في ظلال التّوحيد

الشيخ جعفر السبحاني

في ظلال التّوحيد

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: نشر مشعر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-6293-82-4

الصفحات: ٧١٢

إطباق السلف والخلف على جواز السفر إليه

جرت سيرة المسلمين على زيارة الرّسول ـ عند الوفود إلى الحج ـ بالمرور بالمدينة أو رجوعاً من مكة إليها ، وهذا أمر ملموس وظاهر مشهود من الوافدين من كل فجّ عميق ، وعلى ذلك جرت السيرة في جميع القرون ؛ فلا يمكن لأحد إنكارها ، بل هي كاشفة عن استحبابها عند الشرع ، وهذا هو الإمام السبكي يذكر سيرة المسلمين في أيام الحج ويقول : إنّ الناس لم يزالوا في كلّ عام إذا قضوا الحجَّ يتوجّهون إلى زيارته صلى‌الله‌عليه‌وآله ومنهم من يفعل ذلك قبل الحج ، هكذا شاهدناه وشاهده من قبلنا ، وحكاه العلماء عن الأعصار القديمة ، وذلك أمر لا يرتاب فيه ، وكلّهم يقصدون ذلك ويعرجون إليه ، وإن لم يكن في طريقهم ، ويقطعون فيه مسافة بعيدة ، وينفقون فيه الأموال ، ويبذلون فيه المهج ، معتقدين أنّ ذلك قربة وطاعة. وإطباق هذا الجمع العظيم من مشارق الأرض ومغاربها على ممرّ السنين وفيهم العلماء والصلحاء ، وغيرهم يستحيل أن يكون خطأً ، وكلهم يفعلون ذلك على وجه التقرّب به إلى الله عزوجل ، ومن تأخّر عنه من المسلمين فإنّما يتأخّر بعجز أو تعويق المقادير ، مع تأسّفه وودّه لو تيسّر له ، ومن ادّعى أنّ هذا الجمع العظيم مجمعون على خطأ فهو المخطئ.

ومن نازع في ذلك وقال فانّهم يقصدون من سفرهم زيارة المسجد ، لا زيارة الرسول الأكرم ، فلم ينصف وكابر في أمر بديهي ؛ فإنّ الناس من حين يعرجون إلى طريق المدينة ، لا يخطر ببالهم غير الزيارة من القربات إلّا قليلاً منهم ، وغرضهم الأعظم هو الزيارة ، ولو لم يكن ربّما لم يسافروا ، ولهذا قلّ القاصدون إلى بيت المقدس مع تيسّر إتيانه وليس الصلاة فيه بأقل ثواباً من الصلاة في مسجد النبيّ (١).

__________________

(١) شفاء السقام : ص ١٠٠ و ١٠١.

٢٨١

حديث عدم شدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة

لقد تجلّى جواز السفر إلى زيارة النبيّ الأكرم ولم يبق في المقام سوى ما رواه أبو هريرة عن رسول الله من عدم شدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة ، وهو المستمسك الوحيد اليوم لمن يحرّم السفر ، وإليك توضيحه :

إنّ الرواية نقلت بصور مختلفة ، والمناسب لما يرومه المستدلّ الصورة التالية :

«لا تشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد : مسجدي هذا ، والمسجد الحرام ، والمسجد الأقصى».

فتحليل الحديث يتوقّف على تعيين المستثنى منه وهو لا يخلو من صورتين :

١ ـ لا تُشدّ الرحال إلى مسجد من المساجد إلّا إلى ثلاثة مساجد ...

٢ ـ لا تُشدّ الرحال إلى مكان من الأمكنة إلّا إلى ثلاثة مساجد ...

فلو كانت الأُولى كما هو الظاهر ، كان معنى الحديث النهي عن شدّ الرحال إلى أيّ مسجد من المساجد سوى المساجد الثلاثة ، ولا يعني عدم جواز شدِّ الرحال إلى أيّ مكان من الأمكنة إذا لم يكن المقصود مسجداً ، فالحديث يكون غير متعرض لشدّ الرحال لزيارة الأنبياء والأئمة الطاهرين والصالحين ؛ لأنّ موضوع الحديث إثباتاً ونفياً هو المساجد ، وأمّا غير ذلك فليس داخلاً فيه ، فالاستدلال به على تحريم شدّ الرحال إلى غير المساجد ، باطل.

وأمّا الصورة الثانية : فلا يمكن الأخذ بها ؛ إذ يلزمها كون جميع السفرات محرّمة سواء كان السفر لأجل زيارة المسجد أو غيره من الأمكنة ، وهذا لا يلتزم به أحد من الفقهاء.

ثمّ إنّ النهي عن شدّ الرحال إلى أيّ مسجد غير المساجد الثلاثة ليس نهياً تحريمياً ، وإنّما هو إرشاد إلى عدم الجدوى في سفر كهذا ، وذلك لأنّ المساجد

٢٨٢

الأُخرى لا تختلف من حيث الفضيلة ، فالمساجد الجامعة كلّها متساوية في الفضيلة ، فمن العبث ترك الصلاة في جامع هذا البلد والسفر إلى جامع بلد آخر مع أنّهما متماثلان.

