في ظلال التّوحيد

الشيخ جعفر السبحاني

في ظلال التّوحيد

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: نشر مشعر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-6293-82-4

الصفحات: ٧١٢

وقال القسطلاني : «والأمر على ذلك (أي على ترك الجماعة في التراويح) ثمّ كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر ، إلى آخر ما ذكره» (١).

٢ ـ قوله : نعم البدعة ؛ إنّ الظاهر من قوله : «نعم البدعة هذه» أنّها من سُنن نفس الخليفة ولا صلة لها بالشرع ، وقد صرّح بذلك لفيف من العلماء.

قال القسطلاني : سمّاها (عمر) بدعة لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يسنّ لهم الاجتماع لها ، ولا كانت في زمن الصدّيق ، ولا أوّل الليل ، ولا كلّ ليلة ولا هذا العدد ـ إلى أن قال : ـ وقيام رمضان ليس بدعة ؛ لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «اقتدوا باللّذين من بعدي أبي بكر وعمر» وإذا أجمع الصحابة مع عمر على ذلك زال عنه اسم البدعة.

وقال العيني : «وإنّما دعاها بدعة ؛ لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يسنّها لهم ، ولا كانت في زمن أبي بكر رضى الله عنه ولا رغب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيها» (٢).

وهناك من نقل أنّ عمر أوّل من سنّ الجماعة ، ونذكر منهم ما يلي :

١ ـ قال ابن سعد في ترجمة عمر : «هو أوّل من سنّ قيام شهر رمضان ـ بالتراويح ـ وجمع الناس على ذلك ، وكتب به إلى البلدان وذلك في شهر رمضان سنة أربع عشرة»(٣).

٢ ـ وقال ابن عبد البرّ في ترجمة عمر : «وهو الّذي نوّر شهر الصوم بصلاة الاشفاع فيه» (٤).

٣ ـ قال الوليد بن الشّحنة عند ذكر وفاة عمر في حوادث سنة ٢٣ ه‍ : «وهو أوّل من نهى عن بيع أُمّهات الأولاد ... وأوّل من جمع الناس على إمام يصلّي

__________________

(١) إرشاد الساري ٣ : ٤٢٥.

(٢) عمدة القاري ٦ : ١٢٦. وقد سقط لفظة لا من قوله «رغب» كما أنّ كلمة بقوله ـ بعد هذه الجملة ـ في النسخة مصحف «قوله» ، فلاحظ.

(٣) الطبقات الكبرى ٣ : ٢٨١.

(٤) الاستيعاب ٣ : ١١٤٥.

٢٠١

بهم التراويح» (١).

فإذا كان المفروض أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يسنّ الجماعة فيها ، وانّما سنّها عمر ، فهل هذا يكفي في كونها مشروعة؟! مع أنّه ليس لإنسان حتّى الرسول حقّ التسنين والتشريع ، وإنّما هو صلى‌الله‌عليه‌وآله مبلّغ عن الله سبحانه.

إنّ الوحي يحمل التشريع إلى النبيّ الأكرم وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله الموحَى إليه ، وبموته انقطع الوحي ، وسدّ باب التشريع والتسنين ، فليس للأُمّة إلّا الاجتهاد في ضوء الكتاب والسنّة ، لا التشريع ولا التسنين ، ومن رأى انّ لغير الله سبحانه حقّ التسنين فمعنى ذلك عدم انقطاع الوحي.

قال ابن الأثير في نهايته : ومن هذا النوع قول عمر رضى الله عنه : «نعم البدعة هذه (التراويح) لمّا كانت من أفعال الخير وداخلة في حيز المدح سمّاها بدعة ومدحها ، إلّا أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يسنّها لهم ، وإنّما صلّاها ليالي ثمّ تركها ، ولم يحافظ عليها ، ولا جمع الناس لها ، ولا كانت في زمن أبي بكر ، وإنّما عمر رضى الله عنه جمع الناس عليها ، وندبهم إليها ، فبهذا سمّاها بدعة ، وهي في الحقيقة سنّة ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي» ، وقوله : «اقتدوا بالّذين من بعدي أبي بكر وعمر» (٢).

التشريع مختصّ بالله سبحانه

إنّ هؤلاء الأكابر مع اعترافهم بأنّ النبيّ لم يسنّ الاجتماع ، برّروا إقامتها جماعة بعمل الخليفة ، ومعنى ذلك أنّ له حقّ التسنين والتشريع ، وهذا يضادّ إجماع الأُمّة ؛ إذ لا حقَّ لإنسان أن يتدخّل في أمر الشريعة بعد إكمالها لقوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ

__________________

(١) روضة المناظر عنه النص والاجتهاد : ٢١٤ ط. مؤسّسة البعثة طهران.

(٢) النهاية ١ : ٧٩.

٢٠٢

لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (١) وكلامه يخالف الكتاب والسنّة ؛ فإنّ التشريع حقّ الله سبحانه لم يفوّضه لأحد ، والنبيّ الأكرم مبلّغ عنه.

أضف إلى ذلك لو أنّ الخليفة قد تلقّى ضوءاً أخضرَ في مجال التشريع والتسنين ، فلم لا يكون لسائر الصحابة ذلك ، مع كون بعضهم أقرأ منه ، كأُبي بن كعب ، وأفرض ؛ كزيد بن ثابت ، وأعلم وأقضى منه ؛ كعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام؟! فلو كان للجميع ذلك لانتشر الفساد وعمّت الفوضى أمر الدين ، وكان أُلعوبة بأيدي غير المعصومين.

