في ظلال التّوحيد

الشيخ جعفر السبحاني

في ظلال التّوحيد

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: نشر مشعر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-6293-82-4

الصفحات: ٧١٢

أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (١) وفي موضع آخر من الكتاب يعدّ سبحانه التوحيد في العبادة : الأصل المشترك بين جميع الشرائع السماوية ، إذ يقول : قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) (٢) ، ومعه كيف يأمر بسجود الملائكة لآدم الذي هو من مصاديق الخضوع النهائي؟ وهذا الإشكال لا يندفع إلّا بنفي كون الخضوع عبادة ، ببيان أنّ للعبادة مقوّماً لم يكن موجوداً في سجود الملائكة لآدم.

ولم يكن آدم فحسب هو المسجود له بأمره سبحانه ، بل يوسف الصدّيق كان نظيره ؛ فقد سجد له أبواه وإخوته ، وتحقّق تأويل رؤياه بنفس ذلك العمل ، قال سبحانه حاكياً عن لسان يوسف عليه‌السلام : (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (٣).

كما يحكي تحقّقه بقوله سبحانه : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) (٤) ومعه كيف يصحّ تفسير العبادة بالخضوع أو نهايته؟

إنّه سبحانه أمر جميع المسلمين بالطواف بالبيت الذي ليس هو إلّا حجراً وطيناً ، كما أمر بالسعي بين الصفا والمروة ، قال سبحانه : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (٥) وقال سبحانه : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما)(١).

__________________

(١) الأنبياء : ٢٥.

(٢) آل عمران : ٦٤.

(٣) يوسف : ٤.

(٤) يوسف : ١٠٠.

(٥) الحج : ٢٩.

(٦) البقرة : ١٥٨.

٢١

فهل ترى أنّ الطواف حول التراب والجبال والحجر عبادة لهذه الأشياء بحجّة أنّه خضوع لها؟!

إنّ شعار المسلم الواقعي هو التذلّل للمؤمن والتعزّز على الكافر ، قال سبحانه : (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) (٢).

فمجموع هذه الآيات وجميع مناسك الحج يدلّان بوضوح على أنّ مطلق الخضوع والتذلّل ليس عبادة. ولو فسّرها أئمة اللغة بالخضوع والتذلّل ، فقد فسّروها بالمعنى الأوسع ، فلا محيص حينئذٍ عن القول بأنّ العبادة ليست إلّا نوعاً خاصاً من الخضوع. ولو سُمّي في بعض الموارد مطلق الخضوع عبادة ، فإنّما سُمّي من باب المبالغة والمجاز ، يقول سبحانه : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) (٣) فكما أنّ إطلاق اسم الإله على الهوى مجاز فكذا تسمية متابعة الهوى عبادة له ، ضرب من المجاز.

ومن ذلك يعلم مفاد قوله سبحانه : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٤).

فإنّ مَنْ يتَّبِع قولَ الشَّيطان فيتساهل في الصلاة والصيام ، ويترك الفرائض أو يشرب الخمر ويرتكب الزنا ، فإنّه بعمله هذا يقترف المعاصي ؛ لا أنّه يعبده كعبادة الله ، أو كعبادة المشركين للأصنام ، ولأجل ذلك لا يكون مشركاً محكوماً عليه بأحكام الشرك ، وخارجاً عن عداد المسلمين ، مع أنّه من عبدة الشيطان لكن بالمعنى الوسيع الأعمّ من الحقيقي والمجازيّ.

__________________

(١) المائدة : ٥٤.

(٢) الفرقان : ٤٣.

(٣) يس : ٦٠ ـ ٦١.

٢٢

وربما يتوسّع في إطلاق العبادة فتطلق على مطلق الإصغاء لكلام الغير ، وفي الحديث: «من أصغى إلى ناطق فقد عبده ، فإن كان الناطق يؤدّي عن الله عزوجل فقد عبد الله ، وإن كان الناطق يؤدّي عن الشيطان فقد عبد الشيطان» (١).

توجيه غير سديد

إنّ بعض من يفسّر العبادة بالخضوع والتذلّل عند ما يقف أمام هذه الدلائل الوافرة ، يحاول أن يجيب ويقول : إنّ سجود الملائكة لآدم أو سجود يعقوب وأبنائه ليوسف ، لم يكن عبادة له ولا ليوسف ؛ لأنّ ذلك كان بأمر الله سبحانه ولو لا أمره لانقلب عملهم عبادة لهما.

وهذا التوجيه بمعزِل عن التحقيق ؛ لأنّ معنى ذلك أنّ أمر الله يُغيّر الموضوع ، ويبدل واقعه إلى غير ما كان عليه ، مع أنّ الحكم لا يغيِّر الموضوع.

فلو نفترض أنّه سبحانه أمر بسبِّ المشرك والمنافق فأمره سبحانه لا يخرج السبَّ عن كونه سباً ، فلو كان مطلقُ الخضوع المتجلّي في صورة السجود لآدم أو ليوسف عبادة ، لكان معنى ذلك أنّه سبحانه أمر بعبادة غيره ، مع أنّها فحشاء بتصريح الذكر الحكيم لا يأمر بها سبحانه ، قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(٢).

