في ظلال التّوحيد

الشيخ جعفر السبحاني

في ظلال التّوحيد

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: نشر مشعر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-6293-82-4

الصفحات: ٧١٢

الدارقطني : متروك ، وقال الأزدي : كذّاب.

٤ ـ حديث عبد العزيز بن أبان ، عن الثوري ، عن حجّاج بن فرافصة ، عن مكحول ، عن أبي هريرة مرفوعاً :

«من حافظ على سبحة الضحى غفرت ذنوبه ، وإن كانت بعدد الجراد وأكثر من زبد البحر».

ذكره الحاكم أيضاً ، وعبد العزيز هذا ، قال ابن نمير : هو كذّاب. وقال يحيى : ليس بشيء كذاب ، خبيث يضع الحديث. وقال البخاري والنسائي والدارقطني : متروك الحديث.

٥ ـ حديث النهاس بن فهم ، عن شدّاد ، عن أبي هريرة يرفعه :

«من حافظ على سبحة الضحى غفرت ذنوبه وإن كانت أكثر من زبد البحر».

والنهاس ، قال يحيى : ليس بشيء ضعيف ، كان يروي عن عطاء ، عن ابن عباس أشياء منكرة.

وقال النسائي : ضعيف. وقال ابن عديّ : لا يساوي شيئاً. وقال ابن حبان : كان يروي المناكير عن المشاهير ، ويخالف الثقات ، لا يجوز الاحتجاج به. وقال الدارقطني : مضطرب الحديث تركه يحيى القطان (١).

الطائفة الثالثة :

الأحاديث النافية لمشروعية صلاة الضحى الّتي هي معارضة للأحاديث المثبتة ، وباعتبار قوّة دلالتها واسنادها رجّحها جماعة من علماء العامّة على غيرها ، كما صرّح بذلك ابن قيم.

__________________

(١) راجع حول الأحاديث الموضوعة وعمّا جاء حول رواتها ، زاد المعاد ١ : ١١٩ ـ ١٢٠.

١٨١

قال : «وطائفة ثانية ذهبت إلى أحاديث الترك ، ورجحتها من جهة صحّة اسنادها وعمل الصحابة بموجبها» (١).

منها :

١ ـ ما رواه البخاري بسنده عن مورق قال : «قلت لابن عمر : أتصلّي الضحى؟ قال : لا. قلت : فعمر؟ قال : لا. قلت : فأبو بكر؟ قال : لا. قلت : فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ قال : لا أخاله» (٢).

٢ ـ وما رواه أيضاً بسنده عن عائشة ، قالت : «ما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سبّح سبحة الضحى ، وإنّي لأُسبّحها» (٣).

وقد استدلّ بعضهم بهذه الرواية لنفي الضحى لصحّة اسنادها. «قال أبو الحسن عليّ بن بطّال : فأخذ قوم من السلف بحديث عائشة ولم يروا صلاة الضحى ، وقال قوم : إنّها بدعة» (٤).

وأما قول عائشة «بأنّي أُسبّحها» ، فهو اجتهاد في مقابل النص ، ولا قيمة له في سوق الاعتبار الشرعي.

٣ ـ وما رواه أيضاً بسنده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنّه قال : ما حدّثنا أحد انّه رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يصلّي الضحى غير أُمّ هانئ ، فإنّها قالت : «إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل بيتها يوم فتح مكّة فاغتسل وصلّى ثماني ركعات ، فلم أر صلاة قطّ أخفّ منها ، غير انّه يتمّ الركوع والسجود» (٥).

أقول : انّ رواية أُمّ هانئ ليست ظاهرة في صلاة الضحى ، ويحتمل قوياً أنّ

__________________

(١) زاد المعاد ١ : ١١٧.

(٢) صحيح البخاري ٢ : ٧٣.

(٣) المصدر نفسه ؛ مسند أحمد بن حنبل ٦ : ٢٠٩.

(٤) زاد المعاد ١ : ١١٧.

(٥) صحيح البخاري ٢ : ٧٣.

١٨٢

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله صلّى تلك الركعات شكراً لله على ما منّ عليه بفتح مكّة. ولذلك ذهبت جماعة من علماء العامّة «بأنّها لا تشرع إلّا بسبب الخ» (١).

٤ ـ ما رواه أحمد بن حنبل بسنده عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، قال : «رأى أبو بكرة ناساً يصلّون الضحى فقال : إنّهم ليصلّون صلاة ما صلّاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا عامّة أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ» (٢).

٥ ـ ما رواه مسلم في صحيحه بسنده عن حفص بن عاصم قال : مرضت مرضاً فجاء ابن عمر يعودني قال : وسألته عن السبحة في السفر؟ فقال : «صحبت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في السفر فما رأيته يسبّح ، ولو كنت مسبحاً لأتممت ، وقد قال الله : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (٣).

٦ ـ وما رواه البخاري بسنده عن مجاهد ، قال : دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فإذا عبد الله بن عمر جالس إلى حجرة عائشة وإذا أُناس يصلّون في المسجد صلاة الضحى. قال : فسألناه عن صلاتهم ، فقال : بدعة» (٤).

٧ ـ وروي عن الشعبي قال : «سمعت ابن عمر يقول : ما ابتدع المسلمون أفضل من صلاة الضحى» (٥).