وأمّا التمسّك بالحديثين ، فلو صحّ سندهما ؛ فانّهما لا يهدفان إلى أنّ لهما حقّ التشريع ، بل يفيدان لزوم الاقتداء بهما ؛ لأنّهما يعتمدان على سنّة النبيّ الأكرم ، لا أنّ لهما حقّ التسنين.

نعم يظهر ممّا رواه السيوطي عن عمر بن عبد العزيز أنّه كان يعتقد أنّ للخلفاء حقّ التسنين ، قال : قال حاجب بن خليفة : شهدت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو خليفة ، فقال في خطبته : ألا إنّ ما سنّ رسول الله وصاحباه فهو دين نأخذ به ، وننتهي إليه ، وما سنّ سواهما فإنّا نرجئه (٢).

وعلى كلّ تقدير نحن لسنا بمؤمنين بأنّه سبحانه فوّض أمر دينه في التشريع والتقنين إلى غير الوحي ، وفي ذلك يقول الشوكاني : والحقّ أنّ قول الصحابي ليس بحجّة ؛ فانّ الله سبحانه لم يبعث إلى هذه الأُمّة إلّا نبيّنا محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله وليس لنا إلّا رسول واحد وكتاب واحد ، وجميع الأُمّة مأمورة باتّباع كتابه وسنّة نبيّه ، ولا فرق بين الصحابة ومن بعدهم في ذلك ، فكلّهم مكلّفون بالتكاليف الشرعية وباتّباع

__________________

(١) المائدة : ٣.

(٢) أبو زهرة ، تاريخ المذاهب الإسلامية ، كما في بحوث أهل السنّة : ص ٢٣٥.

٢٠٣

الكتاب والسنّة ؛ فمن قال إنّها تقوم الحجّة في دين الله عزوجل بغير كتاب الله وسنّة رسوله وما يرجع إليهما فقد قال في دين الله بما لا يثبت» (١).

نعم نقل القسطلاني عن ابن التين وغيره : انّ عمر استنبط ذلك من تقرير النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من صلّى معه في تلك الليالي وإن كان كره لهم خشية أن يفرض عليهم. فلمّا غاب النبيّ حصل الأمن من ذلك ، ورجح عند عمر ذلك لما في الاختلاف من افتراق الكلمة ، ولأنّ الاجتماع على واحد أنشط لكثير من المصلّين (٢).

يلاحظ عليه أولاً : أنّ ما ذكره في آخر كلامه ليبرّر جمع الناس على إمام واحد ، مكان الأئمة المتعدّدة ، دون ما إذا كان موضع النقاش إقامتها جماعة ، واحداً كان الإمام أو كثيراً.

وثانياً : أنّ معنى كلامه أنّ هناك أحكاماً لم تسنّ ما دام النبيّ حيّاً لمانع خاص ، كخشية الفرض ، ولكن في وسع آحاد الأُمّة تشريعها بعد موته صلى‌الله‌عليه‌وآله ومفاده فتح باب التشريع بملاكات خاصّة في وجه الأُمّة إلى يوم القيامة ، وهذه رزيّة ليست بعدها رزية ، وتلاعب بالدين واستئصاله.

* * *

ثمّ إنّ لسيّدنا شرف الدين العاملي هناك كلاماً نافعاً نورده بنصّه ، قال :

«كان هؤلاء عفا الله عنهم وعنّا ، رأوه رضى الله عنه قد استدرك (بتراويحه) على الله ورسوله حكمة كانا عنها غافلين. بل هم بالغفلة ـ عن حكمة الله في شرائعه ونظمه ـ أحرى ، وحسبنا في عدم تشريع الجماعة في سنن شهر رمضان وغيرها ، انفراد مؤدّيها ـ جوف الليل في بيته ـ بربّه عزّ وعلا يشكو إليه بثّه وحزنه ويناجيه بمهمّاته مهمّة مهمّة حتّى يأتي على آخرها ملحّاً عليه ، متوسّلاً بسعة رحمته إليه ،

__________________

(١) إرشاد العقول : ص ٢١٤.

(٢) فتح الباري ٤ : ٢٠٤.

٢٠٤

راجياً لاجئاً ، راهباً راغباً ، منيباً تائباً ، معترفاً لائذاً عائذاً ، لا يجد ملجأ من الله تعالى إلّا إليه ، ولا منجى منه إلّا به.

لهذا ترك الله السنن حرّة من قيد الجماعة ، ليتزوّدوا فيها من الانفراد بالله ما أقبلت قلوبهم عليه ، ونشطت أعضاؤهم له ، يستقلّ منهم من يستقلّ ، ويستكثر من يستكثر ، فإنّها خير موضوع ، كما جاء في الأثر عن سيّد البشر. أما ربطها بالجماعة فيحدّ من هذا النفع ، ويقلّل من جدواه.

أضف إلى هذا أنّ إعفاء النافلة من الجماعة يمسك على البيوت حظّها من البركة والشرف بالصلاة فيها ، ويمسك عليها حظّها من تربية الناشئة على حبّها والنشاط بها ، ذلك لمكان القدوة في عمل الآباء والأُمّهات والأجداد والجدّات ، وتأثيره في شدّ الأبناء إليها شدّاً يرسّخها في عقولهم وقلوبهم ، وقد سأل عبد الله بن مسعود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أيّما أفضل الصلاة في بيتي ، أو الصلاة في المسجد؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«ألا ترى إلى بيتي ما أقربه من المسجد ، فلئن أُصلّي في بيتي أحبّ إليّ من أن أُصلّي في المسجد إلّا أن تكون صلاة مكتوبة» رواه أحمد وابن ماجة وابن خزيمة في صحيحه ، كما في باب الترغيب في صلاة النافلة من كتاب الترغيب والترهيب للإمام زكيّ الدين عبد العظيم بن عبد القويّ المنذري.

