في ظلال التّوحيد

الشيخ جعفر السبحاني

في ظلال التّوحيد

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: نشر مشعر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-6293-82-4

الصفحات: ٧١٢

المشكلة عن طريق الرجوع ، أو العقد في العدّة.

ثانياً : الاستدلال بالسنّة :

تعرّفت على قضاء الكتاب في المسألة ، وأمّا حكم السنّة ، فهي تعرب عن أنّ الرسول كان يعدّ مثل هذا الطلاق لعباً بالكتاب.

١ ـ أخرج النسائي عن محمود بن لبيد قال : أُخبر رسول الله عن رجل طلّق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً ، فقام غضبانَ ثمّ قال : «أيُلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم»؟ حتّى قام رجل وقال : يا رسول الله ألا أقتله؟ (١).

إنّ محمود بن لبيد صحابيّ صغير وله سماع ، روى أحمد باسناد صحيح عنه قال : أتانا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصلّى بنا المغرب في مسجدنا فلمّا سلّم منها ... (٢).

ولو سلمنا عدم سماعه كما يدّعيه ابن حجر في فتح الباري (٣) فهو صحابيّ ومراسيل الصحابة حجّة بلا كلام عند الفقهاء ، أخذاً بعدالتهم أجمعين.

٢ ـ روى ابن إسحاق عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : طلّق ركانة زوجته ثلاثاً في مجلس واحد فحزن عليها حزناً شديداً ، فسأله رسول الله : «كيف طلّقتها»؟ قال : طلقتها ثلاثاً في مجلس واحد. قال : إنّما تلك طلقة واحدة فارتجعها (٤).

والسائل هو ركانة بن عبد يزيد ، روى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن ابن

__________________

(١) النسائي ، السنن ٦ : ١٤٢ ؛ الدر المنثور ١ : ٢٨٣.

(٢) أحمد بن حنبل ، المسند ٥ : ٤٢٧.

(٣) فتح الباري ٩ : ٣١٥ ، ومع ذلك قال : رجاله ثقات ، وقال في كتابه الآخر بلوغ المرام : ص ٢٢٤ : رواته موثّقون ، ونقل الشوكاني في نيل الأوطار ٧ : ١١ عن ابن كثير أنّه قال : إسناده جيد ، انظر «نظام الطلاق في الإسلام» للقاضي أحمد محمد شاكر : ص ٣٧.

(٤) بداية المجتهد ٢ : ٦١. ورواه آخرون كابن قيم في إغاثة اللهفان : ١٥٦ ، والسيوطي في الدرّ المنثور ١ : ٢٧٩ وغيرهم.

٢٢١

عبّاس قال : طلّق ركانة بن عبد يزيد أخو بني مطلب امرأته ثلاثاً في مجلس واحد فحزن عليها حزناً شديداً قال : فسأله رسول الله : «كيف طلّقتها؟» قال : طلّقتها ثلاثاً. قال ، فقال : «في مجلس واحد؟» قال : نعم. قال : «فإنّما تلك واحدة فرجعها إن شئت». قال : فأرجعها. فكان ابن عباس يرى إنّما الطلاق عند كلّ طهر (١).

الاجتهاد مقابل النص

التحق النبيّ الأكرم بالرفيق الأعلى ، وقد حدث بين المسلمين اتّجاهان مختلفان ، وصراعان فكريّان ؛ فعليّ ومن تبعه من أئمّة أهل البيت ، كانوا يحاولون التعرّف على الحكم الشرعي من خلال النصّ الشرعي آية أو رواية ، ولا يعملون برأيهم أصلاً ، وفي مقابلهم لفيف من الصحابة يستخدمون رأيهم للتعرّف على الحكم الشرعي من خلال التعرّف على المصلحة ووضع الحكم وفق متطلّباتها.

إنّ استخدام الرأي فيما لا نصّ فيه ، ووضع الحكم وفق المصلحة أمر قابل للبحث والنقاش ، إنّما الكلام في استخدامه فيما فيه نصّ ، فالطائفة الثانية كانت تستخدم رأيها تجاه النص ، لا في خصوص ما لا نصّ فيه من كتاب أو سنّة بل حتّى فيما كان فيه نصّ ودلالة.

يقول أحمد أمين المصري : ظهر لي أنّ عمر بن الخطاب كان يستعمل الرأي في أوسع من المعنى الّذي ذكرناه ، وذلك أنّ ما ذكرناه هو استعمال الرأي حيث لا نصّ من كتاب ولا سنّة ، ولكنّا نرى الخليفة سار أبعد من ذلك ، فكان يجتهد في تعرّف المصلحة الّتي لأجلها نزلت الآية أو ورد الحديث ، ثمّ يسترشد بتلك المصلحة في

__________________

(١) أحمد بن حنبل ، المسند ١ : ٢٦٥.