وفي هذا الصدد يقول الغزالي : «القسم الثاني ، وهو أن يسافر لأجل العبادة إمّا لحجٍّ أو جهاد ... ويدخل في جملته زيارة قبور الأنبياء عليهم‌السلام وزيارة قبور الصحابة والتابعين وسائر العلماء والأولياء ، وكلّ من يُتبرَّك بمشاهدته في حياته يُتبرك بزيارته بعد وفاته ، ويجوز شدّ الرحال لهذا الغرض ، ولا يمنع من هذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا تشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا ، والمسجد الحرام ، والمسجد الأقصى» ، لأنّ ذلك في المساجد ؛ فانّها متماثلة (في الفضيلة) بعد هذه المساجد ، وإلّا فلا فرق بين زيارة قبور الأنبياء والأولياء والعلماء في أصل الفضل ، وإن كان يتفاوت في الدرجات تفاوتاً عظيماً بحسب اختلاف درجاتهم عند الله (١).

يقول الدكتور عبد الملك السعدي : إنّ النهي عن شدّ الرحال إلى المساجد الأُخرى لأجل أنّ فيه إتعاب النفس دون جدوى أو زيادة ثواب ؛ لأنّها في الثواب سواء ، بخلاف الثلاثة ؛ لأنّ العبادة في المسجد الحرام بمائة ألف ، وفي المسجد النبوي بألف ، وفي المسجد الأقصى بخمسمائة فزيادة الثواب تُحبِّب السفر إليها ، وهي غير موجودة في بقية المساجد(٢).

والدليل على أنّ السفر لغير هذه المساجد ليس أمراً محرّماً ، ما رواه أصحاب الصحاح والسنن : «كان رسول الله يأتي مسجد قبا راكباً وماشياً فيصلّي فيه ركعتين» (٣).

__________________

(١) إحياء علوم الدين ٢ : ٢٤٧ ، كتاب آداب السفر ، ط دار المعرفة ـ بيروت.

(٢) البدعة : ٦٠.

(٣) مسلم ، الصحيح ٤ : ١٢٧ ؛ البخاري ، الصحيح ٢ : ٧٦ ؛ النسائي ، السنن ٢ : ١٣٧ ، المطبوع مع شرح السيوطي.

٢٨٣

ولعلّ استمرار النبيّ على هذا العمل كان مقترناً لمصلحة تدفعه إلى السفر إلى قبا والصلاة فيه مع كون الصلاة فيه أقلّ ثواباً من الثواب في مسجده.

دراسة كلمة ابن تيمية في النهي عن شدّ الرحال

إنّ لابن تيمية في المقام كلمة فيها مغالطة واضحة ؛ إذ مع أنّه قدّر المستثنى منه لفظ المساجد ، إلّا أنّه استدلّ على منع شدّ الرحال لزيارة قبور الأنبياء والصالحين بمدلوله أي القياس الأولوي ، فقال في الفتاوى :

«فإذا كان السفر إلى بيوت الله غير الثلاثة ليس بمشروع باتّفاق الأئمة الأربعة ، بل قد نهى عنه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فكيف بالسفر إلى بيوت المخلوقين الّذين تتّخذ قبورهم مساجد وأوثاناً وأعياداً ، ويشرك بها ، وتدعى من دون الله ، حتّى أنّ كثيراً من معظّميها يفضّل الحجّ إليها على الحج إلى بيت الله» (١).

ولو صحّ ذلك النقل عن ابن تيمية ففي كلامه أوهام شتى إليك بيانها :

١ ـ قال : «إذا كان السفر إلى بيوت الله غير الثلاثة ليس بمشروع».

يلاحظ عليه : من أين وقف على أنّ السفر إلى غير المساجد الثلاثة محرّم؟! وقد عرفت أنّ النهي ليس تحريمياً مولوياً ، وإنّما هو إرشاد إلى عدم الجدوى ، ولأجل ذلك لو ترتّبت على السفر مصلحة لجاز كما عرفت في سفر النبيّ إلى مسجد قبا مراراً.

٢ ـ نسب عدم المشروعية إلى الأئمة الأربعة ، إلّا أنّنا لم نجد نصّاً منهم على التحريم ، ووجود الحديث في الصحاح لا يدلّ على أنّهم فسّروا الحديث بنفس ما فسّر به ابن تيمية.

__________________

(١) الفتاوى كما في كتاب البدعة للدكتور عبد الملك السعدي : ص ٦١.

٢٨٤

ولا يخفى على الأئمة ظهور الحديث في الدلالة على عدم الجدوى ، لا كون العمل محرّماً.

٣ ـ أنّ عدم جواز السفر إلى غير المساجد الثلاثة لا يكون دليلاً على عدم جوازه إلى (بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) (١) إذ لا ملازمة بينهما ؛ لأنّه لا تترتّب على السفر في غير مورد الثلاثة أية فائدة سوى تحمّل عناء السفر ، وقد عرفت أنّ فضيلة أيّ جامع في بلد ، نفسها في البلد الآخر ، وليس اكتساب الثواب متوقّفاً على السفر ، وهذا بخلاف المقام ؛ فإنّ درك فضيلة قبر النبيّ يتوقّف على السفر ، ولا يدرك بدونه.

٤ ـ يقول : «إنّ المسلمين يتّخذون قبور الأنبياء أوثاناً وأعياداً ويشرك بها» (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) (٢) أفمن يشهد كلّ يوم بأنّ محمداً عبده ورسوله ، ويكرّمه ويعظّمه ؛ لأنّه سفير التوحيد ومبلّغه ـ أفهل ـ يمكن أن يتّخذ قبره وثناً؟!