وعن زيد بن ثابت أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال :

«صلّوا أيّها الناس في بيوتكم ؛ فإنّ أفضل صلاة المرء في بيته إلّا الصلاة المكتوبة». رواه النسائي وابن خزيمة في صحيحه.

وعن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«أكرموا بيوتكم ببعض صلاتكم».

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحيّ والميّت». وأخرجه البخاري ومسلم.

٢٠٥

وعن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيباً من صلاته ، وإنّ الله جاعل في بيته من صلاته خيراً» ، رواه مسلم وغيره ورواه ابن خزيمة في صحيحه بالإسناد إلى أبي سعيد ، والسنن في هذا المعنى لا يسعها هذا الإملاء.

لكن الخليفة رضى الله عنه رجل تنظيم وحزم ، وقد راقه من صلاة الجماعة ما يتجلّى فيها من الشعائر بأجلى المظاهر إلى ما لا يحصى من فوائدها الاجتماعية الّتي أشبع القول علماؤنا الأعلام ممن عالجوا هذه الأُمور بوعي المسلم الحكيم ، وأنت تعلم أنّ الشرع الإسلامي لم يهمل هذه الناحية ، بل اختصّ الواجبات من الصلوات بها ، وترك النوافل للنواحي الأُخر من مصالح البشر : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (١)» (٢).

خاتمة المطاف

إنّ عمل الخليفة ، لم يكن إلّا من قبيل تقديم المصلحة على النصّ ، وليس المورد أمراً وحيداً في حياته ، بل له نظائر في عهده منها :

١ ـ تنفيذ الطلاق الثلاث ، بعد ما كان في عهد الرسول وبعده طلاقاً واحداً.

٢ ـ النهي عن متعة الحجّ.

وقد مرّ البحث في المسألة الثانية في كتابنا «أضواء على تأريخ الشيعة الإماميّة وعقائدهم». ونبحث الآن عن المسألة الأُولى :

__________________

(١) الأحزاب : ٣٦.

(٢) النص والاجتهاد : ١٥١ ـ ١٥٢.

٢٠٦

المسألة الرابعة :

الطلاق ثلاثاً دفعة أو دفعات في مجلس واحد

من المسائل التي أدّت إلى تعقيد الحياة الزوجيّة ، ومزّقت وقطّعت صلات الأرحام في كثير من البلاد ، هي مسألة تصحيح الطلاق ثلاثاً دفعة واحدة ، بأن يقول : أنتِ طالق ثلاثاً ، أو يكرّره ثلاث دفعات ويقول في مجلس واحد : أنتِ طالق ، أنتِ طالق ، أنتِ طالق. فتحسب ثلاث تطليقات حقيقةً ، وتَحرُم المطلّقةُ على زوجها حتّى تنكح زوجاً غيره.

إنّ الطلاق عند أكثر أهل السنّة غير مشروط بشروط تحول دون إيقاعه ، ككون المرأة غير حائض ، أو وقوع الطلاق في غير طهر المواقعة ، أو لزوم حضور العدلين. فلربّما يتغلّب الغيظ على الزوج ويأخذه الغضب فيطلّقها ثلاثاً في مجلس واحد ، ثمّ يندم على عمله ندامة شديدة تضيق عليه الأرض بما رحبت ، فيطلب المخلَص من ذلك ولا يجد عند أئمّة المذاهب الأربعة والدعاة إليها مخلصاً ، فيقعد ملوماً محسوراً ، ولا يزيده السؤال والفحص إلّا نفوراً عن الفقه والفتوى.

نحن نعلم علماً قاطعاً بأنّ الإسلام دين سهل وسمح ، وليس فيه حرج ، وهذا يدفع الدعاة المخلصين إلى إعادة دراسة المسألة من جديد دراسة حرّة بعيدة عن الأبحاث الجامدة ، التي أفرزها غلق باب الاجتهاد في الأحكام الشرعية ، وأن يبحثوا المسألة في ضوء الكتاب والسنّة الصحيحة ، بعد التجرّد عن خلفية الفتاوى السابقة.

أمّا أهمّ تلك الأقوال فهي :

٢٠٧

قال ابن رشد : «جمهور فقهاء الأمصار على أنّ الطلاق بلفظ الثلاث حكمه حكم الطلقة الثالثة ، وقال أهل الظاهر وجماعة : حكمه حكم الواحدة ، ولا تأثير للّفظ في ذلك»(١).

قال الشيخ الطوسي : «إذا طلّقها ثلاثاً بلفظ واحد ، كان مبدعاً ووقعت واحدة عند تكامل الشروط عند أكثر أصحابنا ، وفيهم من قال : لا يقع شيء أصلاً ، وبه قال عليّ عليه‌السلام وأهل الظاهر ، وحكى الطحاوي عن محمد بن إسحاق أنّه تقع واحدة كما قلناه ، وروي أنّ ابن عباس وطاووساً كانا يذهبان إلى ما يقوله الإمامية.