وهناك تعاريف للعبادة لجملة من المحقّقين نأتي بها واحداً بعد الآخر :

١ ـ نظرية صاحب المنار في تفسير العبادة

إنّ صاحب المنار لمّا وقف على بعض ما ذكرناه حاولَ أن يُفسّر العبادة بشكل يبعده عن بعض ما ذكرنا ، لذلك أخذ في التعريف قيوداً ثلاثة :

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤٣٤.

(٢) الأعراف : ٢٨.

٢٣

أ ـ العبادة ضرب من الخضوع بالِغٌ حدَّ النهاية.

ب ـ ناشئ عن استشعار القلب عظمة المعبود ، لا يعرف منشأها.

ج ـ واعتقاده بسلطة لا يُدرَك كنهها وماهيّتها (١).

يلاحظ على هذا التعريف :

أوّلاً : أنّ التعريف غير جامع ، وذلك لأنّه إذا كان مقوّم العبادة ، الخضوعَ البالغَ حدّ النهاية فلا يشمل العبادة الفاقدة للخشوع والخضوع التي يؤدّيها أكثر المتساهلين في أمر الصلاة ، وربما يكون خضوع الجندي لقائده أشدّ من هؤلاء المتساهلين الذين يتصوّرون الصلاة عبادة وجهداً.

وثانياً : ما ذا يريد من قوله : «عن استشعار القلب عظمة المعبود لا يعرف منشأها»؟ فهل يعتقد أنّ الأنبياء كانوا يستشعرون عظمة المعبود ولكن لا يعرفون منشأها. مع أنّ غيرهم يستشعر عظمة المعبود ويعرف منشأها ، وهو أنّه سبحانه : الخالق البارئ ، المصوّر ، أو أنّه سبحانه هو الملك القدّوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ، المتكبّر.

وثالثاً : ما ذا يريد من قوله : «واعتقاده بسلطة لا يدرك كنهها وماهيتها»؟.

فإن أراد شرطية هذا الاعتقاد في تحقّق العبادة ، فلازم ذلك عدم صدقها على عبادة الأصنام والأوثان ، فإنّ عُبّاد الأوثان يعبدونها وكانوا يعتقدون بكونهم شفعاء عند الله سبحانه فقط لا أنّ لهم سلطة لا يدرك كنهُها وماهيّتُها.

٢ ـ نظرية الشيخ شلتوت ، زعيم الأزهر

وقد عرّف شيخ الأزهر الأسبق العبادة بنفس ما عرّفها صاحب المنار ، ولكنّه يختلف عنه لفظاً ويتّحد معه معنىً ، فقال : العبادة خضوع لا يحدُّ ، لعظمة لا تحد (٢).

__________________

(١) تفسير المنار ١ : ٥٧.

(٢) تفسير القرآن الكريم : ٣٧.

٢٤

وهذا التعريف يشترك مع سابقه نقداً وإشكالاً ، وذلك أنّ العبادة ليست منحصرة في خضوع لا يحدّ بل الخضوع المحدّد أيضاً ربّما يعدّ عبادة ، كما إذا كان الخضوع بأقلّ مراتبه. وكذلك لا يشترط كون الخضوع لعظمة لا تحدّ ؛ إذ ربّما تكون عظمة المعبود محدودة في زعم العابد كما هو الحال في عبادة الأصنام ، الذي كان الدافع إلى عبادتها كونها شفعاء عند الله.

٣ ـ تعريف ابن تيمية

وأكثر التعاريف عرضة للإشكال هو تعريف ابن تيمية إذ قال :

«العبادة اسم جامع لكلّ ما يحبّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنية والظاهرية كالصلاة والزكاة والصيام ، والحجّ ، وصدق الحديث وأداء الأمانة ، وبرّ الوالدين وصلة الأرحام» (١).

وهذا الكاتب لم يفرّق ـ في الحقيقة ـ بين العبادة والتقرّب ، وتصوّر أنّ كلّ عمل يوجب القربى إلى الله ، فهو عبادة له تعالى أيضاً ، في حين أنّ الأمر ليس كذلك ، فهناك أُمور توجب رضا الله ، وتستوجب ثوابَه لكنها قد تكون عبادة كالصوم والصلاة والحجّ ، وقد تكون موجبة للقرب إليه دون أن تعدّ عبادة ، كالإحسان إلى الوالدين ، وإعطاء الزكاة ، والخمس ، فكلّ هذه الأُمور (الأخيرة) توجب القربى إلى الله في حين لا تكون عبادة. وإن سمّيت في مصطلح أهل الحديث عبادة ، فيراد منها كونها نظير العبادة في ترتّب الثواب عليها.

وبعبارة أُخرى : أنّ الإتيان بهذه الأعمال يعدّ طاعة لله ولكن ليس طاعة عبادة.

وإن شئت قلت : إنّ هناك أُموراً عباديّة ، وأُموراً قربيّة ، وكلّ عبادة

__________________

(١) مجلة البحوث الإسلامية ، العدد ٢ : ١٨٧ ، نقلا عن كتاب العبودية : ٣٨.

