه : (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (١).

والاستدلال بالآية يتوقّف على ثبوت صغرى وكبرى :

فالصغرى عبارة عن كون الأنبياء وأوصيائهم ومن يرتبط بهم أحياءً وأمواتاً من شعائر الله ، والكبرى عبارة عن كون البناء وصيانة الآثار والمقابر تعظيماً لشعائر الله.

ولا أظنّ أنّ الكبرى تحتاج إلى مزيد بيان ، إنّما المهم بيان الصغرى ، وأنّ الأنبياء والأوصياء وما يرتبط بهم من شعائر الله ، وبيان ذلك يحتاج إلى نقل ما ورد حول شعائر الله من الآيات :

١ ـ (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) (٢).

٢ ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً) (٣).

٣ ـ (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) (٤).

وفي آية أُخرى جعل مكان شعائر الله حرمات الله وقال :

(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ ...) (٥).

__________________

(١) الحجّ : ٣٢.

(٢) البقرة : ١٥٨.

(٣) المائدة : ٢.

(٤) الحجّ : ٣٦.

(٥) الحج : ٣٠.

٣٤٧

ما هو المقصود من شعائر الله؟

هنا احتمالات :

١ ـ تعظيم آيات وجوده سبحانه.

٢ ـ معالم عبادته وأعلام طاعته.

٣ ـ معالم دينه وشريعته ، وكلّ ما يمت إليهما بصلة.

أمّا الأوّل ، فلم يقل به أحد ؛ إذ كل ما في الكون آيات وجوده ، ولا يصحّ تعظيم كلّ موجود بحجّة أنّه دليل على الصانع.

وأمّا الثاني ؛ فهو داخل في الآية قطعاً ، وقد عدّ الصَّفا والمروةَ والبُدْن من شعائر الله ، فهي من معالم عبادته وأعلام طاعته ، إنّما الكلام في اختصاص الآية بمعالم العبادة وأعلام الطاعة ، ولا دليل عليه ، بل المتبادر هو الثالث ، أي معالم دينه سبحانه ، سواء كانت أعلاماً لعبادته وطاعته أم لا ؛ فالأنبياء والأوصياء والشهداء والصحف والقرآن الكريم والأحاديث النبويّة كلّها من شعائر دين الله وأعلام شريعته ، فمن عظّمها فقد عظّم شعائر الدين.

قال القرطبي : فشعائر الله ، أعلام دينه ، لا سيما ما يتعلّق بالمناسك (١).

ولقد أحسن حيث عمّم أوّلاً ، ثمّ ذكر مورد الآية ثانياً ، وممّا يعرب عن ذلك أنّ إيجاب التعظيم تعلّق ب «حرمات الله» في آية أُخرى.

قال سبحانه : (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) (٢) ، والحرمات ما لا يحلّ انتهاكه ، فأحكامه سبحانه حرمات الله ؛ إذ لا يحلّ انتهاكها ، وأعلام طاعته وعبادته حرمات الله ؛ إذ يحرم هتكها ، وأنبياؤه وأوصياؤهم وشهداء دينه وكتبه وصحفه من حرمات الله ، يحرم هتكهم ، فلو عظّمهم المؤمن أحياءً وأمواتاً فقد عمل بالآيتين : (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ) ، (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ).

__________________

(١) القرطبي ، التفسير ١٢ : ٥٦ طبع دار إحياء التراث.

(٢) الحجّ : ٣٠.

٣٤٨

الآية الرابعة : صيانة الآثار ومودّة ذوي القربى

إنّ القرآن الكريم يأمرنا ـ بكلّ صراحة ـ بحبّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأقربائه ، ومودّتهم ومحبّتهم فيقول :

(وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) (١) و (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (٢).

ومن الواضح لدى كلّ من يخاطبه الله بهذه الآية أنّ البناء على مراقد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ، هو نوع من إظهار الحبّ والمودّة لهم ، وبذلك يخرج عن كونه بدعة ، لوجود أصل له في الكتاب والسنّة ، ولو بصورة كليّة.

