في ظلال التّوحيد

الشيخ جعفر السبحاني

في ظلال التّوحيد

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: نشر مشعر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-6293-82-4

الصفحات: ٧١٢

هل المعنى هو القيام وقت الدفن فقط ، حيث لا يجوز ذلك للمنافق ، ويستحب للمؤمن ، أو المعنى أعمّ من وقت الدفن وغيره؟

إنّ بعض المفسّرين وإن خصّوا القيامَ نفياً وإثباتاً بوقت الدفن ، لكن البعض الآخر فسّروه في كلا المجالين بالأعمّ من وقت الدفن وغيره.

قال السيوطي في تفسيره : ولا تَقم على قبره لدفن أو زيارة (١).

وقال الآلوسي البغدادي : ويفهم من كلام بعضهم أنّ «على» بمعنى «عند» والمراد : لا تقف عند قبره للدفن أو للزيارة (٢).

وقال الشيخ إسماعيل حقّي البروسوي : (وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) أي ولا تقف عند قبره للدفن أو للزيارة والدعاء (٣).

إلى غير ذلك من المفسّرين ، وقد سبقهم البيضاوي في تفسيره (٤).

والحقّ مع من أخذ بإطلاق الآية وإليك توضيحه :

إنّ الآية ؛ تتألّف من جملتين :

الأُولى : قوله تعالى : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ).

إنّ لفظة «أحد» بحكم ورودها في سياق النفي تفيد العموم والاستغراق لجميع الأفراد ، ولفظة «أبداً» تفيد الاستغراق الزمني ، فيكون معناها : لا تصلّ على أحد من المنافقين في أيّ وقت كان.

فمع الانتباه إلى هذين اللَّفظين نعرف ـ بوضوح ـ أنّ المراد من النهي عن الصلاة على الميّت المنافق ليس خصوص الصلاة على الميت عند الدفن فقط ؛ لأنّها ليست قابلة للتكرار في أزمنة متعدّدة ، ولو أُريد ذلك لم تكن هناك حاجة إلى لفظة

__________________

(١) تفسير الجلالين : سورة التوبة في تفسيره الآية.

(٢) روح المعاني ١٠ : ١٥٥.

(٣) روح البيان ٣ : ٣٧٨.

(٤) أنوار التنزيل ١ : ٤١٦ ، طبعة دار الكتب العلمية ، بيروت.

٢٤١

«أبداً» ، بل المراد من الصلاة في الآية مطلق الدعاء والترحّم سواء أكان عند الدفن أم غيره.

فإن قال قائل : إنّ لفظة «أبداً» تأكيد للاستغراق الأفرادي لا الزماني.

فالجواب بوجهين :

١ ـ أنّ لفظة «أحد» أفادت الاستغراق والشمول لجميع المنافقين بوضوح ؛ فلا حاجة للتأكيد.

٢ ـ أنّ لفظة «أبداً» تستعمل في اللّغة العربية للاستغراق الزماني ، كما في قوله تعالى : (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) (١).

فالنتيجة أنّ المقصود هو النهي عن الترحّم على المنافق وعن الاستغفار له ، سواء أكان بالصلاة عليه عند الدفن أم بغيرها.

الثانية : (وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ).

إنّ مفهوم هذه الجملة ـ مع الانتباه إلى أنّها معطوفة على الجملة السابقة ـ هو : «لا تَقُم على قبر أحدٍ منهم مات أبداً» لأنّ كلّ ما ثبت للمعطوف عليه من القيد ـ أعني «أبداً» ـ يثبت للمعطوف أيضاً ، ففي هذه الحالة لا يمكن القول بأنّ المقصود من القيام على القبر هو وقت الدفن فقط ؛ لأنّ المفروض عدم إمكان تكرار القيام على القبر وقت الدفن ، كما كان بالنسبة للصلاة ، ولفظة «أبداً» المقدّرة في هذه الجملة الثانية تفيد إمكانية تكرار هذا العمل ، فهذا يدلّ على أنّ القيام على القبر لا يختصّ بوقت الدفن.

وإن قال قائل : إنّ لفظة «أبداً» المقدّرة في الجملة الثانية معناها الاستغراق الأفرادي.

قلنا : قد سبق الجواب عليه ، وأنّ لفظة «أحد» للاستغراق الأفرادي ، لا لفظة

__________________

(١) الأحزاب : ٥٣.

٢٤٢

«أبداً» فهي للاستغراق الزماني.

فيكون معنى الآية الكريمة : أنّ الله تعالى ينهى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عن مطلق الاستغفار والترحّم على المنافق ، سواء كان بالصلاة أو مطلق الدعاء ، وينهى عن مطلق القيام على القبر ، سواء كان عند الدفن أو بعده. ومفهوم ذلك هو أنّ هذين الأمرين يجوزان للمؤمن.

وبهذا يثبت جواز زيارة قبر المؤمن وجواز قراءة القرآن على روحه ، حتّى بعد مئات السنين.

هذا بالنسبة إلى المرحلة الأُولى وهي أصل الزيارة من وجهة نظر القرآن ، وأمّا بالنسبة إليها من ناحية الأحاديث فإليك بيانها :

زيارة القبور في السنّة النبوية

إنّ النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله جسّد بعمله مشروعية زيارة القبور ـ مضافاً إلى أنّه أمر بها كما مرّ ـ وعلّم كيفيتها ، وكيف يتكلّم الإنسان مع الموتى ، فقد ورد في غير واحد من المصادر ، أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله زار البقيع ، وإليك النصوص :

١ ـ روى مسلم عن عائشة أنّها قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّما كان ليلتها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول : «السلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون ، غداً مؤجَّلون وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون ، اللهمّ اغفر لأهل بقيع الغرقد» (١).