ففي هاتين الروايتين صرّح ابن عمر بكون صلاة الضحى بدعة ، وإن رآها فضيلة بناء على مسلك والده في جواز الابتداع الحسن.

٨ ـ روي عن ابن عباس أنّه قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أُمرت بالضحى ولم تؤمروا بها» (٦).

__________________

(١) نيل الأوطار ٣ : ٥٣.

(٢) مسند الإمام أحمد بن حنبل ٥ : ٤٥.

(٣) صحيح مسلم ٥ : ١٩٩ كتاب المسافرين ، والآية من سورة الأحزاب : ٢١.

(٤) صحيح البخاري ٣ : ٣ باب العمرة.

(٥) زاد المعاد ١ : ١١٨.

(٦) نيل الأوطار ٣ : ٦١.

١٨٣

بناءً على صحة الحديث فالظاهر انّ المراد من الأمر هنا هو أصل التشريع لا الوجوب ، لأنّه لم يثبت وجوب شيء من النوافل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خاصّة عدا نافلة الليل. وعليه فلم تشرع نافلة له وضحى للمسلمين لأنّه نفى الأمر بها عليهم.

* * *

إلى هنا تبيّن أنّه لم يوجد حديث صحيح فيه دلالة واضحة على مشروعية صلاة الضحى. وأما ما ادّعيت صحّته فهو إمّا معارض بالراجح عليه سنداً ودلالة ، أو فيه إجمال لا يمكن أن يستدلّ به على المقصود.

موقف الإمامية من صلاة الضحى

إنّ صلاة الضحى عند فقهاء الإمامية ، بدعة لا يجوز فعلها. وقد اتّفقوا وأجمعوا على هذا الرأي ، كما صرّح بذلك السيد الشريف المرتضى في رسائله (١) ، وشيخ الطائفة في الخلاف (٢) ، والعلّامة الحلي في المنتهى (٣) ، والعلامة المجلسي في البحار (٤) ، والمحدِّث البحراني في الحدائق الناضرة (٥).

ويدلّ على هذا الرأي قبل الإجماع ، أوّلاً : عدم الدليل الشرعي المعتبر على مشروعيّة صلاة الضحى ، وهذا يكفي للقول بعدمها ؛ إذ لا يطالب النافي بدليل ، بل الدليل على المدّعي.

وثانياً : الأخبار المستفيضة الواردة عن طرق أهل البيت عليهم‌السلام النافية

__________________

(١) رسائل الشريف المرتضى ١ : ٢٢١.

(٢) الخلاف ، نقلاً عن موسوعة الينابيع الفقهية ٢٨ : ٢٢٠.

(٣) البحار ٨٠ : ١٥٨.

(٤) المصدر نفسه : ١٥٥.

(٥) الحدائق الناضرة ٦ : ٧٧.

١٨٤

لمشروعية صلاة الضحى ، والمصرّح في بعضها أنّ العمل بها بدعة ومعصية ، منها :

١ ـ ما رواه الشيخ الطوسي ، عن الحسين بن سعيد ، عن حماد بن عيسى ، عن حريز ، عن زرارة وابن مسلم والفضيل ، قالوا : سألناهما عليهما‌السلام عن الصلاة في رمضان نافلة بالليل جماعة ، فقالا :

إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا صلّى العشاء الآخرة انصرف إلى منزله ، ثمّ يخرج من آخر الليل إلى المسجد فيقوم فيصلّي. فخرج في أوّل ليلة من شهر رمضان ليصلّي ، كما كان يصلّي ، فاصطفّ الناس خلفه فهرب منهم إلى بيته وتركهم ، ففعلوا ذلك ثلاث ليال ، فقام في اليوم الرابع على منبره فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : «أيّها الناس إنّ الصلاة بالليل في شهر رمضان النافلة في جماعة بدعة ، وصلاة الضحى بدعة فلا تجتمعوا ليلاً في شهر رمضان ، ولا تصلّوا صلاة الضحى ؛ فانّ ذلك معصية ، ألا وإنّ كلّ بدعة ضلالة ، وكلّ ضلالة سبيلها إلى النار» ثمّ نزل وهو يقول : «وقليل في سنّة خير من كثير في بدعة» (١).

٢ ـ ما حكي عن دعائم الإسلام عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام أنّه قال لرجل من الأنصار سأله عن صلاة الضحى ، فقال : «إنّ أوّل من ابتدعها قومك الأنصار ، سمعوا قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «صلاة في مسجدي تعدل ألف صلاة» فكانوا يأتون من ضياعهم ضحى فيدخلون المسجد فيصلّون ، فبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فنهاهم عنه» (٢).

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٦٩ ـ ٧٠ ، ومثله في الاستبصار ١ : ٤٦٧ ـ ٤٦٨ ، والفقيه ٢ : ١٣٢ ، والوسائل ٥ : ١٩٢.

(٢) البحار ٨٠ : ١٥٩ ؛ مستدرك الوسائل ٣ : ٧٠. لاحظ من لا يحضره الفقيه ١ : ٥٦٦ وفي الأخير زيادة على ما في المتن.

١٨٥

المسألة الثالثة : إقامة صلاة التراويح جماعة

اتّفقت كلمة الفقهاء على أنّ نوافل شهر رمضان (صلاة التراويح) سُنّة مؤكّدة ، وأوّل من سنّها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال :

«من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه» (١).