٢٥

مقرِّبة ، وليس كلّ مقرِّب عبادة ، فدعوة الفقير إلى الطعام ، والعطف على اليتيم ـ مثلاً ـ توجب القرب ، ولكنّها ليست عبادة بمعنى أن يكون الآتي بها عابداً بعمله لله تعالى.

وإذا وقفت على قصور هذه التعاريف هنا نذكر في المقام تعريفين ، كلّ يلازم الآخر.

التعريف الأوّل :

العبادة هي الخضوع للشيء بما أنّه إله

إنّ لفظ العبادة من المفاهيم الواضحة ، وربّما يكون ظهور معناها الواضح مانعاً عن التحديد الدقيق لها ، غير أنّه يمكن تحديدها من خلال الإمعان في الموارد التي تستعمل فيها تلك اللفظة ، فقد استعملها القرآن في مورد الموحّدين والمشركين ، وقال سبحانه في الدعوة إلى عبادة نفسه : (وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) (١) وقال سبحانه : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) (٢).

وقال في النهي عن عبادة غيره : (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) (٣) وقال : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) (٤) ، فعلى الباحث أن يقتنصَ معنى العبادة بالدقّة في أفعال العباد ، وعقائدهم من غير فرق بين عبادة الموحّدين وعبادة المشركين فيجعله حدّاً منطقياً للعبادة.

إنّ الإمعان في ذلك المجال يدفعنا إلى القول بأنّ العبادة عندهم عبارة عن الفعل

__________________

(١) يونس : ١٠٤.

(٢) الزمر : ١١.

(٣) العنكبوت : ١٧.

(٤) الصافّات : ٩٥.

٢٦

الدالّ على الخضوع المقترن مع عقيدة خاصّة في حقّ المخضوع له ، فالعنصر المقوّم للعبادة حينئذٍ أمران :

١ ـ الفعل المنبئ عن الخضوع والتذلّل.

٢ ـ العقيدة الخاصّة التي تدفعه إلى عبادة المخضوع له.

أمّا الفعل ، فلا يتجاوز عن قول أو عمل دالّ على الخضوع والتذلّل بأيّ مرتبة من مراتبها ، كالتكلّم بكلام يؤدّي إلى الخضوع له أو بعمل خارجي كالركوع والسجود بل الانحناء بالرأس ، أو غير ذلك مما يدلّ على ذلّته وخضوعه أمام موجود.

وأمّا العقيدة التي تدفعه إلى الخضوع والتذلّل فهي عبارة عن :

١ ـ الاعتقاد بألوهيته.

٢ ـ الاعتقاد بربوبيته.

أمّا الأوّل فالألوهية منسوبة إلى الله ، وهو ليس بمعنى المعبود ـ وإن اشتهر في الألسن ـ بل كونه معبوداً من لوازم كونه إلها لا أنّه نفس معناه ، بل الاله ـ كما يشهد عليه الذكر الحكيم ـ مرادف ، للفظ الجلالة ويختلف معه في الكلّية والجزئية ، فالإله كلّي ولفظ الجلالة علم جزئي.

وتوضيح ذلك أنّ الموحّدين عامة والوثنيّين كلّهم ، وعبدة الشمس والكواكب يعتقدون بألوهية معبوداتهم ؛ إمّا لكون المعبود إلهاً كبيراً أو إلهاً صغيراً ، إمّا إلهاً صادقاً أو إلهاً كاذباً ، فالاعتقاد بألوهية المعبود بهذا المعنى هو المقوّم لصدق العبادة.

ولأجل أنّه لا يستحق العبادة إلّا من كان إلهاً لذلك يؤكّد القرآنَ بأنّه لا إله إلّا الله ومع ذلك فكيف تعبدون غيره؟

يقول سبحانه : (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (١).

__________________

(١) الحجر : ٩٦.

٢٧

(وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) (١).

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّا) (٢).

(أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى) (٣).

وحاصل الآيات أنّ غيره سبحانه لا يستحقّ العبادة ؛ لأنّها من شئون الألوهيّة ، وهي من خصائص الله سبحانه لا غير ، فيتحصّل من ذلك أنّ العبادة عبارة عن الخضوع أمام موجود للاعتقاد بأنّه إله حقيقيّ أو مجازيّ ، ولو لا ذلك الاعتقاد لا يوصف الخضوع بالعبادة ، والشاهد عليه أنّ العاشق الولهان إذا خضع لمعشوقته ، خضوعاً بالغاً لا يعدّ عبادة لها ؛ لأنّه لم يصدر عن الاعتقاد بألوهيتها وأنّها إله ، وإنّما صدر عن اعتقاد بأنّها جميلة تجذب الإنسان بنفسيّتها وجمالها.

ويدلّ على ما ذكرنا من أنّ دعوة المشركين وخضوعهم ونداءهم وسؤالهم كانت مصحوبة بالاعتقاد بألوهية أصنامهم ، أنّه سبحانه يفسّر الشرك في بعض الآيات باتّخاذ إله مع الله.

ويقول : وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٤).