٢ ـ وعن عائشة في حديث طويل أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لها : «أتاني جبرئيل فقال : إنّ ربّك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم» قالت : قلت : كيف أقول لهم يا

__________________

(١) مسلم ، الصحيح ٣ : ٦٣ ، باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها من كتاب الجنائز.

٢٤٣

رسول الله؟ قال : «قولي : السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، ورحم الله المستقدمين منّا والمستأخرين وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون» (١).

٣ ـ وروى ابن بريدة عن أبيه قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يُعلِّمهم إذا خرجوا إلى المقابر فكان قائلهم يقول : ـ في رواية أبي بكر ـ «السلام على أهل الديار» وفي رواية زهير : «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، وإنّا إن شاء الله لَلاحقون ، أسأل الله لنا ولكم العافية» (٢).

٤ ـ عن ابن بريدة ، عن أبيه : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها» (٣).

٥ ـ ورويت في كنز العمال الروايات التالية : «السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون. ووددتُ أنّا قد أُرينا إخواننا قالوا : أولسنا إخوانك؟ قال : بل أنتم أصحابي ، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد. إلخ» (٤).

٦ ـ «السلام عليكم يا أهل القبور من المؤمنين والمسلمين ، يغفر الله لنا ولكم ، أنتم سلفنا ونحن بالأثر» (٥).

٧ ـ «السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وإنا وإياكم متواعدون غداً ومتواكلون ، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون ، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد» (٦).

٨ ـ «السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، أنتم لنا فرط ، وإنّا بكم لاحقون ،

__________________

(١) مسلم ، الصحيح ٣ : ٦٤ ، باب ما يقال عند دخول القبور من كتاب الجنائز ؛ النسائي ، السنن ٤ : ٩١.

(٢) مسلم ، الصحيح ٣ : ٦٥ ، باب ما يقال عند دخول القبور من كتاب الجنائز.

(٣) مسلم ، الصحيح ٧ : ٤٦ ، الترمذي ، السنن ٣ : ٣٧٠ ح ١٠٥٤ ؛ النسائي ، السنن ٤ : ٨٩.

(٤) مسلم ، الصحيح ، كتاب الطهارة ، باب استحباب إطالة الغرة والتحصيل في الوضوء / ح ٢٤٩.

(٥) كنز العمال ١٥ : ٢٤٧ ـ ٢٤٨ / ح ٤٢٥٦١.

(٦) كنز العمال ١٥ : ٢٤٧ ـ ٢٤٨ / ح ٤٢٥٦٢.

٢٤٤

اللهمّ لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنّا بعدهم» (١).

٩ ـ «إنّي نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها لتذكِّركم زيارتها خيراً» (٢).

١٠ ـ «نهيتكم عن ثلاث وأنا آمركم بهنّ ؛ نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ؛ فإنّ في زيارتها تذكرة» (٣). إلى غير ذلك من الآثار النبوية الحاثّة على زيارة القبور ، فمن أراد التفصيل فليرجع إلى كنز العمال.

__________________

(١) كنز العمال ١٥ : ٢٤٧ ـ ٢٤٨ / ح ٤٢٥٦٣.

(٢) كنز العمال ١٥ : ٢٤٧ ـ ٢٤٨ / ح ٤٢٥٦٤.

(٣) كنز العمال ١٥ : ٢٤٧ ـ ٢٤٨ / ح ٤٢٥٦٥.

٢٤٥

المبحث الثاني

أعلام الأُمّة وزيارة قبر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله

إذا كانت زيارة قبور المسلمين من السنن التي دعا إليها النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وعمل بها بمرأى ومسمع من نسائه وصحابته ، فزيارة قبر سيد ولد آدم ومن أُنيطت إليه سعادة البشر أولى بها ، لذا جرت سيرة المسلمين على زيارة قبره ، وصرّح بها فقهاء الأُمّة ، وتضافرت السنّة على استحبابها.

ولنقدّم بعض الكلمات من أكابر الأُمّة الّتي تعرب عن موقف المسلمين طيلة القرون تجاه المسألة ، فقد قيّض سبحانه في كلّ عصر رجالاً يجاهرون بالحقّ ، وينفون غبار الباطل عن وجهه نذكر منهم شخصيتين كبيرتين من السنّة والشيعة :

١ ـ الإمام تقي الدين السبكي الشافعي المتوفّى سنة (٧٥٦ ه‍) عليه سحائب الرحمة والرضوان. فقد خصّ في كتابه «شفاء السقام في زيارة خير الأنام» باباً لنقل نصوص العلماء على استحباب زيارة قبر سيّدنا رسول الله ، وقد بيّن أنّ الاستحباب أمر مجمع عليه بين المسلمين (١).

__________________

(١) شفاء السقام : ٦٥ ـ ٧٩ ونحن نغترف من هذا العين المعين ، ونذكر كلمات المحقّقين من أهل السنة حول زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٢٤٦

٢ ـ العلّامة الكبير الأميني في الغدير ٥ : ١٠٩ ـ ١٢٥ ، فقد استدرك عليه بما لم يقف عليه الإمام السبكي ، ونقل كلمات أعلام المذاهب الأربعة بما يتجاوز الأربعين كلمة. شكر الله مساعيهما.

وقد راجعنا أكثر المصادر الّتي نقلا عنها حسب ما حضرنا منها. واكتفينا بالنقل عنهما في غيره ، وأضفنا بعض ما فات عنهما. ولعلّ المعثور عليه من الكلمات أقلّ ممّا لم يُعثر عليه.

