في ظلال التّوحيد

الشيخ جعفر السبحاني

في ظلال التّوحيد

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: نشر مشعر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-6293-82-4

الصفحات: ٧١٢

الفصل الرابع

صيانة الآثار

الإسلاميّة

٣٢١
٣٢٢

تمهيد

الآثار الإسلاميّة ونتائجها الإيجابيّة

الأُمم الحيّة المهتمَّة بتاريخها تسعى إلى صيانة كلّ أثر تاريخيّ له صلة بماضيها ؛ ليكون آيةً على أصالتها وعَراقتها في العلوم والفنون ، وأنّها ليست نبتة بلا جذور أو فرعاً بلا أُصول.

والأُمّة اليقظة تحتفظ بآثارها وتراثها الثقافيّ والصناعيّ والمعماريّ ، وما له علاقة بماضيها ممّا ورثته عن أسلافها ، صيانةً لكيانها وبَرهنةً على عزّها الغابر.

وقد دعت تلك الغايةُ السامية الشعوبَ الحيّة لإيجاد دائرة خاصّة في كلّ قطر لحفظ التراث والآثار : من ورقة مخطوطة ، أو أثر منقوش على الحجر ، أو إناء ، أو منار ، أو أبنية ، أو قِلاع وحصونٍ ، أو مقابر ومشاهد لإبطالهم وشخصيّاتهم الّذين كان لهم دور في بناء الأُمّة وإدارة البلد وتربية الجيل ، إلى حدّ يُنفقون في سبيلها أموالاً طائلة ، ويستخدمون عمّالاً وخُبراء يبذلون سعيهم في حفظها وترميمها وصيانتها عن الحوادث.

إنّ التراث بإطلاقه آية رُقيّ الأُمّة ومقياس شعورها ودليل تقدّمها في معترك الحياة. ولذلك نرى أنّ الشخصية البارزة إذا زارت بلداً وحلّت فيه ضيفاً ، يجعل في

٣٢٣

برنامجها زيارة المناطق الأثرية والمشاهد والمقابر العامرة الّتي ضمَّت جثمانَ الشخصيّات الّتي تنبضُ بالحياة الحاضرة بتضحياتهم ومجاهدتهم من غير فرق بين دولةٍ إلهيّة أو علمانيّة.

هذا هو موجز الكلام في مطلق الآثار ، وهَلُمَّ معي ندرس أهميّة صيانة الآثار الإسلامية الّتي تركها المسلمون من عصر الرسول إلى عصرنا هذا في مناطق مختلفة.

لا شكّ أنّ كلّ أثر يمت للإسلام والمسلمين بوجه من الوجوه بصلة ، له تأثيره الخاصّ في التدليل على أنّ للشريعة الإسلامية وصاحبها حقيقة ، وليست هي ممّا نسجَتْها يدُ الخيال أو صنعتها الأوهام.

وبعبارة واضحة : أنّ الآثار المتبقّية من المسلمين إلى يومنا هذا تدلُّ على أنّ للدعوة الإسلامية وداعيها واقعيّة لا تُنكر ، وأنّه بُعِثَ في زمن خاصّ بشريعة عالميّة ، وبكتاب معجز تحدّى به الأُمم ، وآمن به لفيف من الناس.

ثمّ إنّه هاجر من موطنه إلى يثرب ، ونشر شريعته في الجزيرة العربيّة ، ثمّ اتّسعت بفضل سعي أبطالها ومعتنقيها إلى سائر المناطق ، وقد قدّم في سبيلِها تضحيات ، وتربّى في أحضانها علماء وفقهاء وغير ذلك. فهذه آثارهم ومشاهدهم وقبورهم تشهد بذلك.

فصيانةُ هذه الآثار على وجه الإطلاق تُضفي على الشريعة في نظر غير معتنقيها واقعية وحقيقة ، وتزيل عن وجهها أيّ ريب أو شك في صحّة البعثة والدعوة ، وجهاد الأُمّة ونضال المؤمنين.

فإذا كانت هذه نتيجةُ صيانتها ؛ فإنّ نتيجة تدميرها وتخريبها أو عدم الاعتناء بها مسلَّماً عكس ذلك.

وممّا يؤسف له أنّنا نرى الأُمّة الإسلامية ابتُليت في هذا الأوان بأُناس

٣٢٤

جعلوا تدميرَ الآثار وهدمها جزءاً من الدين ، والاحتفاظ بها ابتعاداً عنه ؛ فهذه عقليّتهم وهذا مبلغ إدراكهم الّذي لا يقلّ عن عقلية وإدراك الصبيان ، الّذين لا يعرفون قيمة التراث الواصل إليهم عن الآباء ، فيلعبون به بين الخرق والهدم وغير ذلك.