وفي بعض الآيات يندّد بالمشركين بأنّه ليس لهم إله غير الله فكيف يعبدون غيره ، ويقول : (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٥).

والإمعان في هذه الآيات ونظائرها يؤكد أنّ اندفاع المشركين إلى عبادة الأصنام أو اندفاع الموحّدين إلى عبادة الله هو اعتقادهم بكونهم آلهة أو كونه إلهاً ،

__________________

(١) الفرقان : ٦٨.

(٢) مريم : ٨١.

(٣) الأنعام : ١٩.

(٤) الحجر : ٩٤ ـ ٩٦.

(٥) الطور : ٤٣.

٢٨

فهذا الاعتقاد كان يدفعهم إلى العبادة ، ولأجل ذلك كانوا يقدّمون لمعبوداتهم النذور والقرابين وغيرهما من التقاليد والسنن. ولمّا كانت كلمة التوحيد تهدِّم عقيدتهم بألوهية غيره سبحانه لذلك كانوا يستكبرون عند سماعها ، كما قال سبحانه : (إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ) (١).

ثمّ إنّ الاعتقاد بألوهية الأصنام لا يلازم الاعتقاد بكون المعبود خالقاً للعالم حتّى يقال بأنّ المشركين في الجاهلية كانوا موحّدين في الخالقية ، كما يدلّ على ذلك أكثر من آية. قال سبحانه :

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) (٢).

إذ للألوهية شئون عندهم يقوم ببعضها الإله الأعلى كخلق السماوات والأرض ، وبعضها الآخر الآلهة المزعومة المتخيّلة عندهم ، كغفران الذنوب والشفاعة المطلقة المقبولة بلا قيد وشرط ، وبما أنّ هذين الأمرين الأخيرين من شئون الإله الأعلى أيضاً وليس للآلهة المزعومة فيها حظّ ولا نصيب ، يركّز القرآن على إثباتهما لله سبحانه فقط ويقول : (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) (٣). ويقول : (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) (٤).

وفي ضوء ذلك فالمشركون كانوا معتقدين بالإله الأعلى الأكبر ، وفي الوقت نفسه يعتقدون بآلهة شتّى ليس لهم من الشئون ما للإله الأعلى منها ، وفي الوقت نفسه كانت الآلهة عندهم مخلوقة لله سبحانه ، مفوّضة إليهم بعض الشئون كما عرفت.

__________________

(١) الصافات : ٣٥.

(٢) الزخرف : ٩.

(٣) آل عمران : ١٣٥.

(٤) الزمر : ٤٤.

٢٩

ترادف الإله ولفظ الجلالة

إنّ الدليل الواضح على أنّ الإله يرادف لفظ الجلالة ولكن يفترق عنها بالجزئية والكلّية الأُمور التالية :

أ ـ وحدة المادّة ؛ إذ الأصل للفظ الجلالة هو الإله ، فحذفت الهمزة وعوّض اللام ، ولذلك قيل في النداء : «يا الله ، بالقطع كما يقال : يا إله» (١).

ب ـ الآيات التي استدلّ فيها على وحدة الإله صريحة في أنّ المراد من الإله هو المتصرّف المدبّر ، أو من بيده أزمّة الأُمور أو ما يقرب من ذلك ، ولا يصحّ تفسير الإله بالمعبود وإلّا لفسد الاستدلال ، وإليك الآيات الواردة في ذلك المجال :

١ ـ (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (٢) فإنّ البرهان على نفي تعدّد الآلهة لا يتمّ إلّا إذا جعلنا «الإله» في الآية بمعنى المتصرّف المدبّر أو من بيده أزمّة الأُمور أو ما يقرب من هذين ، ولو جعلنا الإله بمعنى المعبود لانتقض البرهان لبداهة تعدّد المعبودين في هذا العالم ، مع عدم فساد النظام الكوني وقد كانت الحجاز يوم نزول هذه الآية مزدحمة بالآلهة بل ومركزها مع انتظام العالم وعدم فساده.

وعندئذ يجب على من يجعل «الإله» بمعنى المعبود أن يقيّده بلفظ «بالحق» أي لو كان فيهما معبودات ـ بالحقّ ـ لفسدتا ، ولمّا كان المعبود بالحقّ مدبراً أو متصرّفاً لزم من تعدّده فساد النظام ، وهذا كلّه تكلّف لا مبرّر له.

٢ ـ (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) (٣).

ويتمّ هذا البرهان أيضاً لو فسّرنا الإله بما ذكرنا من أنّه كلّيّ ما يطلق عليه لفظ

__________________

(١) الكشاف ١ : ٣٠.

(٢) الأنبياء : ٢٢.

(٣) المؤمنون : ٩١.

٣٠

الجلالة.

وإن شئت قلت : إنّه كناية عن الخالق أو المدبّر المتصرّف أو من يقوم بأفعاله وشئونه ، والمناسب في هذا المقام هو الخالق ، ويلزم من تعدّده ما رتّب عليه في الآية من ذهاب كلّ إله بما خلق واعتلاء بعضهم على بعض.