كلمات أعلام المذاهب حول الزيارة

١ ـ قال أبو عبد الله الحسين بن الحسن الحليمي الجرجاني الشافعي (ت ٤٠٣ ه‍) بعد الحث على تعظيم النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : فأمّا اليوم فمن تعظيمه زيارته (١).

٢ ـ قال أبو الحسن أحمد بن محمد المحاملي الشافعي (ت ٤٢٥ ه‍) : ويستحب للحاجّ إذا فرغ من مكّة أن يزور قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

٣ ـ قال القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري (ت ٤٥٠ ه‍) : ويستحب أن يزور النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد أن يحجّ ويعتمر (٣).

٤ ـ قال أقضى القضاة أبو الحسن الماوردي (ت ٤٥٠ ه‍) : فإذا عاد (وليّ الحاج) سار بهم على طريق المدينة لزيارة قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليجمع لهم بين حج بيت الله عزوجل وزيارة قبر رسول الله ؛ رعاية لحرمته وقياماً بحقوق طاعته ، وذلك وإن لم يكن من فروض الحج فهو من مندوبات الشرع المستحبّة وعبادات

__________________

(١) المنهاج في شعب الإيمان ، كما في شفاء السقام : ص ٦٥.

(٢) التجريد ، كما في شفاء السقام : ص ٦٥.

(٣) نقله عنه السبكي في شفاء السقام : ص ٦٥.

٢٤٧

الجميع المستحسنة (١).

وقال أيضاً في كتابه الحاوي : أمّا زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فمأمور بها ومندوب إليها (٢).

٥ ـ حكى عبد الحقّ بن محمد الصقلي (ت ٤٦٦ ه‍) عن الشيخ أبي عمران المالكي أنّ زيارة قبر النبي واجبة ، قال عبد الحقّ : يعني من السنن الواجبة (٣).

٦ ـ قال ابو إسحاق إبراهيم بن محمد الشيرازي الفقيه الشافعي (ت ٤٧٦ ه‍) : ويستحب زيارة قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤).

٧ ـ وممّن بسط الكلام في زيارة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله الإمام الغزالي في كتاب الحجّ من إحياء العلوم قال : الجملة العاشرة في زيارة المدينة وآدابها قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من زارني بعد وفاتي فكأنّما زارني في حياتي». وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من وجد سعة ولم يَفِد إليَّ فقد جفاني» إلى أن قال : فمن قصد زيارة المدينة فليصلّ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في طريقه كثيراً ، فإذا وقع بصره على حيطان المدينة وأشجارها قال : اللهمّ هذا حرم رسولك فاجعله لي وقاية من النار ، وأماناً من العذاب وسوء الحساب ، ثمّ ذكر آداب الزيارة وصيغتها ، كما ذكر زيارة الشيخين وزيارة البقيع بمن فيها ، كزيارة قبر عثمان وقبر الحسن بن علي ، ثمّ قال : ويصلّي في مسجد فاطمة رضي الله عنها ، ويزور قبر إبراهيم ابن رسول الله وقبر صفيّة عمّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فذلك كلّه بالبقيع ، ويستحبّ له أن يأتي مسجد قباء في كلّ سبت ويصلّي فيه لما روي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «من خرج من بيته حتّى يأتي مسجد قباء ويصلّي فيه كان له عدل عمرة» (٥).

__________________

(١) الأحكام السلطانية : ص ١٠٩ ، دار الفكر ، بيروت.

(٢) الحاوي ، كما في شفاء السقام : ص ٦٥.

(٣) تهذيب الطالب ، كما في شفاء السقام : ص ٦٨.

(٤) المهذّب في فقه الإمام الشافعي ١ : ٢٣٣ ، دار الفكر ، بيروت.

(٥) إحياء علوم الدين ١ : ٣٠٥ و ٣٠٦.

٢٤٨

٨ ـ قال أبو الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوداني الفقيه البغدادي الحنبلي (ت ٥١٠ ه‍) : وإذا فرغ من الحجّ استحبّ له زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وقبر صاحبيه (١).

٩ ـ قال القاضي عياض المالكي (ت ٥٤٤ ه‍) : وزيارة قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله سنّة مجمع عليها وفضيلة مرغّب فيها ، ثمّ ذكر عدّة من أحاديث الباب فقال : قال إسحاق بن إبراهيم الفقيه : وممّا لم يزل من شأن من حجّ المزور (٢) بالمدينة والقصد إلى الصلاة في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والتبرّك برؤية روضته (٣) ومنبره وقبره ومجلسه وملامس يديه ومواطن قدميه والعمود الّذي استند إليه ومنزل جبرئيل بالوحي فيه عليه (٤).

١٠ ـ قال ابن هبيرة (ت ٥٦٠ ه‍) : اتّفق مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل ـ رحمهم‌الله تعالى ـ على أنّ زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مستحبّة (٥).

١١ ـ عقد الحافظ ابن الجوزي الحنبلي (ت ٥٩٧ ه‍) في كتابه باباً في زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وذكر حديث ابن عمر وحديث أنس اللَّذين سنذكرهما (٦).

١٢ ـ قال أبو محمد عبد الكريم بن عطاء الله المالكي (ت ٦١٢ ه‍) : إذا كمل لك حجّك وعمرتك على الوجه المشروع لم يبق بعد ذلك إلّا إتيان مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للسلام على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والدعاء عنده ، والسلام على صاحبيه ، والوصول إلى البقيع وزيارة ما فيه من قبور الصحابة والتابعين ، والصلاة في مسجد الرسول ، فلا ينبغي للقادر على ذلك تركه (٧).

__________________

(١) الهداية ، كما في شفاء السقام : ٦٦.