٢٢٢

أحكامه ، وهو أقرب شيء إلى ما يعبّر عنه الآن بالاسترشاد بروح القانون لا بحرفيّته (١).

إنّ الاسترشاد بروح القانون الّذي أشار إليه أحمد أمين أمر ، ونبذ النصّ والعمل بالرأي أمر آخر ، ولكن الطائفة الثانية كانوا ينبذون النصّ ويعملون بالرأي ، وما روي عن الخليفة في هذه المسألة ، من هذا القبيل. وإن كنت في ريب من ذلك فنحن نتلو عليك ما وقفنا عليه :

١ ـ روى مسلم عن ابن عباس ، قال : كان الطلاق على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر : طلاق الثلاث واحدة ، فقال عمر بن الخطاب: إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم ، فأمضاه عليهم(٢).

٢ ـ وروي عن ابن طاوس عن أبيه : أنّ أبا الصهباء قال لابن عباس : أتعلم انّما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وثلاثاً من إمارة عمر؟ فقال : نعم (٣).

٣ ـ وروى أيضاً : أنّ أبا الصهباء قال لابن عباس : هات من هناتك ، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله وأبي بكر واحدة؟ قال : قد كان ذلك فلمّا كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم (٤).

٤ ـ روى البيهقي ، قال : كان أبو الصهباء كثير السؤال لابن عباس ، قال : أما علمت أنّ الرجل كان إذا طلّق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها ، جعلوها واحدة على عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبي بكر رضى الله عنه وصدراً من إمارة عمر رضى الله عنه فلمّا رأى الناس قد

__________________

(١) فجر الإسلام : ٢٣٨ ، نشر دار الكتاب.

(٢) و (٣) و (٤) مسلم ، الصحيح ٤ باب طلاق الثلاث ، الحديث ١ و ٢ و ٣. وهناتك يعني أخبارك وأُمورك المستغربة.

٢٢٣

تتابعوا فيها ، قال : أجيزوهنّ عليهم (١).

٥ ـ أخرج الطحاوي من طريق ابن عباس أنّه قال : لمّا كان زمن عمر رضى الله عنه قال : يا أيّها الناس قد كان لكم في الطلاق أناة ، وإنّه من تعجّل أناة الله في الطلاق ألزمناه إيّاه (٢).

٦ ـ عن طاوس قال : قال عمر بن الخطاب : قد كان لكم في الطلاق أناة فاستعجلتم أناتكم ، وقد أجزنا عليكم ما استعجلتم من ذلك (٣).

٧ ـ عن الحسن : أنّ عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى الأشعري : لقد هممت أن أجعل إذا طلّق الرجل امرأته ثلاثاً في مجلس أن أجعلها واحدة ، ولكنّ أقواماً جعلوا على أنفسهم ، فألزِم كلّ نفس ما ألزَمَ نفسه. من قال لامرأته : أنتِ عليَّ حرام ، فهي حرام ، ومن قال لامرأته : أنتِ بائنة ، فهي بائنة ، ومن قال : أنتِ طالق ثلاثاً ، فهي ثلاث (٤).

هذه النصوص تدلّ على أنّ عمل الخليفة لم يكن من الاجتهاد فيما لا نصّ فيه ، ولا أخذاً بروح القانون الذي يعبّر عنه بتنقيح المناط وإسراء الحكم الشرعي إلى المواضع التي تشارك المنصوص في المسألة ، كما إذا قال : الخمر حرام ، فيسري حكمه إلى كلّ مسكرٍ أخذاً بروح القانون ، وهو أنّ علّة التحريم هي الإسكار الموجودة في المنصوص وغير المنصوص ، وإنّما كان عمله من نوع ثالث وهو الاجتهاد تجاه النصّ ونبذ الدليل الشرعي ، والسير وراء رأيه وفكره وتشخيصه ، وقد ذكروا هنا تبريرات لحكم الخليفة إذ إنّه : لمّا كان الحكم الصادر عن الخليفة يخالف نصّ القرآن أو ظاهره ، حاول بعض المحقّقين تبرير عمل الخليفة ببعض

__________________

(١) البيهقي ، السنن ٧ : ٣٣٩ ؛ الدر المنثور ١ : ٢٧٩. والتتابع : الإكثار من الشر.

(٢) عمدة القاري ٩ : ٥٣٧ ، وقال : إسناده صحيح.

(٣) و (٤) كنز العمال ٩ : ٦٧٦ / ٢٧٩٤٣ و ٢٧٩٤٤.

٢٢٤

الوجوه حتّى يُبرِّر حكمه ويصحّحه ويخرجه عن مجال الاجتهاد مقابل النصّ ، بل يكون صادراً عن دليل شرعي ، ومن تلك الوجوه :

١ ـ نسخ الكتاب بالإجماع الكاشف عن النص :

إنّ الطلاق الوارد في الكتاب منسوخ ، فإن قلت : ما وجه هذا النسخ وعمر رضى الله عنه لا ينسخ ، وكيف يكون النسخ بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ قلت : لمّا خاطب عمر الصحابة بذلك فلم يقع إنكار ، صار إجماعاً ، والنسخ بالإجماع جوّزه بعض مشايخنا ، بطريق أنّ الإجماع موجب علم اليقين كالنص ، فيجوز أن يثبت النسخ به ، والإجماع في كونه حجّة أقوى من الخبر المشهور.