٥ ـ يقول : «تدعى من دون الله» إنّ عبادة الغير حرام لا مطلق دعوته ، فعامّة المسلمين حتّى ابن تيمية يقولون في صلاتهم : «السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته». والمراد من قوله سبحانه : (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) (٣) لا تعبدوا مع الله أحداً ، قال سبحانه : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) (٤) فسمّى سبحانه دعوته : عبادة. فإذاً الدعوة على قسمين : دعوة عبادية ؛ إذا كان معتقداً بألوهية المدعوّ بنحو من الأنحاء ، ودعوة

__________________

(١) النور : ٣٦.

(٢) الكهف : ٥.

(٣) الجن : ١٨.

(٤) غافر : ٦٠.

٢٨٥

غير عبادية ؛ إذا دعاه على أنّه عبد من عباده الصالحين ، يستجاب دعاؤه عند الله ، والدعوة بهذا النوع تؤكّد التوحيد.

٦ ـ نَقَل : «إنّ بعض المسلمين يفضّل السفر إلى تلك الأماكن على الحجّ إلى بيت الله» وهي فرية بلا مرية ؛ فليس على وجه البسيطة مسلم واع يعتقد بهذا ويعمل به.

٧ ـ لو كان السفر إلى القبور أمراً محرّماً فلما ذا شدّ النبيّ الرحال لزيارة قبر أُمّه بالأبواء وهي منطقة بين مكّة والمدينة ، أفصار النبيّ ـ والعياذ بالله ـ مشركاً أو أنّ الرواية الّتي أطبق المحدّثون على نقلها مكذوبة ، والله لا هذا ولا ذاك وإنّما ...

٨ ـ إنّ ما ذكره من أسباب المنع تتحقّق للمجاور للقبر بدون شدّ الرحال ، فاللازم منع ارتكاب المحرّمات عند قبره لا منع السفر إليه.

٩ ـ احتمال أنّ المراد من زيارة القبور (زوروا القبور) هو زيارة جميع القبور بدون تخصيص لزيارة قبر مشخّص ، احتمال ساقط وذلك لأنّ «ال» الجنسية إذا دخلت على الجمع أبطلت جمعيته وصار المراد بالمدخول أيّ فرد يتحقّق به جنس القبر ، ويستوي في ذلك المفرد والجمع.

١٠ ـ كيف يقال ذلك مع أنّ السيدة عائشة (رض) كانت تزور قبر أخيها عبد الرحمن بخصوصه (١) حتّى أنّ النبيّ يخصّ بعض القبور بالزيارة ، وقد وضع حجرات على قبر أخيه من الرضاعة عثمان بن مظعون وقال : «لتعرف بها قبر أخي» ولا تترتّب على التعرّف فائدة سوى زيارته.

__________________

(١) المغني ٢ : ٢٧٠.

٢٨٦

المبحث الخامس

شبهات حول زيارة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله

استفاضت السنّة النبوية ـ كما مرّ ـ على استحباب زيارة الرسول ، ودلّت السيرة القطعية طوال القرون ، المنتهية إلى عصر الصحابة والتابعين ، على أنّها من السنن المطلوبة ، وأنّ شدّ الرحال إليها كشدّ الرحال إلى سائر الأُمور المسنونة ، وأكّد أعلام المذاهب على كونها أمراً قُرْبيّاً ، لذا فالتشكيك في جواز زيارة الرسول أشبه بالتشكيك في أمر بديهي ، ولا غرو في التشكيك فيها ، فقد شكك عدّة من فلاسفة الاغريق في أبده الأُمور وأوضحها ، حتّى شكّوا في كلّ شيء ، بما في ذلك ذواتهم وأنفسِهم ، وتفكيرهم وتعقّلهم ، حتّى في حرارة النار وبرودة الماء ، ولو لا قيام الحكماء الإلهيين كسقراط ، وبعده أفلاطون وأرسطو ، في وجوه هؤلاء المنسلخين عن الإنسانية لعمّ الداء العياء وجه البسيطة.

وما نذكره في المقام من الشبه والتشكيكات لم يذكرها ابن تيمية في كتبه ، وإنّما نقلها الإمام السبكي عن خطّه ، ويجترّها أتباعه من دون وعي ، وإليك بيانها وتحليلها.

٢٨٧

الشبهة الأُولى : في تقسيم الزيارة إلى شرعية وبدعية

إنّ زيارة القبور على قسمين : زيارة شرعية ، وزيارة بدعية ؛ فالزيارة الشرعية يقصد بها السلام على الميّت والدعاء له إن كان مؤمناً ، وتذكّر الموت سواء أكان الميت مؤمناً أم كافراً. والزيارة لقبر المؤمن نبياً كان أو غير نبيّ من جنس الصلاة على جنازته ، يدعى له ، كما يدعى إذا صُلِّي على جنازته.

وأمّا الزيارة البدعية فمن جنس زيارة النصارى مقصودها الإشراك بالميت ، مثل طلب الحوائج منه أو به أو التمسّح بقبره أو تقبيله أو السجود له ونحو ذلك. فهذا كلّه لم يأمر الله به ورسوله ولا استحبّه أحد من المسلمين ، ولا كان أحد من السلف يفعله ، لا عند قبر النبيّ ولا غيره ، ولا يسألون ميتاً ولا غائباً سواء كان نبياً أو غير نبيّ بل كان فضلاؤهم لا يسألون غير الله شيئاً (١).