وهذه العادة متّبعة عند كافة الشعوب والأُمم في العالم ، فالجميع يعتبرون ذلك نوعاً من المودّة لصاحب ذلك القبر ، ولذلك تراهم يدفنون كبار الشخصيات السياسية والعلمية في كنائس ومقابر مشهورة ويزرعون أنواع الزهور والأشجار حولها.

__________________

(١) المائدة : ٥٦.

(٢) الشورى : ٢٣.

٣٤٩

المبحث الثاني :

صيانة الآثار من منظار القواعد الفقهيّة

الأصل في الأشياء الإباحة والحلّية

إنّ الأصل في الأشياء هو الإباحة ما لم يرد فيها نهي في الشريعة ، وهذه هي القاعدة المحكمة الّتي اعتمد عليها الفقهاء عبر القرون إلّا المتزمّتين غير الواعين.

حتّى أنّ الذكر الحكيم يصرّح بأنّ وظيفة النبيّ الأكرم هو بيان المحرّمات دون المحلّلات ، وأنّ الأصل هو حلّية كلّ عمل وفعل ، إلّا أن يجد النبيّ حرمته في شريعته ، وأنّ وظيفة الأُمّة هو استفراغ الوسع في استنباط الحكم من أدلّته ، فإذا لم تجد دليلاً على الحرمة تحكم عليه بالجواز.

ونكتفي في هذا المقام بالإشارة إلى مجموعة من الآيات ، وإن كان في السنّة الغرّاء أيضاً كفاية :

١ ـ قال سبحانه : (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَ

٣٥٠

رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) (١).

فإنّ هذه الآية تكشف عن أنّ الّذي يحتاج إلى البيان إنّما هو المحرّمات لا المباحات ، ولأجل ذلك لا وجه للتوقّف في العمل ، بعد ما لم يكن مبيّناً في جدول المحرّمات.

وبعبارة أُخرى : أنّ المسلم إذا لم يجد شيئاً في جدول المحرّمات لم يكن له تبرير لتوقّفه وعدم الحكم عليه بالإباحة والجواز والحلّية.

٢ ـ قال سبحانه : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) (٢).

إنّها تكشف عن أنّ ما يلزم بيانه إنّما هو المحرّمات لا المباحات ، ولذلك يستدلّ مبلغ الوحي ـ ونعني به النبيّ الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بأنّه لا يجد فيما أُوحي إليه محرّماً على طاعم يطعمه سوى الأُمور المذكورة ، فإذا لم يكن هناك منها شيء فهو محكوم بالحلّية والإباحة.

٣ ـ قال سبحانه : (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (٣).

٤ ـ قال سبحانه أيضاً : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) (٤).

إنّ دلالة هاتين الآيتين على المقام واضحة ، فإنّ جملة «وما كان» تارة تستعمل في نفي الشأن والصلاحية ، وأُخرى في نفي كون الشيء أمراً ممكناً.

__________________

(١) الأنعام : ١١٩.

(٢) الأنعام : ١٤٥.

(٣) الإسراء : ١٥.

(٤) القصص : ٥٩.

٣٥١

أمّا الأوّل ، فمثل قوله : (ما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١) وغيرها كسورة آل عمران (٢) ، أي ليس من شأن الله سبحانه وهو العادل الرءوف أن يضيع إيمانكم.

وأمّا الثاني ، فمثل قوله : (ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً) (٣) ، أي لا يمكن لنفس أن تموت بدون إذنه سبحانه.

فيكون معنى الآيتين بناءً على الاستعمال الأوّل : هو ليس من شأن الله تعالى أن يعذّب الناس أو يهلكهم قبل أن يبعث إليهم رسولاً.

وعلى الاستعمال الثاني : هو ليس من الممكن أن يعذّب الله الناس أو يهلكهم قبل أن يبعث إليهم رسولاً.