ولو جعلناه بمعنى المعبود لانتقض البرهان ، ولا يلزم من تعدّده أيّ اختلال في الكون. وأدلّ دليل على ذلك هو المشاهدة ؛ فإنّ في العالم آلهة متعدّدة ، وقد كان في أطراف الكعبة المشرّفة ثلاثمائة وستّون إلهاً ومع ذلك لم يقع أيّ فساد أو اختلال في الكون.

فيلزم من يفسّر (الإله) بالمعبود ارتكاب التكلّف بما ذكرناه في الآية المتقدمة.

٣ ـ (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) (١) فإنّ ابتغاء السبيل إلى ذي العرش من لوازم تعدّد الخالق المدبّر المتصرّف ، أو من بيده أزمّة أُمور الكون أو غير ذلك ممّا يرسمه في ذهننا معنى الألوهية ، وأمّا تعدّد المعبود فلا يلازم ذلك إلّا بالتكلّف الذي أشرنا إليه فيما سبق.

٤ ـ (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها) (٢) والآية تستدلّ بورود الأصنام والأوثان في النار ، على بطلان كونها آلهة؛ إذ لو كانت آلهة ما وردوا النار.

والاستدلال إنّما يتمّ لو فسّرنا الآلهة بما أشرنا إليه ؛ فإنّ خالق العالم أو مدبّره والمتصرّف فيه أو من فوّض إليه أفعال الله أجلّ من أن يُحكم عليه بالنار وأن يكون حصب جهنم.

وهذا بخلاف ما إذا جعلناه بمعنى المعبود فلا يتمّ البرهان ؛ لأنّ المفروض أنّها كانت معبودات وقد جعلت حصب جهنّم. ولو أمعنت في الآيات التي ورد فيها لفظ

__________________

(١) الإسراء : ٤٢.

(٢) الأنبياء : ٩٨ ـ ٩٩.

٣١

الإله والآلهة لقدرت على استظهار ما اخترناه.

حصيلة البحث : أنّ العبادة عبارة عن الخضوع الصادر لمن يتّخذه الخاضع إلهاً ، وما ذكرناه على وجه التفصيل هو الذي أفرغه الشيخ جواد البلاغي في قالب التعريف وقال : العبادة ما يرونه مشعراً بالخضوع لمن يتّخذه الخاضع إلهاً ، ليوفيه بذلك ما يراه له من حقّ الامتياز بالألوهيّة (١).

التعريف الثاني :

العبادة عبارة عن الخضوع للشيء على أنّه ربّ

واللغويون وإن ذكروا للربّ معاني مختلفة كالخالق والمالك والصاحب والمصلح ، ولكنّ الظاهر أنّ أكثر هذه المعاني من لوازم المعنى الواحد ، ويمكن تصويره بأنّه من فوّض إليه أمر الشيء من حيث الإصلاح والتدبير والتربية ، فلو أُطلق الربّ على الخالق فلأنّه يقوم بإصلاح مخلوقه وتدبيره ، وتربيته. ولو أُطلق على صاحب المزرعة ربّ الضيعة ، أو على سائس القوم أنّه ربّهم ، فلأنّ الأوّلَ يقوم بإصلاح أُمور المزرعة ، والثاني بتدبير أُمور القوم وشئونهم ، وقس على ذلك سائر الأُمور ، فالله سبحانه ربّ العالمين ، و (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٢) و (هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) (٣) فلأجل أنّه سبحانه مدبّر ومدير ومتصرّف في شئونها والقائم عليها. فلو أُطلق الربّ على مالك الدابة فلأجل أنّه فُوِّض إليه إصلاح المملوك.

هذا من جانب ، ومن جانب آخر نرى الله سبحانه يعلّل في بعض الآيات

__________________

(١) آلاء الرحمن : ٥٧ ، ط صيدا.

(٢) الصافات : ٥.

(٣) النجم : ٤٩.

٣٢

حصر العبادة في الله سبحانه حيث حصر الربوبية به دون غيره ، فتدلّ بصراحة على أنّ العبادة من شئون الربوبية ، وإليك بعض الآيات :

وقال المسيح :

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) (١). (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (٢). (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٣).

وإذا عرفت هذين الأمرين :

١ ـ الربّ من فوّض إليه تدبير الشيء وإصلاحه وتربيته.

٢ ـ إنّ الآيات تعلّل حصر العبادة في الله بكونه ربّاً.

فستعرف أنّ اتّسام الخضوع ، والسؤال والدعاء بالعبادة من شئون الاعتقاد بكون المخضوع له ربّاً بيده مسير الخاضع ومصيره ، وإن شئت قلت : بيده شأن أو شئون مَن حياته الدنيوية أو الأُخروية بيده ، فالخضوع المقرون بهذا الاعتقاد يُضفي عليه عنوان العبادة.