يلاحظ عليه : بأمرين :

١ ـ حصر الزيارة في قسمين مع أنّها ذات أقسام كما سنذكر.

٢ ـ إدخال الامور الجانبية ، كالاستغاثة والسؤال به أو منه في ماهية الزيارة مع أنّها ليست منها ، فصار هذا وذاك ذريعة لتبلور الشبهة لديه ولدى أتباعه. وها نحن نذكر معنى الزيارة وأقسامها ؛ ليتبيّن أنّ القسم الأخير الّذي يقصد فيها الإشراك لا يمت لزيارة المسلمين قبور أكابر الدين بصلة ، ولعلّ الغاية من ذكره دعم الشبهة في أذهان البسطاء.

فالزيارة في اللّغة هي العدول عن جانب والميل إلى جانب آخر ، قال ابن فارس : «الزور» أصل واحد يدلّ على الميل والعدول ، ومن هذا الباب الزائر ؛ لأنّه

__________________

(١) شفاء السقام : ص ١٢٤ ـ ١٢٥ ، نقلاً عن خط ابن تيمية.

٢٨٨

إذا زارك فقد عدل عن غيرك (١).

ويظهر من غيره أنّه «بمعنى القصد» وهو لا يخالف ما سبق ؛ لأنّ الميل إلى جانب لا ينفكّ عن القصد ، قال الطريحي : زاره يزوره زيارة : قصده فهو زائر ، وفي الحديث من زار أخاه في جانب المصر ، أي قصد ، وفي الدعاء : اللهمّ اجعلني من زوّارك أيّ من القاصدين لك ، الملتجئين إليك ، والزيارة قصد المزور إكراماً له وتعظيماً واستئناساً به (٢).

والظاهر كما يظهر من ذيل كلامه أنّ معناها ليس مجرّد القصد بل القصد المنتهي إلى حضور الزائر لدى المزور لإحدى الغايات المذكورة في كلامه ، من التكريم والتعظيم والاستئناس به.

هذا هو معنى الزيارة ، وليس فيها شيء من الأُمور التي ذكرها ابن تيمية ، بل هي الحضور عن قصد لدى المزور لإحدى الغايات ، وهي تختلف حسب اختلاف المزور شأناً ، ومقاماً ، ومهنة.

نعم في إمكان الزائر أن يزور الرسول لإحدى الغايات التالية :

١ ـ أن يزور الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لمجرّد تذكّر الموت والآخرة ، وهذا ثابت في زيارة جميع القبور من غير فرق بين الرسول وغيره ، بل المؤمن والكافر ، ودلالة القبور على ذلك متساوية ، كما أنّ المساجد ـ غير المساجد الثلاثة ـ متساوية لا يتعيّن شيء منها بالتعيين بالنسبة إلى هذا الغرض ، ولا معنى لشدّ الرحال إلى المدينة لزيارة الرسول لتلك الغاية المتحققة في زيارة كلّ قبر في بلد الزائر النائي.

٢ ـ أن يزور الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله للدعاء له ، كما زار الرسول أهل البقيع ، وهذا مستحبٌ في حقّ كلّ ميت من المسلمين ، ويتحقّق في زيارته صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا صلّى عليه ،

__________________

(١) مقاييس اللغة ٣ : ٣٦.

(٢) مجمع البحرين ٢ : ٣٠٤.

٢٨٩

وطلب الدرجة الرفيعة له ، كما ورد في الحديث : كان عليّ عليه‌السلام يقول : «اللهمّ اعل على بناء البانين بناءه ، وأكرم لديك نُزُلَه ، وشرِّف عندك منزله ، وآته الوسيلة ، وأعطه السناء والفضيلة ، واحشرنا في زمرته» (١).

٣ ـ أن يزوره صلى‌الله‌عليه‌وآله للتبرّك به ، لأنّه ليس في الخلف أعظم بركة منه وهو حيّ يرزق ، والصلة بيننا وبينه غير منقطعة ، وقد استفاضت الروايات على أنّه يسمع كلامنا ، ويرد سلامنا ، بشهادة أنّ عامّة المسلمين يسلّمون عليه في تشهّدهم ، ويخاطبونه بقولهم : السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته.

٤ ـ أن يزوره صلى‌الله‌عليه‌وآله لأداء حقّه ؛ فإنّ من كان له حقّ على الشخص فينبغي له برّه في حياته ، وبعد موته والزيارة من جملة البرّ ؛ لما فيها من الإكرام وليس إنسان أوجب حقّاً على الأُمّة من النبيّ. هذه هي الغايات المتصوّرة في زيارة النبيّ الأكرم.

وأمّا الزيارة البدعية التي تحدّث عنها ابن تيمية وأسماها بدعية تارة وإشراكاً لله تعالى أُخرى ، فهو ممّا ابتدعها ابن تيمية ، وليس بين المسلمين من يسوِّي بين الله ورسوله ، كما هو شعار المشركين ، كما قال سبحانه حاكياً عنهم : (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٢) ، والمسلمون بعامّة طوائفهم براء من الشرك وسماته وقد عرف سبحانه أهل الشرك بسمة خاصّة مذكورة في آيتين ، قال سبحانه : (ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) (٣).