وعلى كلّ تقدير ، فدلالة الآيتين على الإباحة واضحة ؛ إذ ليست لبعث الرسل خصوصية وموضوعية ، ولو أُنيط جواز العذاب ببعثهم فإنّما هو لأجل كونهم وسائط للبيان والإبلاغ ، والملاك هو عدم جواز التعذيب بلا بيان وإبلاغ ، وأنّ التعذيب بلا بيان وإبلاغ ليس من شأنه سبحانه ، أو أنّه ليس أمراً ممكناً حسب حكمته.

٥ ـ قال سبحانه : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) (٤).

فإنّ هذه الآية مشعرة بأنّ الهلاك كان بعد الإنذار والتخويف ، وأنّ اشتراط الإنذار كناية عن البيان وإتمام الحجّة.

٦ ـ قوله سبحانه : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ

__________________

(١) البقرة : ١٤٣.

(٢) الآيات ٧٩ و ١٦١.

(٣) آل عمران : ١٤٥.

(٤) الشعراء : ٢٠٨.

٣٥٢

إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) (١).

فإنّ هذه الآية تدلّ على أنّ التعذيب قبل بعث الرسول مردود بحجّة المعذّبين وهي قولهم : (لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) ، فلا يصحّ التعذيب إلّا بعد إتمام الحجّة عليهم ببعث الرسل.

وهذا يعني أنّ الأشياء مباحة جائزة الارتكاب خالية عن العقوبة أصلاً ، إلّا إذا ردع عنها الشارع بشكل من الأشكال الّتي منها إرسال الأنبياء.

٧ ـ قوله سبحانه : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢).

فإنّ ظاهر قوله : (ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) أنّه حجّة تامّة صحيحة ، ويحتجّ به على كلّ من عذّب قبل البيان ، ولأجل ذلك قام سبحانه بإرسال الرسل حتّى لا يُحتج عليه ، بل تكون الحجة لله سبحانه.

وهذا يدلّ على أنّه لا يحكم على حرمة شيء ، ولا يجوز التعذيب على ارتكابه قبل بيان حكمه ؛ وذلك لأنّ بعث البشير والنذير كناية عن بيان الأحكام.

__________________

(١) طه : ١٣٤.

(٢) المائدة : ١٩.

٣٥٣

المبحث الثالث :

المشاهد والمقابر من خلال سيرة المسلمين في خير القرون

قد تعرّفت على قضاء الكتاب في تكريم الأنبياء والأولياء ، وأنّ البناء على قبورهم أو بناء المساجد حول مراقدهم أمر محبّذ ؛ ندبت إليه الشريعة الإلهيّة ، ولم ترَ أيّ أثر فيها للتحريم ، وعلى ذلك درج السلف الصالح عبر القرون ، ولم يزل الإلهيّون من أهل الكتاب والمسلمين على مدى العصور يهتمّون بمقابر الأنبياء والأولياء بالبناء والتعمير ثمّ التطهير والتنظيف لها ، حتّى أنّ كثيراً من المتمكّنين يُخصّصُون شيئاً من أموالهم لهذه الغاية.

فهذه القباب الشاهقة والمنائر الرفيعة والساحات الوسيعة حول مراقد الأنبياء والأولياء وحول مراقد صحابتهم في مختلف الديار شرقها وغربها ، لهي دليل قاطع على أنّ هذه السيرة سيرة مشروعة ، وإلّا كان على الصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان رفضها وردّها بالبيان والبنان والسلطة والقوّة ، وإلّا فالسكوت عليها إلى عصر إثارة هذه الشكوك ، عصر ابن تيمية ، أدلّ دليل على كونها سيرة مشروعة.

وعند ما قام ابن تيمية بوجه هذه السيرة أثار ثائرة المسلمين ضدّه شرقاً وغرباً ، وقد بيّنوا ضلالة تلك الفكرة وانحرافها عن الشرع.

٣٥٤

وقد وقف السلف الصالح ـ بعد فتح الشام ـ على قبور الأنبياء ذوات البناء الشامخ ، فتركوها على حالها من دون أن يخطر ببال أحدهم ـ وعلى رأسهم عمر بن الخطاب ـ بأنّ البناء على القبور أمر محرّم يجب هدمه.