وقال الشافعي : فإن طلّقها ثنتين أو ثلاثاً في طهر لم يجامعها فيه ، دفعة أو متفرّقة ، كان ذلك مباحاً غير محذور ووقع. وبه قال في الصحابة عبد الرحمن بن عوف ، ورووه عن الحسن بن عليّ عليهما‌السلام ، وفي التابعين ابن سيرين ، وفي الفقهاء أحمد وإسحاق وأبو ثور.

وقال قوم : إذا طلّقها في طهر واحد ثنتين أو ثلاثاً دفعة واحدة ، أو متفرّقة ، فعل محرّماً وعصى وأثم. ذهب إليه في الصحابة عليّ عليه‌السلام وعمر ، وابن عمر ، وابن مسعود ، وابن عباس. وفي الفقهاء أبو حنيفة وأصحابه ومالك ، قالوا : إلّا أنّ ذلك واقع (٢).

قال أبو القاسم الخرقي في مختصره : وإذا قال لمدخول بها : أنت طالق ، أنت طالق ، لزمه تطليقتان إلّا أن يكون أراد بالثانية إفهامها أن قد وقعت بها الأُولى ؛ فتلزمه واحدة. وإن كانت غير مدخول بها بانت بالأُولى ، ولم يلزمها ما بعدها ؛ لأنّه

__________________

(١) بداية المجتهد ٢ : ٦٢ ط بيروت.

(٢) الخلاف : ٢ كتاب الطلاق ، المسألة ٣. وعلى ما ذكره ، نُقل عن الإمام عليّ رأيان متناقضان : عدم الوقوع والوقوع مع الإثم.

٢٠٨

ابتداء كلام.

وقال ابن قدامة في شرحه على مختصر الخرقي : «إذا قال لامرأته المدخول بها : أنت طالق مرّتين ونوى بالثانية إيقاع طلقة ثانية ، وقعت لها طلقتان بلا خلاف ، وإن نوى بها إفهامها أنّ الأُولى قد وقعت بها أو التأكّد لم تُطلّق إلّا مرّة واحدة ، وإن لم تكن له نيّة وقع طلقتان ، وبه قال أبو حنيفة ومالك ؛ وهو الصحيح من قولي الشافعي. وقال في الآخر : تطلّق واحدة».

وقال الخرقي أيضاً في مختصره : «ويقع بالمدخول بها ثلاثاً إذا أوقعها ، مثل قوله : أنت طالق فطالق فطالق ، أو أنت طالق ثمّ طالق ثمّ طالق ، أو أنت طالق ثمّ طالق وطالق أو فطالق».

وقال ابن قدامة في شرحه : «إذا أوقع ثلاث طلقات بلفظ يقتضي وقوعهنّ معاً ، فوقعن كلّهنّ ، كما لو قال : أنت طالق ثلاثاً» (١).

وقال عبد الرحمن الجزيري : «يملك الرجل الحرّ ثلاث طلقات ، فاذا طلّق الرجل زوجته ثلاثاً دفعة واحدة ، بأن قال لها : أنت طالق ثلاثاً ، لزمه ما نطق به من العدد في المذاهب الأربعة ؛ وهو رأي الجمهور ، وخالفهم في ذلك بعض المجتهدين : كطاووس وعكرمة وابن إسحاق وعلى رأسهم ابن عبّاس ـ رضي الله عنهم ـ» (٢).

إلى غير ذلك من نظائر تلك الكلمات الّتي تعرب عن اتّفاق جمهور الفقهاء بعد عصر التابعين على نفوذ ذلك الطلاق ، ورائدهم في ذلك تنفيذ عمر بن الخطاب ، الطلاق الثلاث بمرأى ومسمع من الصحابة. ولكن لو دلّ الكتاب والسنّة على خلافه فالأخذ بهما متعيّن.

__________________

(١) المغني ٧ : ٤١٦.

(٢) الفقه على المذاهب الأربعة ٤ : ٣٤١.

٢٠٩

دراسة الآيات الواردة في المقام

قال سبحانه :

(وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ* فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ* وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ...) (١).

جئنا بمجموع الآيات الأربع ـ مع أنّ موضع الاستدلال هو الآية الثانية ـ للاستشهاد بها في ثنايا البحث. وقبل الخوض في الاستدلال نشير إلى نكات في الآيات :

١ ـ قوله سبحانه : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) كلمة جامعة لا يؤدّى حقّها إلّا بمقال مسهب ؛ وهي تفيد أنّ الحقوق بينهما متبادلة ، فما من عمل تعمله المرأة للرجل إلّا وعلى الرجل عمل يقابله ، فهما ـ في حقل المعاشرة ـ متماثلان

__________________

(١) البقرة : ٢٢٨ ـ ٢٣١.

٢١٠

في الحقوق والأعمال ، فلا تسعد الحياة إلّا بالاحترام المتبادل بين الزوجين ، وقيام كلّ بوظيفته تجاه الآخر ، فعلى المرأة القيام بتدبير المنزل وإنجاز ما به من أعمال ، وعلى الرجل السعي والكسب خارجه.

هذا هو الأصل الأصيل في حياة الزوجين الّذي تؤيده الفطرة ، وقد قسّم النبيّ الأُمور بين ابنته فاطمة وزوجها عليّ عليه‌السلام فجعل شئون البيت في عهدة ابنته ، وعمل الخارج على زوجها ـ صلوات الله عليهما ـ.