فإن قلت : هذا إجماع على النسخ من تلقاء أنفسهم فلا يجوز ذلك في حقهم.

قلت : يحتمل أن يكون ظهر لهم نص أوجب النسخ ولم ينقل إلينا (١).

يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ المسألة يوم أفتى بها الخليفة ، كانت ذات قولين بين نفس الصحابة ، فكيف انعقد الإجماع على قول واحد ، وقد عرفت الأقوال في صدر المسألة. ولأجل ذلك نرى البعض الآخر ينفي انعقاد الإجماع البتة ويقول : «وقد أجمع الصحابة إلى السنة الثانية من خلافة عمر على أنّ الثلاث بلفظٍ واحدٍ واحدة ، ولم ينقض هذا الإجماع بخلافه ، بل لا يزال في الأُمّة من يفتي به قرناً بعد قرن إلى يومنا هذا» (٢).

وثانياً : إنّ هذا البيان يخالف ما برّر به الخليفة عمله حيث قال : إنّ الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم. فأمضاه عليهم ، ولو كان هناك نصّ عند الخليفة ؛ لكان التبرير به هو المتعيّن.

__________________

(١) عمدة القاري ٩ : ٥٣٧.

(٢) تيسير الوصول ٣ : ١٦٢.

٢٢٥

وفي الختام نقول : أين ما ذكره صاحب العمدة ممّا ذكره الشيخ صالح بن محمد العمري (المتوفّى ١٢٩٨ ه‍) حيث قال : إنّ المعروف عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعند سائر العلماء المسلمين : أنّ حكم الحاكم المجتهد إذا خالف نصّ كتاب الله تعالى أو سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وجب نقضه ومنع نفوذه ، ولا يعارض نصّ الكتاب والسنّة بالاحتمالات العقليّة والخيالات النفسيّة ، والعصبيّة الشيطانية بأن يقال : لعلّ هذا المجتهد قد اطّلع على هذا النصّ وتركه لعلّة ظهرت له ، أو أنّه اطّلع على دليل آخر ، ونحو هذا ممّا لهج به فرق الفقهاء المتعصّبين ، وأطبق عليه جهلة المقلّدين (١).

٢ ـ تعزيرهم على ما تعدّوا به حدود الله :

لم يكن الهدف من تنفيذ الطلاق ثلاثاً في مجلس ، إلّا عقابهم من جنس عملهم ، وتعزيرهم على ما تعدّوا حدود الله ، فاستشار أُولي الرأي ، وأُولي الأمر وقال : إنّ الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم؟ فلمّا وافقوه على ما اعتزم أمضاه عليهم وقال : أيّها الناس قد كانت لكم في الطلاق أناة ، وأنّه من تعجّل أناة الله ألزمناه إيّاه(٢).

لم أجد نصّاً فيما فحصت في مشاورة عمر أُولي الرأي والأمر ، غير ما كتبه إلى أبي موسى الأشعري بقوله : «لقد هممت أن أجعل إذا طلّق الرجل امرأته ثلاثاً في مجلس أن أجعلها واحدة ...» (٣) وهو يخبر عن عزمه وهمّه ولا يستشيره ، ولو كانت هنا استشارة كان عليه أن يستشير الصحابة من المهاجرين والأنصار

__________________

(١) إيقاظ همم أُولي الأبصار : ص ٩.

(٢) أحمد بن حنبل ، المسند ١ : ٣١٤ / ح ٢٨٧٧ ، وقد مرّ تخريج الحديث أيضاً. لاحظ نظام الطلاق في الإسلام لأحمد محمد شاكر : ٧٩.

(٣) كنز العمال ٩ : ٦٧٦ / ٢٧٩٤٣.

٢٢٦

القاطنين في المدينة وعلى رأسهم عليّ بن أبي طالب ، وقد كان يستشيره في مواقف خطيرة ويقتفي رأيه.

ولا يكون استعجال الناس ، مبرّراً لمخالفة الكتاب والسنّة بل كان عليه ردع الناس عن عملهم السيّئ بقوّة ومنعة ، وكيف تصحّ مؤاخذتهم بما أسماه رسول الله لعباً بكتاب الله (١).