وهكذا الحال في سائر القبور المشيّدة عليها الأبنية في أطراف العالم ، وإن كنت في ريب فاقرأ تواريخهم.

ولو قام باحث بوصف الأبنية الشاهقة الّتي كانت مشيّدة على قبور الأنبياء والصالحين قبل ظهور الإسلام ، وما بناه المسلمون في عصر الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يومنا هذا في مختلف البلدان ، لجاء بكتاب فخم ضخم ، يعرب عن أنّ السنّة الرائجة في تلك الأعصار قبل الإسلام وبعده ، من عصر الرسول والصحابة والتابعين لهم إلى يومنا هذا ، هي مشروعيّة البناء على القبور والعناية بحفظ آثار علماء الدين ، ولم ينبس أي ابن أُنثى حول ذلك ببنت شفة ، وما اعتُرض عليها ، بل تلقّوها إظهاراً للمحبّة والودّ لأصحاب الرسالات والنبوّات وأصحاب العلم والفضل ، ومن خالف تلك السنّة وعدّها شركاً أو أمراً محرّماً فقد اتّبع غير سبيل المؤمنين ، قال سبحانه :

(وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) (١).

وقد وارى المسلمون جسد النبيّ الأكرم في بيته المسقّف ، ولم يزل المسلمون منذ واروا جثمانه ، على العناية بحجرته الشريفة بشتّى الأساليب.

وقد بنى عمر بن الخطاب حول حجرته جداراً ، حيث جاء تفصيل كلّ ذلك مع ذكر وصف الأبنية الّتي توالت عليها عبر القرون في الكتب المتعلّقة بتاريخ

__________________

(١) النساء : ١١٥.

٣٥٥

المدينة ، لا سيّما وفاء الوفا للإمام السمهودي المتوفّى عام ٩١١ ه‍ (١) ، والبناء الأخير الّذي شيّد عام ١٢٧٠ ه‍ قائم لم يمسّه سوء ، وسوف يبقى بفضل الله تبارك وتعالى محفوظاً عن الاجتراء.

وأمّا المشاهد والقباب المبنيّة في المدينة منذ العصور الأُولى فحدّث عنها ولا حرج ، لا سيّما في بقيع الغرقد ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتب التاريخ وأخبار المدينة.

وقد ذكر كثير من المؤرّخين والسيّاح شيئاً كثيراً من أبنية شاهقة على قبور الأنبياء والصالحين في خير القرون.

وبدورنا نذكر شيئاً يسيراً ممّا جاء في كتبهم ، ونكتفي بذكر كلمات ثلاثة من المؤرّخين المعروفين بالتثبّت والضبط ، ثمّ نذكر ما ذكره الرحّالة المعروف ابن جبير في رحلته على وجه التفصيل :

١ ـ كلمة المسعودي في حقّ قبور أئمة أهل البيت عليهم‌السلام

هذا هو المسعودي الّذي توفّي عام (٣٤٥ ه‍) ، وقد أدرك خير القرون ، وولد في أواخره ـ إذا كان خير القرون هو القرون الثلاثة الأُولى ـ يقول :

وعلى قبورهم في هذا الموضع من البقيع رخامة مكتوب عليها : بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله مبيد الأُمم ومحيي الرمم ، هذا قبر فاطمة بنت رسول الله عليهما‌السلام سيّدة نساء العالمين ، وقبر الحسن بن عليّ بن أبي طالب ، وعليّ بن الحسين بن أبي طالب ، ومحمّد بن علي ، وجعفر بن محمد (٢).

__________________

(١) وفاء الوفا ٢ : ٤٥٨ الفصل التاسع.

(٢) مروج الذهب ومعادن الجوهر ٢ : ٢٨٨.

٣٥٦

٢ ـ كلمة ابن الجوزي :

يقول ابن الجوزي : وهذا هو محمد بن أبي بكر التلمساني يصف المدينة الطيّبة وبقيع الغرقد في القرن الرابع بقوله : وقبر الحسن بن علي عن يمينك إذا خرجت من الدرب ترفع إليه قليلاً ، عليه مكتوب : هذا قبر الحسن بن علي ، دفن إلى جنب أُمّه فاطمة رضي الله عنها وعنه (١).