(٢) قيل بكسر الميم وسكون الزاء وفتح الواو : مصدر ميمي بمعنى الزيارة (شرح الشفا للخفاجي ٣ : ٥١٥).

(٣) ففي الحديث الشريف : «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة» صحيح البخاري ٢ : ١٣٧ وج ٩ : ١٨٨ ، مسلم ٢ : ٢٠١١.

(٤) الشفاء ٢ : ١٩٤ ـ ١٩٧ ، ط دار الفيحاء ، عمان.

(٥) المدخل ١ : ٢٥٦.

(٦) مثير العزم الساكن إلى أشرف الأماكن ، كما في شفاء السقام : ٦٧.

(٧) المناسك ، كما في الغدير ٥ : ١١٠.

٢٤٩

١٣ ـ قال أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الحسين بن أحمد بن القاسم بن إدريس السامريّ الحنبليّ (ت ٦١٦ ه‍) : وإذا قدم مدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله استحبّ له أن يغتسل لدخولها. ثمّ ذكر أدب الزيارة وكيفية السلام والدعاء والوداع (١).

١٤ ـ قال الشيخ موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي الحنبلي (ت ٦٢٠ ه‍) : يستحب زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ ذكر حديثي ابن عمر وأبي هريرة من طريق الدار قطني وأحمد (٢).

١٥ ـ قال محيي الدين النووي الشافعي (ت ٦٧٧ ه‍) : ويُسنُّ شرب ماء زمزم وزيارة قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد فراغ الحجّ (٣).

١٦ ـ قال نجم الدين بن حمدان الحنبلي (ت ٦٩٥ ه‍) : ويسنّ لمن فرغ عن نسكه زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وقبر صاحبيه رضي الله عنهما ، وله ذلك بعد فراغ حجّه وإن شاء قبل فراغه (٤).

١٧ ـ قال القاضي الحسين : إذا فرغ من الحجّ فالسنّة أن يقف بالملتزم ويدعو ، ثمّ يشرب من ماء زمزم ، ثمّ يأتي المدينة ويزور قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (٥).

١٨ ـ قال القاضي أبو العباس أحمد السروجي الحنفي (ت ٧١٠ ه‍) : إذا انصرف الحاجّ والمعتمرون من مكّة فليتوجّهوا إلى طيبة مدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وزيارة قبره ؛ فإنّها من أنجح المساعي (٦).

١٩ ـ قال الإمام القدوة ابن الحاج محمد بن محمد العبدري القيرواني

__________________

(١) المستوعب ، كما في شفاء السقام : ٦٧.

(٢) المغني ٣ : ٧٨٨.

(٣) المنهاج ، المطبوع بهامش شرحه المغني ١ : ٤٩٤ كما في الغدير ٥ : ١١١.

(٤) الرعاية الكبرى في الفروع الحنبلية ، كما في شفاء السقام : ص ٦٧.

(٥) نقله السبكي في شفاء السقام : ص ٦٦.

(٦) الغاية ، كما في شفاء السقام : ص ٦٦.

٢٥٠

المالكي (ت ٧٣٨ ه‍) بعد أن ذكر لزوم وكيفية زيارة الأنبياء والرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ والتوسّل بهم إلى الله تعالى وطلب الحوائج منهم قال : وأمّا في زيارة سيد الأوّلين والآخرين صلوات الله عليه وسلامه فكلّ ما ذكر يزيد عليه أضعافه ، أعني في الانكسار والذلّ والمسكنة ؛ لأنّه الشافع المشفّع الّذي لا تُردّ شفاعته ، ولا يُخيّب من قصده ، ولا من نزل بساحته ، ولا من استعان أو استغاث به ، إذ إنّه عليه الصلاة والسلام قطب دائرة الكمال وعروس المملكة ـ إلى أن قال ـ : فمن توسّل به أو استغاث به أو طلب حوائجه منه ، فلا يردّ ولا يخيب لما شهدت به المعاينة والآثار ، ويحتاج إلى الأدب الكلّي في زيارته عليه الصلاة والسلام ، وقد قال علماؤنا رحمة الله عليهم : إنّ الزائر يشعر بنفسه بأنّه واقف بين يديه عليه الصلاة والسلام كما هو في حياته (١).

٢٠ ـ وقال شمس الدين ابن قدامة الأندلسي : فإذا فرغ من الحجّ استحبّ زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وقبر صاحبيه ـ رضي الله عنهما ـ واستدلّ على ذلك بروايتي ابن عمر ، وأبي هريرة (٢).

٢١ ـ قال أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي الحنبلي المقدسي : إنّ ابن تيمية ذكر في مناسكه «باب زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا أشرف على مدينة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل الحجّ أو بعده ، فليقل ما تقدّم ، فإذا دخل استحب له أن يغتسل ، نصّ عليه الإمام أحمد ، فإذا دخل المسجد بدأ برجله اليمنى وقال : بسم الله والصلاة على رسول الله ، اللهمّ اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك ، ثمّ يأتي الروضة بين القبر والمنبر فيصلّي بها ويدعو بما شاء ، ثمّ يأتي قبر النبيّ فيستقبل جدار القبر ولا يمسّه ولا يقبّله ، ويجعل القنديل الّذي في القبلة عند القبر على رأسه ؛ ليكون قائماً وجاه

__________________

(١) المدخل ١ : ٢٥٧.

(٢) الشرح الكبير على المقنع ٣ : ٤٩٤.