إنّ استجلاء الحقّ في جواز إقامتها جماعة ، أو كونها بدعة يتطلّب تقديم أمرين :

١ ـ هل تُسنُّ الجماعة في مطلق النوافل أو لا؟

المشهور عند أهل السنّة جواز إقامة النوافل جماعة ، والأفضل في بعضها إقامتها منفرداً ، وإليك تفصيل مذاهبهم :

قالت المالكية : الجماعة في صلاة التراويح مستحبّة ، أمّا باقي النوافل فإنّ صلاتها جماعة تارةً يكون مكروهاً ، وتارة يكون جائزاً ، فيكون مكروهاً إذا صلّيت بالمسجد أو صلّيت بجماعة كثيرين ، أو كانت بمكان يكثر تردّد الناس عليه ، وتكون جائزة إذا كانت بجماعة قليلة ، ووقعت في المنزل ونحوه من الأمكنة التي لا يتردّد عليها الناس.

وقالت الحنفية : تكون الجماعة سنّة كفاية في صلاة التراويح والجنازة ، وتكون مكروهة في صلاة النوافل مطلقاً ، والوتر في غير رمضان ، وإنّما تكره الجماعة في ذلك إذا زاد المقتدون عن ثلاثة ، أمّا الجماعة في وتر رمضان ففيها قولان

__________________

(١) البخاري ، الصحيح باب فضل من قام رمضان برقم ٢٠٠٨ ؛ مسلم ، الصحيح ج ٢ باب الترغيب في قيام رمضان ، وهو التراويح : ص ١٧٦ ط دار الجيل ودار الآفاق.

١٨٦

مُصحّحان ، أحدهما : أنّها مستحبّة فيه ، ثانيهما : أنّها غير مستحبّة ، ولكنها جائزة ؛ وهذا القول أرجح.

وقالت الشافعية : أمّا الجماعة في صلاة العيدين والاستسقاء والكسوف والتراويح ووتر رمضان فهي مندوبة.

وقالت الحنابلة : أمّا النوافل فمنها ما تُسَنّ فيه الجماعة ، وذلك كصلاة الاستسقاء والتراويح والعيدين ، ومنها ما تباح فيه الجماعة ، كصلاة التهجّد ورواتب الصلاة المفروضة(١).

وقال المقدسي في الشرح الكبير : ويجوز التطوّع في جماعة وفرادى ؛ لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فعل الأمرين كليهما ، وكان أكثر تطوّعه منفرداً ، ومع ذلك اتّفقوا على أنّ التطوّع في البيت أفضل ، لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«عليكم بالصلاة في بيوتكم ؛ فانّ خير صلاة المرء في بيته إلّا المكتوبة».

وقال عليه‌السلام : «إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فلْيجعل لبيته نصيباً من صلاته ؛ فإنّ الله جاعل في بيته من صلاته خيراً» رواهما مسلم.

وعن زيد بن ثابت أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال :

«صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلّا المكتوبة» رواه أبو داود ، ولأنّ الصلاة في البيت أقرب إلى الإخلاص وأبعد من الرياء وهو من عمل السرّ ، والسرّ أفضل من العلانية (٢).

قالت الإمامية : تشرع الجماعة في الصلوات الواجبة ، ولا تشرع في المستحبّة ،

__________________

(١) الفقه على المذاهب الأربعة ، كتاب الصلاة ، حكم الامامة في صلاة الجمعة والجنائز والنوافل : ص ٤٠٧ ، وفي ص ٣٤٠ : هي سنة عين مؤكّدة عند ثلاثة من الأئمة ، وخالفت المالكية.

(٢) المغني والشرح ١ : ٧٧١ ، دار الكتاب العربي ط أفست ١٤٠٣ / ١٩٨٣.

١٨٧

إلّا في الاستسقاء والعيدين مع فقد الشروط (١) ، وقالت المذاهب الأربعة : تشرع مطلقاً في الواجبة والمستحبّة (٢).

٢ ـ التراويح لغةً واصطلاحاً :

التراويح : جمع ترويحة ؛ وهي في الأصل اسم للجلسة مطلقاً ، ثمّ سمّيت بها الجلسة بعد أربع ركعات في ليالي رمضان ؛ لاستراحة الناس بها ، ثمّ سُمّي كلّ أربع ركعات ترويحة ، وهي أيضاً اسم لعشرين ركعة في الليالي نفسها.

قال ابن منظور : والترويحة في شهر رمضان : سميت بذلك لاستراحة القوم بعد كلّ أربع ركعات. وفي الحديث : صلاة التراويح ؛ لأنّهم كانوا يستريحون بين كلّ تسليمتين. والتراويح جمع ترويحة ؛ وهي المرّة الواحدة من الراحة ، تفعيلة منها ، مثل تسليمة من السلام(٣).

عدد ركعاتها عند الفريقين

اختلف الفقهاء في عدد صلاة نوافل شهر رمضان ، أمّا الشيعة فقد ذهبت إلى أنّ نوافل ليالي شهر رمضان ألف ركعة في تمام الشهر.

قال الامام الصادق عليه‌السلام : «ممّا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يصنع في شهر رمضان ، كان يتنفّل في كلّ ليلة ويزيد على صلاته الّتي كان يصلّيها قبل ذلك منذ أوّل ليلة إلى تمام عشرين ليلة ؛ في كلّ ليلة عشرين ركعة ؛ ثماني ركعات منها بعد المغرب ، واثنتي عشرة بعد العشاء الآخرة ، ويصلّي في العشر الأواخر في كلّ

__________________

(١) إذ عند اجتماع الشروط تكون واجبة.