٣ ـ كلمة الحافظ محمد بن محمود بن النجّار :

يقول : والقبران (أي قبر العباس بن عبد المطلب ، وقبر الحسن بن علي ومعه السجّاد والباقر والصادق عليهم‌السلام) في قبّة كبيرة عالية قديمة البناء في أوّل البقيع ، وعليها بابان يفتح أحدهما في كلّ يوم للزيارة رضي الله عنهم (٢).

٤ ـ الرحّالة ابن جبير والأبنية على المشاهد :

هذا هو أبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير الأندلسي الشاطبي ، أحد علماء الأندلس الأكابر في الفقه والحديث ، يحكي لنا في رحلته عن الأبنية الرفيعة والقباب العالية في المشاهد والمزارات المعروفة يومذاك للأنبياء والصالحين والنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته وصحابته والتابعين لهم بإحسان.

فقد قام برحلات ثلاث ، أهمّها استغرقت أكثر من ثلاث سنوات ، حيث

__________________

(١) مجلة العربي : العدد السادس سنة ١٣٩٣ ه‍.

(٢) أخبار مدينة الرسول : ١٥٣ تحقيق صالح محمد جمال ـ ط. مكة المكرمة سنة ١٤٠١ ه‍.

٣٥٧

بدأها يوم الاثنين في التاسع عشر من شهر شوال سنة ٥٧٨ ه‍ ، وختمها في يوم الخميس الثاني والعشرين من شهر محرم سنة ٥٨١ ه‍ ، وقد وصف في هذه الرحلة ما مرّ به من مدن وما شاهد من عجائب البلدان.

كما وعنى عناية خاصة بوصف النواحي الدينية والمساجد والمشاهد وقبور الأنبياء والأولياء وأهل البيت والصحابة والتابعين ، وصفاً دقيقاً ، يعرب عن أنّ هذه القباب والأبنية الرفيعة شُيّدت من قبل قرون تتّصل إلى عصر الصحابة والتابعين.

ولم يكن يومذاك أيُّ معترض على بنائها فوق قبور هؤلاء ، ولم يدر بِخَلَدِ أحد أنّ هذه القباب والأبنية ستبعدنا عن التوحيد ، بل كانوا يتبرّكون بهذا العمل ويبدون ما في مشاعرهم من ودّ وحبّ لأصحابها.

وكان التبرّك والتقبيل سنّة رائجة بين المسلمين ، وهم لم يكونوا يقبّلون باباً ويتبرّكون بجدار ، بل يتبرّكون بمن حوتهم ، على حدّ قول مجنون بني عامر :

أمرُّ على الديار ديار ليلى

أُقبِّل ذا الجدار وذا الجدارا

وما حبّ الديار شغفن قلبي

ولكن حبّ من سكن الديارا

وفيما يلي نشير بشكل مقتضب إلى مجمل كلامه :

مشهد رأس الحسين بالقاهرة :

يقول ابن جبير في ذكر مصر والقاهرة وبعض آثارها العجيبة : فأوّل ما نبدأ بذكره منها الآثار والمشاهد المباركة الّتي ببركتها يمسكها الله عزوجل ، فمن ذلك المشهد العظيم الشأن الّذي بمدينة القاهرة حيث رأس الحسين بن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنهما ، وهو في تابوت فضّة مدفون تحت الأرض قد بُنيَ عليه بنيان حفيل يقصر الوصف عنه ولا يحيط الإدراك به ....

٣٥٨

إلى أن يقول : ومن أعجب ما شاهدناه في دخولنا إلى هذا المسجد المبارك حجر موضوع في الجدار الّذي يستقبله الداخل ، شديد السواد والبصيص ، يصف الأشخاص كلّها ، كأنّه المرآة الهندية الحديثة الصقل.