وليعلم أنّ المراد من كون الرب مالكاً لشأن من شئون حياته ليس المراد هو المالكية القانونية والوضعية التي تُعطى للإنسان حيناً وتسلَب عنه حيناً آخر ، بل المراد المالكية التكوينية المستمدّة من الخالقية كما في الإله الأعلى أو من تفويض الإله الأعلى لها ، كما هو الحال عند آلهة المشركين ـ على زعمهم ـ الذين يعتقدون بأنّه سبحانه فوّض إليهم بعضَ شئون حياتهم ، كغفران الذنوب والشفاعة ، بل يظهر ممّا نقله ابن هشام في سيرته أنّ الشرك دخل مكّة في صورة الشرك في الربوبية فيما يرجع إلى الاستمطار ، يقول ابن هشام :

__________________

(١) المائدة : ٧٢.

(٢) الأنبياء : ٩٢.

(٣) آل عمران : ٥١.

٣٣

«كان عمرو بن لحي» أوّل من أدخل الوثنية إلى مكّة ونواحيها ، فقد رأى في سفره إلى البلقاء من أراضي الشام اناساً يعبدون الأوثانَ وعند ما سألهم عمّا يفعلون قائلاً :

ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدونها؟

قالوا : هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا ، ونستنصرها فتنصرنا!

فقال لهم : أفلا تعطوني منها فأسير به إلى أرض العرب فيعبدونه؟

وهكذا استحسن طريقتهم واستصحب معه إلى مكة صنماً كبيراً باسم «هبل» ووضعه على سطح الكعبة المشرّفة ، ودعا الناس إلى عبادتها (١).

إذن فاستمطار المطر من هذه الأوثان والاستعانة بها يكشف عن أنّ بعض المشركين كانوا يعتقدون بأنّ لهذه الأوثان دخلاً في تدبير شئون الكون وحياة الإنسان.

نتيجة البحث

إذا عرفنا أنّ مقوّم العبادة عبارة عن اعتقاد السائل والخاضع والداعي أو المنادي بأنّ المسئول والمخضوع له «إله» و «ربّ» يملك شيئاً ممّا يرجع إليه في عاجله أو آجله ، في مسيره ومصيره ، وإنّه يقوم بذلك لكونه خالقاً أو مفوَّضاً إليه من قبل الخالق ، فيقوم على وجه الاستقلال والأصالة ، تستطيع أن تقضي في الأعمال التي يقوم بها اشياع الأنبياء ومحبّوهم ، بأنّها ليست عبادة أبداً وإنّما هي من مصاديق التكريم والاحترام وإن بلغت نهاية التذلّل ، لأنّها لا تنطلق من اعتقاد الخاضع بألوهية النبي ، ولا ربوبيته بل تنطلق عن الاعتقاد بكونهم عباد الله الصالحين ، وعباده المكرمين الذين لا يعصون الله وهم بأمره يعملون ، نظير:

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١ : ٧٩.

٣٤

١ ـ تقبيل الأضرحة وأبواب المشاهد التي تضمّ أجساد الأنبياء والأولياء ؛ فإنّ ذلك ليس عبادة لصاحب القبر والمشهد ؛ لفقدان عنصر العبادة فيما يفعله الإنسان من التقبيل واللّمس وما شابه ذلك.

٢ ـ إقامة الصلاة في مشاهد الأولياء تبرّكاً بالأرض التي تضمنت جسد النبيّ أو الإمام ، كما تبرّك بالصلاة عند مقام إبراهيم اتّباعاً لقوله تعالى : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) (١).

٣ ـ التوسّل بالنبيّ سواء كان توسّلاً بذاته وشخصه ، أو بمقامه وشخصيته أو بدعائه في حال حياته ومماته ؛ فإنّ ذلك كلّه لا يكون عبادة ؛ لعدم الاعتقاد بألوهية النبيّ ولا ربوبيته ، ويعدّ من التوسّل بالأسباب ، سواء كان المدعوّ قادراً على إنجاز العمل أو عاجزاً ، غاية الأمر يكون التوسّل في صورة العجز غير مفيد ، لا متّسماً بالشرك ، فلو افترضنا أنّ الأنبياء والأئمة في حال الممات غير قادرين على شيء فالدعاء والتوسّل بهم مع كونهم عاجزين لا يجعل العمل شركاً ، بل يجعله لغواً ، مع أنّ أصل المبنى باطل ؛ أي أنّهم غير قادرين في حال الممات.

٤ ـ طلب الشفاعة من الأنبياء أو النبيّ الأكرم ليس شركاً ؛ لأنّه يطلبها منه بقيد أنّه عبد مأذون لا أنّه مفوّض إليه أمرها ، وفي الواقع إمّا أن يكون مأذوناً فيشفع ، وإمّا أن يكون الطلب لغواً.

٥ ـ الاستغاثة بالأرواح المقدّسة ليس إلّا كالاستغاثة بهم في حال حياتهم ، فهي على وجه تتّسم بالشرك من غير فرق بين حالي الحياة والممات ولا تتّسم به على وجه آخر ، كذلك فلو استغاث به بما أنّه عبد أقدره الله تعالى على الإجابة حيّاً وميتاً ، يكون من قبيل التوسّل بالأسباب ، وإن استغاث به بما أنّه إله أو ربّ يقوم بالاستغاثة أصالة واستقلالاً ، وأنّه فوّض إليه حياة المستغيث عاجلاً وآجلاً ، فهو

__________________

(١) البقرة : ١٢٥.