لا شكّ أنّ لهدم الآثار والمعالم التاريخية الإسلامية وخاصّة في مهد الإسلام ؛ مكّة ، ومهجر النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، المدينة المنوّرة ، نتائج وآثاراً سيّئة على الأجيال اللّاحقة الّتي سوف لا تجد أثراً لوقائعها وحوادثها وأبطالها ومفكّريها ، وربّما يؤول بها الأمر إلى الاعتقاد بأنّ الإسلام قضيّة مفتعلة ، وفكرة مبتدعة ليس لها أيّ أساسٍ واقعي تماماً.

فالمطلوب من المسلمين أن يُكوِّنوا لجنة من العلماء من ذوي الاختصاص ؛ للمحافظة على الآثار الإسلامية وخاصّة آثار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وآثار أهل بيته ، والعناية بها وصيانتها من الاندثار ، أو من عمليات الإزالة والمحو ، لما في هذه العناية والصيانة من تكريمٍ لأمجاد الإسلام وحفظ لذكريات الإسلام في القلوب والعقول ، وإثبات لأصالة هذا الدين ، إلى جانب ما في أيدي المسلمين من تراث ثقافيّ وفكريّ عظيم ، وليس في هذا العمل أيُّ محذور شرعي ، بل هو أمر محبَّذ ، اتّفقت عليه كلمة المسلمين الأوائل كما سيوافيك ، فالسلف الصالح وقفوا ـ بعد فتح الشام ـ على قبور الأنبياء ذات البناء الشامخ .. فتركوها على حالها من دون أن يخطر ببال أحدهم وعلى رأسهم عمر بن الخطاب بأنّ البناء على القبور أمر محرّم يجب أنْ يُهدم ، وهكذا الحال في سائر القبور المشيّدة بالأبنية في أطراف العالم. وإنْ كنت في ريبٍ من هذا فاقرأ تواريخَهم ، وعلى سبيل المثال إليك نصّ ما جاء في دائرة المعارف الإسلامية :

إنّ المسلمين عند فتحهم فلسطين وجدوا جماعة من قبيلة «لخم» النصرانيّة

٣٢٥

يقومون على حرم إبراهيم ب «حِبْرون» (١) ولعلّهم استغلّوا ذلك ففرضوا أتاوة على حجّاج هذا الحرم ... وربّما يكون لقب تميم الداري نسبة إلى الدار أي الحرم ، وربّما كان دخول هؤلاء اللخميين في الإسلام ؛ لأنّه قد مكّنهم من القيام على حرم إبراهيم الّذي قدّسه المسلمون تقديسَ اليهود والنصارى من قبلهم (٢).

وجاء أيضاً في مادة «الخليل» : يقول المقدسي ـ وهو أوّل من أسهب في وصف الخليل ـ : إنّ قبر ابراهيم كانت تعلوه قُبّة بُنيت في العهد الإسلامي. ويقول مجير الدين : إنّها شُيّدت في عهد الأُمويين ، وكان قبر إسحاق مغطّى بعضُه ، وقبر يعقوب قباله ، وكان المقدسي أوّل من أشار إلى تلك الهِبات الثمينة الّتي قدّمها الأُمراء الوَرِعون من أقاصي البلاد إلى هذا الضريح ، إضافةً إلى الاستقبال الكريم الّذي كان يلقاه الحجّاج من جانب التميميين(٣).

ولو قام باحث بوصف الأبنية الشاهقة الّتي كانت مشيّدة على قبور الأنبياء والصالحين قبل ظهور الإسلام وما بناه المسلمون في عصر الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يومنا هذا في مختلف البلدان لجاء بكتاب فخم ضخم ، وهو يَكشف عن أنّ السيرة الرائجة في تلك الأعصار قبل الإسلام وبعده من عصر الرسول والصحابة والتابعين لهم إلى يومنا هذا كانت هي العناية بحفظ آثار رجال الدين ، الكاشفة عن مشروعية البناء على القبور ، وإنّه لم ينبس أيّ شخص في رفض ذلك ببنت شفة ولم يعترض عليها أحد ، بل تلقّاها الجميع بالقبول والرضا ، إظهاراً للمحبّة والودّ لأصحاب الرسالات والنبوّات وأصحاب العلم والفضل ، ومن خالف تلك السنّة وعدّها شركاً أو أمراً محرّماً فقد اتّبع غير سبيل المؤمنين ، قال

__________________

(١) كلمة عبرية تعني : مدينة الخليل.

(٢) دائرة المعارف الإسلامية ٥ : ٤٨٤ مادة تميم الداري.