وشاهدنا من استلام الناس للقبر المبارك ، وإحداقهم به ، وانكبابهم عليه ، وتمسّحهم بالكسوة الّتي عليه ، وطوافهم حوله ، مزدحمين داعين باكين متوسّلين إلى الله سبحانه وتعالى ببركة التربة المقدّسة ، ومتضرّعين ما يذيب الأكباد ويصدع الجماد ، والأمر فيه أعظم ، ومرأى الحال أهول ، نفعنا الله ببركة ذلك المشهد الكريم (١).

مشاهد الأنبياء وأهل البيت في مصر :

يقول ابن جبير عن الجبّانة المعروفة بالقرافة : هي أيضاً إحدى عجائب الدنيا ، لِما تحتوي عليه من مشاهد الأنبياء صلوات الله عليهم ، وأهل البيت رضوان الله عليهم ، والصحابة والتابعين والعلماء والزهّاد والأولياء ... فمنها قبر ابن النبي صالح ، وقبر روبيل بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليهم أجمعين ، وقبر آسية امرأة فرعون رضي الله عنها ، ومشاهد أهل البيت رضي الله عنهم أجمعين ؛ مشاهد أربعة عشر من الرجال ، وخمس من النساء (٢).

إلى أن يقول : مشهد عليّ بن الحسين بن عليّ .. ، ومشهدان لابنَي جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنهم ، والقاسم بن محمد بن جعفر الصادق بن محمد بن علي زين العابدين المذكور ، رضي الله عنهم ، ومشهدان لابنيه الحسن والحسين رضي الله عنهما ، ومشهد ابنه عبد الله بن القاسم .. ، ومشهد ابنه يحيى بن القاسم ، ومشهد عليّ بن عبد الله بن القاسم ، رضي الله عنهم ، ومشهد أخيه عيسى بن

__________________

(١) رحلة ابن جبير : ص ١٨ ـ ١٩ ، ط. بيروت ١٩٨٦.

(٢) المصدر السابق.

٣٥٩

عبد الله ، رضي الله عنهما ، ومشهد يحيى بن الحسن بن زيد بن الحسن ، رضي الله عنهم ، ومشهد محمد بن عبد الله بن محمد الباقر بن علي بن زين العابدين بن الحسين بن علي ، رضي الله عنهم ، ومشهد جعفر بن محمد من ذريّة عليّ بن الحسين ، رضي الله عنهم.

وأمّا عن النساء فيقول ابن جبير : مشهد السيّدة امّ كلثوم ابنة القاسم بن محمد ابن جعفر ، رضي الله عنهم ، ومشهد السيّدة زينب ابنة يحيى بن زيد بن علي بن الحسين ، رضي الله عنهم ، ومشهد أُمّ كلثوم ابنة محمد بن جعفر الصادق رضي الله عنهم ، ومشهد السيّدة أُمّ عبد الله بن القاسم بن محمد ، رضي الله عنهم (١).

مشاهد الصحابة في مصر :

ويذكر أيضاً من المشاهد في قوله : مشهد معاذ بن جبل رضى الله عنه ، مشهد عقبة بن عامر الجهني حامل راية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مشهد صاحب بردة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مشهد أبي الحسن صائغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مشهد سارية الجبل رضى الله عنه ، مشهد محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ، مشهد أولاده رضي الله عنهم ، مشهد أحمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ، مشهد أسماء ابنة أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ، مشهد ابن الزبير بن العوام رضي الله عنهما ، مشهد عبد الله بن حذافة السهمي صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، مشهد ابن حليمة رضيع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

مشاهد الفقهاء الكبار في مصر :

وعن مشاهد الأئمة العلماء الزهّاد يقول : مشهد الإمام الشافعي رضى الله عنه ، وهو من المشاهد العظيمة احتفالاً واتّساعاً ، وبُني بإزائه مدرسة لم يُعْمر بهذه البلاد مثلها ،

__________________

(١) رحلة ابن جبير : ٢٠ ، ط. بيروت ١٩٨٦.

(٢) المصدر السابق : ص ٢١.

٣٦٠