(٢) الفقه على المذاهب الخمسة ١ : ١٣٣.

(٣) لسان العرب ، ج ٢ مادة «روح».

١٨٨

ليلة ثلاثين ركعة ؛ اثنتي عشرة منها بعد المغرب ، وثماني عشرة بعد العشاء الآخرة ، ويدعو ويجتهد اجتهاداً شديداً ، وكان يصلّي في ليلة إحدى وعشرين مائة ركعة ، ويصلّي في ليلة ثلاث وعشرين : مائة ركعة ويجتهد فيهما» (١).

وأما غيرهم فقد قال الخرقي في مختصره : وقيام شهر رمضان عشرون ركعة ، يعني صلاة التراويح (٢).

وقال ابن قدامة في شرحه : والمختار عند أبي عبد الله «الإمام أحمد» عشرون ركعة ، وبهذا قال الثوري ، وأبو حنيفة والشافعي ، وقال مالك : ست وثلاثون ، وزعم أنّه الأمر القديم ، وتعلّق بفعل أهل المدينة (٣).

والظاهر أنّه ليس في عددها عند أهل السنّة دليل معتمد عليه ، يحكي عن قول الرسول أو فعله أو تقريره ، والقول بالعشرين يعتمد على فعل عمر ، كما أنّ القول بالستّ والثلاثين يعتمد على فعل عمر بن عبد العزيز.

وقد فصّل القول في ذلك عبد الرحمن الجزيري في «الفقه على المذاهب الأربعة» وقال :

روى الشيخان أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله خرج من جوف الليل ليالي من رمضان ، وهي ثلاث متفرقة: ليلة الثالث ، والخامس ، والسابع والعشرين ، وصلّى في المسجد ، وصلّى الناس بصلاته فيها ، وكان يصلّي بهم ثماني ركعات ، ويُكْملون باقيها في بيوتهم ، فكان يسمع لهم أزيز ، كأزيز النحل ... وقال : ومن هذا يتبيّن أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله سنّ لهم التراويح والجماعة ، ولكن لم يصلّ بهم عشرين ركعة ، كما جرى عليه العمل من عهد الصحابة ومن بعدهم إلى الآن ، ولم يخرج إليهم بعد ذلك ، خشية أن تُفْرض عليهم ، كما صرّح به في بعض الروايات ، ويُتَبيّنُ أنّ عددها ليس قاصراً على الثماني ركعات

__________________

(١) التهذيب ٣ : ٦٢ / ٢١٣.

(٢) و (٣) المغني ٢ : ١٣٧ ـ ١٣٨.

١٨٩

الّتي صلّاها بهم ؛ بدليل أنّهم كانوا يكملونها في بيوتهم ، وقد بيّن فعل عمر رضى الله عنه أنّ عددها عشرون ، حيث إنّه جمع الناس أخيراً على هذا العدد في المسجد ، ووافقه الصحابة على ذلك. نعم زيد فيها في عهد عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه وجعلت ستاً وثلاثين ركعة. ولكن كان القصد من هذه الزيادة مساواة أهل مكّة في الفضل ؛ لأنّهم كانوا يطوفون بالبيت بعد كلّ أربع ركعات مرّة ، فرأى رضى الله عنه أن يصلّي بدل كلّ طواف ، أربع ركعات (١).

هذا وقد بسط شرّاح البخاري وغيرهم القول في عدد ركعاتها إلى حدٍّ قلّ نظيره في أبواب العبادات ، فمن قائل أنَّ عدد ركعاتها ١٣ ركعة ، إلى آخر أنّها ٢٠ ركعة ، إلى ثالث أنَّها ٢٤ ركعة ، إلى رابع أنّها ٢٨ ركعة ، إلى خامس أنّها ٣٦ ركعة ، إلى سادس أنّها ٣٨ ركعة ، إلى سابع أنّها ٣٩ ركعة ، إلى ثامن أنّها ٤١ ركعة ، إلى تاسع أنّها ٤٧ ركعة ، وهلم جراً (٢).

والأغرب من هذا تدخّل عمر بن عبد العزيز في أمر الشريعة! فأدخل فيها ما ليس منها ليتساوى ـ في رأيه ـ أهل المدينة وأهل مكة ، في الفضل والثواب ؛ فإنّ فسح المجال لهذا النوع من التدخّل يجعل الشريعة أُلعوبة بيد الحكّام ، يحكمون فيها بآرائهم.

__________________

(١) الفقه على المذاهب الأربعة ١ : ٢٥١ ، كتاب الصلاة ، مبحث صلاة التراويح. ولا يخفى أنّه لو كان المقياس في الزيادة ، هو عدد الطواف بعد كلّ أربع ركعات فعندئذٍ يصل عددها إلى أربعين ركعة في كلّ ليلة ، لأنّهم إذا كانوا يطوفون بعد كلّ أربع ركعات مرّة واحدة ، يكون عددها خمس مرّات ، فاذا كان مقابل كلّ مرّة منه أربع ركعات ، يبلغ عددها عشرين ركعة (٥* ٤ / ٢٠) فتضاف إلى العشرين ركعة الأصلية فيصير المجموع ٤٠ ركعة. نعم ذلك يصحّ على ما نقله ابن قدامة المقدسي من أنّ الطواف كان بين كلّ ترويحة. (لاحظ ١ : ٧٤٩)

(٢) فتح الباري ٤ : ٢٠٤ ؛ إرشاد الساري ٣ : ٤٢٦ ؛ عمدة القاري ١١ : ١٢٦ ، وقد تكلفوا في الجمع بين هذه الأقوال المتشتتة ، فلاحظ.