وقال تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ) (٤) فلا تجد مسلماً عند ما يزور النبيّ تحت قبّته الخضراء وفي مسجده يكون على تلك الحالة أي إذا

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٠٦.

(٢) الشعراء : ٩٨.

(٣) غافر : ١٢.

(٤) الصافات : ٣٥.

٢٩٠

دُعِيَ اللهُ وحدَه كفَر به ، وإن يشرك به يؤمن به ، أو إذا سمع لا إله إلّا الله يستكبر عن عبادته.

ولا أدري كيف تجرّأ الرجل وحكم بشرك قاطبة المسلمين بمجرد أنّهم يطلبون منه الدعاء بعد رحيله ، وكم من صحابيّ جليل ، تكلّم معه وطلب منه الدعاء بعد وفاته.

١ ـ هذا أبو بكر : أقبل على فرسه من مسكنه بالسنح حتّى نزل فدخل المسجد فلم يكلّم الناس حتّى دخل على عائشة (رض) فتيمّم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو مسجّى ببرد حِبرة ، فكشف عن وجهه ثمّ أكبّ عليه فقبّله ثمّ بكى ، فقال : بأبي أنت يا نبيّ الله لا يجمع الله عليك موتتين ، أمّا الموتة التي كتبت عليك فَقَدْ مُتَّها (١).

فلو لم تكن هناك صلة بين الحياتين فما معنى قوله : «بأبي أنت يا نبيّ الله» فإن لم يسمع ، فما ذا قصد ذلك الصحابي من قوله : «لا يجمع الله عليك موتتين».

٢ ـ روى أبو القاسم عبد الرحمن السهيلي (٥٠٨ ـ ٥٨١ ه‍) في الروض الأنف : «دخل أبو بكر على رسول الله في بيت عائشة ورسول الله مسجّى في ناحية البيت ، عليه برد حبرة ، فأقبل حتّى كشف عن وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ أقبل عليه فقبّله ، ثمّ قال : بأبي أنت وأُمّي أمّا الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها ثمّ لن تصيبك بعدها موتة أبداً» (٢).

٣ ـ روى الحلبي علي بن برهان الدين (٩٧٥ ـ ١٠٤٤ ه‍) في سيرته وقال : «جاء أبو بكر من السنح وعيناه تهملان فقبّل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : بأبي أنت وأُمّي طبت حيّاً وميتاً» (٣).

٤ ـ روى مفتي مكة المشرّفة زيني دحلان في سيرته فذكر ما ذكراه ، وقال : قال أبو بكر : طبت حيّاً وميّتاً ، وانقطع بموتك ما لم ينقطع للأنبياء قبلك ، فعظمت

__________________

(١) البخاري ، الصحيح ٢ : ١٧ ، كتاب الجنائز.

(٢) الروض الأنف ٤ : ٢٦٠.

(٣) السيرة الحلبية ٣ : ٧٤ ، ط دار المعرفة ، بيروت.

٢٩١

عن الصفة وجُلِّلتَ عن البكاء ، ولو أنّ موتك كان اختياراً ، لجُدنا لموتك بالنفوس ، اذكرنا يا محمد عند ربّك ولنكن على بالك (١).

٥ ـ قال أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام عند ما ولي غسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «بأبي أنت وأُمّي يا رسول الله لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوّة والأنباء وأخبار السماء ـ إلى أن قال ـ : بأبي أنت وأُمّي اذكرنا عند ربّك واجعلنا من بالك» (٢).

إلى هنا تمّت الإجابة عن الشبهة الأُولى ، وأمّا ما ذكره في ضمنها من أنّه ممّا لم يأمر به الله ولا رسوله فستوافيك الإجابة عنه في تحليل الشبهة الثانية.

الشبهة الثانية : إنّ زيارة النبيّ بدعة

«إنّ زيارة النبيّ ليس مشروعاً وانّه من البدع التي لم يستحبّها أحد من العلماء لا من الصحابة ولا من التابعين ومن بعدهم».

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره فيها هو نفس ما ذكره في ذيل الشبهة الأُولى غير أنّه أضاف في المقام كون الزيارة بدعة.

نقول : إنّ البدعة عبارة عن إدخال ما ليس من الدين فيه ، والتصرّف في التشريع بإيجاد السعة أو الضيق فيه ، وهذا إنّما يتصور فيما إذا لم يكن في المورد دليل ، وقد عرفت تضافر السنّة النبوية ، والسيرة القطعية المسلّمة بين المسلمين على زيارته ، ومع هذا كيف يصحّ لمسلم واع تسمية تلك بدعة؟!

ثمّ إنّ السلفي يطلق على من يقفو أثر السلف ، وقد عرفت أنّ السلف منذ

__________________

(١) سيرة زيني دحلان ، بهامش السيرة الحلبية ٣ : ٣٩١ ، ط مصر.

(٢) نهج البلاغة : الخطبة ٢٣٥.

٢٩٢

رحيل الرسول ، دأبوا على زيارة قبره والتبرّك به ، حتّى أنّ الخليفتين أوصيا بدفنهما عند النبيّ، لما فيه من التبرّك بتربته ، فأين وصف زيارته بالبدعة من عمل صحابته صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ كما أنّه تضافر عن ابن عمر أنّه كان يأتي قبر النبيّ فيسلّم عليه ، وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يبرد البريد لزيارة الرسول نيابة عنه ، وأنّ بلالاً شدّ الرحال إلى المدينة لزيارة الرسول.