٢٥١

النبيّ ، ويقف متباعداً كما يقف لو ظهر في حياته بخشوع وسكون منتكس الرأس ، غاضّ الطرف ، متحضّراً بقلبه جلالة موقفه ثمّ يقول :

السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته ، السلام عليك يا نبيّ الله وخيرته من خلقه ، السلام عليك يا سيّد المرسلين ، وخاتم النبيين ، وقائد الغرّ المحجّلين ، أشهد أنْ لا إله إلّا الله وأشهد أنّك رسول الله ، أشهد أنّك قد بلّغت رسالات ربك ، ونصحت لأُمتك ، ودعوت إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة ، وعبدت الله حتّى أتاك اليقين ، فجزاك الله أفضل ما جزى نبياً ورسولاً عن أُمّته اللهمّ آته الوسيلة والفضيلة ، وابعثه مقاماً محموداً ...» (١).

٢٢ ـ ألّف الشيخ تقي الدين السبكي الشافعي (ت ٧٥٦ ه‍) كتاباً حافلاً في زيارة النبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأسماه «شفاء السقام في زيارة خير الأنام» ردّاً على ابن تيمية ، وممّا قال فيه : لا حاجة إلى تتبّع كلام الأصحاب في ذلك مع العلم بإجماعهم وإجماع سائر العلماء عليه. والحنفية قالوا : إنّ زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من أفضل المندوبات والمستحبّات ، بل تقرّب من درجة الواجبات ، وممّن صرّح بذلك منهم أبو منصور محمد بن مكرم الكرماني في مناسكه ، وعبد الله بن محمود بن بَلَدحي في شرح «المختار» وفي فتاوى أبي الليث السمرقندي في باب أداء الحجّ (٢).

ثمّ قال : وكيف يتخيّل في أحد من السلف نهيهم عن زيارة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله وهم مجمعون على زيارة سائر الموتى ، فالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وسائر الأنبياء الّذين ورد فيهم أنّهم أحياء كيف يقال فيهم هذه المقالة (٣) وحكى عن القاضي عياض وأبي زكريا

__________________

(١) الصارم المنكي في الردّ على السبكي : ص ١٦ ـ ١٧ ، الطبعة الأُولى ١٩٩٢ مؤسسة الريان ـ بيروت. ولو صحّ ما نقله يحمل على تبدّل الاجتهاد والمعروف أنه نهى عن السفر للزيارة لا عن أصلها. وسيوافيك بعض شبهاته.

(٢) شفاء السقام : ص ٦٦ ، طبع دار الجيل.

(٣) المصدر نفسه : ص ٧٩.

٢٥٢

النووي إجماع العلماء والمسلمين على استحباب الزيارة (١).

وقال أيضاً : وإذا استحبّ زيارة قبر غيره صلى‌الله‌عليه‌وآله فقبره أولى لما له من الحق ووجوب التعظيم (٢). ثمّ إنّه استدلّ في الباب السادس على أنّ السفر إلى الزيارة قربة بالكتاب والسنّة والإجماع ـ إلى أن قال ـ :

الرابع : الإجماع إطباق السلف والخلف ؛ فإنّ الناس لم يزالوا في كلّ عام إذا قضوا الحج يتوجّهون إلى زيارته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمنهم من يفعل ذلك قبل الحج ، هكذا شاهدناه وشاهده من قبلنا وحكاه العلماء عن الأعصار القديمة ... ومن ادّعى أنّ هذا الجمع العظيم مجمعون على الخطأ فهو المخطئ (٣).

٢٣ ـ قال زين الدين أبو بكر بن الحسين بن عمر القريشي العثماني المصري المراغي (ت ٨١٦ ه‍) : وينبغي لكلّ مسلم اعتقاد كون زيارته صلى‌الله‌عليه‌وآله قربة عظيمة ، للأحاديث الواردة في ذلك ، ولقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) الآية ، لأنّ تعظيمه لا ينقطع بموته (٤).

٢٤ ـ قال السيد نور الدين السمهودي (ت ٩١١ ه‍) بعد ذكر أحاديث الباب : وأمّا الإجماع ، فأجمع العلماء على استحباب زيارة القبور للرجال كما حكاه النووي بل قال بعض الظاهرية بوجوبها ، وقد اختلفوا في النساء ، وقد امتاز القبر الشريف بالأدلّة الخاصّة به. قال السبكي : ولهذا أقول : إنّه لا فرق في زيارته بين الرجال والنساء. وقال الجمال الريمي في «التفقيه» : يستثنى من محل الخلاف قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وصاحبيه ثمّ قال : وقد ذكر ذلك بعض المتأخرين وهو الدمنهوري الكبير ،

__________________

(١) شفاء السقام : ص ٨٣ ، طبع دار الجيل.

(٢) المصدر نفسه : ص ٨٤.

(٣) المصدر نفسه : ص ١٠٠.

(٤) المواهب اللدنية للقسطلاني ٤ : ٥٧٠ ـ ٥٧٤ المكتب الإسلامي ، بيروت. والآية من سورة النساء : ٦٤.

٢٥٣

وأضاف إليه قبور الأولياء والصالحين والشهداء (١).

٢٥ ـ قال الحافظ أبو العباس القسطلاني المصري (ت ٩٣٣ ه‍) : اعلم أنّ زيارة قبره الشريف من أعظم القربات وأرجى الطاعات والسبيل إلى أعلى الدرجات ، ومن اعتقد غير هذا فقد انخلع من ربقة الإسلام ، وخالف الله ورسوله وجماعة العلماء الأعلام ، وقد أطلق بعض المالكية وهو أبو عمران الفاسي كما ذكره في «المدخل» عن «تهذيب الطالب» لعبد الحقّ : أنّها واجبة ، قال : ولعلّه أراد وجوب السنن المؤكدة ، وقال القاضي عياض : إنّها من سنن المسلمين مجمع عليها وفضيلة مرغّب فيها ...