(٣) دائرة المعارف الإسلامية ٨ : ٤٣١.

٣٢٦

سبحانه : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) (١).

واليوم وبعد مضيّ عشرين قرناً على ميلاد السيد المسيح عليه‌السلام تحوّل المسيح وأُمّه العذراء وكتابه الإنجيل وكذلك الحواريون ، تحوّلوا ـ في عالم الغرب ـ إلى أُسطورة تاريخية ، وصار بعض المستشرقين يشكِّكون ـ مبدئياً ـ في وجود رجل اسمه المسيح وأُمّه مريم وكتابه الإنجيل ، ويعتبرونه أُسطورة خيالية تشبه أُسطورة «مجنون ليلى».

لما ذا؟

لأنّه لا يوجد أيّ أثر حقيقيّ وملموس للمسيح ، فمثلاً لا يُدرى ـ بالضبط ـ أين وُلِد؟ وأين داره الّتي كان يسكنها؟ وأين دفنوه بعد وفاته ـ على زعم النصارى أنّه قتل ـ؟

أمّا كتابه السماوي فقد امتدّت إليه يد التحريف والتغيير والتزوير ، وهذه الأناجيل الأربعة لا تمتّ إليه بصلة وليست له ، بل هي ل «متّى» و «يوحنّا» و «مرقس» و «لوقا» ، ولهذا ترى في خاتمتها قصّة قتله المزعوم ودفنه ، ومن الواضح ـ كالشمس في رائعة النهار ـ أنّها كتبت بعد غيابه.

وعلى هذا الأساس يعتقد الكثير من الباحثين والمحقّقين أنّ هذه الأناجيل الأربعة إنّما هي من الكتب الأدبيّة الّتي يعود تاريخها إلى القرن الثاني من الميلاد ، فلو كانت الآثار الخاصّة بعيسى محفوظة ، لكان ذلك دليلاً على حقيقة وجوده وأصالة حياته وزعامته ، وما كان هناك مجال لإثارة الشكوك والتساؤلات من قِبَل المستشرقين ذوي الخيالات الواهية.

__________________

(١) النساء : ١١٥.

٣٢٧

أمّا المسلمون ، فهم يواجهون العالَم مرفوعي الرأس ، ويقولون : يا أيّها الناس لقد بُعثَ رجلٌ من أرض الحجاز ، قبل ألف وأربعمائة سنة لقيادة المجتمع البشري ، وقد حقّق نجاحاً باهراً في مهمّته ، وهذه آثار حياته ، محفوظة تماماً في مكّة والمدينة ؛ فهذه الدار الّتي وُلد فيها ، وهذا غار حراء حيث هبط إليه الوحي والتنزيل فيها ، وهذا هو مسجده الّذي كان يُقيم الصلاة فيه ، وهذا هو البيت الّذي دُفن فيه ، وهذه بيوت أولاده وزوجاته وأقربائه ، وهذه قبور ذريّته وأوصيائه عليهم‌السلام.

والآن ، إذا قَضينا على هذه الآثار فقد قضينا على معالم وجوده صلى‌الله‌عليه‌وآله ودلائل أصالته وحقيقته ، ومهّدنا السبيلَ لأعداءِ الإسلام ليقولوا ما يريدون.

إنّ هدم آثار النبوّة وآثار أهل بيت العصمة والطهارة ليس فقط إساءة إليهم عليهم‌السلام وهتكاً لحرمتهم ، بل هو عداء سافر مع أصالة نبوّة خاتم الأنبياء ومعالم دينه القويم. إنّ رسالة الإسلام رسالة خالدة أبديّة ، وسوف يبقى الإسلام ديناً للبشرية جمعاء إلى يوم القيامة ، ولا بدّ للأجيال القادمة ـ على طول الزمن ـ أنْ تعترف بأصالتها وتؤمن بقداستها. ولأجلِ تحقيق هذا الهدف يجب أن نحافظ ـ أبداً ـ على آثار صاحب الرسالة المحمّدية صلى‌الله‌عليه‌وآله لكي نكون قد خَطَوْنا خطوة في سبيل استمرارية هذا الدين وبقائه على مدى العصور القادمة ، حتّى لا يشكّك أحد في وجود نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله كما شكّكوا في وجود النبيّ عيسى عليه‌السلام.