٣٥

شرك من غير فرق بين الحالتين.

هذا خلاصة البحث حول حصر العبادة بالله سبحانه ، وإذا أمعنت فيما ذكرنا يمكنك الإجابة على بعض ما أثارته بعض المناهج الفكرية في الأوساط الإسلامية حول هذه الأُمور ، التي نسبت جلّ المسلمين إلى الشرك في العبادة مع أنّهم بمنأى عن الشرك.

الفوضى في التطبيق بين الإمام والمأموم

لقد ترك الإهمال في تفسير العبادة تفسيراً منطقياً ، فوضى كبيرة في مقام التطبيق بين الإمام والمأموم فنرى أنّ إمام الحنابلة أحمد بن حنبل (١٦٤ ـ ٢٤١ ه‍) صدر عن فطرة سليمة في تفسير العبادة ، وأفتى بجواز مسِّ منبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والتبرّك به وبقبره وتقبيلهما عند ما سأله ولده عبد الله بن أحمد ، وقال : سألته عن الرجل يمسُّ منبرَ النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ويتبرّك بمسِّه ، ويُقَبّله ، ويفعل بالقبر مثل ذلك ، يريد بذلك التقرّب إلى الله عزوجل ، فقال : «لا بأس بذلك» (١).

هذه هي فتوى الإمام ـ الذي يفتخر بمنهجه أحمد بن تيمية ، وبعده محمّد بن عبد الوهاب ـ ولم يرَ بأساً بذلك ، لما عرفت من أنّ العبادة ليست مجرّد الخضوع ؛ فلا يكون مجرّد التوجّه إلى الأجسام والجمادات عبادة ، بل هي عبارة عن الخضوع نحو الشيء ، باعتبار أنّه إله أو ربّ ، أو بيده مصير الخاضع في عاجله وآجله ، وأمّا مسّ المنبر أو القبر وتقبيلهما ، كلّ ذلك لغاية التكريم والتعظيم لنبيّ التوحيد ، وإن كان لغاية التبرّك ، فلا يتجاوز التبرّك في المقام عن تبرّك يعقوب بقميص ابنه يوسف ، ولم يخطر بخلد أحد من المسلمين إلى اليوم الذي جاء فيه ابن تيمية بالبدع الجديدة ، أنّها عبادة لصاحب القميص والمنبر والقبر أو لنفس تلك الأشياء.

__________________

(١) العلل ومعرفة الرجال ٢ : ٤٩٢ / ٣٢٤٣ ، تحقيق الدكتور وصيّ الله عباس ، ط بيروت ١٤٠٨.

٣٦

ولمّا كانت فتوى الإمام ثقيلة على محقق الكتاب ، أو من علّق عليه لأنّها تتناقض مع ما عليه الوهابية وتبطل أحلام ابن تيمية ، ومن لفَّ لفَّه ، حاول ذلك الكاتب أن يوفّق بين جواب الإمام وما عليه الوهابية في العصر الحاضر ، فقال : «أمّا مسّ منبر النبيّ فقد أثبت الإمام ابن تيمية في الجواب الباهر (ص ٤١) فعله عن ابن عمر دون غيره من الصحابة ، وروى أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف (٤ / ١٢١) عن زيد بن الحباب قال : حدّثني أبو مودود قال : حدّثني يزيد بن عبد الملك بن قسيط قال : رأيت نفراً من أصحاب النبيّ إذا خلا لهم المسجد قاموا إلى زمانة المنبر القرعاء فمسحوها ، ودعوا قال : ورأيت يزيد يفعل ذلك.

وهذا لما كان منبره الذي لامس جسمه الشريف ، أمّا الآن بعد ما تغيّر لا يقال بمشروعيّة مسحه تبرّكاً به».

ويلاحظ على هذا الكلام : بعد وجود التناقض بين ما نقل عن ابن تيمية من تخصيص المسّ بمنبر النبيّ بابن عمر ، وما نقله عن المصنّف لابن أبي شيبة من مسح نفر من أصحاب النبيّ رمانة المنبر :

أوّلاً : لو كان جواز المسّ مختصّاً بالمنبر الذي لامسه جسم النبي الشريف دون ما لا يمس كان على الإمام المفتي أن يذكر القيدَ ، ولا يُطلق كلامَه ، حتّى ولو افترضنا أنّ المنبر الموجود في المسجد النبوي في عصره كان نفسَ المنبر الذي لامسَه جسمُ النبيّ الأكرم ، وهذا لا يغيب عن ذهن المفتي ، إذ لو كان تقبيل أحد المنبرين نفس التوحيد ، وتقبيل المنبر الآخر عينَ الشرك ، لما جاز للمفتي أن يغفل التقسيم والتصنيف.

وثانياً : أنّ ما يفسده هذا التحليل أكثر ممّا يصلحه ، وذلك لأنّ معناه أنّ لجسمه الشريف تأثيراً في المنبر وما تبرّك به ، وهذا يناقض التوحيد الربوبي من أنّه لا مؤثّر في الكون إلّا الله سبحانه ، فكيف يعترف الوهّابي بأنّ لجسمه الشريف في الجسم الجامد تأثيراً وأنّه يجوز للمسلمين أن يتأثروا به عبر القرون.