ثمّ قال : وقد صحّ أنّ عمر بن عبد العزيز كان يبرد البريد للسلام على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فالسفر إليه قربة لعموم الأدلّة ، ومن نذر الزيارة وجبت عليه كما جزم به ابن كج من أصحابنا ، إلى أن قال : وللشيخ تقي الدين بن تيمية هنا كلام شنيع عجيب يتضمن منع شدّ الرحال للزيارة النبوية ، وأنّه ليس من القُرب بل بضدّ ذلك ، وردّ عليه الشيخ تقي الدين السبكي في «شفاء السقام» فشفى صدور المؤمنين (٢).

٢٦ ـ ذكر شيخ الإسلام أبو يحيى زكريا الأنصاري الشافعي (ت ٩٢٥ ه‍) في باب ما يستحب لمن حج وقال : ثمّ يزور قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ويسلّم عليه وعلى صاحبيه بالمدينة المشرّفة (٣).

٢٧ ـ قال ابن حجر الهيثمي المكي الشافعي (ت ٩٧٣ ه‍) بعد ما استدلّ على مشروعية زيارة قبر النبي بعدّة أدلة منها : الإجماع ؛ فإن قلت : كيف تحكي الإجماع على مشروعية الزيارة والسفر إليها وطلبها وابن تيمية من متأخّري الحنابلة منكر

__________________

(١) وفاء الوفا ، المجلد الثاني ٤ : ١٣٦٢ ، ط دار إحياء التراث العربي ، بيروت.

(٢) المواهب اللدنية ٤ : ٥٧٠ المكتب الإسلامي ، بيروت.

(٣) أسنى المطالب في شرح روض الطالب ١ : ٥٠١.

٢٥٤

لمشروعية ذلك كلّه كما رآه السبكي في خطّه؟ وقد أطال ابن تيمية الاستدلال لذلك بما تمجّه الأسماع ، وتنفر عنه الطباع ، بل زعم حرمة السفر لها إجماعاً وأنّه لا تقصَّر فيه الصلاة ، وأنّ جميع الأحاديث الواردة فيها موضوعة ، وتبعه بعض من تأخّر عنه من أهل مذهبه.

قلت : من هو ابن تيمية؟! حتّى ينظر إليه أو يقول في شيء من مورد الدين عليه؟!! وهل هو إلّا كما قال جماعة من الأئمة ـ الذين تعقّبوا كلماته الفاسدة وحججه الكاسدة حتّى أظهروا عوار سقطاته ، وقبائح أوهامه ، وغلطاته كالعزّ بن جماعة ـ : عبد أضلّه الله تعالى وأغواه ، وألبسه رداء الخزي وأرداه ، وبواه من قوّة الافتراء والكذب ما أعقبه الهوان ، وأوجب له الحرمان ، ولقد تصدّى شيخ الإسلام وعالم الأنام المجمع على جلالته واجتهاده وصلاحه وإمامته ، التقيّ السبكي ـ قدس الله روحه ونوّر ضريحه ـ للردّ عليه في تصنيف مستقل أفاد فيه وأجاد ، وأصاب وأوضح بباهر حججه طريق الصواب ثمّ قال :

هذا ما وقع من ابن تيمية ممّا ذكر وإن كان عثرة لا تقال أبداً ، ومصيبة يستمر شؤمها سرمداً ، وليس بعجب ؛ فإنّه سوّلت له نفسه وهواه وشيطانه أنّه ضرب مع المجتهدين بسهم صائب ، وما درى المحروم أنّه أتى بأقبح المعايب ؛ إذ خالف إجماعهم في مسائل كثيرة ، وتدارك على أئمتهم لا سيما الخلفاء الراشدين باعتراضات سخيفة ، شهيرة حتّى تجاوز إلى الجناب الأقدس ، المنزّه سبحانه عن كلّ نقص ، والمستحق لكل كمال أنفس ، فنسب إليه الكبائر والعظائم ، وخرق سياج عظمته بما أظهره للعامّة ، على المنابر من دعوى الجهة والتجسيم ، وتضليل من لم يعتقد ذلك من المتقدّمين والمتأخّرين ، حتّى قام عليه علماء عصره وألزموا السلطان بقتله أو حبسه وقهره ، فحبسه إلى أن مات ، وخمدت تلك البدع ، وزالت تلك الضلالات ، ثمّ انتصر له أتباع لم يرفع الله لهم رأساً ، ولم يظهر لهم جاهاً ، ولا بأساً ، بل ضربت

٢٥٥

عليهم الذلّة والمسكنة وباءُوا بغضب من الله بما عصوا وكانوا يعتدون (١).

ونقل حسن العدوي الحمزاوي عنه أيضاً ما هذه عبارته :

اعلم ـ وفّقني الله وإياك لطاعته وفهم خصوصيات نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمسارعة إلى مرضاته ـ : أنّ زيارته صلى‌الله‌عليه‌وآله مشروعة مطلوبة بالكتاب والسنّة وإجماع الأُمّة وبالقياس ـ إلى أن قال ـ : وأمّا الإجماع فقد حكاه الإمام السبكي قال : ولا عبرة بما تفرّد به ابن تيمية وتبعه بعض من تأخّر عنه من أهل مذهبه (٢).

٢٨ ـ قال الشيخ محمد الخطيب الشربيني (ت ٩٧٧ ه‍) : أمّا زيارتهصلى‌الله‌عليه‌وآله فمن أعظم القربات للرجال والنساء ، وألْحقَ الدمنهوري به قبور بقية الأنبياء والصالحين والشهداء وهو ظاهر (٣).