١٩٠

حكم إقامتها جماعة

إنّ الشيعة الإمامية ـ تبعاً للإمام عليّ وأهل بيته عليهم‌السلام ـ يقيمون نوافل شهر رمضان بلا جماعة ، ويرون إقامتها جماعة بدعة حقيقية حدثت بعد رسول الله ، بمقياس (١) ما أنزل الله به من سلطان.

قال الشيخ الطوسي : نوافل شهر رمضان تصلّى انفراداً ، والجماعة فيها بدعة ، وقال الشافعي : صلاة المنفرد أحبّ إليَّ منه ، وشنّع ابن داود على الشافعي في هذه المسألة ، فقال : خالف فيها السنّة والإجماع.

واختلف أصحاب الشافعي في ذلك على قولين ؛ فقال أبو العباس وأبو إسحاق وعامّة أصحابه : صلاة التراويح في الجماعة أفضل بكلّ حال ، وتأوّلوا قول الشافعي فقالوا : إنّما قال : النافلة ضربان ، نافلة سُنَّ لها الجماعة ، وهي العيدان ، والخسوف ، والاستسقاء ونافلة لم تُسنَّ لها الجماعة ، مثل ركعتي الفجر والوتر ، وما سنّ له الجماعة أوكد مما لم تُسَنَّ له الجماعة ، ثمّ قال : فأمّا قيام شهر رمضان فصلاة المنفرد أحبّ إليّ منها يعني ركعات الفجر والوتر ، الّتي تفعل على الانفراد أوكد من قيام شهر رمضان.

والقول الثاني : منهم من قال بظاهر كلامه ، فقال : صلاة التراويح على الانفراد أفضل منها في الجماعة ، بشرطين ، أحدهما : أن لا تختلّ الجماعةُ بتأخّرهِ عن المسجد ، والثاني : أن يطيل القيام والقراءة فيصلّي منفرداً ، أو يقرأ أكثر ممّا يقرأ إمامه.

وقد نصّ في القديم على أنّه إن صلّى في بيته في شهر رمضان فهو أحبّ إليّ ، وإن

__________________

(١) فتح الباري ٤ : ٢٠٤ ، ذكره لجمع الناس على إمام واحد.

١٩١

صلّاها في جماعة فهو حسن ، واختار أصحابه مذهب أبي العبّاس وأبي إسحاق.

ثمّ استدلّ الشيخ الطوسي على مذهب الإمامية بإجماعهم على أنّ ذلك بدعة. وأيضاً روى زيد بن ثابت (١) أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال :

«صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في المسجد إلّا المكتوبة» (٢).

وإذا وقفت على آراء الفقهاء فإليك دراسة الأدلّة :

أمّا أئمة أهل البيت فقد اتّفقت كلمتهم على أنّ الجماعة في النوافل مطلقاً بدعة ، من غير فرق بين صلاة التراويح وغيرها ، وهناك صنفان من الروايات :

أحدهما : يدلّ على عدم تشريع الجماعة في مطلق النوافل.

ثانيهما : ما يدلّ على عدم تشريعها في صلاة التراويح.

أمّا الصنف الأوّل فنذكر منه روايتين.

١ ـ قال الإمام الباقر عليه‌السلام : «ولا يُصلّى التطوعُ في جماعة ، وكلّ بدعة ضلالة ، وكلّ ضلالة في النار» (٣).

٢ ـ قال الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام في كتابه إلى المأمون : «ولا يجوز أن يصلّى تطوّع في جماعة ؛ لأنّ ذلك بدعة» (٤).

وأمّا الصنف الثاني ، فقد تحدّث عنه الإمام الصادق عليه‌السلام وقال : «لمّا قدم أمير المؤمنين عليه‌السلام الكوفة أمر الحسن بن عليّ أن ينادي في الناس : لا صلاة في شهر رمضان في المساجد جماعة ، فنادى في الناس الحسنُ بن عليّ بما أمره به أمير المؤمنين ، فلمّا سمع الناس مقالة الحسن عليه‌السلام صاحوا : وا عُمَراه! وا عُمَراه!

__________________

(١) أبو داود ، السنن ٢ : ٦٩.

(٢) الخلاف ، كتاب الصلاة ، المسألة ٢٦٨.

(٣) الخصال ٢ : ١٥٢.

(٤) عيون أخبار الرضا : ص ٢٦٦.

١٩٢

فلمّا رجع الحسن إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام قال له : ما هذا الصوت؟ قال : يا أمير المؤمنين الناس يصيحون : وا عُمَراه وا عُمَراه ، فقال أمير المؤمنين : قل لهم : صلّوا» (١).

وربما يتعجّب القارئ من قول الإمام «قل لهم : صلّوا» حيث تركهم يستمرّون في الإتيان بهذا الأمر المبتدع ، ولكن إذا رجع إلى سائر كلماته يتجلّى له سرّ تركهم على ما كانوا عليه.