لقد اهتمَّ المسلمون اهتماماً كبيراً بشأن آثار النبيّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وسيرته وسلوكه ، حتّى أنّهم سجّلوا دقائق أُموره وخصائص حياته ومميّزات شخصيّته ، وكلّ ما يرتبط به كخاتمه ، وحذائه ، وسواكه ، وسيفه ، ودرعه ، ورمحه ، وجواده ، وإبله ، وغلامه ، وحتّى الآبار الّتي شرب منها الماء ، والأراضي الّتي أوقفها لوجه الله سبحانه ، والطعام المفضّل لديه ، بل وكيفية مشيته وأكله وشربه ، وما يرتبط بلحيته المقدّسة وخضابه لها ، وغير ذلك ، ولا زالت آثار البعض منها باقية إلى

٣٢٨

يومنا هذا (١).

هذه كلمة موجزة عن هذا الموضوع وموقف العقلاء عامّة والمسلمين خاصّة منه ، فهلمّ معي ندرس المسألة في ضوء الكتاب والسنّة حتّى تتجلّى الحقيقة بأعلى مظاهرها ، ونثبت أنّ صيانة قبور الأنبياء والأولياء والشهداء وتعميرها وتشييدها بقباب ، هي ممّا دعا إليها الكتاب والسنّة النبويّة وسيرة المسلمين إلى أوائل القرن الثامن ، عصر إثارة الشكوك حول هذا الموضوع وغيره ، عصر ابن تيمية (٦٦١ ـ ٧٢٨ ه‍) الّذي أثار تلك الفكرة لتفريق كلمة الأُمّة ، وتلقّى ذلك بالقبول وارث منهجه محمد بن عبد الوهاب النجدي (١١١٥ ـ ١٢٠٦ ه‍) ، إلى أن أحيا منهج شيخه بعد الاندراس بفضل سيف آل سعود ، وحمايتهم له لغاية في نفوسهم لا تُنكَر.

وسندرس الموضوع من خلال مباحث ولنقدِّم ما تدلّ عليه من الآيات.

__________________

(١) راجع الطبقات الكبرى لابن سعد ١ : ٣٦٠ ـ ٥٠٣ حول هذا الموضوع.

٣٢٩

المبحث الأوّل :

صيانة الآثار من منظار القرآن الكريم

الآية الأُولى : الإذن برفعِ بيوتٍ خاصة

إذا كان لصيانة الآثار الإسلاميّة ذلك التأثير الكبير الّذي اتّضح للقارئ فيما مرّ من التمهيد ، فعلينا استنطاق كتاب الله حولَ هذا الموضوع حتّى نقف على حكم الله فيه.

وسنشير هنا إلى الآيات ذات الصلة الواضحة بالموضوع ، والّتي لا تتجاوز أربع آيات:

قال سبحانه : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ* رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) (١).

وللمفسّرين حول هذه الآية بحوث ، منها : تعيين متعلّق الظرف ، أعني قوله : (فِي بُيُوتٍ) ، فهل هو متعلّق بما قبله ، أي قوله سبحانه في الآية المتقدّمة عليها

__________________

(١) النور : ٣٦ ـ ٣٧.

٣٣٠

(كَمِشْكاةٍ) أي المشكاة في بيوت ، أو هو متعلّق بفعل مقدّر يدلّ عليه لفظ (يُسَبِّحُ) في الآية ، ولا مانع من التكرار ، أو متعلّق بشيء آخر مثل قوله : سبّحوا في بيوت؟

والمهم بيان أمرين :

الأوّل : ما هو المراد من هذه البيوت الّتي أذن الله أن ترفع؟

الثاني : ما هو المراد من الرفع فيها؟

أمّا الأوّل ، فالمفسّرون فيه على أقوال :

١ ـ المراد المساجد الأربعة.

٢ ـ مطلق المساجد.

٣ ـ بيوت النبيّ.

٤ ـ المساجد وبيوت النبيّ.

واستفدنا هذه الأقوال من المصادر (١) ، والمهم تعيين المراد منها وفق الموازين الصحيحة في تفسير الآية.

١ ـ أنّ القولين : الأوّل والثاني مبنيان على صحّة إطلاق البيت على المسجد ، ولو صحّ ذلك لغة ـ ولن يصحّ كما سيوافيك ـ إلّا أنّه إطلاق شاذ ، ولا يصحّ تفسير القرآن بالاستعمال الشاذ ، وذلك لأنّ البيت في القرآن غير المسجد ، فالمسجد الحرام غير بيت الله الحرام الّذي جعله الله قياماً للناس (٢).