وإضافة ذلك فإنّ الحوار الدائر بين الإمام مالك وأبي جعفر المنصور ، يكشف الغطاء ، ويجلّي الحقيقة :

روى القاضي عياض في الشفاء بإسناده عن ابن حميد قال : ناظر أبو جعفر أميرُ المؤمنين مالكاً في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال له مالك : يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد ، فإنّ الله تعالى أدّب قوماً ، فقال : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) (١) ، ومدح قوماً فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) (٢) وذمّ قوماً فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) (٣). وإنّ حرمته ميتاً كحرمته حيّاً ، فاستكان لها أبو جعفر ، وقال : يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو ، أم أستقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله؟ فقال : ولِمَ تصرفُ وجهَك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه‌السلام إلى الله تعالى يوم القيامة ، بل استقبله واستشفع به فيشفّعه الله تعالى ، قال الله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ) (٤).

فانظر هذا الكلام من مالك رحمه‌الله وما اشتمل عليه من الزيارة والتوسّل

__________________

(١) الحجرات : ٢.

(٢) الحجرات : ٣.

(٣) الحجرات : ٤.

(٤) النساء : ٦٤.

٢٩٣

بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وحسن الأدب معه (١).

وأمّا التبرّك بالقبر ، أو القَسَم على الله بأحد من خلقه والاستغاثة بالميت ، فالكل خارج عن ماهية الزيارة ، وإنّما هي أُمور جانبية ؛ لا تكون سبباً لتسمية الزيارة بدعة ، على أنّ الجميع جائز بدلالة الكتاب والسنّة ، وليست تربة النبيّ الأكرم بأقلّ من قميص يوسف ؛ حيث تبرّك به يعقوب فعاد بصره ، قال سبحانه : (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ... فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٢).

وليس ضريح النبيّ ومدفنه بأقل كرامة من تابوت بني إسرائيل وما ترك آل موسى وآل هارون من قميص وعصيّ وغيرهما ، وكان بنو إسرائيل يتبرّكون به في الحروب قال تعالى : (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٣) قال الرازي : إذا حضر (بنو إسرائيل) القتال قدّموه بين أيديهم يستفتحون به على عدوّهم ، وكانت الملائكة تحمله فوق العسكر وهم يقاتلون العدوَّ فإذا سمعوا من التابوت صيحة استيقنوا بالنصر ، فلمّا عصوا وفسدوا سلّطَ اللهُ عليهم العمالقة فغلبوهم على التابوت وسلبوه ، فلَمّا سألوا نبيَّهم البيّنة على مُلك طالوت قال ذلك النبي : إنّ آية ملكه أنّكم تجدون التّابوت في داره (٤).

إنّ الاستغاثة بالنبيّ والولي أحياءً وأمواتاً ترجع إلى طلب الدعاء منهم ؛ فلو لم

__________________

(١) شفاء السقام : ٧٠.

(٢) يوسف : ٩٣ ـ ٩٦.

(٣) البقرة : ٢٤٨.

(٤) مفاتيح الغيب ٦ : ١٧٧.

٢٩٤

تكن للميت مقدرة على الإجابة يكون العمل لغواً لا شركاً ، وليست الحياة والموت حدّاً للتوحيد والشرك حتّى يكون خطاب الحيّ عين التوحيد ، وخطاب الميّت نفس الشرك.

على أنّا قد ذكرنا استفاضة الأثر على أنّ الصحابة كانوا يستغيثون بنبيّهم ؛ نبيّ الرحمة وقد ذكر موارده فلاحظ (١).

الشبهة الثالثة : إنّ الزيارة تؤدّي إلى الشرك

هذه آخر ما في كنانة الرجل من سهام مرشوقة وقد استدلّ عليه بما لا يمت إلى مدعاه بصلة ، قال : إنّ من أُصول الشرك اتخاذ القبور مساجد كما قال بعض السلف في قوله تعالى : (وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) (٢) قالوا : كان هؤلاء قوماً صالحين فلمّا ماتوا عكفوا على قبورهم ، ثمّ صوّروا على صورهم تماثيل ، ثمّ طال عليهم الأمد فعبدوها.

يلاحظ عليه :

أنّ محور البحث هو الزيارة على ما جرت عليه سيرة السلف والخلف ، ولم تؤدِّ طوال القرون الأربعة إلى الشرك ، ولم تكن عكوفاً على القبور ، ولا بتصوير تماثيلهم وعبادتهم مكان عبادة الله ، فأيّ صلَة لهذا الكلام بمدّعاه من تحريم الزيارة.

إنّ زيارة قبر نبيّ التوحيد ورسوله ، دعم للمبدأ الّذي جاء به ، وتأكيد لصحّة رسالته الّتي كانت في طريق تحطيم الوثنية وعبادة الأنداد والأمثال المزعومة ، فكيف تقع مثلها ذريعة إلى الشرك يا ترى؟!

__________________

(١) راجع بحث التوسّل ص ٥٦٩ من هذا الكتاب.

(٢) نوح : ٢٣.