٢ ـ «المرّة» بمعنى الدفعة للدلالة على الواحد في الفعل ، و «الإمساك» خلاف الإطلاق ، و «التسريح» مأخوذ من السرح وهو الإطلاق يقال : سرح الماشية في المرعى : إذا أطلقها لترعى. والمراد من الإمساك هو إرجاعها إلى عصمة الزوجية. كما أنّ المقصود من «التسريح» عدم التعرّض لها ، لتنقضي عدّتها في كلّ طلاق ، أو الطلاق الثالث الذي هو أيضاً نوع من التسريح ؛ على اختلاف في معنى الجملة. وإن كان الأقوى هو الثاني ، وسيوافيك توضيحه ودفع ما أثاره الجصّاص من الإشكالين حول هذا التفسير بإذن الله سبحانه.

٣ ـ قيّد الإمساك بالمعروف ، والتسريح بإحسان ، مشعراً بأنّه يكفي في الإمساك قصد عدم الإضرار بالرجوع ، وأمّا الإضرار فكما إذا طلّقها حتّى تبلغ أجلها فيرجع إليها ثمّ يطلّق كذلك ، يريد بها الإضرار والإيذاء ، وعلى ذلك يجب أن يكون الإمساك مقروناً بالمعروف ، وعندئذٍ لو طلب بعد الرجوع ما آتاها من قبل لا يعدّ أمراً منكراً غير معروف ؛ إذ ليس إضراراً.

وهذا بخلاف التسريح ؛ فلا يكفي ذلك بل يلزم أن يكون مقروناً بالإحسان إليها ؛ فلا يطلب منها ما آتاها من الأموال. ولأجل ذلك يقول تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) أي لا يحلّ للمطلق استرداد ما آتاها من المهر ، إلّا إذا كان الطلاق خلعاً فعندئذٍ لا جناح عليها في ما افتدت به نفسها من زوجها.

٢١١

وقوله سبحانه : (فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) دليل على وجود النفرة من الزوجة ، فتخاف أن لا تقيم حدود الله ، فتفتدي بالمهر وغيره لتخلّص نفسها.

٤ ـ لم يكن في الجاهلية للطلاق ولا للمراجعة في العدّة ، حدّ ولا عدّ ، فكان الأزواج يتلاعبون بزوجاتهم ؛ يضارّوهنّ بالطلاق والرجوع ما شاءوا ، فجاء الإسلام بنظام دقيق وحدّد الطلاق بمرّتين ، فإذا تجاوز عنه وبلغ الثالث تحرم عليه حتّى تنكح زوجاً غيره.

روى الترمذي : كان الناس والرجل يُطلِّق امرأته ما شاء أن يطلّقها ، وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العدّة ، وإن طلّقها مائة مرة أو أكثر ، حتّى قال رجل لامرأته : والله لا أُطلّقك فتبيني منّي ، ولا آويك أبداً قالت : وكيف ذلك؟ قال : أُطلّقك فكلّما همَّت عدَّتك أن تنقضي راجعتك ، فذهبت المرأة فأخبرت النبيّ فسكت حتّى نزل القرآن : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ ...) (١).

٥ ـ اختلفوا في تفسير قوله سبحانه : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) إلى قولين :

أ ـ إنّ الطلاق يكون مرّتين ، وفي كلّ مرّة إمّا إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ، والرجل مخيّر بعد إيقاع الطلقة الأُولى بين أن يرجع فيما اختار من الفراق فيمسك زوجته ويعاشرها بإحسان ، وبين أن يدع زوجته في عدّتها من غير رجعة حتّى تبلغ أجلها وتنقضي عدّتها.

وهذا القول هو الّذي نقله الطبري عن السّدي والضحّاك فذهبا إلى أنّ معنى الكلام : الطلاق مرّتان فإمساك في كلّ واحدة منهما لهنّ بمعروف أو تسريح لهنّ بإحسان ، وقال : هذا مذهب ممّا يحتمله ظاهر التنزيل لو لا الخبر الذي رواه

__________________

(١) الترمذي ، الصحيح ج ٣ كتاب الطلاق ، الباب ١٦ ، الحديث ١١٩٢.

٢١٢

إسماعيل بن سميع عن أبي رزين (١).

يلاحظ عليه : أنّ هذا التفسير ينافيه تخلّل الفاء بين قوله : (مَرَّتانِ) وقوله (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) فهو يفيد أنّ القيام بأحد الأمرين بعد تحقّق المرّتين ، لا في أثنائهما. وعليه لا بدّ أن يكون كلّ من الإمساك والتسريح أمراً متحقّقاً بعد المرّتين ، ومشيراً إلى أمر وراء التطليقتين.

نعم يستفاد لزوم القيام بأحد الأمرين بعد كلّ تطليقة ، من آية أُخرى أعني قوله سبحانه : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) (٢).

ولأجل الحذر عن تكرار المعنى الواحد في المقام يفسّر قوله : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) (٣) بوجه آخر سيوافيك.

ب ـ ينبغي على الزوج بعد ما طلّق زوجته مرّتين ، أن يفكّر في أمر زوجته أكثر ممّا مضى ، فليس له بعد التطليقتين إلّا أحد أمرين : إمّا الإمساك بمعروف وإدامة العيش معها ، أو التسريح بإحسان بالتطليق الثالث الّذي لا رجوع بعده أبداً ، إلّا في ظرف خاص ، فيكون قوله تعالى : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) إشارة إلى التطليق الثالث الّذي لا رجوع فيه ويكون التسريح متحقّقاً به.

وقفة مع الجصّاص في تفسير الآية :

وهنا سؤالان أثارهما الجصّاص في تفسيره :

١ ـ كيف يفسّر قوله : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) بالتطليق الثالث ، مع أنّ المراد من

__________________

(١) الطبري ، التفسير ٢ : ٢٧٨ وسيوافيك خبر أبي رزين.