٢ ـ أنّ البيت لا ينفكّ عن السّقف لقوله تعالى : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا

__________________

(١) الطبري ، التفسير ، ١٨ : ١١١ ـ ١١٢ ؛ الدُّر المنثور ٦ : ٢٠٣ ؛ الكشاف ٢ : ٣٩٠ ؛ الرازي ، التفسير ٢٤ : ٣ ؛ الجامع لأحكام القرآن ١٢ : ٢٦٦ ؛ ابن كثير ، التفسير ٣ : ٢٩٢ ؛ روح البيان ٢ : ١٥٨ ؛ محاسن التأويل ٧ : ٢١٣ ؛ فتح البيان ٦ : ٣٧٢ ؛ البحر المحيط ٦ : ٤٥٨.

(٢) المائدة : ٩٧.

٣٣١

تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ) (١) ، وقال سبحانه : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ) (٢) ، وقال سبحانه : (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا) (٣).

فهذه الآيات تدلّ على أنّ البيت لا ينفكُّ عن السقف ، بخلاف المساجد فإنّها ربما تكون مكشوفة بلا سقف ، وهذا هو المسجد الحرام تراه مكشوفاً بلا سقف ، ومعه كيف يمكن تفسير البيوت بالمساجد؟

٣ ـ أنّ سورة النور الّتي وردت فيها هذه الآية تعتني بشأن البيوت عامّة ، ويقول سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ* فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ* لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) (٤) فقد تكرّر في هذه الآيات ذكر البيوت ظاهراً ومستتراً سبع مرّات.

ثمّ إنّه سبحانه يسترسل في ذكر البيوت في الآية (٦١) ويقول : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا

__________________

(١) الأحزاب : ٣٣.

(٢) الزخرف : ٣٣.

(٣) النمل : ٥٢.

(٤) النور : ٢٧ ـ ٢٩.

٣٣٢

جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (١) فقد ذكر فيها البيوت عشر مرّات.

فالآيةُ قيدَ البحث وقعت بين هاتين الطائفتين من الآيات ، أفيصحُّ لنا أن نفسّر قوله (فِي بُيُوتٍ) بالمساجد مع هذه الآيات الكثيرة الّتي تضمّنت استعمال البيت قبال المسجد؟

٤ ـ إنّ من يُفسّر البيوت بالمساجد يعتمد على رواية موقوفة لابن عباس ومجاهد ، لكنّها لا تقاوم ما ورد مسنداً عن النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله :

روى الحافظ السيوطي قال : أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك وبريدة : أنّ رسول الله قرأ هذه الآية : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) فقام إليه رجل قال : أيُّ بيوتٍ هذه يا رسول الله؟ قال : «بيوت الأنبياء» ، فقام إليه أبو بكر وقال : يا رسول الله وهذا البيت منها ـ مشيراً إلى بيت علي وفاطمة ـ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «نعم ومن أفاضلها» (٢).

ولأجل رجحان الحديث المسند على الموقوف ، قال الآلوسي في تفسيره بعد نقل الحديث : وهذا إن صحّ لا ينبغي العدول عنه (٣).

ولأجل بعض ما ذكرنا قال أبو حيان : الظاهر أنّ البيوت مطلق يصدق على المساجد والبيوت الّتي تقع الصلاة فيها وهي بيوت الأنبياء (٤).

وقد روي عن الإمام أبي جعفر محمد بن عليّ بن الحسين عليه‌السلام : أنّ المقصود

__________________

(١) النور : ٦١.

(٢) الدرّ المنثور ٦ : ٢٠٣.

(٣) روح المعاني ١٨ : ١٧٤.

(٤) البحر المحيط ٦ : ٤٥٨.

٣٣٣

بيوت الأنبياء وبيوت عليّ عليهم‌السلام (١).

٥ ـ إنّ القرآن الكريم يعتني ببيوت النبيّ وأهلها ، يقول سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) (٢) ويعتني بأهلها ويقول : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (٣).

٦ ـ وإذا راجعنا اللغة ، نرى أنّ أصحاب المعاجم يفسّرونه على وجه لا ينطبق على المسجد ، يقول الراغب : أصل البيت مأوى الإنسان بالليل ، لأنّه يقال : بات : أقام بالليل ، كما يقال : ظلّ بالنهار ، ثمّ قد يقال للمسكن بيت من غير اعتبار الليل فيه ، وجمعه أبيات وبيوت ، لكن البيوت للمسكن أخصّ ، والأبيات بالشعر (٤).

وقال ابن منظور في اللسان : البيت معروف ، وبيت الرجل داره ، وبيته قصره ، ومنه قول جبرئيل عليه‌السلام : «بشّر خديجةَ ببيتٍ من قصب» أراد : بشّرها بقصر من لؤلؤة مجوّفة أو بقصر من زمردة (٥).

فهذه القرائن لو تدبّر فيها المفسّر لأذعن أنّ المراد من (بُيُوتَ) غير المساجد ، سواء أُريد منه المسجد الحرام ومسجد النبي والمسجد الأقصى ومسجد قبا ، أو أُريد مطلق المساجد.