يقول ابن قيم : إنّ هذا القول قد دلّ عليه الكتاب والسنّة والقياس والإجماع القديم ، ولم يأت بعده إجماع يبطله ، ولكن رأى أمير المؤمنين عمر رضى الله عنه أنّ الناس قد استهانوا بأمر الطلاق وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة ، فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم ليعلموا أنّ أحدهم إذا أوقعه جملة بانت منه المرأة ، وحرمت عليه ، حتّى تنكح زوجاً غيره نكاح رغبة ؛ يراد للدوام ، لا نكاح تحليل ، فإذا علموا ذلك كفّوا عن الطلاق المحرِّم ، فرأى عمر أنّ هذا مصلحة لهم في زمانه ، ورأى أنّ ما كانوا عليه في عهد النبيّ وعهد الصدّيق ، وصدراً من خلافته كان الأليق بهم ؛ لأنّهم لم يتابعوا فيه وكانوا يتّقون الله في الطلاق ، وقد جعل الله لكلّ من اتّقاه مخرجاً ، فلمّا تركوا تقوى الله وتلاعبوا بكتاب الله وطلّقوا على غير ما شرّعه الله ألزمهم بما التزموه عقوبة لهم فإنّ الله شرّع الطلاق مرّة بعد مرّة ، ولم يشرّعه كلّه مرّة واحدة (٢).

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره من التبرير لعمل الخليفة غير صحيح ؛ إذ لو كانت المصالح المؤقتة مبرّرة لتغيّر الحكم ، فما معنى «حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة» ولو صحّ ما ذكره لتسرّب التغيّر إلى أركان الشريعة ، فيصبح الإسلام أُلعوبة بيد الساسة ؛ فيأتي سائس فيحرِّم الصوم على

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٢٨٣.

(٢) اعلام الموقعين ٣ : ٣٦.

٢٢٧

العمّال لتقوية القوّة العاملة في المعامل.

وفي الختام فقد تنبّه بعض علماء أهل السنّة في هذه العصور لما في تنفيذ هذا النوع من الطلاق ، ولأجل ذلك تغيّر قانون محاكم مصر الشرعيّة ، وخالفت مذهب الحنفية بعد استقلالها وتحرّرها عن سلطنة الدولة العثمانية.

وللأسف فإنّ كثيراً من مفتي أهل السنّة على تنفيذ هذا النوع من الطلاق ، ولأجل ذلك يقول مؤلّف المنار بعد البحث الضافي حول المسألة : «ليس المراد مجادلة المقلّدين أو إرجاع القضاة والمفتين عن مذاهبهم ؛ فإنّ أكثرهم يطّلع على هذه النصوص في كتب الحديث وغيرها ولا يبالي بها ؛ لأنّ العمل عندهم على أقوال كتبهم دون كتاب الله وسنّة رسوله» (١).

اللهمّ إنّا نسألك التوفيق لإحياء السُّنَن ، وإماتة البِدَع ، والعمل بكتابك وسنّة نبيّك سيد رُسُلك ، وأفضل خليقتك.

ونسألك الابتعاد عن أهل الزِّيَغ والبدع ، ومكافحة الرأي المخترَع ، والتمسّك بحبلك المتين ، ونبذ ما أُلصِق بدينك القويم.

وصلّى الله على رسول الله وعلى عترته الطاهرين وصحبه المنتجبين والسائرين على دربهم إلى يوم الدين.

__________________

(١) تفسير المنار ٢ : ٣٨٦ ـ ٣٨٧ ، ط الثالثة ١٣٧٦ ه‍.

٢٢٨

الفصل الثالث :

الزيارة

في الكتاب والسنّة

٢٢٩
٢٣٠

تمهيد :

الإسلام دين الفطرة

عند ما نقول إنّ الإسلام دين الفطرة فهذا لا يعني أنّ كل حكم جزئيّ منه يوافقها ، بل يعني أنّ الأُصول الكلّية في مجالي العقائد والشريعة ، تنسجم مع الفطرة وتوحي إليها بشكل واضح ، ولذلك كانت تعاليم الأنبياء ، وفي مقدَّمتهم الشريعة الإسلامية ، تثير مكنون الفطرة ، لذا فهم قبل أن يكونوا معلِّمين كانوا مذكِّرين بما أودع الله سبحانه في فطرة الإنسان من ميول نحوَ العبودية لله سبحانه ، والانشداد إلى ما وراء الطبيعة ، والجنوح إلى العدل ومكارم الأخلاق ، والنفور عن الظلم ومساوئ العادات. فكأنَّ الفطرة أوّلُ مدرسة يتعلّم فيها الإنسان أُصولَ المعارف ومكارمَ الأخلاق وآدابها ، من دون معلِّم ، وهذا لطف وامتنان منه سبحانه لعباده ويعدّ الحجرَ الأساس لسائر الهدايات الإلهية الواصلة إليهم عن طريق أنبيائه ورسله.

وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (١) فإنّ المراد من الدين في الآية مجموع العقيدة والشريعة ، كما فسّره به

__________________

(١) الروم : ٣٠.