(٢) البقرة : ٢٣١. وأيضاً في سورة الطلاق : (فإذا بلغن أجلهنّ فأمسكوهنّ بمعروف أو فارقوهنّ بمعروف) (الطلاق : ٢).

(٣) البقرة : ٢٢٩.

٢١٣

قوله في الآية المتأخّرة : (أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِإحْسَانٍ) هو ترك الرجعة ، وهكذا المراد من قوله : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) (١) هو تركها حتّى ينتهي أجلها ، ومعلوم أنّه لم يرد من قوله : (أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أو قوله : (أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) : طلّقوهنّ واحدة أُخرى (٢).

يلاحظ عليه : أنّ السؤال والإشكال ناشئ من خلط المفهوم بالمصداق ؛ فاللفظ في كلا الموردين مستعمل في التسريح والطلاق ، غير أنّه يتحقّق في مورد بالطلاق ، وفي آخر بترك الرجعة ، وهذا لا يعدّ تفكيكاً في معنى لفظ واحد في موردين ، ومصداقه في الآية (٢٢٩) هو الطلاق ، وفي الآية (٢٣١) هو ترك الرجعة ، والاختلاف في المصداق لا يوجب اختلافاً في المفهوم.

٢ ـ أنّ التطليقة الثالثة مذكورة في نسق الخطاب بعده في قوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) وعندئذٍ يجب حمل قوله تعالى : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) المتقدّم عليه على فائدة مجدّدة وهي وقوع البينونة بالاثنين (٣) بعد انقضاء العدّة.

وأيضاً لو كان التسريح بإحسان هو الثالثة لوجب أن يكون قوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها) عقيب ذلك هي الرابعة ؛ لأنّ الفاء للتعقيب قد اقتضى طلاقاً مستقلاًّ بعد ما تقدّم ذكره (٤).

والإجابة عنه واضحة ؛ لأنّه لا مانع من الإجمال أوّلاً ثمّ التفصيل ثانياً ، فقوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها) بيان تفصيلي للتسريح بعد البيان الإجمالي ، والتفصيل مشتمل

__________________

(١) الطلاق : ٢.

(٢) الجصاص ، التفسير ٢ : ٣٨٩.

(٣) الأولى أن يقول : بكلّ طلاق.

(٤) الجصّاص ، التفسير ١ : ٣٨٩.

٢١٤

على ما لم يشتمل عليه الإجمال من تحريمها عليه حتّى تنكح زوجاً غيره. فلو طلّقها الزوج الثاني عن اختياره فلا جناح عليهما أن يتراجعا بالعقد الجديد إن ظنّا أن يُقيما حدود الله ، فأين هذه التفاصيل من قوله : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ).

وبذلك يعلم أنّه لا يلزم أن يكون قوله : (فَإِنْ طَلَّقَها) طلاقاً رابعاً.

وقد روى الطبري عن أبي رزين أنّه قال : أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله رجل فقال : يا رسول الله أرأيت قوله : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) فأين الثالثة؟ قال رسول الله : (إمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَانٍ) هي الثالثة» (١).

نعم الخبر مرسل وليس أبو رزين الأسدي صحابياً بل تابعي.

وقد تضافرت الروايات عن أئمة أهل البيت أنّ المراد من قوله : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) هي التطليقة الثالثة (٢).

إلى هنا تمّ تفسير الآية وظهر أنّ المعنى الثاني لتخلّل لفظ «الفاء» أظهر بل هو المتعيّن بالنظر إلى روايات أئمّة أهل البيت.

بقي الكلام في دلالة الآية على بطلان الطلاق ثلاثاً بمعنى عدم وقوعه بقيد الثلاث ، وأمّا وقوع واحدة منها فهو أمر آخر ، فنقول :

الاستدلال على بطلان الطلاق ثلاثاً

إذا عرفت مفاد الآية ، فاعلم أنّ الكتاب والسنّة يدلّان على بطلان الطلاق ثلاثاً ، وأنّه يجب أن يكون الطلاق واحدة بعد الأُخرى ، يتخلّل بينهما رجوع أو نكاح ، فلو طلّق ثلاثاً مرّة واحدة. أو كرّر الصيغة فلا تقع الثلاث. وأمّا احتسابها

__________________

(١) الطبري ، التفسير ٢ : ٢٧٨.

(٢) البرهان ١ : ٢٢١. وقد نقل روايات ستّ في ذيل الآية.

٢١٥

طلاقاً واحداً ، فهو وإن كان حقاً ، لكنّه خارج عن موضوع بحثنا ، وإليك الاستدلال بالكتاب أوّلاً ، والسنّة ثانياً.

أوّلاً : الاستدلال بالكتاب :

١ ـ قوله سبحانه : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ).

تقدّم أنّ في تفسير هذه الفقرة من الآية قولين مختلفين ، والمفسّرون بين من يجعلها ناظرة إلى الفقرة المتقدّمة أعني قوله : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ ...) ومن يجعلونها ناظرة إلى التطليق الثالث الّذي جاء في الآية التالية ، وقد عرفت ما هو الحق ، فتلك الفقرة تدلّ على بطلان الطلاق ثلاثاً على كلا التقديرين.

أمّا على التقدير الأوّل ، فواضح ؛ لأنّ معناها أنّ كلّ مرّة من المرّتين يجب أن يتبعها أحد أمرين : إمساك بمعروف ، أو تسريح بإحسان.