٧ ـ أضف إلى ذلك أنّ تفسير البيوت بالمساجد مرويّ عن كعب الأحبار ، ذلك الحبر اليهودي الّذي أدخل الإسرائيليّات في السنن والأحاديث ، روى ابن كثير قال : قال كعب الأحبار : مكتوب في التوراة : «أنّ بيوتي في الأرض

__________________

(١) البرهان في تفسير القرآن ٣ : ١٣٧.

(٢) الأحزاب : ٥٣.

(٣) الأحزاب : ٣٣.

(٤) المفردات : ٦٤ مادة بيت.

(٥) اللسان ٢ : ١٤ مادة بيت.

٣٣٤

المساجد» (١) ، ولو صحّ أنّ ابن عباس أخذه عن كعب الأحبار كما يدّعيه علماء الرجال في ترجمة كعب الأحبار فلعلّه أخذ منه ، ومرويّات كعب إسرائيليّات لا يصحّ الاحتجاج بها.

غير أنّ ما تضافر عن النبيّ الأكرم خلاف ذلك ، حيث قال : «جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» (٢) ، فإذا كان جميع الأرض مسجداً لله تبارك وتعالى فيكون جميعها معبداً ومسجداً.

٨ ـ وربّما يتصوّر أنّ ذيل الآية الّذي جاء فيه قوله : (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) قرينة على أنّ المراد من البيوت هي المساجد ، ولكنّه غَفِلَ عن أنّ شأن بيوت الأنبياء والأولياء والصالحين ، شأن المساجد ، فهم فيها بين قائم وراكع وساجد وذاكر.

وقد اعتنى النبيّ الأكرم بشأن البيوت ؛ فقد عقد مسلم باباً في صحيحه لاستحباب إقامة صلاة النافلة في البيت وروى فيه الروايات التالية :

أ ـ عن ابن عمر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتّخذوها قبوراً».

ب ـ عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «صلّوا في بيوتكم ولا تتّخذوها قبوراً».

ج ـ عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيباً من صلاته فإنّ الله جاعل في بيته من صلاته خيراً».

د ـ عن أبي موسى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «مثل البيت الّذي يذكر الله فيه والبيت الّذي لا يذكر الله فيه مثل الحيّ والميّت».

__________________

(١) ابن كثير ، التفسير ٣ : ٢٩٢.

(٢) البخاري ، الصحيح ١ : ٩١ كتاب التيمم / ح ٢ ؛ البيهقي ، السنن : ٤٣٣ باب أينما أدركتك الصلاة فصلّ فهو مسجد.

٣٣٥

ه ـ وعن زيد بن ثابت في حديث : «فعليكم بالصلاة في بيوتكم ؛ فإنّ خير صلاة المرء في بيته إلّا الصلاة المكتوبة» (١).

و ـ روى أحمد أنّ عبد الله بن سعد سألَ رسول الله وقال : أيّما أفضل : الصلاة في بيتي أو الصلاة في المسجد؟ فقال : «فقد ترى ما أقرب بيتي من المسجد ، ولئن أُصلّي في بيتي أحبّ إليّ من أن أُصلّي في المسجد إلّا أن تكون صلاة مكتوبة» (٢).

فهذه القرائن المؤكّدة ترفع الستار عن وجه المعنى ؛ فإنّ المراد من الآية هو بيوت الأنبياء وبيوت النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وبيت عليّ عليه‌السلام وما ضاهاها ، فهذه البيوت لها شأنها الخاصّ ؛ لأنّها تخصُّ رجالاً يُسبّحونه سبحانه ليلاً ونهاراً ، غُدُوّاً وآصالاً ، تعيش فيها رجال لا تُلهيهم تجارةٌ ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة وقلوبهم مليئة بالخوف من يوم تتقلّب فيه القلوب والأبصار.

ما هو المراد من الرفع؟

قد تعرّفت على المقصود من البيوت ، فهلمّ معي ندرس معنى الرفع ، ومن حسن الحظّ أنّ المفسّرين لم يختلفوا فيه اختلافاً موجباً لغموض المعنى ؛ فقد ذكروا فيه المعنيين التاليين:

الأوّل : أنّ المراد من الرفع هو البناء ، بشهادة قوله سبحانه : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها) (٣) ، وقوله سبحانه : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ ...) (٤).

__________________

(١) مسلم ، الصحيح ٢ : ١٨٧ ـ ١٨٨ باب استئجار صلاة النافلة في البيت.

(٢) أحمد ، المسند ٤ : ٣٤٢.