٢٩٥

يقول ابن زهرة :

«فإنّ التقديس الذي يتّصل بالرسل إنّما هو لفكرتهم التي حملوها ، فالتقديس لمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله تقديس للمعاني الّتي دعا إليها ، وحثّ عليها فكيف يتصوّر من مؤمن عرف حقيقة الدعوة المحمدية أن يكون مضمراً لأيّ معنى من معاني الوثنية وهو يستعبر العبر ، ويستبصر ببصيرته عند الحضرة الشريفة والروضة المنيفة ، فإذا كان خوف ابن تيمية من أن يؤدّي ذلك إلى الوثنية بمضي الأعصار والدهور فإنّه خوف من غير جهة ؛ لأنّ الناس كانوا يزورون قبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أوّل القرن الثامن ثمّ استمرّوا على هذه السيرة في العصور من بعده إلى يومنا هذا ، ومع ذلك لم ينظر أحد إلى هذا العمل نظرة عبادة أو وثنية ، ولو تفرّط أحد فهو من العوام ولا يمنع تلك الذكريات العطرة ، بل يجب إرشادهم لا منعهم من الزيارة وتكفيرهم» (١).

قال الشيخ محمد زاهد الكوثري من علماء الأزهر الشريف :

«إنّ سعي ابن تيمية في منع الناس من زيارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يدلّ على ضغينة كامنة فيه نحو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكيف يتصوّر الإشراك بسبب الزيارة ، والتوسّل في المسلمين الّذين يعتقدون في حقّه أنّه عبده ورسوله ، وينطقون بذلك في صلاتهم نحو عشرين مرة في كل يوم على أقلّ تقدير ، إدامة لذكرى ذلك ولم يزل أهل العلم ينهون العوام من البدع في كل شئونهم ، ويرشدونهم إلى السنّة في الزيارة وغيرها إذا حدث منهم بدعة في شيء ، ولم يعدّوهم في يوم من الأيام مشركين بسبب الزيارة أو التوسل ، وأوّل من رماهم بالإشراك بتلك الوسيلة هو ابن تيمية وجرى خلفه من أراد استباحة أموال المسلمين ودمائهم لحاجة في النفس (٢).

وأمّا ما رواه إمام الحنابلة عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «اللهمّ

__________________

(١) كلام ابن زهرة في كتابه حول حياة ابن تيمية.

(٢) تكملة السيف الصقيل : ١٥٦.

٢٩٦

لا تجعل قبري وثناً ، لعن الله قوماً اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (١). فإنّ الحديث ـ إذا افترضنا صحة الاحتجاج به ـ لا صلة له بالزيارة ، وإنّما يهيب بالَّذين يتَّخذون قبور أنبيائهم مساجد ، يصلّون إليها ـ إذا اتّخذوها قبلة ـ أولها ، إذا عبدوها ، ويدلّ على ما ذكرنا ما روي أيضاً من أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «اللهم لا تجعل قبري يصلّى إليه فإنّه اشتدّ غضب الله على قوم اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (٢).

(وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً) (٣)

__________________

(١) الإمام أحمد ، المسند ٢ : ٢٤٦.

(٢) كنز العمال ٢ / ح ٣٨٠٢.

(٣) الفرقان : ٢١.

٢٩٧

خاتمة

تذكرة وإنذار

إنّ لزيارة العظماء والقدّيسين ؛ أصحاب الرسالات آثاراً ايجابيةً تعود تارة إلى الزائر ، وأُخرى إلى المزور.

أمّا الأُولى : فلأنّ الزيارة صلة بين الكامل ومن يروم الكمال ، فالدوام على مواصلته محاولة للتخلّق بأخلاقه ، واتّباعِ منهجه وتجديد العهد معه ، ولذلك لا تجد إنساناً وَقف أمام قبر النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وزاره إلّا ويتأثّر بشخصه وشخصيّته ، وإن كان التأثّر قليلاً مؤقّتاً ، فزيارتهم تقترن غالباً بذرف الدموع ، والعطف والحنان على المزور ؛ وهي لا تنفكّ عن تحوُّل نفسيّ وأخلاقيّ وحبّ ووُدٍّ لهم ، وبالتالي شعوره بقربه منهم ، ومشاطرته لأهدافهم ، إلى غير ذلك من الآثار الإيجابية الّتي تعود على الزائر والّتي أشرنا إليها في تمهيدنا الّذي تصدّرت هذه الرسالة به ، ولا نعود إلى تلك الآثار التي تعود إلى الزائر.

أمّا الثانية : أعني الآثار الإيجابية التي تعود إلى المزور فهذا هو المقصود في بياننا ، وهو أنّ زيارة العظماء هي تخليد لذكراهم ، وتجسيد لرسالاتهم في الأذهان ، وبالتالي تكون سبباً لبقائهم أحياءً في كلّ عصر وقرن ، لا يتسرّب إلى وجودهم ورسالاتهم وبطولاتهم أدنى ريبٍ وشكٍّ ، فبذلك يتجلّى المزور في كلّ زمان حيّاً في القلوب وفي المجتمع ، كما لو كان موجوداً بشخصه في زمن الزائر ، فكأنَّ الزيارةَ استمرار لبقائهم في القلوب تُجلي الصدأ عنها ، وتتجلّى صحة وجودهم للخلف كما تجلّت للسلف ، وتكون بمنزلة الدليل على وجودهم ورسالاتهم وبطولاتهم.