قال ابن كثير : أي إذا طلّقتها واحدة أو اثنتين ، فأنت مخيّر فيها ما دامت عدّتها باقية ، بين أن تردّها إليك ناوياً الإصلاح والإحسان وبين أن تتركها حتّى تنقضي عدّتها ، فتبين منك ، وتطلق سراحها محسناً إليها لا تظلمها من حقّها شيئاً ولا تضارّ بها (١). وأين هذا من الطلاق ثلاثاً بلا تخلّل بواحد من الأمرين ـ الإمساك أو تركها حتّى ينقضي أجلها ـ سواء طلّقها بلفظ : أنتِ طالق ثلاثاً ، أو : أنتِ طالق ، أنتِ طالق ، أنتِ طالق.

وأمّا على التقدير الثاني ؛ فإنّ تلك الفقرة وإن كانت ناظرة لحال الطلاق الثالث ، وساكتة عن حال الطلاقين الأوّلين ، لكن قلنا إنّ بعض الآيات ، تدلّ على أنّ مضمونه من خصيصة مطلق الطلاق ، من غير فرق بين الأوّلين والثالث فالمطلّق يجب أن يُتبعَ طلاقه بأحد أمرين :

__________________

(١) ابن كثير ، التفسير ١ : ٥٣.

٢١٦

١ ـ الإمساك بمعروف.

٢ ـ التسريح بإحسان.

فعدم دلالة الآية الأُولى على خصيصة الطلاقين الأوّلين ، لا ينافي استفادتها من الآيتين الماضيتين (١). ولعلّهما تصلحان قرينة لإلقاء الخصوصية من ظاهر الفقرة (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) وإرجاع مضمونها إلى مطلق الطلاق ، ولأجل ذلك قلنا بدلالة الفقرة على لزوم إتباع الطلاق بأحد الأمرين على كلا التقديرين. وعلى أيّ حال فسواء كان عنصر الدلالة نفس الفقرة أو غيرها ـ كما ذكرنا ـ فالمحصّل من المجموع هو كون إتباع الطلاق بأحد أمرين من لوازم طبيعة الطلاق الّذي يصلح للرجوع.

ويظهر ذلك بوضوح إذا وقفنا على أنّ قوله : (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) من القيود الغالبية ، وإلّا فالواجب منذ أن يطلّق زوجته ، هو القيام بأحد الأمرين ، لكن تخصيصه بزمن خاص ، وهو بلوغ آجالهنّ ، هو لأجل أنّ المطلّق الطاغي عليه غضبه وغيظه ، لا تنطفئ سورة غضبه فوراً حتّى تمضي عليه مدّة من الزمن تصلح لأن يتفكّر في أمر زوجته ويخاطب بأحد الأمرين ، وإلّا فطبيعة الحكم الشرعي (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) تقتضي أن يكون حكماً سائداً على جميع الأزمنة من لدن أن يتفوّه بصيغة الطلاق إلى آخر لحظة تنتهي معها العدّة.

وعلى ضوء ما ذكرنا تدلّ الفقرة على بطلان طلاق الثلاث وأنّه يخالف الكيفية المشروعة في الطلاق ، غير أنّ دلالتها على القول الأوّل بنفسها ، وعلى القول الثاني بمعونة الآيات الأُخر.

٢ ـ قوله سبحانه : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ)

__________________

(١) الآية ٢٣١ من سورة البقرة والآية ٢ من سورة الطلاق.

٢١٧

إنّ قوله سبحانه : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) ظاهر في لزوم وقوعه مرّة بعد أُخرى لا دفعة واحدة وإلّا يصير مرّة ودفعة ، ولأجل ذلك عبّر سبحانه بلفظ «المرّة» ليدلّ على كيفية الفعل وأنّه الواحد منه ، كما أنّ الدفعة والكرّة والنزلة ، مثل المرّة ، وزناً ومعنى واعتباراً.

وعلى ما ذكرنا فلو قال المطلّق : أنت طالق ثلاثاً ، لم يطلِّق زوجته مرّة بعد أُخرى ، ولم يطلّق مرّتين ، بل هو طلاق واحد ، وأمّا قوله «ثلاثاً» فلا يصير سبباً لتكرّره ، وتشهد بذلك فروع فقهية لم يقل أحد من الفقهاء فيها بالتكرار بضمّ عدد فوق الواحد.

مثلاً اعتبر في اللعان شهادات أربع ؛ فلا تجزي عنها شهادة واحدة مشفوعة بقوله «أربعاً». وفصول الأذان المأخوذة فيها التثنية ؛ لا يتأتّى التكرار فيها بقراءة واحدة وإردافها بقوله : «مرّتين». ولو حلف في القسامة وقال : «اقسم بالله خمسين يميناً أنّ هذا قاتله» كان هذا يميناً واحداً. ولو قال المقرّ بالزنا : «أنا أُقرّ أربع مرّات أنّي زنيت» كان إقراراً واحداً ، ويحتاج إلى ثلاثة إقرارات أُخرى ، إلى غير ذلك من الموارد التي لا يكفي فيها العدد عن التكرار.

قال الجصّاص : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) ، وذلك يقتضي التفريق لا محالة ؛ لأنّه لو طلّق اثنتين معاً لما جاز أن يقال : طلّقها مرّتين ، وكذلك لو دفع رجل إلى آخر درهمين لم يجز أن يقال : أعطاه مرّتين ، حتّى يفرّق الدفع ، فحينئذٍ يُطلق عليه ، وإذا كان هذا هكذا ، فلو كان الحكم المقصود باللفظ هو ما تعلّق بالتطليقتين من بقاء الرجعة لأدّى ذلك إلى إسقاط فائدة ذكر المرّتين ؛ إذ كان هذا الحكم ثابتاً في المرة الواحدة إذا طلّق اثنتين ، فثبت بذلك أنّ ذكر المرّتين إنّما هو أمر بإيقاعه مرّتين ، ونهى عن الجمع بينهما في مرّة واحدة (١).