(٣) النازعات ٢٧ ـ ٢٨.

(٤) البقرة : ١٢٧.

٣٣٦

الثاني : أنّ المراد هو تعظيمها والرفع من قدرها ، قال الزمخشري : رَفْعُها : إمّا بناؤها ؛ لقوله تعالى : (رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها) و (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ ...) أمر الله أن تُبنى ، وإمّا تعظيمها والرفع من قدرها (١).

وقال القرطبي : ترفع : تُبْنى وتعْلى (٢).

وقال إسماعيل حقي البروسوي : أن ترفع : بالبناء ، والتعظيم ورفع القدر (٣).

وقال حسن صدّيق خان : المراد من الرفع ، بناؤها (أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها) ورفع ابراهيم القواعد من البيت ، وترفع أي تعظّم وتطهر من الأنجاس عن اللغو ولها مجموع الأمرين (٤) ، إلى غير ذلك من الكلمات المتشابهة ، ولا حاجة إلى ذكرها ، إنّما المهم بيان دلالة الآية وتحقيقها.

قد عرفت أنّ المراد من البيوت هو بيوت الأنبياء والعترة والصالحين من صحابة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فالآية تأذن أن تُبنى هذه البيوت بناءً حسّياً وترفع من قدرها رفعاً معنوياً ، فهنا نستنتج من الآية أمرين :

١ ـ أنّ المراد من رفع البيوت ليس إنشاؤها ؛ لأنّ المفروض أنّها بيوت مبنيّة ، بل المراد هو صيانتها عن الاندثار ، وذلك كرامة منه سبحانه لأصحاب هذه البيوت ، فقد ترك المسلمون الأوائل بيوتاً للرسول الأكرم والعترة الطاهرة وللصالحين من صحابته ، وحرستها الدول الإسلامية طيلة أربعة عشر قرناً ، فعلى المسلمين قاطبة والدول الإسلاميّة عامّة بذل السعي في صيانتها عملاً بالآية المباركة ، والحيلولة دون تهديمها بحجّة توسعة المسجد النبوي أو المسجد الحرام.

ولكن من سوء الحظّ ، أو من تسامح الدول في ذلك المجال أن هُدّمت هذه

__________________

(١) الكشاف ٢ : ٣٩٠ بتصرّف يسير بإضافة كلمة «أما».

(٢) جوامع الأحكام ١٢ : ٢٦٦.

(٣) روح البيان ٦ : ١٥٨.

(٤) فتح البيان ٦ : ٣٧٢.

٣٣٧

البيوت ودمّرت بمعاول الوهابيين ، ومن هذه البيوت بيت الحسنين والصادقين عليهم‌السلام في محلّة بني هاشم ، فلا ترى لها أثراً ، كما لا ترى من بيت أبي أيوب الأنصاري مُضيِّف النبيّ الأكرم أثراً ، ومثلها مولد النبيّ في مكّة المكرّمة وغيرها.

فعلى المسلمين مسئولية إعادة هذه الأبنية في أماكنها عملاً بالآية ورفع قدرها مهما أمكن ، ولئن صارت الإعادة أُمنية لا تُدرَك ، ما دام السيف على هامة المسلمين في أرض الوحي والتوحيد ، لكن صيانةُ ما بقي منها في مختلف الأقطار أمرٌ ممكن.

٢ ـ أنّ قسماً من البيوت في المدينة المنوّرة مقابر ومشاهد لهؤلاء ، فقد دُفن النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيته.

كما أنّ بيت العسكريين يعني الإمام علياً الهادي والحسن العسكري في سامرّاء بمنزلة مقابرهما ومشاهدهما ، فليس لأحد قلعها بمعاول الجور باسم التوحيد ، وأيّ توحيد أعلى وأجل ممّا دعا إليه الذكر الحكيم الّذي يأمر بصيانة بيوت هؤلاء مطلقاً ، سواء كانت مقابرهم أمْ لا.

بالله عليك أيّها القارئ الكريم هل زرتَ بقيع الغرقد مراقدَ الأئمة والصحابة وزوجات النبيّ والشخصيّات الإسلاميّة الكبيرة ، وهل شاهدت قيام الحكومة بواجبها من رفع قدره وتنظيف أرضه ، أم شاهدت نقيض ذلك؟! وقد كانت بعض هذه القبور بيوت الصحابة ، ولعمري أنّ القلب ليحترق إذا رأى أنّ الوهابيين يتعاملون مع قبور أفلاذ كبد النبيّ وخيار أصحابه معاملة العدوّ مع العدوّ ، ونعم من قال :

لعمري أنّ فاجعة البقيع

يشيب لهولها فُود الرّضيعِ

لقد خرجنا من دراسة هذه الآية بنتيجة خاصّة ، وهي أنّ صيانة بيوت الأنبياء والأولياء أمر ندب الله سبحانه المسلمين إليه ، سواء كان فيها قبر أم لا ، وأنّ رفعها بالبناء ، وصيانتها عن الانطماس ، وتنظيفها عن الرجس واللغو عمل بالشريعة المقدّسة ؛ حيثُ نزل به الوحي وسار عليه المسلمون في جميع القرون.