وقال في موضع آخر بعد بيان مندوبية زيارة قبره الشريف صلى‌الله‌عليه‌وآله وذكر جملة من أدلّتها : ليس المراد اختصاص أدب الزيارة بالحجّ ؛ فإنّها مندوبة مطلقاً بعد حجّ أو عمرة أو قبلهما أو لا مع نسك ، بل المراد تأكّد الزيارة فيها (٤).

٢٩ ـ قال الشيخ عبد الرحمن شيخ زاده (ت ٩٨٧ ه‍) : من أحسن المندوبات ، بل يقرب من درجة الواجبات زيارة قبر نبينا وسيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد حرّض عليه‌السلام على زيارته وبالغ في الندب إليها (٥).

٣٠ ـ قال الشيخ زين الدين عبد الرءوف المناوي (ت ١٠٣١ ه‍) : وزيارة قبرهصلى‌الله‌عليه‌وآله الشريف من كمالات الحج ، بل زيارته عند الصوفية فرض ، وعندهم

__________________

(١) الجوهر المنظّم في زيارة القبر المكرّم : ص ٢٢ ، طبع سنة ١٢٧٩ بمصر.

(٢) كنز المطالب : ص ١٧٩ و ١٨١ ، الطبعة الحجرية.

(٣) مغني المحتاج ١ : ٣٦ ، ط دار الفكر.

(٤) المصدر نفسه ١ : ٥١٢.

(٥) مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر ١ : ٣١٢ ، ط دار إحياء التراث العربي.

٢٥٦

الهجرة إلى قبره كهي إليه حيّاً (١).

وقال في موضع آخر : إنّ أثر الزيارة إمّا الموت على الإسلام مطلقاً لكلّ زائر ، وإمّا شفاعة تخصّ الزائر أخصّ من العامّة ، وقوله : شفاعتي في الإضافة إليه تشريف لها ، إذ الملائكة وخواص البشر يشفعون ؛ فللزائر نسبة خاصة فيشفع هو فيه بنفسه ، والشفاعة تعظّم بعظم الزائر (٢).

٣١ ـ قال الشيخ حسن بن عمار الشرنبلالي : زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من أفضل القربات وأحسن المستحبّات تقرب من درجة ما لزم من الواجبات ، فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله حرّض عليها وبالغ في الندب إليها. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من وجد سعة فلم يزرني فقد جفاني» وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من زار قبري وجبت له شفاعتي». وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من زارني بعد مماتي فكأنّما زارني في حياتي» إلى أن قال : وممّا هو مقرر عند المحقّقين أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله حيّ يُرزق ممتّع بجميع الملاذ والعبادات ، غير أنّه حجب عن أبصار القاصرين عن شرف المقامات (٣).

٣٢ ـ وقال قاضي القضاة شهاب الدين الخفاجي الحنفي المصري (ت ١٠٦٩ ه‍): واعلم أنّ هذا الحديث (شدّ الرِّحال إلى المساجد) هو الّذي دعا ابن تيمية ومن معه كابن قيّم إلى مقالته الشنيعة الّتي كفّروه بها ، وصنّف فيها السبكي مصنّفاً مستقلاً ، وهي منعه من زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو كما قيل :

لمهبط الوحي حقّاً ترحل النجُبُ

وعند ذاك المُرَجَّى ينتهي الطلبُ

فتوهم أنّه حمى جانب التوحيد بخرافات لا ينبغي ذكرها ؛ فإنّها لا تصدر عن

__________________

(١) شرح الجامع الصغير ٦ : ١٦٠.

(٢) شرح الجامع الصغير ٦ : ٩٣.

(٣) مراقي الفلاح في شرح متن نور الإيضاح : ٢٩٢ ـ ٢٩٣ ، ط مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح وأولاده ، مصر.

٢٥٧

عاقل فضلاً عن فاضل سامحه الله تعالى! (١)

٣٣ ـ قال الشيخ محمد بن علي بن محمد الحصني المعروف بعلاء الدين الحصكفي الحنفي المفتي بدمشق (ت ١٠٨٨ ه‍) : وزيارة قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله مندوبة بل قيل واجبة لمن له سعة(٢).

٣٤ ـ قال أبو عبد الله محمد بن عبد الباقي الزرقاني المالكي المصري (ت ١١٣٢ ه‍) : قد كانت زيارته مشهورة في زمن كبار الصحابة معروفة بينهم ، لمّا صالح عمر بن الخطاب أهل بيت المقدس جاءه كعب الأحبار فأسلم ففرح به وقال : هل لك أن تسير معي إلى المدينة وتزور قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله وتتمتّع بزيارته؟ قال : نعم (٣).

٣٥ ـ قال أبو الحسن السندي محمد بن عبد الهادي الحنفي (ت ١١٣٨ ه‍) : قال الدميري : فائدة زيارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من أفضل الطاعات وأعظم القربات لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من زار قبري وجبت له شفاعتي إلخ» (٤).

٣٦ ـ قال محمد بن عبد الوهاب : تسنّ زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا أنّه لا يشدّ الرحال إلّا لزيارة المسجد والصلاة فيه (٥).

٣٧ ـ قال الشيخ محمد بن علي الشوكاني (ت ١٢٥٠ ه‍) : قد اختلفت فيها (في زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أمّا أقوال أهل العلم ، فذهب الجمهور إلى أنّها مندوبة ، وذهب بعض المالكية وبعض الظاهرية إلى أنّها واجبة ، وقالت الحنفية : إنّها قريبة من الواجبات ، وذهب ابن تيمية الحنبلي حفيد المصنّف المعروف بشيخ الإسلام إلى أنّها

__________________

(١) شرح الشفاء ٣ : ٥٦٦ ، طبع المطبعة العثمانية ، سنة ١٣١٥.

(٢) الدر المختار في شرح تنوير الأبصار ، آخر كتاب الحج : ١٩٠ ، مطبعة الفتح الكريم ، سنة ١٣٠٢ ه‍.