قال الشيخ الطوسي : إنّ أمير المؤمنين لمّا أنكر ، أنكر الاجتماع ، ولم يُنكر نفس الصلاة ، فلمّا رأى أنّ الأمر يَفسُد عليه ويفتتن الناس ، أجاز أمرهم بالصلاة على عادتهم(٢).

ويدلّ عليه :

ما رواه سليم بن قيس ، قال : خطب أمير المؤمنين فحمد الله وأثنى عليه ثمّ صلّى على النبيّ ثمّ قال :

«ألا إنّ أخوف ما أخاف عليكم خلّتان : اتّباع الهوى ، وطول الأمل ـ ثمّ ذكر أحداثاً ظهرت بعد رسول الله ـ وقال : ولو حملتُ الناسَ على تركها ... لتفرق عنّي جندي حتّى أبقى وحدي أو قليل من شيعتي ... والله لقد أمرتُ الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلّا في فريضة وأعلمتهم أنّ اجتماعهم في النوافل بدعة ، فتنادى بعض أهل عسكري ممّن يقاتل معي : يا أهل الإسلام غُيِّرتْ سنّة عمر ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوّعاً ، وقد خفت أن يثوروا في ناحية جانب عسكري ...» (٣).

__________________

(١) التهذيب ٣ : ح ٢٢٧.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) الكافي ٨ : ٥٨.

١٩٣

تسنّم الامام منصة الخلافة بطوع ورغبة من جماهير المسلمين ، وواجه أحداثاً ظهرت بعد رسول الله ، وأراد إرجاع المجتمع الإسلامي إلى عهد رسول الله في مجالات مختلفة ، ولكن حالت العوائق دون نيّته ، فترك بعض الأُمور بحالها ، حتّى يشتغل بالأهمّ فالأهمّ ، فلأجله أمر ابنه الحسن أن يتركهم بحالهم حتّى لا يختلّ نظام البلاد ، ولا يثور الجيش ضدّه.

روى أبو القاسم بن قولويه (ت ٣٦٩ ه‍) عن الإمامين الباقر والصادق قالا :

«كان أمر أمير المؤمنين بالكوفة إذا أتاه الناس فقالوا له : اجعل لنا إماماً يؤمّنا في رمضان ، فقال لهم : لا ، ونهاهم أن يجتمعوا فيه ، فلمّا أحسّوا ، جعلوا يقولون أبكوا رمضان وا رمضاناه ، فأتى الحارث الأعور في أُناس فقال : يا أمير المؤمنين ضجّ الناس وكرهوا قولك ، قال : فقال عند ذلك : دعوهم وما يريدون ، يُصلّ بهم من شاءُوا» (١).

هذه الروايات تدلّنا على موقف أئمة أهل البيت في إقامة نوافل شهر رمضان جماعة.

صلاة التراويح في حديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله

تختلف روايات أئمة أهل البيت عن بعض ما رواه أصحاب السنن ، فرواياتهم عليهم‌السلام صريحة في أنّ النبيّ الأكرم كان ينهى عن إقامة نوافل رمضان جماعة ، وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا خرج بعض الليالي إلى المسجد ليقيمها منفرداً ، ائتمّ به الناس فنهاهم عنه ، ولمّا أحسّ إصرارهم على الائتمام به ترك الصلاة في المسجد واكتفى بإقامتها في البيت ، وإليك بعض ما روي في ذلك :

__________________

(١) السرائر ٣ : ٦٣٨.

١٩٤

سأل زرارة ومحمد بن مسلم والفضيلُ الباقرَ والصادقَ عليهما‌السلام عن الصلاة في شهر رمضان نافلة بالليل جماعة فقالا :

«إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا صلّى العشاء الآخرة انصرف إلى منزله ، ثمّ يخرج من آخر الليل إلى المسجد فيقوم فيصلّي ، فخرج في أوّل ليلة من شهر رمضان ليصلّي ، كما كان يصلّي ، فاصطفّ الناس خلفه ، فهرب منهم إلى بيته وتركهم ، ففعلوا ذلك ثلاث ليال ، فقام في اليوم الرابع على منبره فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أيّها الناس ، إنّ الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة في جماعة بدعة ، وصلاة الضحى بدعة ، ألا فلا تجتمعوا ليلاً في شهر رمضان لصلاة الليل ، ولا تصلّوا صلاة الضحى ، فإنّ تلك معصية ، ألا وإنّ كلّ بدعة ضلالة ، وكلّ ضلالة سبيلها إلى النار ثمّ نزل وهو يقول : قليل في سنّة خير من كثير في بدعة» (١).

روى عبيد بن زرارة عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال :

«كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يزيد في صلاته في رمضان ، إذا صلّى العتمة صلّى بعدها ، فيقوم الناس خلفه فيدخل ويدعهم ، ثمّ يخرج أيضاً فيجيئون ويقومون خلفه فيدعهم ويدخل مراراً» (٢).

ولعله صلى‌الله‌عليه‌وآله قام بهذا العمل مرّتين ، تارة في آخر الليل ـ كما في الرواية الأُولى ، وأُخرى بعد صلاة العتمة ـ كما في الرواية الثانية.

لكن المروي عن طريق أهل السنّة يخالف ذلك ، وإليك نصّ الشيخين البخاري ومسلم :

روى الأوّل وقال : حدّثني يحيى بن بكير : حدّثنا الليث ، عن عقيل ، عن ابن

__________________

(١) الفقيه ، كتاب الصوم ٢ : ٨٧.