٣٧

ثمّ إنّ المعلّق استثنى مسّ قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والتبرّك به ، ومنعهما وقال في وجهه :

«وأمّا جواز مسّ قبر النبيّ والتبرّك به فهذا القول غريب جداً لم أرَ أحداً نقله عن الإمام ، وقال ابن تيمية في الجواب الباهر لزوار المقابر (ص ٣١) : اتّفق الأئمة على أنّه لا يمسّ قبر النبي ولا يقبله ، وهذا كلّه محافظة على التوحيد ؛ فإنّ من أُصول الشرك بالله اتّخاذ القبور مساجد» (١).

لكن يلاحظ عليه : كيف يقول : لم أجد أحداً نقله عن الإمام ، أوَليس ولده أبو عبد الله راوية أبيه وكتبه يروي هذه الفتوى؟ وهو ثقة عند الحنابلة!

وأمّا التفريق بين مسّ المنبر والقبر بجعل الأوّل نفس التوحيد ، والثاني أساس الشرك ، فمن غرائب الأُمور ؛ لأنّ الأمرين يشتركان في التوجّه إلى غير الله سبحانه ، فلو كان هذا محور الشرك ، فالموضوعات سيّان ، وإن فرّق بينهما بأنّ الماسّ ينتفع بالأوّل دون الثاني لعدم مسّ جسده بالثاني فلازمه كون الأوّل نافعاً والثاني أمراً باطلاً دون أن يكون شركاً.

ولو رجع المحقّق إلى الصحاح والمسانيد وكتب السيرة والتاريخ ، لوقف على أنّ التبرّك بالقبر ومسّه ، كان أمراً رائجاً بين المسلمين في عصر الصحابة والتابعين ، ولأجل إيقاف القارئ على صحّة ما نقول نذكر نموذجين من ذلك :

١ ـ إنّ فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين بنت رسول الله حضرت عند قبر أبيهاصلى‌الله‌عليه‌وآله وأخذت قبضة من تراب القبر تشمّه وتبكي وتقول :

ما ذا على من شمّ تربة أحمد

ألّا يشمّ مدَى الزمان غَواليا

صُبَّت عليَّ مصائب لو أنّها

صُبَّت على الأيّامِ صِرنَ لَياليا (٢)

__________________

(١) تعليقة المحقّق ، نفس الصفحة.

(٢) لقد ذكر هذه القضية جمع كثير من المؤرخين ، منهم : السمهودي في وفاء الوفا ٢ : ٤٤٤ ؛ والخالدي في صلح الاخوان : ٥٧ ، وغيرهما.

٣٨

إنّ هذا التصرّف من السيدة الزهراء المعصومة عليها‌السلام يدلّ على جواز التبرّك بقبر رسول الله وتربته الطاهرة.

٢ ـ إنّ بلالاً ـ مؤذّن رسول الله ـ أقام في الشام في عهد عمر بن الخطاب ، فرأى في منامه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يقول :

«ما هذه الجفوة يا بلال؟ أما آنَ لك أن تزورني يا بلال؟»

فانتبه حزيناً وَجِلاً خائفاً ، فركب راحلته وقصد المدينة فأتى قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فجعل يبكي عنده ويمرّغ وجهه عليه ، فأقبل الحسن والحسين عليهما‌السلام فجعل يضمّهما ويقبّلهما ... إلى آخر الخبر (١).

__________________

(١) أُسد الغابة ١ : ٢٨ ، وغيره من المصادر.

٣٩

المسألة الثانية :

حصر الاستعانة في الله

هذه هي المسألة الثانية التي طرحت في صدر المقال وقلنا : إنّ المسلمين في أقطار العالم يَحصرون الاستعانة في الله سبحانه ومع ذلك يستعينون بالأسباب العاديّة ، جرياً على القاعدة السائدة بين العقلاء ، ولا يرونه مخالفاً للحصر ، كما أنّ المتوسّلين بأرواح الأنبياء يستعينون بهم في مشاهدهم ومزاراتهم ، ولا يرون ذلك تعارضاً مع حصر الاستعانة بالله سبحانه ، وذلك لأنَّ الاستعانة بغير الله يمكن أن تتحقّق بصورتين :

١ ـ أن نستعين بعامل ـ سواء أكان طبيعيّاً أم غير طبيعيّ ـ مع الاعتقاد بأنّ عونه مستند إلى الله ، بمعنى أنّه قادر على أن يعين العباد ويزيل مشاكلهم بقدرته المكتسبة من الله وإذنه.

وهذا النوع من الاستعانة ـ في الحقيقة ـ لا ينفكّ عن الاستعانة بالله ذاته ، لأنّه ينطوي على الاعتراف بأنّه هو الذي منح تلك العوامل ذلك الأثر ، وأذن بها ، وإن شاء سلبها وجرّدها منه.

فإذا استعان الزارع بعوامل طبيعية كالشمس والماء وحرث الأرض ، فقد

٤٠