(٣) شرح المواهب ٨ : ٢٩٩ ، الطبعة الأُولى بالمطبعة الأزهرية المصرية ، سنة ١٣٠٢ ه‍.

(٤) شرح سنن ابن ماجة ٢ : ٢٦٨ ، كما في الغدير ٥ : ١٢٠.

(٥) الهدية السنية ، الرسالة الثانية.

٢٥٨

غير مشروعة. ثمّ فصل الكلام في الأقوال ، إلى أن قال وفي آخر كلامه : احتجّ أيضاً من قال بالمشروعية بأنّه لم يزل دأب المسلمين القاصدين للحجّ في جميع الأزمان على تباين الديار واختلاف المذاهب ، الوصول إلى المدينة المشرّفة لقصد زيارته ، ويعدّون ذلك من أفضل الأعمال ، ولم ينقل أن أحداً أنكر ذلك عليهم فكان إجماعاً (١).

٣٨ ـ قال الشيخ محمد أمين بن عابدين (ت ١٢٥٣ ه‍) : زيارة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مندوبة بإجماع المسلمين إلى أن قال : وهل تستحب زيارة قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله للنساء؟ الصحيح نعم بلا كراهة ، بشروطها على ما صرّح به بعض العلماء ، وأمّا على الأصح من مذهبنا وهو قول الكرخي وغيره من أنّ الرخصة في زيارة القبور ثابتة للرجال والنساء جميعاً فلا إشكال ، وأمّا على غيره فذلك نقول بالاستحباب لإطلاق الأصحاب (٢).

٣٩ ـ قال الشيخ محمد بن السيد درويش الحوت البيروني (ت ١٢٧٦ ه‍) : زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مطلوبة ؛ لأنّه واسطة الخلق ، وزيارته بعد وفاته كالهجرة إليه في حياته ، ومن أنكرها ؛ فإن كان ذلك إنكاراً لها من أصلها فخطؤه عظيم ، وإن كان لما يعرض من الجهلة ممّا لا ينبغي فليبيّن ذلك (٣).

٤٠ ـ قال الشيخ إبراهيم الباجوري الشافعي (ت ١٢٧٧ ه‍) : وتسنّ زيارة قبرهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولو لغير حاجّ ومعتمر كالّذي قبله ، ويسنّ لمن قصد المدينة الشريفة لزيارته صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يكثر من الصلاة والسلام عليه في طريقه ، ويزيد في ذلك إذا رأى حرم المدينة وأشجارها ، ويسأل الله أن ينفعه بهذه الزيارة ويتقبّلها منه. ثمّ ذكر

__________________

(١) نيل الأوطار ٤ : ٣٢٤.

(٢) رد المحتار على الدر المختار ٥ : ٢٧٨.

(٣) التعليق على «حسن الأثر» : ٢٤٦ كما في الغدير ٥ : ١٢١.

٢٥٩

جملة كثيرة من آداب الزيارة وألفاظها (١).

٤١ ـ قال الشيخ حسن العدوي الحمزاوي الشافعي (ت ١٣٠٣ ه‍) ، بعد نقل جملة من الأحاديث الواردة في أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يسمع سلام زائريه ويردّ عليهم :

إذا علمت ذلك علمت أنّ ردّه صلى‌الله‌عليه‌وآله سلام الزائر عليه بنفسه الكريمة صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر واقع لا شكّ فيه ، وإنّما الخلاف في ردّه على المسلِّم عليه من غير الزائرين. فهذه فضيلة عظيمة ينالها الزائرون لقبره صلى‌الله‌عليه‌وآله فيجمع الله لهم بين سماع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأصواتهم من غير واسطة وبين ردّه عليهم سلامهم بنفسه ، فأنّى لمن سمع بهذين بل بأحدهما أن يتأخّر عن زيارتهصلى‌الله‌عليه‌وآله أو يتوانى عن المبادرة إلى المثول في حضرته صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ تالله ما يتأخّر عن ذلك مع القدرة عليه إلّا من حقّ عليه البعد من الخيرات ، والطرد عن مواسم أعظم القربات ، أعاذنا الله تعالى من ذلك بمنّه وكرمه آمين.

وعلم من تلك الأحاديث أيضاً أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله حيّ على الدوام ؛ إذ من المحال العادي أن يخلو الوجود كلّه من واحد يسلّم عليه في ليل أو نهار ، فنحن نؤمن ونصدق بأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله حيّ يرزق ، وأنّ جسده الشريف لا تأكله الأرض ، وكذا سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والإجماع على هذا (٢).

٤٢ ـ قال السيد محمد بن عبد الله الجرداني الدمياطي الشافعي (ت ١٣٥٧ ه‍) : زيارة قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله من أعظم الطاعات وأفضل القربات حتى أنّ بعضهم جرى على أنّها واجبة فينبغي أن يحرّض عليها ، وليحذر كلّ الحذر من التخلّف عنها مع القدرة وخصوصاً بعد حجّة الإسلام ؛ لأنّ حقّه صلى‌الله‌عليه‌وآله على أُمّته عظيم ، ولو أنّ أحدهم يجيء على رأسه أو بصره من أبعد موضع من الأرض لزيارته صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقم بالحقّ الّذي عليه لنبيّه جزاه الله عن المسلمين أتمّ الجزاء.

__________________

(١) حاشية على شرح ابن الغزي على متن الشيخ أبي شجاع في الفقه الشافعي ١ : ٣٤٧ كما في الغدير ٥ : ١٢٢.

(٢) كنز المطالب : ١٩٥ ، الطبعة الحجرية.

٢٦٠