(٢) الكافي ٤ : ١٥٤.

١٩٥

شهاب : أخبرني عروة أنّ عائشة ـ رضي الله عنها ـ أخبرته أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج ليلة من جوف الليل فصلّى في المسجد ، وصلّى رجال بصلاته فأصبح الناس فتحدّثوا ، فاجتمع أكثر منهم ، فصلّى فصلّوا معه ، فأصبح الناس فتحدّثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فصلّى بصلاته ، فلمّا كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتّى خرج لصلاة الصبح ، فلمّا قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثمّ قال :

«أما بعد فانّه لم يخفَ عليّ مكانكم ، ولكنّي خشيتُ أن تُفرض عليكم فتعجزوا عنها» فتوفّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والأمر على ذلك (١).

وروى أيضاً في باب التهجّد : «أنّ رسول الله صلّى ذات ليلة في المسجد فصلّى بصلاته ناس ، ثمّ صلّى من القابلة فكثر النّاس ثمّ اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله ، فلمّا أصبح قال :

«قد رأيتُ الذي صنعتم ولم يمنعني من الخروج إليكم إلّا أني خشيت أن تُفرَض عليكم وذلك في رمضان» (٢).

روى مسلم قال : حدّثنا يحيى بن يحيى ، قال : قرأت على مالك ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صلّى في المسجد ذات ليلة فصلّى بصلاته ناس ، ثمّ صلّى من القابلة فكثر الناس ، ثمّ اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة (٣) فلم يخرج إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا أصبح قال : قد رأيت الذي صنعتم فلم

__________________

(١) أي على ترك الجماعة في صلاة التراويح. لاحظ البخاري ، الصحيح ، باب فضل من قام رمضان : ٦١ / ٢٠١٢.

(٢) البخاري ، الصحيح ٢ : ٦٣ باب التهجد بالليل ، وبين الروايتين اختلاف فيما خرج صلى‌الله‌عليه‌وآله فيها من الليالي ، فعلى الأُولى خرج ثلاث ليال ، وعلى الثانية خرج ليلتين.

(٣) مسلم ، الصحيح ٦ : ٤١ وغيره ، والظاهر وحدة الرواية الثانية للبخاري مع هذه الرواية لاتّحاد الراوي والمروي عنه والمضمون.

١٩٦

يمنعني من الخروج إليكم إلّا أنّي خشيت أن تفرض عليكم. قال : وذلك في رمضان.

وحدّثني حرملة بن يحيى : أخبرنا عبد الله بن وهب : أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني عروة بن الزبير أنّ عائشة أخبرته أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج من جوف الليل فصلّى في المسجد ، فصلّى رجال بصلاته ، فأصبح الناس يتحدّثون بذلك فاجتمع أكثر منهم ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الليلة الثانية فصلّوا بصلاته ، فأصبح الناس يذكرون ذلك ، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة ، فخرج فصلّوا بصلاته ، فلمّا كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله فلم يخرج إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فطفق رجال منهم يقولون : الصلاة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتّى خرج لصلاة الفجر ، فلمّا قضى الفجر أقبل على الناس ثمّ تشهّد فقال :

«أمّا بعد ؛ فإنّه لم يخف عليَّ شأنكم الليلة ، ولكنّي خشيت أن تُفرض عليكم صلاة الليل ؛ فتعجزوا عنها» (١).

والاختلاف بين ما رواه أصحابنا عن أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام وما رواه الشيخان واضح ؛ فعلى الأوّل ، نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن إقامتها جماعة ، وأسماها بدعة ، وعلى الثاني ؛ ترك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الإقامة جماعة خشية أن تُفرض عليهم ، مع كونها موافقةً للدين والشريعة ، إذاً فأي القولين أحقّ أن يتّبع ، يعلم ذلك بالبحث التالي :

إنّ في حديث الشيخين مشاكل جديرة بالوقوف عليها :

الأُولى : ما معنى قوله : «خشيتُ أن تفرض عليكم ، فتعجزوا عنها»؟

فهل مفاده : أنّ ملاك التشريع هو إقبال الناس وإدبارهم ؛ فإن كان هناك اهتمام ظاهر من قبل الناس ، يفرض عليهم وإلّا فلا يفرض ، مع أنّ الملاك في الفرض هو وجود مصالح واقعية في المتعلّق ، سواء أكان هناك اهتمام ظاهر أم لا. فإنّ تشريعه

__________________

(١) مسلم ، الصحيح ٦ : ٤١.

١٩٧

سبحانه ليس تابعاً لرغبة الناس أو إعراضهم ، وإنّما يتبع لملاكات هو أعلم بها سواء أكان هناك إقبال أم إدبار.

الثانية : لو افترضنا أنّ الصحابة أظهرت اهتمامها بصلاة التراويح بإقامتها جماعة أفيكون ذلك ملاكاً للفرض ؛ فإنّ مسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يومذاك كان مكاناً محدوداً لا يسع إلّا ستّة آلاف نفر أو أقلّ ، فقد جاء في الفقه على المذاهب الخمسة : «كان مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ٣٥ متراً في ٣٠ متراً ثمّ زاده الرسول وجعله ٥٧ متراً في ٥٠ متراً» (١).