٢٣١

مشاهير المفسّرين ، وكلمة (فِطْرَتَ اللهِ) الّتي نصبت على الاختصاص تفسير للدين ، فالدين ـ بتمام معنى الكلمة ـ يوافق فطرة الإنسان ، بالمعنى الّذي عرفت ، أي أنّ أُصوله وكلّياته تنسجم مع الفطرة وليست الآية وحيدة في بابها ، بل لها نظائر في الذكر الحكيم تؤكّد مضمونها ، وتثبت بوضوح كون معرفة المحاسن والمساوئ والفجور والتقوى والميل إلى الفضائل ، والانزجار عن الرذائل أمراً فطرياً إلى حدّ يقول سبحانه : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها* فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (١) وفي آية أُخرى : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ* وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ* وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (٢).

فالإنسان الطبيعي الّذي لم يتأثّر بالمناهج البشرية ، يدرك المحاسن والمساوئ ، والفجور والتقوى والخير والشرّ ، كرامة من الله سبحانه إليه.

ومن روائع الكلم ما روي عن الإمام عليّ عليه‌السلام حول تحديد دعوة الأنبياء وأنّ دورهم في مجال التربية تذكيرهم بمقتضيات الفطرة ، يقول عليه‌السلام :

«فبعثَ الله فيهم رُسُلَه ، وواتَرَ إليهم أنبياءه ؛ لِيستَأدوهم ميثاقَ فطرته ، ويُذكِّروهم منسيَّ نعمتِه ، ويحتجّوا عليهم بالتبليغ ، ويُثيروا لهم دفائنَ العقول» (٣).

فالشرائع السماوية كأنّها تستنطِق الفطرة ، وتُذكِّر بالنعمة المنسية بفعل الأهواء والدعايات الباطلة ، وقد أُمر حملتها بإثارة ما دفن في فطرة الإنسان من جواهر المعقولات في مجالي العقيدة والشريعة.

وعلى ذلك فالشريعة ـ وفقَ الفطرة ـ مصباح ينير الدرب لكلّ ساع في طلب الحقّ. وكلّ فكرة أو ميل ، توحي إليهما الفطرة فهو آية كونه حقّاً ، وكلّ فكرة أو

__________________

(١) الشمس : ٧ ـ ٨.

(٢) البلد : ٨ ـ ١٠.

(٣) نهج البلاغة : الخطبة ١.

٢٣٢

جنوح ، يناقض الفطرة وترفضهما فهو آية كونه باطلاً. ولأجل ذلك تخلّينا عن الرهبانية والتعزّب ووأْد البنات ؛ لأنّها تخالف مقتضى الفطرة.

إنّ البحث في كون الشريعة الإلهية شريعة فطرية ، يتطلّب مجالاً واسعاً لما يترتّب على البحث من نتائج مشرقة تعين على حلّ مشاكل أثارها خصوم الإسلام في مجال خاتمية الشريعة الإسلامية ، حيث إنّهم يرفضون كون الدين ديناً خاتماً ، بزعمهم أنّ الحياة الإنسانية حياة متغيّرة ومتحوّلة فكيف يمكن تدبير المجتمع المتغيّر ، بقوانين ثابتة جامدة؟

ولكنّهم لعدم معرفتهم بحقيقة الشريعة الإسلامية ، غفلوا عن أمر هامّ ، وهو أنّ المتغيّر في الحياة الإنسانية هو القشر ، لا اللبّ ، وإلّا فالإنسان بما له من غرائز وميول عُلوية وسفلية لم ولن يتغيّر ، وبهذه الميزة والخصوصية هو محكوم بالقوانين الثابتة.

فالإنسان القديم كان يُحبُّ العدلَ وينفر من الظلم ويميل إلى الزواج والحياة الاجتماعية وهكذا الإنسان في العصر الحاضر ، إذن فالقانون في حقّهما سواء وإن تغيّرت أجواء الحياة وقشورها ولباسها وظواهرها.

الصلة بين الأحياء والأموات

إنّ زيارة الإنسان لقبر حبيبه ومن كانت له به صلة روحية أو مادّية ، هي ممّا تشتاق إليه النفوس السليمة ؛ فكلّ من يعيش تحت السماء باسم الإنسان السويّ اذا فارقَ أحبّته وأقرباءه ، لا يقطع علاقته بمن شغف قلبه حبّاً ، بل هو على حبّه باق ، ويريد أن يُجسِّد محبَّته وشوقه بصور مختلفة ، فهو تارةً يأوي إلى آثار حبيبه ورسوم داره وأطلاله ، فيحتفظ بألبسته وأثاثه وقلمه وخطوطه ، ولا

٢٣٣

يكتفي بذلك بل يحاول أن يزور قبره وتربته حيناً بعد حين. كلّ ذلك بباعث ذاتي من صميم خلقته ، فلا يصحّ لدين أُسُّه الفطرة أن يخالفه أو يمنعه من وصل أحبّائه وتعاهدهم.