٣٣٨

الآية الثانية :

اتّخاذ المساجد على قبور المضطهدين في سبيل التوحيد

يذكر سبحانه قصة أصحاب الكهف ، وأنّهم اعتزلوا قومَهم للحفاظ على عقيدتهم ودينهم ، حتّى وافاهم الأجل وهم في الكهف ، وقد أعثر الله عليهم قوماً بعد ثلاثة قرون وأطلعهم عليهم ، يقول سبحانه : (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) (١).

ومعنى الآية أنّا أعثرنا على أصحاب الكهف أهلَ تلك المدينة ليعلموا أنّ وعد الله بالبعث حقّ ، فإنّ بَعْثَ هؤلاء بعد لَبْثهم في كهفهم ثلاثمائة سنة وازدادوا تسعاً دليل على إمكان الحياة الثانوية ، ليعلموا أنّ الساعة لا ريب فيها.

ثمّ إنّ القوم الذين أعثرهم الله على أجسادهم اتّفقوا على تكريمهم ، ولكن اختلفوا في طريقة التكريم ، كما يقول سبحانه : (إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) ، فظاهرُ المنازعة هو ما جاء بعد هذه الجملة بضميمة لفظة الفاء ، فقال جماعة : (ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً) ، أي اجعلوا عليهم بنياناً كبيراً ، ويدلّ على الوصف تنكير (بُنْياناً) ، وقد صرّح الجوهري وابن منظور بأنّ البنيان بمعنى الحائط (٢) ، ولذلك فسّره القاسمي بقوله : أي باب كهفهم بنياناً عظيماً كالخانقاهات (٣) والمشاهد

__________________

(١) الكهف : ٢١.

(٢) الصحاح ٦ : ٢٢٨ مادة بناء ؛ لسان العرب ١ : ٥١٠ تلك المادة.

(٣) الخانقات كلمة فارسية مفردها : خانقاه وتعني محلّ اجتماع الصوفيّين والدراويش. (لغت نامه ٢٠ : ١٦٩ بالفارسية).

٣٣٩

والمزارات المبنيّة على الأنبياء وأتباعهم (١) ، تستر أجسادهم وتعظّم أبدانهم ، ربهم أعلم بهم.

ولكن قال آخرون وهم الذين غلبوا على أمر القائلين بالقول الأوّل وصار البلد تحت سلطتهم (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) ومعبداً وموضعاً للعبادة والسجود يتعبّد الناس فيه ببركاتهم.

هذا هو الظاهر المستفاد من الآية.

قال الرازي : (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ) قيل : المراد به الملك المسلم وأولياء أصحاب الكهف ، وقيل : رؤساء البلد ، (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) نعبد الله ، وستبقى آثار أصحاب الكهف بسبب ذلك المسجد (٢).

وقال أبو حيان الأندلسي (٦٥٤ ـ ٧٥٤ ه‍) : روي أنّ الّتي دَعت إلى البنيان كانت ، كافرة ؛ أرادت بناء بيعة أو مصنع لكفرهم ، فمانعهم المؤمنون وبنوا عليهم مسجداً(٣).

وقال أبو السعود (ت ٩٥١ ه‍) : (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ) وهم الملك والمسلمون (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) (٤).

وقال الزمخشري في الكشّاف : (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ) من المسلمين وملكهم وكانوا أولى بهم وبالبناء عليهم : ليتّخذ على باب الكهف مسجداً يصلّي فيه المسلمون ويتبرّكون بمكانهم (٥).

إلى غير ذلك من الكلمات الواردة في تفسير الآية ، وكأنَّ الاتفاق موجود على أنّ القول بإيجاد البنيان على باب الكهف كان لغير المسلمين ، والقول ببناء المسجد

__________________

(١) محاسن التأويل ٧ : ٢١.

(٢) مفاتيح الغيب ٢١ : ١٠٥.

(٣) البحر المحيط ٦ : ١٠٩ ط. دار الكتب العلمية.

(٤) أبو السعود محمد بن محمد العمادي ، التفسير ٥ : ٢١٥.

(٥) الكشاف ٢ : ٢٤٥.

٣٤٠