__________________

(١) أحكام القرآن ١ : ٣٧٨.

٢١٨

هذا كلّه إذا عبّر عن التطليق ثلاثاً بصيغة واحدة ، أمّا إذا كرّر الصيغة ـ كما عرفت ـ فربّما يغترّ به البسطاء ويزعمون أنّ تكرار الصيغة ينطبق على الآية ، لكنّه مردود من جهة أُخرى وهي :

أنّ الصيغة الثانية والثالثة تقعان باطلتين لعدم الموضوع للطلاق ؛ فإنّ الطلاق إنّما هو لقطع علقة الزوجيّة ؛ فلا زوجية بعد الصيغة الأُولى حتّى تقطع ، ولا رابطة قانونية حتّى تصرم.

وبعبارة واضحة : إنّ الطلاق هو أن يقطع الزوج علقة الزوجيّة بينه وبين امرأته ويطلق سراحها من قيدها ، وهو لا يتحقّق بدون وجود تلك العلقة الاعتبارية الاجتماعية ، ومن المعلوم أنّ المطلّقة لا تطلّق ، والمسرَّحة لا تسرّح.

وربّما يقال : إنّ المطلقة ما زالت في حبالة الرجل وحكمها حكم الزوجة ، فعندئذٍ يكون للصيغة الثانية والثالثة تأثير بحكم هذه الضابطة ، ولكن الإجابة عنه واضحة ؛ وذلك لأنّ الصيغة الثانية لغوٌ جداً ؛ لأنّ الزوجة بعدها أيضاً بحكم الزوجة ، وإنّما تخرج عنه إذا صار الطلاق بائناً ، وهو يتحقّق بالطلاق ثلاثاً.

والحاصل : أنّه لا يحصل بهذا النحو من التطليقات الثلاث ، العدد الخاص الّذي هو موضوع للآية التالية ، أعني قوله سبحانه : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) وكيف لا يكون ذلك ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا طلاق إلّا بعد نكاح» ، وقال: «لا طلاق قبل نكاح» (١).

فتعدّد الطلاق رهن تخلّل عقدة الزواج بين الطلاقين ، ولو بالرجوع ، وإذا لم تتخلّل يكون التكلّم أشبه بالتكلّم بكلام لغو.

قال السماك : إنّما النكاح عقدة تعقد ، والطلاق يحلّها ، وكيف تُحلّ عقدة قبل أن

__________________

(١) السنن الكبرى ٧ : ٣١٨ ـ ٣٢١ ؛ مستدرك الحاكم ٢ : ٢٤.

٢١٩

تعقد؟! (١)

٣ ـ قوله سبحانه : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ)

إنّ قوله سبحانه : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) ، وارد في الطلاق الّذي يجوز فيه الرجوع (٢). ومن جانب آخر دلّ قوله سبحانه : (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ)(٣). على أنّ الواجب في حقّ هؤلاء هو الاعتداد وإحصاء العدّة ، من غير فرق بين أن نقول : إنّ «اللام» في «عدتهن» للظرفية بمعنى «في عدّتهنّ» أو بمعنى الغاية ، والمراد لغاية أن يعتددنَ ؛ إذ على كلّ تقدير يدلّ على أنّ من خصائص الطلاق الذي يجوز فيه الرجوع ، هو الاعتداد وإحصاء العدّة ، وهو لا يتحقّق إلّا بفصل الأوّل عن الثاني ، وإلّا يكون الطلاق الأوّل بلا عدّة وإحصاء ولو طلّق اثنتين مرّة. ولو طلّق ثلاثاً يكون الأوّل والثاني كذلك.

وقد استدلّ بعض أئمّة أهل البيت بهذه الآية على بطلان الطلاق ثلاثاً :

روى صفوان الجمّال عن أبي عبد الله عليه‌السلام : أنّ رجلاً قال له : إنّي طلّقت امرأتي ثلاثاً في مجلس؟ قال : «ليس بشيء» ، ثمّ قال : «أما تقرأ كتاب الله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) ـ إلى قوله سبحانه ـ (لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) ثمّ قال : كلّ ما خالف كتاب الله والسنّة فهو يردّ إلى كتاب الله والسنّة» (٤).

أضف إلى ذلك : أنّه لو صحّ التطليق ثلاثاً فلا يبقى لقوله سبحانه : (لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) فائدة ، لأنّه يكون بائناً ويبلغ الأمر إلى ما لا تحمد عقباه ، ولا تحلّ العقدة إلّا بنكاح رجل آخر وطلاقه مع أنّ الظاهر أنّ المقصود حلّ

__________________

(١) السنن الكبرى ٧ : ٣٢١.

(٢) فخرج الطلاق البائن كطلاق غير المدخولة ، وطلاق اليائسة من المحيض الطاعنة في السن وغيرهما.

(٣) الطلاق : ١.

(٤) قرب الاسناد : ص ٣٠ ؛ ورواه الحرّ العاملي في وسائل الشيعة ج ١٥ ، الباب ٢٩ ، الحديث ٢٥ ، من أبواب مقدّمات الطلاق.

٢٢٠