لكن للإسلام أن يحدّدها ويذكر آدابها ويمنع عن بعض الأُمور غير الدخيلة في صميمها ، لكن ليس في وسعه ـ بما أنّه منادٍ لدين الفطرة ـ أن يقوم بقطع العلائق مع الأحبّة بتاتاً.

وعلى ضوء ذلك ترى أنّ السنّة حثّت على زيارة القبور وذكرت آثارها البنّاءة ، ولو منعت في فترة خاصّة ـ لو صحّ المنع ـ فإنّما هو لمانع عن تطبيق الحكم وتنفيذه كما سيظهر لك.

هذا هو أصل الزيارة ، وقضاء الفطرة على وفقه. مضافاً إلى ذلك فلها آثار تربويّة وهي ما يلي :

الآثار التربوية لزيارة القبور

إنّ زيارة القبور تنطوي على آثار تربوية وأخلاقية ، وذلك لأنّ مشاهدة المقابر التي تضمُّ في طياتها مجموعة كبيرة من الذين عاشوا في هذه الحياة الدنيا ، وكانوا بمكان عال من القدرة والسلطة ، ثمّ انتقلوا إلى الآخرة ، تؤدّي إلى الحدّ من روحِ الطمع ، والحرص على الدنيا ، وربّما تُغيّر سلوك الإنسان لما يرى أنّ المنزل الأخير لحياته إنّما هو بيت ضيّق ومظلم باق فيه إلى ما شاء الله ، فعند ذلك ربما يترك المظالم والمنكرات ويتوجّه إلى القيم والأخلاق.

وإلى هذا الجانب من الأثر التربوي يشير النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ويقول :

«كنتُ نهيتكم عن زيارة القبور ، ألا فزوروها ؛ فإنّها ترقُّ القلوب ، وتدمعُ

٢٣٤

العين وتذكِّر الآخرة ، ولا تقولوا هجراً» (١).

وفي لفظ آخر : «كنتُ نهيتكم عن زيارة القبور ؛ فزوروا القبور ؛ فإنّها تزهّد في الدنيا» (٢). وفي لفظ ثالث : «وتُذكّر الآخرة» (٣).

وعن أبي هريرة أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله زار قبر أُمّه ولم يستغفر لها ، قال : «أُمرتُ بالزيارة ونُهيت عن الاستغفار ، فزوروا القبور ؛ فإنّها تذكّر الموت» (٤).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «زوروا القبور ؛ فإنّها تذكّركم الآخرة» (٥).

ويظهر من بعض الروايات أنّ النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى يوماً عن زيارة القبور ثمّ رخّصها ، وكان النهي والترخيص من الله سبحانه.

ولعلّ النهي كان بملاك أنّ أكثر الأموات يومذاك كانوا من المشركين ، فنهى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عن زيارتهم ، ولمّا كثر المؤمنون بينهم رخّص بإذن الله.

ولعلّ هناك ملاكاً آخر للنهي وهو أنّ زيارة القبور تُذكّر بالموتى والقتلى ، وتورث الجبن عن الجهاد ، وإذ قوي الإسلام رخّص في الزيارة (٦).

وعن أُمّ سلمة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «نَهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروها ؛ فإنّ لكم فيها عِبرة»(٧).

__________________

(١) كنز العمال : ج ١٥ ، ح ٤٢٥٥٥ و ٤٢٩٩٨.

(٢) كنز العمال ١٥ : ح ٤٢٥٥٢.

(٣) ابن ماجة ، السنن ١ : ٥٠١ / ١٥٧١.

(٤) مسلم ، الصحيح ٢ : ٦٧١ / ١٠٨ ؛ أحمد بن حنبل ، المسند ١ : ٤٤٤ ؛ ابن ماجة ، السنن ١ : ٦٧٦ ؛ أبو داود ، السنن ٢ : ٧٢ ؛ البيهقي ، السنن ٤ : ٧٦ ؛ النسائي ، السنن ٤ : ٩٠ ؛ الحاكم ، المستدرك ١ : ٣٧٦.

(٥) ابن ماجة ، السنن ١ : ٥٠٠ / ١٥٦٩.

(٦) منهج الرشاد : ص ١٤٤.

(٧) كنز العمال ١٥ : ٦٤٧ / ٤٢٥٥٨.

٢٣٥

الآثار الاجتماعية لزيارة أكابر الدين

قد تعرّفت على الآثار التربوية لزيارة قبور المسلمين ، وهنا آثار تختصّ بزيارة أكابر المسلمين ورؤسائهم ، وفي طليعتهم زيارة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وهي : أنّ في زيارتهم نوعاً من الشكر والتقدير على تضحياتهم ، وإعلاماً للجيل الحاضر بأنّ هذا هو جزاء الَّذين يسلكون طريقَ الحقّ والهدى والدفاع عن المبدأ والعقيدة.