فلو حذفنا الزيارة من قاموس حياتنا ، وتركنا مزارهم ، وأقفلنا أبواب بيوتهم ، ولم نهتمّ بآثارهم طوالَ قرون ، فقد جعلنا آثارهم في مهبِّ الفناء والتدمير ،

٢٩٨

وبالنتيجة التشكيك في أصل وجودهم وبعثهم ، وبالتالي تصبح تلك الشخصيات بعد قرون أساطيرَ تاريخية للخلق ، فيتلقّون النبيّ والإمام بل الأنبياء كلّهم قصصاً تاريخية نسجتها يدُ الخيال ، كما هو الحال في كثير من القصص التاريخية الّتي أصبحت تُروى على ألسن الأطفال وفي المنتديات.

إنّ الإنسان الغربيّ يتمتّع في حياته بكلّ ما هو غربيّ إلّا الدين والمذهب ؛ فإنّ مذهبه شرقيّ ؛ لأنّ المسيح وليد الشرق ومبعوثه سبحانه إلى أرض فلسطين وغيرها ، وبما أنّ الغربيّ لا يجد أثراً ملموساً للمسيح في حياته فمثلاً ليس له قبر حتّى يُزار ولا لأُمّه قبر حتّى يُنسب إليها ، ولا لكتابه صورة صحيحة يؤمن به ، ولا لتلاميذه وحوارييه آثار ملموسة ، فلذلك صارت الديانة المسيحية أُسطورة تاريخية في نظر الغرب وشبابه المثقّفين بعد ألفي عام ، وإن كان الشيوخ والعجائز يُؤمنون به إيماناً تقليديّاً لا علمياً ، فالجُدد منهم مسيحيّون في هويّاتهم الشخصية لا في هوياتهم العقلية والفكرية ، وممّا أثّر في ذلك هو فقدان كلّ أثر ملموس عن سيّدنا المسيح في حياتنا البشريّة ، ولو لا أنّ القرآن الكريم جاء بذكره ورسالته ومواقفه لكان الشكّ متسرِّباً إلى أذهاننا وأفكارنا.

وهذا بخلاف ما لو كان له أثر ملموس يُزار بين آن وآخر ، وتشدُّ الرحال إليه عندئذٍ لكانت الديانة المسيحية حيّة نابضة بلا شكّ وريب.

ومن الأسباب والوسائل التي أضفت على الإسلام حيوية ، وعلى نبيّه بقاءً في القلوب ، وعلى مواقفه وبطولاته خلوداً في الأذهان والضمائر ، هو وفود المسلمين في كلّ شهرٍ وسنة إلى موطنه (مكّة) ومهجَرِه (المدينة) وزيارة قبره وآثاره وقبور أولاده وأصحابه ، ومشاهدة مولده ومبعثه وما يمتُّ إليه بصلة طوال حياته ؛ حيث أضفت هذه الوفادة المستمرة على وجوده ورسالته نوراً وضياءً ، وواقعية تُذهِب كلّ ريب وشكّ وتقرّ في النفوس عظمته وبطولاته.

٢٩٩

وإذا كانت الذكرى ناقوساً يدِقّ في وادي النسيان يذكّرك الحبيب ويرِنُّ في أسماعك جماله وكماله ، فزيارته والمثول أمام آثاره وعظمته تُؤثّر في خلوده وبقائه في النفوس ، وتزيل غبار النسيان عنه. لذا نرى أنّ الفقهاء أفتوا بأنّه يجب على الحاكم الإسلامي تجهيز المسلمين من بيت المال وإرسالهم إلى الحجّ إذا خلت الكعبة عن الزوّار لئلّا تُنسى ، وحتّى تبقى خالدة في قلوب المسلمين ومهوى أفئدتهم ، فكذلك قبور الأنبياء والمرسلين وفي مقدّمتهم سيّدنا سيد الرسل نبيّنا الأكرم صلوات الله عليه وعلى آله ومن تبعه بإحسان ؛ وذلك لأنّ هجر قبورهم وعدم الاهتمام بها تمهيد لنسيانهم ورسالاتهم وبالتالي القضاء على الإسلام.

* * *

أخي القارئ الكريم ؛ لقد عالجتُ مسألة الزيارة معالجة علميّة في ضوء القرآن والحديث الصحيح وقضاء الفطرة الإنسانية ، فلم يبق في رجحان الزيارة واستحبابها شرعاً شكّ ولا ريب ، وقد تعرفتَ على آثارها الإيجابية للزائر والمزور ، وقد أزحنا بعضَ الأشواك النامية في هذا الطريق ، فعلى المشرفين على القبور والأضرحة ونخصّ بالذكر قبرَ سيد البشر ـ عليه صلوات الله وسلامه ـ استقبال الوافدين عليها بوجوه مشرقة مرَحِّبين بضيوف النبي مهيّئين الأجواء الودّية المناسبة للزيارة ، وحشد كلّ الإمكانات المادّية والمعنوية لإقامتهم في مدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إقامة مقرونة بالارتياح.

ولا تفوتنا الاشارة هنا إلى واجب الخطباء والعلماء في إرشاد المسلمين وتوجيههم إلى الآداب الصحيحة للزيارة ، وتذكيرهم بما ينفعهم في الدنيا والآخرة ، حتّى يتلقّى الزائر أنّ الحضور في مزاره الشريف وسيلة للتذكرة به ؛ وهي لا تنفك عن العمل بشريعته ودينه وسنّته والتخلّق بأخلاقه.

٣٠٠