أفيمكن جعل اهتمامهم كاشفاً عن اهتمام جميع الناس بها في جميع العصور إلى يوم القيامة؟

الثالثة : وجود الاختلاف في عدد الليالي التي أقام النبيّ فيهما نوافل رمضان جماعة. فعلى ما نقله البخاري في كتاب الصوم أنّ النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله صلّى التراويح مع الناس أربع ليال ، وعلى ما نقله في باب التحريض على قيام الليل ، أنّه صلّاها ليلتين ، ووافقه مسلم على النقل الثاني ، ويظهر ممّا ذكره غيرهما ـ كما مرّ في صدر المقال ـ أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أقامها في ليال متفرّقة (ليلة الثالث ، والخامس ، والسابع والعشرين). وهذا يعرب عن عدم الاهتمام بنقل فعل الرسول على ما عليه ، فمن أين تطمئن على سائر ما جاء فيه من أنّ النبيّ استحسن عملهم.

الرابعة : أنّ الثابت من فعل النبيّ أنّه صلاها ليلتين ، أو أربعاً في آخر الليل ، وهي لا تزيد على ثماني ركعات. فلو كان النبيّ أُسوة فعلينا الاقتداء به فيما ثبت ، لا فيما لم يثبت ، بل ثبت عدمه بما صرّح القسطلاني ووصف ما زاد عليه بالبدعة وذلك :

١ ـ أنّ النبي لم يسنّ لهم الاجتماع لها.

__________________

(١) الفقه على المذاهب الخمسة : ٢٨٥٠.

١٩٨

٢ ـ ولا كانت في زمن الصديق.

٣ ـ ولا أوّل الليل.

٤ ـ ولا كلّ ليلة.

٥ ـ ولا هذا العدد (١).

ثمّ التجأ في إثبات مشروعيّتها إلى اجتهاد الخليفة ، وسيوافيك الكلام فيه.

وقال العيني : إنّ رسول الله لم يسنّها لهم ، ولا كانت في زمن أبي بكر ، ثمّ اعتمد في شرعيّته إلى اجتهاد عمر واستنباطه من إقرار الشارع الناس يصلّون خلفه ليلتين (٢). وسيوافيك الكلام فيه.

الخامسة : أنّه إذا أخذنا برواية أحد الثقلين ، (أهل بيت النبيّ) تُصبح إقامة النوافل جماعة بدعة على الإطلاق ، وإن أخذنا برواية الشيخين ، فالمقدار الثابت ما جاء في كلام القسطلاني ، والزائد عنه يصحّ بدعة إضافية ، حسب مصطلح الإمام الشاطبي ، والمقصود منها ما يكون العمل بذاته مشروعاً ، والكيفية الّتي يقام بها ، غير مشروعة.

ولم يبق ما يحتجّ به على المشروعية إلّا جمع الخليفة الناس على إمام واحد وهو ما سنشرحه في البحث التالي :

جمع الناس على إمام واحد في عصر عمر

روى البخاري : توفّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والناس على ذلك (يعني ترك إقامة التراويح بالجماعة) ثمّ كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر ، وصدراً من

__________________

(١) إرشاد الساري ٣ : ٤٢٦.

(٢) عمدة القاري ١١ : ١٢٦.

١٩٩

خلافة عمر (١).

وروى أيضاً عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنّه قال : خرجت مع عمر بن الخطاب رضى الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد ، فإذا الناس أوزاع متفرّقون ، يصلّي الرجلُ لنفسه ، ويصلّي الرجلُ فيصلّي بصلاته الرهط (٢).

فقال عمر : إنّي أرى لو جمعتُ هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ، ثمّ عزم فجمعهم على أُبيّ بن كعب ، ثمّ خرجت معه ليلة أُخرى والناس يُصلّون بصلاة قارئهم ، قال عمر : نعم البدعة هذه. والّتي ينامون عنها أفضل من الّتي يقومون ـ يريد آخر الليل ـ وكان الناس يقومون أوّله.

ولكن الظاهر من شرّاح الصحيح أنّ الإتيان جماعة لم تكن مشروعة ، وإنّما قام التشريع لعمله. وإليك بيانه في ضمن أمرين :

١ ـ قوله : «فتوفّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والناس على ذلك ، ثمّ كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر» فقد فسّره الشرّاح بقولهم : أي على ترك الجماعة في التراويح ، ولم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جمع الناس على القيام (٣).

وقال بدر الدين العيني : والناس على ذلك (أي على ترك الجماعة) ثمّ قال : فإن قلت : روى ابن وهب عن أبي هريرة : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإذا الناس في رمضان يصلّون في ناحية المسجد ، فقال : «ما هذا؟» فقيل : ناس يصلّي بهم أُبي بن كعب ، فقال : «أصابوا ونعم ما صنعوا» ، ذكره ابن عبد البر. ثمّ أجاب بقوله : قلت : فيه مسلم بن خالد وهو ضعيف ، والمحفوظ أنّ عمر رضى الله عنه هو الذي جمع الناس على أُبي ابن كعب رضى الله عنه (٤).

__________________

(١) البخاري ، الصحيح ، باب فضل من قام رمضان : الحديث ٢٠١٠.

(٢) الرهط : بين الثلاثة إلى العشرة.

(٣) فتح الباري ، ٤ : ٢٠٣.

(٤) عمدة القاري في شرح صحيح البخاري ٦ : ١٢٥ ، وجاء نفس السؤال والجواب في فتح الباري.

٢٠٠