ولأجل هذا الأثر الممتاز لزيارة صُلحاء الأُمّة ، نجد أنّ الأُمم الحيّة تتسابق على زيارة مدفن رؤسائهم وشخصيّاتهم ، الّذين ضحّوا بأنفسهم وأموالهم في سبيل إحياء الشعب واستقلاله من أيدي المستعمرين والظالمين ، ويقيمون الذكريات المئوية لإحياء معالمهم ، ويعدّونه تعظيماً وتكريماً لأهدافهم.

وهذا هو العالم بغربه وشرقه ، فيه قبور وأضرحة لشخصيّاته وعظمائه وصلحائه من غير فرق بين دينيّ ودنيويّ ؛ لأنّ الإنسان يرى زيارتهم تكريماً لهم ، وتأدية لحقوقهم ، ووفاءً لعهدهم ، فكلّ ما يقوم به فهو بوحي الفطرة ودعوتها إلى ذلك.

إنّ القبور الّتي تحظى باهتمام واحترام المؤمنين بالله في العالم ـ وخاصّة المسلمين ـ هي في الغالب قبور حملة الرسالات الإصلاحيّين الذين أدّوا مهمّتهم على الوجه المطلوب.

وهؤلاء ينقسمون إلى ثلاثة أقسام :

١ ـ الأنبياء والقادة الدينيّون الّذين حملوا على عاتقهم رسالة السماء وضحَّوا ـ من أجلها ـ بالنفس والمال والأحباب ، وتحمّلوا أنواع المتاعب والمصاعب من أجل هداية الناس.

٢٣٦

٢ ـ العلماء والمفكّرون الّذين كانوا كالشّمعة تُحرقُ نفسها لتضيء للآخرين ، وقد عاش هؤلاء حياة الزهد والحرمان ، وقدّموا للعالم ، البحوثَ القيّمة والتحقيقات الرائعة في مجالات العلم والفكر والطبيعة ومفاهيم السماء وعلوم الكون والمخلوقات وغير ذلك.

٣ ـ المجاهدون الثائرون الّذين ضاقوا ذرعاً بما يعيشه المجتمع من الظلم وسحق الحقوق والتمييز العنصري أو القومي ، فثاروا ضدّ الظلم والطغيان وطالبوا بحفظ كرامة الإنسان وأداء حقوقه ، وأقاموا صرح العدالة بدمائهم الغالية.

إنّ أيّة ثورة أو تغيير اجتماعي لا يُقدَّر له النجاحُ إلّا بدفع الثمن ، وإنّ ثمن الثورة التي تستهدف تدمير قصور الظالمين ، وخنق أنفاسهم هو الدماء الزكية التي يُضحّي بها المقاتلون الأبطال لإعادة الحقّ والحرّية إلى الوطن الإسلامي.

ولذا فإنّ الناس يزورون قبور هؤلاء ويذرفون عندها الدموع ، ويتذكّرون بطولاتهم وتضحياتهم ، ويُسعدون أرواحهم بتلاوة آيات من القرآن الحكيم هديّة إليهم ، وينشدون قصائد في مدحهم وثنائهم وتقدير مواقفهم المشرّفة.

إنّ زيارة مراقد هذه الشخصيات هي نوع من الشكر والتقدير على تضحياتهم ، وإعلام للجيل الحاضر بأنّ هذا هو جزاء الّذين يسلكون طريقَ الحقّ والهدى والفضيلة والدفاع عن المبدأ والعقيدة.

إنّ جزاءهم هو خلود الذكر الحسن والثناء الجميل ، بالرغم من مرور الزمان على وفاتهم ، وتعريفُ الناس بتلك الشخصيات الراقية وبمعتقداتهم الّتي ضحّوا من أجلها ، واحترام مراقدهم وتجنّب كلّ ما يمسّ بكرامتها ؛ لأنّ احترام قبورهم احترام لرسالاتهم وعقائدهم ، كما أنّ أيّ نوع من الإهانة والتحقير تجاه مراقدهم هو في الحقيقة إهانة لرسالاتهم وتحقير لشخصيّتهم.

ثمّ إنّ لبعض أهل المعرفة تحليلاً علمياً رائعاً في زيارة النبي الأكرم نذكره

٢٣٧

بنصّه قال :

اعلم أنّ النفوس القوية القدسية ، لا سيّما نفوس الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام ، إذا نفضوا أبدانهم الشريفة وتجرّدوا عنها ، وصعدوا إلى عالم التجرّد ، وكانوا في غاية الإحاطة والاستيلاء على هذا العالم يكون العالم عندهم ظاهراً منكشفاً ، فكلّ من يحضر مقابرهم لزيارتهم يطّلعون عليه ، لا سيّما ومقابرهم مشاهدُ أرواحهم المقدّسة العليّة ، ومحالّ حضور أشباحهم البرزخيّة النورية ؛ فإنّهم هناك يشهدون (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (١) ، وبما آتاهم الله من فضله فرحون ، فلهم تمامُ العلم والاطّلاع بزائري قبورهم ، وحاضري مراقدهم وما يصدر عنهم من السؤال والتوسّل والاستشفاع والتضرّع ، فتهبّ عليهم نسماتُ ألطافهم ، وتفيض عليهم من رشحات أنوارهم ، ويشفعون إلى الله في قضاء حوائجهم ، وإنجاح مقاصدهم ، وغفران ذنوبهم وكشف كروبهم.

فهذا هو السرّ في تأكّد استحباب زيارة النبيّ والأئمة عليهم‌السلام مع ما فيه من صلة لهم ، وبرّهم وإجابتهم ، وإدخال السرور عليهم ، وتجدّد عهد ولايتهم ، وإحياء أمرهم ، وإعلاء كلمتهم ، وتبكيت أعدائهم. وكلّ واحد من هذه الأُمور ممّا لا يخفى عظيمُ أجرِهِ وجزيل ثوابه.

وكيف لا تكون زيارتُهم أقربَ القربات ، وأشرفَ الطاعات ، وأنّ في زيارة المؤمن ـ من جهة كونه مؤمناً فحسب ـ عظيم الأجر وجزيل الثواب ، وقد ورد به الحثّ والتوكيد والترغيب الشديد من الشريعة الطاهرة ، ولذلك كثر تردّد الأحياء إلى قبور أمواتهم للزيارة ، وتعارف ذلك بينهم ، حتّى صارت لهم سنّة طبيعية.

وأيضاً قد ثبت وتقرّر جلالة قدر المؤمن عند الله ، وثوابُ صلته وبرّه وإدخال السرور عليه ، وإذا كان الحال في المؤمن من حيث إنّه مؤمن ، فما ظنّك بمن

__________________

(١) آل عمران : ١٦٩.

٢٣٨

عصمه الله من الخطأ ، وطهّره من الرجس ، وبعثه الله إلى الخلائق أجمعين ، وجعله حجّة على العالمين ، وارتضاه إماماً للمؤمنين ، وقدوة للمسلمين ، ولأجله خلق السماوات والأرضين ، وجعله صراطه وسبيلَه ، وعينه ودليله ، وبابه الّذي يُؤتى منه ، ونورَه الّذي يستضاء به ، وأمينَه على بلاده ، وحبله المتّصل بينه وبين عباده ، من رسل وأنبياء وأئمة وأولياء (١).

وفي الختام نقول : ليس الهدف من هذا التقديم تصويبَ بعض ما يقع عند الزيارة من محرّمات الأفعال ؛ فإنّها أُمور جانبيّة لا تمتّ لأصل الزيارة بصلة ، والّذي ندّعيه ـ وعليه يشهد عمل العقلاء في العالم ديّنهم وغيره ـ أنّ للإنسان علاقة بمن كان يعشقه ويحبّه ، فلا يقطع علاقته به بموته بل يحتفظ بها بشكل خاص بعد الفراق أيضاً ، وهذا شيء يلمسه الإنسان من صميم ذاته ، وليس لشريعة سماوية بما أنّها تجاوب الفطرة تمنعه من ذلك ، بل لها أن تعدله وتحدّده وتعزل عنه ما ليس منه.

وها نحن نعالج الموضوع بالبحث في الأُمور التالية :

١ ـ زيارة القبور في الكتاب والسنّة النبوية.

٢ ـ أعلام الأُمّة وزيارة النبي الأكرم.

٣ ـ زيارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في الكتاب.

٤ ـ زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في السنّة.

٥ ـ شدّ الرحال إلى زيارة قبر النبيّ الأعظم.

٦ ـ شبهات وتشكيكات حول زيارة النبيّ الأكرم.

٧ ـ خاتمة : تذكرة وإنذار.

__________________

(١) جامع السعادات ٣ : ٣٩٨ و ٣٩٩.

٢٣٩

المبحث الأوّل

زيارة القبور في الكتاب والسنّة

قد عرفت أنّ زيارة الإنسان لمن له به صلة روحية أو مادّية ، ممّا تشتاق إليه النفوس السليمة ، بل هي من وحي الفطرة ، ولأجل ذلك نرى أنّ الكتابَ والسنّة يدعمان أصلَ الزيارة بوجه خاص.

زيارة القبور في القرآن الكريم

أمّا الكتاب فقوله سبحانه : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) (١).

إنّ الآية تسعى لهدم شخصية المنافق ، ورفع العصا في وجوه حزبه ونظرائه. والنهي عن هذين الأمرين بالنسبة إلى المنافق ، معناه ومفهومه مطلوبية هذين الأمرين (الصلاة والقيام على القبر) بالنسبة لغيره أي للمؤمن.

والآن يجب أن ننظر في قوله تعالى : (وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) ما معناه؟

__________________

(١) التوبة : ٨٤.

٢٤٠